سيتي الأول
كان «سيتي الأول» بن «رعمسيس الأول» يدعى «سيتي مرنبتاح» على الآثار، وكانت أمه تُدعى الملكة «ساترع»، ولم يكن «سيتي» بطبيعة الحال من دم ملكي مثل والده، الذي تدل الآثار حتى الآن على أنه لم ينجب غيره، وتدل الأحوال على أن والده كان قد أنجبه وهو في ريعان الشباب ومقتبل العمر، وتاريخ حياته يشعرنا بأنه كان قد ترسم خطَى والده في مجال حياته؛ فقد انخرط في سلك الجندية، وبلغ فيها درجة عالية، كما تحدثنا بذلك لوحة أربعمائة السنة، ومنها نعلم أنه قد حاز الألقاب التالية (راجع الجزء الرابع): الأمير الوراثي، وعمدة المدينة، وحامل المروحة على يمين الفرعون، ورئيس الرماة، والمشرف على البلاد الأجنبية، والمشرف على حصن «ثارو» (تل أبو صيفة الحالي)، ورئيس «المازوي» (الشرطة في الصحراء)، والكاتب الملكي، والمشرف على الخيالة، ومدير «عيد كبش منديس» (تل الربع الحالي)، والكاهن الأول للإله «ست»، والكاهن المرتل للإلهة «بوتو»، والمشرف على كل كهنة الآلهة «سيتي» المرحوم. ولا نزاع في أن لقب الكاهن الأول للإله «ست» يعد برهانًا على أن الأسرة التاسعة عشرة المالكة لعرش الفراعنة كان موطنها مقاطعة «ستوريت» من أعمال الدلتا كما سبق شرح ذلك. ولما كان الإله «ست» لا ينظر إليه بعين الرضى في مصر كلها لم يحاول «سيتي الأول» أن يجبر رعاياه على عبادة إلهه المحلي، ومن أجل ذلك اختار الإله «بتاح» من بين الآلهة الشماليين، وضمه لاسمه؛ فأصبح يدعى «سيتي مرنبتاح» (أي سيتي محبوب بتاح) أما اسم هذا الملك — العلم المركب من لفظة «ست» وياء النسب «سيتي»، ومعناه: المنسوب للإله «ست» إله الشر كما ذكرنا من قبل — فقد غيَّره في كثير من الأحيان، وبخاصة في «العرابة المدفونة» إلى اسم «أوزيري»، ورسمه بكلمة تدل على «أوزير»، وبعلامة؟ تنطق «ثث» بدلًا من صورة الإله «ست»، غير أن «سيتي» لم يقم بأي تغيير رسمي في كتابة اسمه كما فعل «إخناتون»، بل اكتفى برسم اسمه بإحدى الطريقتين السابقتين على حسب ما تتطلبه الأحوال، وحسن الذوق، وبخاصة عندما لا يستحب كتابة صورة الإله «ست» على آثار مهداة للإله «أوزير».
(١) سياسة «سيتي الأول»
عرفنا مما سبق ذكره أن «سيتي الأول» كان شريكًا لوالده في الملك، وكان في هذه الفترة يناهز الأربعين من عمره، وتدل ألقابه على أنه كان جنديًّا مجرَّبًا، وإداريًّا حازمًا؛ ولذلك كان الرجل الذي تتطلبه مصر في تلك الفترة من تاريخها.
وفي الحق كان «سيتي» منذ باكورة حكمه يسير على نهج قويم واضح لا عوج فيه، متبعًا في ذلك تلك السياسة الرشيدة التي وضع أسسها «حور محب»، وهي التي كانت تهدف لإعادة سيادة مصر، والقضاء على كل رذائل عهد الزيغ المنصرم؛ ولذلك نجد أن كل عمل من أعمال عهده أساسه هذا الاتجاه، فكان يرى أنه لا بد لمصر إذا أرادت إعادة مكانتها الغابرة في العالم المتمدين من أمرين، هما: حكومة ثابتة موطدة الأركان في الداخل، وإعادة فتح إمبراطورية مصر التي كانت قد مزقت أوصالها شر ممزق. وقد رأى «حور محب» بثاقب نظره أنه لا بد من تحقيق الأمر الأول قبل الشروع في القيام بالثاني، وقد أفلح «حور محب» فعلًا في إعادة النظام إلى ربوعه في داخلية البلاد، فلما تولى «سيتي الأول» وجد داخلية البلاد ثابتة الأركان؛ فسهل عليه ذلك القيام بتنفيذ الجزء الثاني من منهاج الإصلاح الذي كان يرمي إلى إعادة مجد مصر الإمبراطوري.
ولا يبعد أن تكون سياسة البلاد الحربية كانت قد بدأت فعلًا في عهد «رعمسيس الأول» إذا فهمنا العبارة التي جاءت على لوحة «حلفا»، وهي التي تشير إلى العبيد والإماء الذين أسرهم جلالته بما تدل عليه في ظاهرها، أي إن «رعمسيس» قد استولى على هؤلاء العبيد والإماء من بلاد النوبة في حروب وقعت حقيقة. ويدل وجود اسم «سيتي الأول» ولقبه المكتوبين في نهاية هذا المتن على أنه كان حاضرًا في بلاد النوبة بوصفه مشتركًا في الملك مع والده، ومنفذًا لأوامره في تلك الجهة، هذا فضلًا عن أنه هو الذي كان يقوم بأعباء الحروب والقيادة مدة حكم والده، كما تدل على ذلك ألقابه الحربية.
(٢) حروب سيتي الأول
وإذا ألقينا نظرة فاحصة على هذه المناظر التي نحن بصددها وجدناها — كما قلنا — لا توضح لنا حروب «سيتي الأول» من الناحية الفنية، بل من الناحية الدينية على وجه عام، وهذا ما نشاهده في توزيع المناظر على جدران المعبد؛ فنجد — مثلًا — الحوادث المختلفة التي وقعت في أثناء القتال قد صورت في مناظر متلاحقة متتابعة — لا وحدة مجتمعة كما سنشاهد في موقعة «قادش» في حروب «رعمسيس الثاني» — ينتهي كل منها عند باب المعبد؛ حيث تشاهد آخر صورة مثل فيها الفرعون يضحي بالأمراء الأسرى في حضرة «آمون» الذي ينسب إليه الفرعون انتصاراته؛ ولذلك يقدم له الغنائم التي عاد بها من حروبه المظفرة، وهذا هو نفس ما شاهدناه في حروب «تحتمس الثالث» منذ ثلاثين ومائة سنة مضت تقريبًا؛ إذ كان على الإله أن يمنح الفرعون القوة ليتغلب بها على الأعداء، وفي مقابل ذلك كان على الفرعون أن يقدم له الأسرى والغنائم التي غنمهما.
ولا نشك في أن «سيتي الأول» كان يقلد «تحتمس الثالث» في كل شيء عن قصد لا عفو الخاطر؛ إذ سنرى بعد أن «سيتي الأول» كان يسير في وضع خططه الحربية عند القيام بحملاته على النهج الذي سار عليه «تحتمس الثالث؛ ولذلك نلحظ في الحال أن غرض «سيتي الأول» من حروبه في آسيا هو السيطرة التامة على موانئ الساحل الفينيقي، وتوثيق الصلة البحرية بين موانئ هذه البلاد ومصر، وبهذه الوسيلة كان في مقدوره أن يضمن وصول المؤن والنجدات في الحملات المقبلة التي تكون مرساها ساحل «فينيقيا» وموانيها، وهي التي تكون بمثابة قواعد حربية يمكنه أن يتحرَّك منها وإليها في داخل سوريا، وبخاصة إلى نهر «الأرنت». والواقع أننا نجد «سيتي» قد ترسم خطى «تحتمس الثالث» وتفاصيلها خطوة فخطوة، فكانت أول حملة قام بها في شمالي فلسطين مثل الحملة التي قام بها «تحتمس الثالث»، وكذلك نجده قد اخترق شمالي فلسطين على غرار الفاتح العظيم، وأخضع لبنان، وأخيرًا أخضع شاطئ «فينقيا» تمهيدًا لمهاجمة «قادش» مقلدًا كذلك «تحتمس».
(٢-١) حالة البلاد الداخلية والخارجية قبل حروب «سيتي الأول»
(٢-٢) حروب مصر مع الشاسو البدو
ونعلم من جهة أخرى من نقوش الكرنك أن حملة السنة الأولى سارت في ثلاث مراحل رئيسية؛ الأولى: هي زحف الجيوش من ثارو (تل أبو صيفة) إلى «باكنعان» لمنازلة «الشاسو»، الذين كانوا يسكنون الإقليم الواقع بين مصر و«كنعان»، وقد كان من الطبعي أن يخضع هذا الإقليم أولًا قبل القيام بأي تقدم في داخل فلسطين، ومن أجل ذلك كانت أول خطوة في سبيل الوصول إلى ذلك هي الاستيلاء على «باكنعان».
وقد كشف حديثًا الأثري «فشر» عن لوحة في «بيت شان» (بيسان الحالية) عام ١٩٢٣ ميلادية، ولحسن الحظ تمدنا بتفاصيل هامة عن هذه المرحلة من الحملة التي قام بها «سيتي»، وسنتحدث عنها فيما بعد. أما المرحلة الثالثة من هذه الحملة؛ فإنها على حسب ما جاء في نقوش الكرنك تصف لنا عودة الفرعون مظفرًا منتصرًا بجيشه إلى أرض الكنانة، كما تصف لنا تضحيته الأسرى أمام الإله الأعظم «آمون رع».
طريق سيتي إلى فلسطين
وسنتبع سير الحملة خطوة فخطوة هنا بقدر ما تسمح به المعلومات التي في متناولنا، فنجد أولًا أن «سيتي الأول» قد بدأ سيره لمقاتلة أعدائه من «الشاسو» من بلدة «ثارو» الواقعة على الحدود الشرقية لمصر، وهذه البلدة كانت القلعة التي يشرف على إدارتها «سيتي» قبل أن يتولى عرش الملك، ولا يسع الإنسان هنا إلا أن يرخي لخياله العنان الآن عندما يتصور أمامه حماس الجنود القدامى الذين لا يزالون في هذه القلعة، وهتافاتهم الحارَّة عندما يشاهدون زميلًا قديمًا رئيسًا أعلى للجيش الذي جاء لقهر الثوار، بل أصبح الملك المتوج على البلاد كلها، وقد وضع بنفسه الخطط لإعادة مجد البلاد، ولنشر سلطانها الإمبراطوري بعد أن كان قد زال من عالم الوجود تقريبًا.
طريق الفرعون إلى فلسطين
وعندما نفحص نقوش الكرنك فحصًا دقيقًا نستطيع أن نتأثر بوضوح الطريق التي سار فيها «سيتي» عندما بدأ حملته إلى فلسطين ثم العودة منها، والواقع أن المناظر التي صورها لنا «سيتي» عن سيره إلى هذه الجهات تتألف من مشاهد حيوية تمثل الحوادث الهامة في هذه الحروب، ولكن المفتن فضلًا عن ذلك قد حشر بين تلك المشاهد أشكال الحصون التي كان يقف عندها الفرعون لأخذ المدد وللسقاية، وقد نظِّمت صورها تنظيمًا طوبوغرافيًّا متقنًا، وفي استطاعتنا تحقيق بعض هذه الأماكن وتوحيدها ببعض الأماكن التي لا تزال موجودة حتى الآن، ومن ثم يمكننا أن نعلم شيئًا عن هذه الطريق القديمة التي كانت تربط مصر بفلسطين، والواقع أنها تخترق الصحراء الجرداء القاحلة التي لا زرع فيها ولا ضرع، الواقعة في شمالي شبه جزيرة سيناء، جنوب بحيرة «سربونيس»، وهذه الصحراء إقليم لا يسكنه أحد إلا فئة قليلة من العرب الرحل.
وقد وصفت هذه الطريق بأنها أقدم طريق في العالم، ولا نزاع في أننا إذا عددنا الحوادث التاريخية التي وقعت فيها قصصنا بذلك تاريخ الشرق الأدنى كله. ومما تجدر ملاحظته هنا أن هذه الطريق التي كان يسلكها الفراعنة لغزو فلسطين، ثم العودة منها إلى مصر هي نفس الطريق التي استعملت لنفس الغرض في الحرب العالمية الكبرى (١٩١٤–١٩١٨ ميلادية)، وهي تمتد شرقًا من «ثارو» حتى «رفح»، وقد وصفت هذه الطريق، فضلًا عما جاء في نقوش الكرنك، في فقرة من فقرات ورقة أنسطاسي الأولى (راجع كتاب الأدب المصري القديم الجزء الأول ص٣٨٩)، وقلعة «ثارو»، أو طريق «حور»، كما كان يسمى أحيانًا قد صوِّرت في نقوش الكرنك بمثابة محط محصن واقع على ضفتي قناة تسمى «الفاصلة»؛ لأنها تفصل مصر عن الصحراء الحقيقية، وقد رُسمت القناة بشاطئيها اللذين نبتت عليهما الأعشاب تمرح في مائها التماسيح. وتتألف القلعة من جهة مصر من سياج مستطيل الشكل، تكنفه مبانٍ من الشمال والجنوب، وله بابان: أحدهما في الشرق، والآخر في الغرب، ويؤدي الباب الشرقي إلى قنطرة فوق القناة. ورسم القنطرة هنا يلفت النظر جدًّا عندما نذكر أن الاسم الحديث لهذه البلدة هو «القنطرة» (ثارو)، وعلى ذلك لا يبعد أن هذا الاسم الحديث يرجع أصله إلى عهود سحيقة في القدم.
المرحلة الثانية من الحرب
لقد حضر هذا اليوم إنسان ليخبر جلالته أن العدو الخاسئ الذي كان في بلدة «حماة» قد جمع لنفسه نفرًا عظيمًا، وهو يهاجم بلدة «بيسان»، واتحد مع أهل بلدة «بلا»، ولم يسمح لأمير «رحوب» أن يخرج من مدينته، وقد أرسل جلالته الجيش الأول ﻟ «آمون» المسمى «عظيم الأقواس» إلى بلدة «حماة»، والجيش الثاني ﻟ «رع» المسمى «الغني الشجاعة» إلى بلدة «بيسان»، والجيش الأول للإله «ستخ» المسمى «المنتصر الأقواس» إلى بلدة «ينعم»، وحدث أنهم في يوم واحد خضعوا لقوة جلالته ملك الوجه القبلي والوجه البحري «من ماعت رع» ابن الشمس «سيتي مرنبتاح» معطي الحياة.
الإشراف على رؤساء لبنان الذين يقطعون خشب الصنوبر لبناء السفينة العظيمة الخاصة بُعيد بداية النهر، وكذلك لصنع خشب الأعلام العظيمة للإله «آمون» … لبناء … بحياة بهجة … مثل رع كل يوم … محبوب الآلهتين: مجدد الولادة … أقوى الناس قوسًا … وسرور … وأنه يراهم سيده … وقلبه مطمئن جاعلًا حدود مصر … ليملأ المخازن …» وباقي المتن قد فُقد، ولا بد أنه كان يقص علينا فيه كلام الفرعون الذي أجابه الضابط المصور في المنظر قائلًا: ما قاله حامل المروحة على يمين الفرعون جوابًا للإله الطيب، إنه سينجز على حسب كل ما قلته يا حور، يا محي الأرضين، إنك منتو (إله الحرب) كل مملكة: وعندما يراك رؤساء «رتنو» يسري خوفك في أعضائهم، وقد أجاب أمراء لبنان قائلين في مديح سيد الأرضين، وللتعظيم من قوته! إنك ترى مثل والدك «رع»، وإن في النظر إليك الحياة.
مصاحبة الأمير الوراثي العظيم الدعاء … وكاتب الفرعون الحقيقي ومحبوبه … وابن الملك من صلبه ومحبوبه … للفرعون في سيره في بلاد «رتنو».
ويظن الأستاذ «برستد» أن هذا الأمير المذكور في هذا النقش كان أخًا أكبر ﻟ «رعمسيس الثاني» الذي أصبح الوارث لعرش مصر بعد وفاته؛ وأنه قد أمر بمحو اسمه من نقوش الكرنك، ولكن هذا موضع سنتناوله بالبحث والدرس في مكان آخر.
الكهنة والموظفون من شمالي البلاد وجنوبها أتوا ليحتفلوا بالإله الطيب عند عودته من بلاد «رتنو»، ومعه أسرى كثيرون جدًّا، ولم يُرَ مثل ذلك من قبل منذ زمن الإله، وهم يقولون في مدح جلالته وفي تعظيم قوته: «مرحبا بمقدمك من الممالك التي أخضعتها، وإنك لمنتصر، وأعداؤك تحت قدميك، وإن مدة حكمك ملكًا هي مثل «رع» في السماء، في حين أنك تسر قلبك بانتصارك على أهل الأقواس التسعة، وعندما وضع «رع» حدودك كانت ذراعاه تحميانك من خلف، وسيفك كان في وسط كل أرض، وقد سقط رؤساؤها بنصالها.
ولا غرابة في أن نرى المصريين مبتهجين فرحين بما أوتوا من نصر عظيم، فقد مرت السنون تلو السنين الطوال قبل أن يشاهد المصريون عودة جيوشهم مظفرة من آسيا، وعلى رأسها الفرعون يحمل غنائم الحروب وأسلابها، ولا بد أنهم لما رأوا نتائج تلك الحملة الأولى المظفرة استبشروا بما سيعقبها من انتصارات باهرة في المستقبل القريب. ولا يبعد أن «سيتي» عندما سمع وقع أقدام خيله في ردهة قلعة «ثارو» تذكر تلك الأيام الخوالي عندما كان قائدًا لهذه القلعة يصرف أعمالها اليومية، ولم يكن يدور بخلده وقتئذ أنه سيكون يومًا ما فرعونًا يحفل به الشعب بمثل هذا الحفل الرائع في هذه البقعة بعينها!
وقد جرى «سيتي» — كما قلنا — على نهج سلفه العظيم «تحتمس الثالث» في كل شيء، فنسب انتصاراته لإلهه «آمون رع» رب «طيبة»، وعلى ذلك ولَّى وجهه شطر هذه المدينة المقدسة يضع تحت قدميه كل أسلابه وغنائمه، كما تصور لنا ذلك نقوش الكرنك؛ حيث نجد الإله «آمون» يخاطب الفرعون قائلًا: «يا بني المحبوب، يا رب الأرضين، يا «من ماعت رع»، لقد وهبتك النصر على كل البلاد، وجعلتك تحكم أمراءها حتى يأتوا إليك مجتمعين سويًّا، محملة ظهورهم (بالجزية) خوفًا منك.»
أما الأسرى فكانوا طائفتين: وُصفت طائفة منهم بأنهم رؤساء الأقاليم الذين لم يعرفوا مصر، وهم الذين حملهم جلالته معه أسرى من انتصاراته في بلاد «رتنو» الخاسئة، ويقولون معظِّمين جلالته ومهللين بانتصاراته: «مرحبًا بك، ما أعظم اسمك! وما أجل قوتك! إن الممالك تبتهج بأنها رعاياك، وأولئك الذين يتعدون حدودك يغلون بحياة حضرتك، نحن لا نعرف مصر، ولم تطأ أقدام آبائنا أرضها، امنحنا النفس الذي تهبه.»
أما الطائفة الأخرى من الأسرى؛ فهم من بلاد «رتنو السفلى»، ويقول المتن التابع لهم: «الأسرى الذين جاء بهم جلالته من بلاد «شاسو» وهم الذين أخضعهم جلالته في السنة الأولى من عهد مجدِّد الولادة «سيتي الأول».»
كلام آمون رع رب «طيبة»: يا بني الذي من صلبي، يا محبوبي، ويا رب الأرضين «من ماعت رع»، رب القوة في كل مملكة، إني والدك، وإني أنا الذي أجعل الرعب منك في أرض «رتنو» العليا والسفلى، وقبائل النوبة قد ذبحوا تحت قدميك، وإني آتي إليك برؤساء الممالك الجنوبية لتتسلم الجزية من كل منتجات ممالكهم الجيدة، ولتسرع … وإني أُولي وجهي قِبل الشمال، وآتي بأعجوبة لك … متصديًا العصاة في أوكارهم ببأس شديد.
وإني آتي إليك بممالك لا تعرف مصر حاملين جزيتهم من فضة وذهب ولازورد، وكل حجر كريم غالٍ من أرض الإله.
وإني أُولي وجهي قِبل المشرق وآتي بأعجوبة لك؛ فأغلهم جميعًا لك مجتمعين في قبضتك، وإني أجمع كل ممالك «بنت» سويًّا، وكل جزيتهم من بلسم وقرفة وكل الأخشاب الزكية الرائحة من أرض الإله ناشرًا شذاها أمامك، وأمام صلِّك.
وإني أولي وجهي قبل المغرب، وآتي بأعجوبة لك، فأقضي على أرض «تحنو» لك، فهم يأتون منحنين أمامك وراكعين، وهم على خوف منك، ورؤساء … يقدمون لك الحمد.
وإني أولي وجهي قبل السماء، وآتي بأعجوبة لك؛ فآلهة السماء يبتهلون لك عندما يولد «رع» كل صباح، وإنك تنمو مثل «رع» عندما يأتي بالظهيرة.
وإني أولي وجهي قبل الأرض، وآتي بأعجوبة لك؛ فإني أقدر لك النصر على كل مملكة، والآلهة يفرحون بك في معابدهم، وأنك ستبقى طول الأبدية ملكًا على عرش «جب».
لقد جعلتهم ينظرون إلى جلالتك باعتبارك رب الإشعاع حتى أضاءت وجوههم مثل صورتي.
ولقد جعلتهم يرون جلالتي مرتديًا شعارك الملكي عندما تقبض على أسلحة الحرب في العربة.
ولقد جعلتهم يرون جلالتك كالنجم السائر الذي ينشر لهيب النار، ويخرج نداه.
ولقد جعلتهم يرون جلالتك كالثور الفتي ثابت القلب، ومتأهب القرن لا يقاوم.
ولقد جعلتهم يرون جلالتك كالتمساح المفزع على الشاطئ، فلا يمكن الاقتراب منه.
ولقد جعلتهم يرون جلالتك كلهيب النار، ومثل «سخمت» نفسها في وقت عاصفتها.
ولقد جعلتهم يرون جلالتك مثل … عظيم في القوة، لا يقاوَم في السماء، ولا في الأرض، خذ السيف يأيها الملك العظيم، يا من تضرب مقمعته الأقواس التسعة.
هذه أمثلة من النقوش التي تركها لنا «سيتي الأول» بعد عودته من حملته الأولى، ولا شك في أن المطَّلع يرى أنه قد حاول في كل مراحلها، وفي كل متونها تقليد عاهل مصر العظيم «تحتمس الثالث».
ويعتقد الأستاذ «مير» أن هذه الحملة قد جاءت بعد الحروب التي شنها «سيتي» على بلاد «خيتا»، وفضلًا عن خطئه في تحقيق موضع مدينة «قادش» نفسها، فإن رأيه يتعارض مع الاعتبارات الاستراتيجية التي ذكرناها فيما سبق، وليس لدينا مصادر تدلنا على أن حدود إمبراطورية «خيتا» كانت تقع جنوبي بلدة «قادش»، وهي التي كانت في عهد «رعمسيس الثاني» حصنه الحصين في الجنوب للدفاع عن أملاكه. ويلاحظ كذلك أنه حتى عهد «إخناتون» كان الوادي — من «قادش» إلى الجنوب يُعرف وقتئذ باسم «عمقي»، وهو الوادي الذي يُطلق عليه الآن البقاع — ضمن النفوذ المصري، كما يدل على ذلك لوحات سجل بلاد «خيتا» التي جاء فيها ذكر حادثة الملكة المصرية التي سُميت فيها «دخ آمون»، وما جرى لها مع «شوبيليو ليوما» ملك «خيتا»، وقد تحدثنا عن ذلك من قبل (راجع مصر القديمة الجزء الخامس).
(٢-٣) الحرب مع لوبيا
السنة الأولى من عهد جلالة «سيتي الأول» — يذكر بعد ذلك ألقابه — لقد عاد بقلب فرح من أول حملاته المظفرة عندما كانت إغارته تقتحم كل إقليم، واستولى على الممالك الثائرة أسرى بقوة والده «آمون» الذي كتب له القوة المظفرة، وإنه يضع نفسه أمامه بقلب منشرح، مقدمًا الحماية لابنه، وواهبًا إياه الجنوب والشمال، والغرب والشرق، وأولئك الذين يغيرون على تخومه قد جمعوا سويًّا، وأسلموا ليده، ولا يوجد من يضع يديه جانبًا؛ أي كانوا جميعًا في الأغلال؛ سيق رؤساؤهم أسرى أحياء، وجزيتهم على ظهورهم، وقدمهم لوالده الفاخر «آمون»، ولجماعة الآلهة لأجل أن يملئوا مستودعاتهم بالعبيد والإماء من أسارى كل مملكة. تأمل لقد كان جلالته في المدينة الجنوبية «طيبة» يقوم بالأحفال السارة لوالده آمون رع رب طيبة …
(الجزء الباقي من اللوحة ضائع).
والمدهش هنا أن الأستاذ «برستد» قد استنبط بسهولة من مخيلته أن الجزء الضائع لا بد قد ذُكر فيه: أن رسولًا أتى إلى الفرعون وأعلنه بقيام المناوشات على الحدود اللوبية، معتمدًا في استنباطه هذا على ما جاء في لوحة «كونوسو» التي ترجع لعهد «تحتمس الرابع»؛ حيث نجد أن نظام الكلام فيها يكاد يكون نسخة واحدة (راجع مصر القديمة الجزء الخامس)، وليس لدينا معلومات يقينية تدل على الحرب التي كانت تشير إليها نقوش هذه اللوحة، على الرغم من وجه الشبه بينها، وبين لوحة «تحتمس الرابع».
الحملة على بلاد لوبيا
(٢-٤) دولة خيتا، وقيام الحروب بينها وبين سيتي الأول
لقد رأينا — فيما سبق — أن حروب «سيتي الأول» مع «الشاسو» لم تكن مقدمة للحملة التي قام بها على أهالي «رتنو» العليا والسفلى معًا، وكذلك يظهر أن الحروب مع «لوبيا» كانت قد سبقت حروبًا أهم خطرًا شنتها على مملكة «خيتا»، على أننا لا نعرف في الحقيقة تواريخ هذه الحروب كلها إلا على حسب موقعها، وترتيبها في نقوش معبد الكرنك التي تركها لنا «سيتي الأول».
وكان «سيتي الأول» بعد أن أمَّن طرق مواصلاته البحرية بالاستيلاء على بعض المواني الفينيقية استطاع تموين جيوشه، وإمدادها بالجنود والعتاد، وذلك على غرار ما فعله «تحتمس الثالث»؛ وبذلك أصبح في استطاعته السير في داخل الأقطار السورية، والاستيلاء عليها، وقد زحف حتى وصل إلى نهر «الأرنت»؛ حيث تقابلت جموعه مع جيش «خيتا» في أول موقعة بين البلدين. ويظن الأستاذ «برستد» أن «سيتي الأول» قد وصل شمالًا حتى «نهرين»، كما يدعي ذلك «سيتي» في قائمة البلدان التي فتحها، غير أن ذلك لم يفُت في عضد دولة «خيتا»، وبقيت مهيبة الجانب، ولم يكن في استطاعة «سيتي» أن يحتفظ لنفسه بتخوم ثابتة في الشمال أكثر من مساحة يحدها خط يمتد شرقًا وغربًا من الساحل الفينيقي حتى «حوران». وعلى أية حال فإن ما وصل إليه «سيتي الأول» بعد تفكك الدولة المصرية في نهاية حكم «إخناتون» يعد مجهودًا جبارًا من جانب هذا العاهل، وقد كان من نصيب «رعمسيس الثاني» ابنه أن يواصل الكفاح الطويل المرير للاستيلاء ثانية على أعالي نهر «الأرنت»، ويُخضعها لسلطان مصر.
ونشاهد في آخر حملة سجلها «سيتي الأول» على جدران معبد الكرنك أنه التحم مع جيش «خيتا»، وهزمه واستولى منه على أسرى وغنائم، ولكن من جهة أخرى لا نعرف الأسباب المباشرة التي دعت «سيتي الأول» لإعلان الحرب على مملكة «خيتا»، ولا بد أنه كان هناك سبب ملِح أجبره على القيام بهذه الحروب، غير أننا من جهة أخرى نعلم أن التقاليد الفرعونية قد لعبت دورها في هذا الموضوع بالذات؛ فقد كان من عادة الفراعنة أن يقوم الفرعون عند تولي عرش الملك بشنِّ الغارات والفتح ليثبت لشعبه أنه جدير بملك الفراعنة. وقد ذكر لنا «خاتوسيل» ملك «خيتا» باختصار أنه قام بالحرب على مصر، فسار بمشاته وفرسانه الذين أمكنه جمعهم لمنازلة عدوه، ولا شك في أن ذلك لا يعني إلا أن ملك «خيتا» قد تقابل مع ملك مصر في موقعة «قادش». وقد حدَّثنا ملك «خيتا» كذلك بأنه حاول تفادي الحرب مع مصر؛ لأنه لم يكن يطمع في طلب الفخر أو الشهرة، وأنه على وجه عام يمقت الحروب، وهذا كل ما وصلنا من وثائق «خيتا» عن حروبها مع «سيتي الأول»؛ وبذلك أصبح مصدرنا الوحيد عن حروب «خيتا» مع مصر هو — كما قلنا — ما جاء في نقوش جدران الكرنك التي لم تدوَّن فيها في الواقع إلا بعض حوادث فردية خاصة بالفرعون وغيره، فنرى — مثلًا — «سيتي» مصورًا في منظر (كما جرت التقاليد) ممتطيًا عربته، وشادًّا قوسه، ومفوقًا سهمه في معمعة المعركة؛ ليقضي على الأعداء الذين كانوا يجرءون على الوقوف أمامه، بل كانوا يولون الأدبار، وهنا يشاهد سائق عربة أحد الرؤساء من الأعداء قد أصيب؛ فيقود الرئيس عربته بنفسه طالبًا النجاة، ولكنه يسقط بدوره في حومة الوغى أمام الفرعون، وكذلك فعل غيره؛ فامتطوا صهوة الجياد، وأرخوا لها العنان نجاة بالنفس، وقد كدِّست ساحة القتال بأكوام القتلى والجرحى؛ ثم نرى في آخر الأمر طوائف من الأسرى يُساقون إلى مصر، ويقدمون إلى ثالوث آلهة معبد الكرنك: «آمون»، و«موت»، و«خنسو» عبيدًا وقربانًا.
حور الثور القوي، الظاهر في طيبة، محيي الأرضين، ملك الوجه القبلي والبحري، رب الأرضين، شديد البأس، الشجاع مثل «منتو»، وأشجع الشجعان مثل من أنجبه، مضيء الأرضين مثل إله الأفق، العظيم القوة مثل ابن «نوت»، والمنتصر؛ وهو حور المزدوج (أي يمثل حور وست)، ومن يطأ ميدان القتال مثل «ست» (إله الحرب)، ومن الفزع منه عظيم مثل «بعل» (إله القوة) في الممالك الأجنبية، محبوب الإلهتين وهو لا يزال في العش (أي المهد)؛ لأن قوته قد حمت مصر، ومن جعل «رع» حدوده حتى الحدود التي يضيئها «آتون»، والصقر المقدس ذو الريش اللامع، والسائح في السماء مثل جلالة «رع»، والذئب الجائل، والذي يدور حول هذه الأرض في لحظة، والأسد ذو العين المفترسة، ومن يشق طريقه في المسالك الوعرة في كل مملكة، والثور القوي صاحب القرن المهيأ للهجوم، وصاحب القلب الشديد، والضارب الأسيويين، ومخضِع «خيتا»، وذابح رؤسائهم، ومخضبهم بدمائهم، والهاجم في وسطهم كأنه لسان اللهب؛ فيجعلهم كأن لم يغنوا بالأمس.
ولا نعرف على وجه التأكيد المكان الذي دارت فيه رحى القتال، غير أنه مما لا شك فيه أنها قد وقعت في مكان شمالي بلدة «قادش»، إذ نعلم أن «سيتي الأول» قد وصل فعلًا إلى بلدة «قادش» واستولى عليها، ولا أدل على ذلك من العثور على لوحة في «تل نبي مند»، وهو المكان الذي يمثل دمن هذه المدينة التاريخية العظيمة، واللوحة من حجر البازلت، وقد عُثر عليها على عمق مترين من سطح الأرض، وتدل شواهد الأحوال على أنها لم تُنقل إلى هذا المكان، وقد نُقشت عليها صورة «سيتي الأول» واقفًا — يقبض بيده على سيفه (خبش) رمزًا للنصر الذي أحرزه — أمام الآلهة التالية: «آمون»، و«ستخ»، و«منتو»، و«خنسو».
وعلى الرغم من أن «سيتي الأول» لم يوفَّق لإعادة الإمبراطورية المصرية في آسيا لما كانت عليه — يومًا ما — من الاتساع والعظمة في عهد الأسرة الثامنة عشرة، فإنه مع ذلك قد أفلح إلى حدٍّ كبير في إعادة السيطرة المصرية على كل «فلسطين»، بل من المحتمل على جزء من جنوبي سوريا أيضًا، ولا نزاع في أن ذلك كان عملًا جليلًا، وبخاصة إذا علمنا أنه قد وصل إلى ما وصل إليه في نضاله أمام دولة قوية مثل دولة «خيتا» في الشمال، وقد كانت تناضل مصر بقوة عظيمة، وتقف لها بالمرصاد بجيوشها الجرارة، وربما كان من الخير لكل من الدولتين أن يتريث «رعمسيس الثاني» عندما تولى الحكم، ويعرف الموقف الحربي على حقيقته، ولم يندفع في حروب طاحنة مع تلك الدولة القوية.
حقًّا نقرأ في القوائم التي تركها لنا «سيتي الأول» أنه تغلب على «خيتا»، و«نهرين»، و«آلاشيا» (قبرص)، وغيرها من البلدان، ولكن هذه الادعاءات العريضة المبهمة لا يصح أن تؤخذ بصفة جدية، بل إلى حد محدود يقرره الواقع، إذ لا يمكن أن نسلم أنه هزم «خيتا»، واستولى عليها أو على إقليم من أقاليمها الشمالية. ولا جدال في أن «سيتي» شعر في أعماق نفسه بما كان يشعر به أجداده من الزهو وحب العظمة، فلم يتأخر طرفة عين عن تدوين قصة انتصاراته على جدران المعابد بصورة لا تقل في فخامتها عما أحرزه أجداده الأماجد أمثال «تحتمس الثالث»، و«أمنحتب الثاني» من فتوح. وإذا ضربنا صفحًا عن أمثال هذه الادعاءات الضخمة المبهمة فإنه لا يوجد لدينا ما يمنع من تصديق ما جاء في قوائم فتوحه التي عددت لنا بدقة تفاصيل أسماء المدن والأصقاع، وبخاصة إذا عرفنا أن أسماء هذه الأماكن، وما يمكن تحقيقه منها يتفق عقلًا من خطط حروب «سيتي الأول» كما نعرفها من الوجهة الجغرافية.
(٣) سيتي الأول وبلاد النوبة
وربما دلت هذه الجمل على غزو قام في بلاد النوبة، أو قد تكون — وهو الأصح — كلمات جوفاء من نوع الملق الرخيص الذي كان يكيله نائب بلاد النوبة لمليكه، كما نسمع أمثال ذلك الإطراء في كل زمان ومكان.
ويدل كل ما لدينا من وثائق على أن «سيتي الأول» لم يستعمل أسطورة الولادة الإلهية التي تدل على أنه منحدر من صلب الإله مباشرة، وهي التي كان يستعملها الفراعنة عندما تعوزهم الأسباب المبررة لاعتلاء العرش؛ ولكنا سنرى أن ابنه «رعمسيس الثاني» قد استعملها.
(٤) مكانة سيتي في التاريخ
ولا نزاع في أن التاريخ سيحفظ ﻟ «سيتي الأول» أجمل الذكريات، فقد أفلح في إعادة ما يقرب من نصف إمبراطورية مصر في آسيا، كما أمن طرق المواصلات بين بلاده وبين «فلسطين»، وأزال الخطر الذي كان يتهدد البلاد من ناحية بلاد «لوبيا»، وقد أفلح في ذلك فلاحًا عظيمًا لدرجة أن هؤلاء القوم لم يجسروا على القيام بأية محاولة أخرى للإغارة على مصر حتى عهد الفرعون «مرنبتاح» حفيده. وأخيرًا، يظهر أنه قد قمع الثورات التي قام بها أهل النوبة، وبذلك مهد السبيل لتثمير مناجم الذهب، وهو مشروع كان تصميمه في نفسه منذ أن تولى العرش.
ولا شك في أن كل هذه الأعمال كانت لها قيمتها العظيمة في أعين الشعب المصري، ولا بد أنه كان ينظر إليها بعين الإعجاب والتقدير، وبخاصة بعد أن بقيت البلاد في خمول وضعف سنين عدة، ولا يبعد أن رجلًا أقل عزيمة وأصالة رأي من «سيتي» كان يركب رأسه بما قال من ظفر وفتح عظيم؛ فيقوم بحروب أخرى كانت تعرِّض بلا شك كل ما كسبه للضياع والدمار، وبخاصة أمام دولة فتية قوية مثل «خيتا»، ولكن «سيتي» بتجاربه الحربية قد رأى بعين فاحصة أنه قد ذهب في فتوحه إلى الحد الذي تتحمله البلاد، ومواردها وحسب.
(٥) نشاط سيتي الأول داخل البلاد
بعد أن أخذ «سيتي الأول» في إعادة جزء كبير من أملاك الإمبراطورية المصرية بحروبه المظفرة بدأ في الوقت نفسه، على ما يظهر، يفكر في إصلاح ما تخرب من معابد الآلهة على يد «إخناتون» وشيعته، وكذلك فكر في إقامة المعابد الجديدة للآلهة العظام الذين كانوا يمدونه بالنصر في ساحة القتال اعترافًا منه بحسن صنيعهم له، ولرفع شأنهم في أعين الشعب بعد أن ظلوا ردحًا من الزمن مكبوتين متروكين في زوايا النسيان، لا يجرؤ أحد على ذكر اسم واحد منهم، أو عبادته علانية.
والمباني التي أقامها «سيتي الأول» وهي التي لم تزَل باقية حتى الآن عديدة، وعلى وجه عام جميلة الصنع لدرجة كبيرة، وتمتد بقاياها من شرقي نهر «الأردن»، وشبه جزيرة سيناء، مخترقة أرض الكنانة، ومصعدة حتى «سسبي» الواقعة خلف «سمنة» معقل الحدود المصرية القديمة في الجنوب، بل وجدت كذلك في «بركل» بالقرب من الشلال الرابع، وسنتحدث هنا عن عمائره على حسب أهميتها وضخامتها.
(٥-١) قاعة العمد العظمى بالكرنك
(٥-٢) العرابة المدفونة
(٥-٣) معبد العرابة الكبير
لا نزاع في أن أشهر معبد أقامه «سيتي الأول» في البلاد المصرية وفي غيرها من بلدان الإمبراطورية المصرية هو المعبد الكبير الذي كانت تعظم فيه شعائر آلهة مصر الستة الهامة في «العرابة»، وكذلك كانت تقام فيه الشعائر الجنازية لملوك مصر القدامى، هذا إلى أنه كان في الوقت نفسه يعد معبدًا جنازيًّا ﻟ «سيتي الأول» نفسه، وهذا المعبد هو المعروف باسم «بيت من ماعت رع»، أو باسمه المطول «البيت الفاخر لملايين السنين لصاحبه ملك الوجه القبلي والوجه البحري من ماعت رع.»
ويقع المعبد على مسيرة سبعة كيلومترات من النيل، وقد كان يصل إليه الحجاج في الأزمان الغابرة بوساطة قناة تخرج من النيل حتى جوار المعبد نفسه.
وهذا المعبد على ما هو عليه الآن غير كامل لما أصابه من تهديم وتخريب، فلم يبقَ من بوابته الفخمة وردهته الخارجية العظيمة إلا دمن ضئيلة لا يزال عليها بقايا بعض زينة متناثرة من عهد «رعمسيس الثاني»، وكذلك الردهة الثانية التي زينها «رعمسيس الثاني» لم يبقَ منها إلا القليل؛ وفي نهاية هذه الردهة الأخيرة ممرٌّ مزين بالعمد المستطيلة الشكل يوصل إلى قاعة العمد الأولى التي يبلغ طولها نحو واحد وسبعين ومائة قدم، وعرضها حوالي ستة وثلاثين قدمًا. ويرتكز سقف هذه القاعة على أربعة وعشرين عمودًا، كل منها مثل في صورة حزمة من البردي، أما تيجانها فعلى هيئة زهرة لم تفتح بعد، وقد نظمت هذه العمد في صفين في مجاميع مؤلفة كل منها من عمودين؛ وبذلك يتخلف بينها سبعة ممرَّات متصلة بعدد مماثل من الممرَّات أو الطرقات في قاعة العمد الثانية، وهذه الطرقات أو الممرَّات تؤدي في نهايتها إلى سبعة المحاريب التي خُصصت لآلهة القطر الستة العظام، ولمحراب «سيتي الأول» الذي كان يُعد إلهًا في هذا المعبد أيضًا، وهكذا كانت مواكب الآلهة التي ابتدعت من أجلها هذه الطرقات على هذا النمط تدخل من الردهة الأمامية، وتتخذ سبيلها صاعدة في هذه الطرقات السبع مخترقة قاعتي العمد؛ فتتقدم مصعدة تدريجًا حتى تصل إلى المحاريب السبعة المقدسة التي كان يأوي إليها الآلهة، غير أن «رعمسيس الثاني» — لسبب غاب عنا — قد أقام جدارًا منخفضًا حاجزًا بين ثلاثة العمد الخارجية المربعة الشكل الواقعة على الجانب الشرقي، وبين العمودين الثاني والثالث الواقعين على الجهة الغربية؛ وبذلك أغلق المدخل المباشر للطريق التي بين العمد المؤدية إلى محاريب كل من «سيتي الأول»، والإله «بتاح»، والإله «حور اختي»، والإلهة «إزيس»، ولم يترك بذلك منافذ إلا لمحاريب كل من الإله «آمون»، والإله «أوزير»، والإله «حور».
والنقوش التي زُخرفت بها قاعة العمد الأولى من النوع الرخيص الذي أصبح طرازًا خاصًّا ﻟ «رعمسيس الثاني» في جميع نقوش مبانيه الدينية المعروفة على وجه عام، وسقف قاعة العمد الثانية محمول على ستة وثلاثين عمودًا انتظمت في ثلاثة صفوف في مجاميع أُلِّف كل منها من عمودين، والأربعة والعشرون عمودًا التي يتألف منها الصفان الأولان من طراز العمد البردية الشكل، وتيجانها برعومية الصورة، أما باقي العمد فقد مثلت على هيئة جذوع شجر سيقانها أسطوانية، وقمتها مربعة بسيطة، وليس لها تيجان؛ ويلاحظ أن رقعة القاعة ترتفع قليلًا بين صفي العمد الثاني والثالث بالنسبة لباقي السطح، ويصل الإنسان إلى الجزء المرتفع بوساطة منحدرات ستة لكل من الممرات الستة، وكذلك يوجد منحدر ذو درجتين خاص بالممر الأوسط. ويلاحظ في المعابد المصرية أن العمد تقل في الارتفاع كلما اقترب الإنسان من المحراب؛ وذلك لأن السقف يأخذ في الانخفاض تدريجًا، ولكن في «العرابة المدفونة» يلاحظ أن العمد قد اختصر طولها لا بسبب انخفاض السقف، بل لارتفاع مستوى رقعة المعبد نفسها، وقد يعزى ذلك إلى ارتفاع طبعي في الأرض نفسها.
ويرجع تاريخ المناظر والنقوش التي حُلِّيت بها قاعة العمد الثانية إلى عهد «سيتي الأول»، وهي من أحسن ما أخرجته يد المثال المصري في هذا العهد. ومما يسترعي النظر في هذه المناظر أن الآلهة الذين مثلوا برءوس آدمية قد صوروا جميعًا بنفس الوضع الجانبي الذي مثل به الفرعون، ومن ثم نرى أن المفتن عندما كان يستعمل صورة الفرعون لتكون نموذجًا معبرًا عن صورة الإله، فإنه كان يتملق الفرعون ملقًا مزدوجًا؛ وذلك لأن جمال صورة «سيتي» أولًا كان خليقًا أن يمثل به تقاطيع صورة الإله نفسه، وثانيًا لأن التشابه بين صورة الملك والإله يؤكد ما يدعيه كل ملك مصري من بنوَّته للإله، وهذا التقليد كان متبعًا من قبل، كما يلحظ ذلك في صور الملك «توت عنخ آمون»، وتشابهها بصور تماثيل الإله «آمون»: وتقع المحاريب السبعة الخاصة بآلهة المعبد خلف قاعة العمد الثانية.
وقد انتظمت في الترتيب التالي من أقصى اليمين؛ إذ نشاهد أولًا محراب الإله «حور»، ويليه محاريب الآلهة «إزيس»، و«أوزير»، و«آمون»، و«حور اختي»، و«بتاح»، ثم محراب «سيتي الأول» نفسه؛ إذ كان يُعد إلهًا أيضًا. ويلاحظ أن كل هذه المحاريب لم تكن لها أبواب من خلفها إلا محراب «أوزير»، فقد كان له باب يؤدي إلى قاعة ذات عمد، يوجد في الجانب الغربي منها ثلاث مقاصير صغيرة لثالوث الآلهة المؤلف من: «أوزير»، و«إزيس»، و«حور»، هذا بالإضافة إلى مقاصير أخرى مهداة للإلهة «نفرتوم»، و«بتاح سكر»، ثم الإله «سكر». ومن ذلك نعلم أنه على الرغم من أن المعبد كان مُهدى لأوزير فإنه كان بجانب ذلك يحتوي على محاريب لآلهة مصر العظمى، ويلفت النظر محراب «آمون» ملك الآلهة؛ إذ كان يحتل المحراب الأوسط بين محاريب الآلهة، وعلى يمينه محراب «بتاح منف»، ومحراب الإله «حور اختي»، ويقابلهما على اليسار محرابا «أوزير»، و«إزيس»، في حين أن محراب الملك الذي كان مؤلهًا يقع في الجهة اليسرى ويقابله في الجهة اليمنى محراب «حور بن إزيس»، وهذا الوضع الأخير ربما كان عن قصد؛ لأن «سيتي الأول» كان يريد أن يؤكد وجه الشبه بينه وبين «حور» في كل مناسبة ممكنة، فقد وجد نفسه هنا مع الإله «حور» بوصفه الملك الشرعي على مصر.
وبين الصفين الأخيرين من قاعة العمد الثانية في الجدار الشرقي باب يؤدي إلى ممر ضيق يوصل إلى قاعة ذات عمد؛ وعلى الجدار الجنوبي من هذا الممر الضيق نُقشت قائمة أسماء الملوك الشهيرة باسم «قائمة العرابة»، وتشمل أسماء ملوك مصر الذين عدهم «سيتي الأول» ملوكًا شرعيين للبلاد؛ وقد بدأت هذه القائمة باسم الملك «مينا»، وانتهت باسم «سيتي الأول»، ومما تجدر ملاحظته في الأسماء التي دوِّنت على هذه القائمة أن اسم الملكة «حتشبسوت»، وكذلك كل أسماء ملوك عهد الإصلاح الديني؛ أي «إخناتون» وأخلافه لم يُنقشوا فيها.
وكان الغرض من تدوين أسماء الملوك الذين ذُكروا في هذه القائمة التي تعد في نظرنا وثيقة تاريخية من الطراز الأول، هو إقامة شعائر عبادة هؤلاء الملوك القدامى، ولا أدل على ذلك من أننا نرى «سيتي الأول» يصحبه ابنه «رعمسيس الثاني» الفتى الصغير يقرأان صلوات من إضمامة «بردي»، وهاك ما جاء عليها: تأدية الصلاة للموتى «ليت «بتاح سكر»، و«أوزير» رب القبر الذي يسكن معبد «سيتي الأول» يضاعفان الهدايا لملوك الوجه القبلي والوجه البحري بوساطة الملك «سيتي»؛ فيجعلانها ألفًا من الخبز، وألفًا من أباريق الجعة، وألفًا من الماشية، وألفًا من الأوز، وألفًا من البخور … إلخ على يد الملك «سيتي الأول» للملك «منا» … إلخ.» (بعد ذلك تتبع أسماء الملوك).
وقد عارض الأستاذ «برستد» ما ادعاه «رعمسيس الثاني» من اشتراكه مع والده في الحكم، وهو صغير، غير أن لدينا آثارًا أخرى تثبت صحة ما ادعاه «رعمسيس». ويقول الأستاذ «كيث سيلي» في هذا الصدد: «والآن نعلم أن ادعاءات «رعمسيس الثاني» لا لبس فيها من حيث اشتراكه في الملك مع والده «سيتي الأول»، وقد اعترض عليها بأنها لا تنطبق على الواقع، وبخاصة ما يشير إليه «برستد» بصدد الإضافة التي حُشرت في رسوم الواقعة التي صوِّرت على جدران الكرنك، وهذه الادعاءات ليست مرجحة فحسب، بل إنها قد أصبحت محققة تحقيقًا أكيدًا بالبراهين المعاصرة، هذا على الرغم من عدم وجود آثار باقية تشمل تاريخًا مشتركًا لهما في سنة واحدة من سني حكمهما معًا، كما نجد مثل ذلك في ملوك الأسرة الثانية عشرة.» وسنتناول موضوع اشتراك هذين الفرعونين في الحكم معًا فيما بعد.
وقد زُينت جدران الردهة التي يؤدي إليها الممر المكتوب عليه أسماء الفراعنة بمناظر ذبح ثيران، وتقطيعها لتقدم قربانًا، ومن المحتمل أنها كانت المكان العام للذبح في هذا المعبد، ويوجد خلفها عدة حجرات وقاعات صغيرة، وسلم يؤدي إلى السقف.
وكان يحوط هذا المعبد في إبان ازدهاره حديقة غناء مغروسة بالنباتات المزهرة والأشجار الباسقة، وقد ظلت بقايا جذوع هذه الأشجار موجودة في أماكنها الأصلية في حفر عميقة حتى أخرجها معول الحفار عندما كشف عن هذا المعبد الذي تكتنفه الصحراء القاحلة الآن.
وإذا كانت نقوش معبد «العرابة» تنقصها قوة الفن القديم وحيويته؛ فإنها من جهة أخرى قد اكتسبت حواس داخلية تعبر عن أحاسيس نفسانية. والواقع أن فن الدولة القديمة على ما فيه من جمال وصدق تعبير كان خاصًّا بعالم الدنيا والمادة، في حين أن مثَّال «العرابة» عندما كان يمثل جسم الإنسان في كل مظاهر جماله ألقى نظرة خاطفة على ما هو أعظم من ذلك الجمال المادي، وهو جمال الروح الذي يقع وراء الجسم، وقد وصل بمهارته ودأبه الذي لا يعرف الملل إلى أن مثل الصورتين الجسمية والروحية في قطعة واحدة من الحجر الجيري الأبيض.
على أن تقدير قيمة هذه النقوش المدهشة بالنسبة لذوق عصرنا الحالي يمكن إدراكه في المناظر التي ذهبت عنها ألوانها التي كانت تزينها. ويجب أن نعترف بأن المثَّال الذي حفر هذه المناظر كان عبقريًّا، كما أن الذي أبدع ألوانها لا يقل عنه مهارة وحذقًا، فالألوان التي لا تزال باقية حتى الآن في أماكن كثيرة من أرجاء المعبد كما كانت عليه في الأصل تشبه قطع المجوهرات في بهائها ورونقها، فلا يعتورها أي نقص أو سماجة في إبداعها، فنشاهد مجاميع الألوان متزنة التوزيع والتنسيق، ويسودها ظلال بديعة من اللون الأزرق واللون الأخضر، مشفوعين باللون الأحمر القاني، والأصفر الفاقع. وقد كان المصري يستعمل اللون الأزرق بدلًا من الأسود كلما سمحت الأحوال بذلك؛ تفاديًا من وقوع تغيير مفاجئ في ظهور قطع من الألوان المتناقضة التي تزوَر عنها العين، ويمجها الذوق. والواقع أن اللون الأسود كان يستعمل في الأصل لإبراز التفاصيل الدقيقة الصغيرة مثل: العينين، والحاجبين.
ويخيل للإنسان أن جدران هذا المعبد عندما كانت سقفها تامة كانت تشبه قطع المجوهرات الذهبية الثمينة المرصعة بالأحجار نصف الكريمة التي عرفناها في مجاميع المجوهرات التي عُثر عليها من عهد الأسرة الثانية عشرة في «اللاهون»، و«دهشور»، وكذلك ما أُخرج من مقبرة «توت عنخ آمون».
والواقع أن الفن المصري الذي مثل في معبد «العرابة» كان مثله كمثل أغنية البجعة، أو كبيضة الديك، لم يصل المصري ثانية إلى جماله وسمو منزلته قط في أي عصر من العصور التي تلت.
وعندما قضى «سيتي» كان الجزء الرئيسي من المعبد قد تم تشييده، فلم يبقَ منه إلا الردهة الخارجية، التي لم تكن قد تمت زينتها، أو أخذت زخرفها بعد.
وفي استطاعة الإنسان الآن بعد هذا الوصف أن يرخي لخياله العنان، ويتصور الأحفال والشعائر الدينية التي كانت تقام في هذا المعبد في حياة بانيه، فيشاهد أمامه مواكب الكهنة بملابسهم البيضاء يتهادون في الطرقات بين الأعمدة المزخرفة بأجمل الألوان، متجهين نحو المحاريب التي كانت تشبه في بهائها قطع المجوهرات الأخاذة، كما أنه في استطاعتنا أن نسمع في مخيلتنا أغاني أولئك الكهنة في ردهات المعبد، ونشم رائحة البخور ودخانه الأبيض الذي يتصاعد من المباخر نحو سقف القاعات المحلاة بالألوان البديعة، وكذلك في استطاعتنا أن نتصور الفرعون نفسه راكعًا أمام أرباب «العرابة» في ملابسه الفاخرة ذات اللون الأزرق والذهبي، وهي نفس الملابس التي كان يرتديها الآلهة وهم جالسون على عروشهم، أو وهم واقفون يستقبلون الفرعون، أو يقودونه إلى عرش ملكه عند الاحتفال بتتويجه، أو حينما نراهم كذلك، وهم يتقبلون منه الأسرى الذين كانوا يقدمون لهم عبيدًا جزاء لما وهبوه الفرعون من انتصارات ساحقة على الأعداء في البلاد النائية.
(٥-٤) الاوذديون أو ضريح «سيتي الأول» بالعرابة المدفونة
ويؤدِّي مدخل هذا المبنى إلى ممر طويل ضيق، يبلغ طوله نحو أربعة عشر مترًا، وعرضه نحو مترين وستين سنتيمترًا، ويتجه جنوبًا وينتهي بحجرة للاستراحة على ما يظهر، يتفرع منها ممر ضيق قصير يتجه شرقًا، ويؤدي إلى قاعة مستطيلة الشكل، يوجد في وسط جدارها الغربي منفذ يؤدي إلى قاعة وسطى عظيمة، تعد النواة لهذا المبنى الغريب.
وتحتوي هذه القاعة العظيمة على جزيرة في وسطها تحيط بها قناة، ويحيط بكل القاعة طنف عرضه حوالي ستين سنتيمترًا يقطعه في جهتيه الشرقية والغربية دعامات يرتكز عليها العقد، ويؤدي هذا الطنف إلى سبع عشرة حجرة صغيرة مربعة الشكل، ست منها على كل جانب من جانبيها الطويلين، واثنتان على الجانب الغربي، وثلاث على الجانب الشرقي. ويشاهد حول الجزيرة نفسها طنف آخر موازٍ للذي حول القاعة العظيمة، ومماثل له، ويعترضه عند نهاية الجانبين الشرقي والغربي سلَّمان مصنوعان من الحجر، وينزل الأول بإحدى عشرة درجة، والثاني باثنتي عشرة درجة إلى مسافة ثلاثة أمتار وخمسة عشر سنتيمترًا، وينتهي هذا السلم بدرجة واسعة ينزل منها الإنسان إلى قعر القناة مباشرة.
أما الجزيرة السالفة الذكر فقد بُنيت من الحجر الرملي الضخم، ويعتقد الأثريون الذين كشفوها أنها صلبة، وأقيم عليها عُمُد من الجرانيت القرنفلي اللون يرتكز عليها السقف، ويلاحظ أن سبعة منها من قطعة حجر واحدة، وهذا يذكرنا بعمد معبد الوادي الذي أقامه «خفرع» لهرمه بالجيزة. والواقع أنه لما كشف عنها أولًا لم يكن في استطاعة رجال الآثار معرفة كنه هذا البناء، ولكن لما تقدمت أعمال الكشف في هذا المكان ظهر أن هذا البناء لم يكن قد تم إنجازه تمامًا، ولا أدل على ذلك من أن اسم بانيه وصورته لم يُنقشا على المبنى الأصلي، بل جاءا عرضًا في النقوش والمتون التي على الأجزاء الأخرى الثانوية من المبنى.
ويستند على عمد الجرانيت السالفة الذكر عقد ضخم من نفس مادة العمد، كما كانت تحمل العمد البارزة من الجدارين الشرقي والغربي للقاعة الوسطى عقودًا، وكانت هذه العقود بدورها تحمل أحجار السقف الضخمة.
وعلى سطح الجزيرة العلوي بين صفي العمد حفرتان قريبتا الغور؛ إحداهما: مستطيلة، والثانية: مربعة. ويلاحظ أن القناة التي بين الجزيرة وبين جدران القاعة كانت ولا تزال مملوءة بالماء الذي يكون في زمن الفيضان على مستوى واحد مع الطنف، والظاهر أن مستوى منسوب الماء في عهد «سيتي الأول» كان أقل مما هو عليه الآن بنحو ثلاثة أمتار وخمسة وعشرين سنتيمترًا؛ وبذلك كان الماء يغطي وقتئذ الدرج السفلي من السلم في وقت الفيضان، وقد حاول الحفارون الأحداث تفريغ الماء من هذه القناة بآلات بخارية فلم يفلحوا.
وقد بُنيت جدران هذا المبنى بالحجر الجيري، إلا في الجهة الغربية فإنها من الحجر الرملي.
ولما كانت هذه القاعة العظيمة تُغمر دائمًا بالمياه في أثناء الفيضان، فإن ما عليها من نقوش سرية قد مُحيت، ولكن السقف المبني من الحجر الرملي الأصفر لم يصبه عطب كبير، وقد بقي لنا من نقوشه الطريفة متن تمثيلي يشرح لنا كيف أن إله الأرض «جب» تخاصم مع الإلهة «نوت» ربة السماء بسبب التهامها أولادها النجوم، وقد مثلها الإله «جب» في صورة خنزيرة تأكل صغارها! وهذه القاعة ليس لها مدخل، ولا يمكننا أن نجزم إذا كان قد وضع لها في الأصل عند تصميمها باب، ولكن من الجائز جدًّا أنها صُنعت لتكون مستورة تمامًا، وتذكرنا هذه القاعة بالحجرة ذات الطابقين المستورة من كل الوجوه التي وُجدت في معبد «سيتي» الكبير في الشمال الغربي منه.
الغرض من هذا المبنى
ويلفت الدكتور «كرستنسن» النظر إلى متن ورد في كتاب «الموتى» يبرهن على أن في عهد الدولة الحديثة كان التل الأزلي الذي موضعه الأصلي في «عين شمس» مقرًّا للإله «رع»، أصبح القوم يعتقدون أنه في العرابة المدفونة.
وقد ترك «سيتي الأول» ضريحه الرمزي هذا دون أن يتم بناؤه بعد، ولم يهتم «رعمسيس الثاني» ابنه بإتمامه. وتدل الظواهر على أنه قد اغتصب بعض أحجاره الجرانيتية من السقف، واستعملها في بناء معبده الذي أقامه بالعرابة. أما «مرنبتاح» حفيد «سيتي»، وابن «رعمسيس الثاني» فإنه نقش باسمه الجدار الشرقي لهذا الضريح، وجزءًا من العقد الجنوبي، والممر المنحدر، وحجرة الاستراحة، وممر المدخل، وكذلك وضع صوره عليها.
وتدل شواهد الأحوال على أن هذا المبنى قد بقي بعد ذلك مهجورًا إلى أمد طويل، ويحتمل أن النهاية الشمالية من مدخل الممر الطويل قد استعملت مخبأ لأشياء ثمينة؛ إذ وجد في هذا المكان إناء جميل الصنع من البرنز طوله تسعة وثلاثون سنتيمترًا، وكذلك عثر على كنز من النقود من عهد البطالمة، وكذلك خيط جميل نُظمت فيه حبات من حجر الدم.
أما الخميلة التي ذكرها «إسترابون» فيحتمل أنها تشير إلى الأشجار التي زُرعت في حفر الأرض التي سبق ذكرها، والقناة التي توصل البئر بالنيل يمكن أن تكون مجرد موصل إلى القناة التي كانت موجودة وقتئذ كما هي الحال الآن، وتمتد من النيل حتى حافة الأرض المنزرعة بالضبط أمام المعبد.
متون هذا الضريح
والمتون التي وجدت على جدران هذا الضريح معظمها جنازية من النوع الذي نصادفه عادة في المقابر الملكية في عهد الدولة الحديثة، ويرجع الجزء الأعظم منها إلى عهد الفرعون «مرنبتاح»، وليس فيها ما يلفت النظر إلا متنان يستحقان التقدير والدرس. فعلى الجانب الغربي من سقف حجرة التابوت تشاهد صورة ضخمة تمثل الإلهة «توت» ربة السماء، يرفعها الإله «جب» رب الأرض، وقد ذُكر على رسم جسم هذه الإلهة أسماء نجوم الدكان وكل واحد منها يظهر مرة كل أسبوع (وهو عشرة أيام)، كما دون على بطنها وذراعيها وساقيها قائمة بأسماء الأيام والأشهر التي يحدث فيها ظهور البرج المقابل في الصباح، أو في منتصف الليل، أو في الغروب، ومن جهة أخرى يمكن الإنسان استعمال هذه القائمة الآن لتحديد اليوم والفصل من السنة، وساعة الليل عندما يلاحظ السماء ليلًا، ويتعرف على مواقع مجاميع النجوم أو الأبراج.
أما المتن الثاني الهام، فقد وُجد على نفس السقف، وفيه تُقرأ التعليمات التي كانت لازمة لعمل مزولة، أو ساعة شمسية، وكيفية استعمالها.
وأما المتن الأخير الهام، فيوجد في الجانب الغربي من سقف حجرة التابوت أيضًا، وهو متن التمثيلية التي أشرنا إليها آنفًا؛ حيث نجد الإله «جب» يتخاصم مع الإلهة «توت»، ومما يؤسف له جد الأسف أن جزءًا عظيمًا من هذا المتن قد وُجد مهشمًا.
(٥-٥) مرسوم «نوري» والمؤسسات الخيرية التي أقامها «سيتي» بالعرابة
نعود الآن بعد أن تحدثنا عن معظم آثار «سيتي الأول» الباقية في «العرابة المدفونة» وغيرها، فنفحص الموارد التي كان قد أعدها لتموين هذه المنشآت العظيمة، وغيرها من الأعمال التي قام بها في طول البلاد وعرضها.
وقد يوجد سبب آخر لذلك الحب الظاهر للعرابة، وﻟ «أوزير» أكبر آلهتها، فعلى الرغم من أن «سيتي» كان ثاني ملوك أسرته، فإنه — كما أثبتنا من قبل — لم يكن من دم ملكي، ولكن مع ذلك كان ملكًا وابن ملك، وإن كان هذا اللقب الأخير لم يطلق عليه إلا بعد أن صار رجلًا مكتمل الرجولة.
ومن المعلوم أن كل فرعون كان يتقمص صورة «حور» على الأرض، ولكن لما لم يكن موقف «رعمسيس الأول» من عرش الملك وطيدًا، ولم يكن من حقه أن يحمل هذا اللقب المقدس؛ فإن «سيتي» من جهة أخرى كان يعد نفسه «حور» بحق، وحاكم مصر الذي اعتلى مكانته الرفيعة على عرش والده، وربما كان غرض «سيتي الأول» الذي كان يحمل فيما مضى لقب الكاهن الأول للإله «ست» أن يبرز بجلاء علاقته السامية مع الإله «أوزير»، فترك إله أسرته وإلهه المحلي حبًّا في «أوزير» والد «حور»، ومن ثم عقد العزم بوصفه ابنًا بارًّا ﻟ «أوزير» على أن يمجد والده المحبوب؛ ولذلك كان من الطبعي أن يوجه عناية خاصة للعرابة المدفونة التي كانت تعد أقدس مكان لعبادته. والواقع أن الإنسان يشعر بروح الإخلاص الذي كان يسود كل نواحي معبد العرابة، ويلحظ أن الدافع الأول لإقامته هو وغيره من المباني الدقيقة كان الحب الطاهر المقدس لثالوث «أوزير».
ولكن إقامة المعابد، وحبس الأوقاف عليها كان يتطلب أموالًا باهظة؛ حتى تبقى على مر الأيام، وكرِّ الدهور، وبخاصة عندما نعلم أن التماثيل الفردية التي كانت في المعابد أو المقابر كانت على حسب الشعائر الدينية، تحبس عليها الأوقاف ليقدم لها القربان من ريعها الخاص، ولا شك في أن معبد «أوزير» القديم في العرابة كان له أوقافه الخاصة، غير أنها قد ضاعت في عهد الانقلاب الديني، ولا بد أنها قد أعيدت إليه في حكم «توت عنخ آمون»، أو «حور محب»، ولكن البناء الجديد الذي أقامه «سيتي الأول» كان لا بد له من أوقاف خاصة لحفظ بقائه؛ ولذلك نرى الفرعون قد أعطى عناية خاصة لهذا الأمر بنفسه. وقد وصل إلينا مرسومان عن هذه الأوقاف؛ أولهما: مرسوم «نوري» المؤرخ بالسنة الرابعة من حكم هذا الفرعون، وقد كان المقصود منه المحافظة على حقوق مؤسسة ملكية تُعرف باسم: «بيت ملايين السنين للملك من ماعت رع راحة القلب في العرابة»، وكذلك المحافظة على كل عقار الأفراد الذين لهم علاقة بهذه المؤسسة. ونعلم من مضمون متن هذا المرسوم أن هذه الملكية أو الضيعة على الرغم من أنها تابعة للعرابة فإنها كانت في مكان ما بالقرب من «نوري»، أو على أية حال كانت في بلاد النوبة.
بلدة نوري
-
وصف اللوحة: يشاهد الملك «سيتي» في الجزء الأعلى من اللوحة واقفًا من
جهة اليسار، وهو يقدم القربان للآلهة «آمون رع»، و«رع حور
اختي»، ثم الإله «بتاح»، وهؤلاء هم آلهة «طيبة»
و«هليوبوليس» و«منف» على التوالي، وكانوا يُقدَّسون وقتئذ
بوصفهم الآلهة الرئيسية للدولة. ومما هو جدير بالذكر هنا
أنه على الرغم من النقوش المدونة على اللوحة، وهي على ما
يظهر وثيقة وُضعت من أجل معبد الإله «أوزير»، لم يظهر هذا
الإله بين الآلهة الذين مثلوا في هذا المنظر.
ويلاحظ أن الملك «سيتي» كان يرتدي هنا لباس الرأس الذي يتألف من قرني كبش عليهما ريشتا نعام، وقرص الشمس وصلان، كما كان يرتدي قبعة «نمس» المحلاة بصلٍّ، ويلبس قميصًا قصيرًا مثبتًا فيه ذيل من الخلف، ومنمقًا من الأمام، وينتعل خفين، وكان يقدم بإحدى يديه صورة الإلهة «ماعت» أي العدالة، ويحتمل أن ذلك كان رمزًا يدل على أنه كان سيحكم بالعدل ويعمل بالحق؛ لأن «ماعت» كانت الطعام الذي يعيش منه الآلهة، والنظام الذي يجب أن يسير عليه كل فرعون، وقد نُقش فوق رأسه طغراءان، وهما اسمه ولقبه: سيد الأرضين من «ماعت رع»، سيد المظاهر الفاخرة «سيتي مرنبتاح»، ثم يأتي بعد ذلك عبارة: «معطي الحياة مثل «رع».» وكذلك نقش أمامه: «تقديم العدالة لرب العدالة «آمون رع»، رب تيجان الأرضين، وإله السماء»، وكُتب خلفه: «كل الحماية والحياة حوله مثل «رع» سرمديًّا.»
ويرى بين الملك و«آمون رع» أربع شجرات خس مغروسة رُسمت رسمًا مختصرًا، وبينها ثلاث قواعد لموائد قربان، مد عليها طبق كبير، وُضع عليه فطيرتان مستطيلتان، أو قطعتان من اللحم يحيط بهما خيارتان، وثلاثة رغفان مستديرة، ووُضع فوقهما موقدان متقدان، أو مصباحان، أو مبخرتان.
وكُتب فوق المائدة ما يأتي: «يعيش الإله الطيب سيد الأرضين «من ماعت رع»، خطاب «آمون رع» رب تيجان الأرضين، لقد منحتك الأبدية بوصفك ملك الأرضين والخلود في حين قيامي بما يرغب فيه لبُّك مثل «رع» إلى الأبد السرمدي، أنت يا رب الأرضين.»
ونقش أمام «آمون رع» ما يأتي: «لقد وضعت تحت موطئ قدميك الجنوب والشمال معًا.»
أما الآلهة الآخرون فلم يقوموا بدور هام. وقد كُتب أمام الإله الثاني «رع حور اختي»: «الإله العظيم رب السماء.» وفي أسفل هذا كُتب: «لقد منحتك كل الحياة والقوة، والصحة مثل «رع».» وكُتب أمام الإله الثالث «بتاح»: «جميل الوجه، المشرف على المكان العظيم (أي المحراب).»
- تاريخ المرسوم: السنة الرابعة، الشهر الأول، من فصل الشتاء، اليوم الأول، وهو بداية السرمدية لاستقبال السعادة لمئات آلاف سنين أمن وملايين الأعياد الثلاثينية على عرش إله الأفق، وأبدية حكم «آتون» مع جلالة حور، الثور القوي المضيء في طيبة، ومن يجعل الأرضين تحييان، والمنسوب للآلهتين، ومجدد الولادة، والقوي السيف، قاهر الأقواس التسعة، الصقر الذهبي، والمجددة مظاهره، ومن رماته عديدون في كل البلاد، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «من ماعت رع» ابن الشمس، (٢) «سيتي مرنبتاح» العائش مخلدًا في الزمن السرمدي، محبوب «آمون» ملك الآلهة الظاهر على عرش حور الأحياء مثل والده «رع» يوميًّا.
- التعليق: يدل ما تبقى من التاريخ على أن السنة المقصودة هنا من حكم هذا الفرعون هي الرابعة لا الرابعة عشرة، ويلاحظ كذلك هنا أنه قد ذكر بين التاريخ وألقاب الفرعون الكاملة بعض جمل تعبر عن رغبة الفرعون الصالحة، وأنه سيبتدئ هنا عهدًا سرمديًّا لهذا الفرعون ينطوي على أعمال الخير العظيمة، والواقع أن هذا الوضع الكلامي لم يُعرف له مثيل في النقوش الأخرى التي من هذا الطراز، وقد يعزى ذلك إلى طيبة هذا الفرعون، وكثرة إصلاحاته في مواطن كثيرة كما سنرى بعد.
-
الملك والآلهة: «تأمل! لقد كان جلالته في مدينة «حكبتاح» (منف) يقوم
بأداء ما يرغب فيه والده «آمون» رب تيجان الأرضين في
«الكرنك»، و«رع حور اختي»، و«آتوم» رب الأرضين صاحب «أيون»
(عين شمس)؛ و«بتاح العظيم القاطن جنوبي جداره»، رب الحياة
للأرضين، و«سخمت» العظيمة محبوبة «بتاح»، و«بتاح سكر
أوزير» في شتيت، و«نفرتم»، والإله «نب كو»، والإله
«حرحكن»، و«حور» (٣) … و«إزيس» والدة الإله، وسيدة السماء،
والساحرة العظيمة؛ و«تحوت» رب كلمات الإله؛ وكل آلهة
وإلهات مصر؛ لأنهم يمنحون ملايين السنين، وعشرات آلاف
السنين من السلام، وكل البلاد وكل الممالك والأقواس التسعة
تحت قدميه، ليته يكون فرحًا مع روحه مثل «رع»
سرمديًّا.»
ونلاحظ أن هذه الفقرة تبتدئ بقائمة تعدد لنا أسماء ثلاثة الآلهة الرئيسية في الدولة المصرية، وهم «آمون رع» رب «طيبة»، و«آتوم» صاحب «عين شمس»، و«بتاح» إله «منف»، وبعد ذلك يستمر المتن في ذكر الآلهة المحلية التابعين لهم. وتدل الظواهر على أن ذكر هؤلاء الآلهة ليس له علاقة مباشرة بالمرسوم الذي سيأتي بعد، وإنما قد جاء ذكرهم للدلالة على إرجاع عبادة الآلهة القدامى.
- الآلهة توافق على شرعية الملك في اعتلاء العرش: «الإله الطيب ابن «أوزير»، والمنتقم للإله «وننفر» (أوزير بعد الموت)، والبذرة الصالحة لسيد الأرض المقدسة، وهو الذي قد هيأه والده عندما خرج من الفَرْج، وهو مقرر حكمه، وهو لم يزَل على يدي «إزيس» والدة الإله، وقد منحه عرش «جب»، وهي الوظيفة الصالحة لمن في السماء، وقد سوَّى جلالته «رع»، وكذلك سوى جماله، وعرَّفه بوصفه واحدًا يُنتخب من مليون ليكون ملك الوجه القبلي والوجه البحري في مكانه، وقد صوره بطلًا (٥) … شريف … وكل إله يفرح به، وأهل مصر العليا، ومصر السفلى يضعون جباههم سجودًا أمامه، والأشياء التي حوله قد صورت من أجله، وما يحيط به «آتون» تحت إشرافه، وقد اتحدت الآلهة لحمايته، ولإرضاء قلب «وننفر»، وقد قادوه إلى القصر الكريم، والتاسوع يمرح فرحًا، وقلوبهم في سرور، ويجدون في ذلك لذة قائلين: تعالَ أنت يا حور (؟) يابن «وننفر»، إنك سترث؛ أنت يا منتقمًا لوالده أوزير «خنتي أمنتي»، إنك مُمَكَّن على عرشه حتى نهاية حدود الأبدية، وإن قلب رب الجبانة لفرح عندما يراك على السدَّة مثل «رع»؛ لأنك على الأرض لتنظم الأرضين، ولتجعل المعابد في فرح.»
هذه الفقرة تتناول بحذق ومهارة ودهاء الانتقال الضروري من التحدث عن إصلاح الفرعون وتقاه وتعبده لآلهته، إلى خشوعه وقنوته وحبه الخالص للإله «أوزير»، وذلك بموافقة كل الآلهة. وقد مثل «سيتي» نفسه هنا كالإله «حور بن أوزير» الوارث الشرعي للفرعون، غير أنه لم يكن لوالده ولا للفرعون الذي سبقه على ما يظهر حق تولي عرش مصر، هذا بالإضافة إلى أنه كان يريد أن يقضي على اسمه «سيتي» الذي كان يُنسب إلى اسم هذا الإله البغيض «ست» إله الشر. وتدل شواهد الأحوال على أن هذين الاعتبارين قد دفعاه من وجوه عدة مختلفة للسعي في اكتساب حظوة الإله «أوزير» إله الشعب، ولبعث عبادته ثانية في أنحاء البلاد، وبخاصة بعد أن كان قد قضى عليها في عهد الانقلاب الديني الذي قام به «إخناتون»؛ وبذلك فقط رأى أنه قد يصبح في استطاعته أن يبعد عنه اتهام الكهنة بمحاباته لإلهه المحلي «ست» الذي كان يُعبد في مقاطعة «ستوريت» مسقط رأسه كما تحدثنا عن ذلك فيما سبق.
(٥-٦) تُقى الملك وبرُّه بأوزير رب «العرابة»، ومؤسسته العظيمة فيها
إنك قد ولدت لتجعل «العرابة» محمية (٧) ثانية، وتجعل من فيها ينعمون بما قررت، وإنك تبني بيته — أي بيت أوزير — مثل أفق السماء، وأشعته تسطع في الوجه، وصور أرباب «تاور» (الجزء المقدس في العرابة) قد صورت، والتماثيل المقدسة قد وضعت في مقاعدها وأشكالهم حقيقية كما كانت في زمن «رع»، ورصعت قواربهم بالأحجار الثمينة، وإنك تمنحهم كل يوم «ماعت»، ومنها يعيشون؛ وتضع لهم الهدايا المنعشة، وأعشابًا وأزهارًا على فطائر القربان، وإنك تجلب لهم ماء جاريًا في المكان الذي يرغب فيه — أي أوزير — لتمرِّن أرباب الأرض المقدسة؛ أما القصر الذي فيها — أي في العرابة — فقد حلي كثيرًا بالذهب الجميل الحقيقي الجديد من المصانع — أي الذهب الذي لم يُستعمل من قبل، وعندما يرى — أي البيت — تبتهج القلوب، وكل القوم يقدمون الطاعة، وإن وجهاءه هم الذين يسبغون عليه بهاءه مثل أفق رع عند إشراقه، أما الطوار الذي فيه فإنه كسهل من الفضة يسطع عندما يلقي الإنسان بصره عليه، وأبوابه المتناهية في الضخامة عملت من صنوبر الغابة، وأجسامها مغشاة بالذهب النضار، وملفوفة من الخلف بالشبه، وينتعش الإنسان عندما يرى صورتها. أما البوابات العظيمة ذات الأبراج، فقد أقيمت من حجر «عانو»، وقممها من الجرانيت، وجمالها يصل إلى أعلى عمد السماء؛ إذ تصل إلى «رع» في أفقه؛ والبحيرة التي أمامه — أي أمام المقر — تشبه الأخضر العظيم — البحر الأبيض المتوسط — الذي لا تعرف دائرته، وعندما يلقي الإنسان بصره عليها تظهر لامعة كاللازورد في زرقتها، أما وسطها فينبت فيه السقي (نبات البردي)، والغاب، ويزخر بالسوسن يوميًّا.
تأمل إن البجعة تنزل لتسبح في أرجائها، وتحيط بها الأشجار التي تصل إلى عنان السماء، وقد غرست كالصنوبر في موطنه الأصلي، وينزل في بحيرتها قارب «نشمت» العظيم ليحمل موحد أثره — يقصد هنا إما «أوزير»، وإما الملك بوصفه باني هذا المعبد — عندما يسبح عليه. تأمل إنه في بهجة ونواتيه في فرح، وكذلك ينادي أتباع «حور» قائلين: امنحه أبدية من الأعياد الثلاثينية لتضاعف سني حياته على الأرض، وليمكث أمد حكم «آتوم»، أما قاعات النطرون (للطهور أو التحنيط) فقد طهرت تطهيرًا عظيمًا، وأنها تصب الماء العذب من جديد، وهي مسورة بأحجار فائقة في صنعها، وأسرارها تصل إلى عنان السماء الأولى (؟)، ويكون الإنسان في داخلها وقلبه راضٍ. أما ماء الغسل الذي يصل إليها بمجارٍ كل يوم دون انقطاع على يد كهنة مرتلين مهرة، فأفواههم مختارة، تنطق بحديث وجمل تسر القلب ليمدوا العالم السفلي من أجل من يأوي إليه، وتاسوعه الذين يتمتعون بنفس الحياة. أما الخزائن فمفعمة بالطرائف، فالفضة والذهب مكدسة فيها على الأرض، والكتان الملكي والملابس بكميات منوَّعة (؟)، وكذلك وحدات الزيت، والبخور، والخمر، والشهد يخطئها العد، وبخور «بنت» فيها يحسب بالأكوام.
وقد عين له كهنة (خدام الآلهة)، وكهنة وضباط … وصوت يعلن الوظائف إلى أرباب كل الجبانة الذين يستيقظون كل صباح ليؤدوا شعيرة كشف وجه الأب — أي أوزير — عندما يرفعون الحجاب عن وجهه، ويقدم للأب الفاخر ملايين ومئات الآلاف من كل شيء نقي طيب لا يُحصى، مما يمنحه إياه ابنه نفسه، والوظائف … في هذا المعبد مفخمين إله الأفق في أفقه، وإنهم يقدمون المديح لمن في السماء ليقهر العدو الذي في طريقه، ويوجه النسيم العليل للإله «خبري»، ويضع سفينته على هذه البحيرة (؟)، ونواتي «رع» في عيد، وقلوبهم راضية بالإلهة «ماعت».
والمخازن هناك تحتوي على مواد دهنية، والأوقاف متكاثرة بالملايين، والعبيد فيه من أولاد الأمراء الذين أسرهم في بلادهم «رتنو» — أي من الحملة التي قام بها أول سنة من حكمه — وقد جعل كل فرد يعرف واجباته فيما يخص قواعد الطهارة كلها.
وقد قدم له مزرعة طيور في مستنقعاته، وكان عددها كعدد رمال الشاطئ، ويرى الإنسان بيته كأنه مستنقعات «خميس» (المكان الذي وُلد فيه حور) يعج بصياح الدواجن التي تسمن وتربى، وكل طير من طيور المزرعة، وتنتج له — أي لأوزير — طيور الشواء في بيته، أو ضيعته، والحظائر مفعمة بالفحول السمينة، والبقرات والثيران، والماعز والغزلان والعجول تُعد فيها بمئات الآلاف، ولا يمكن حصرها وعدها لكثرتها، وهي تجبى للقربان في تواريخها على حسب قاعدة الأشياء المقدسة … أوامر صانعها. وقد قدَّم — أي الملك — «ماعت» لروحه حتى يقرب له — أي الملك — ما يحيط به «آتون»، هذا فضلًا عن عبيد معبده — أي معبد أوزير.
وقد كثر له كل أنواع الحيوانات التي تسير على وجه الأرض، فالفحول تنزوِ، والقطعان يزداد عددها (؟)، والأعشاب تورق أضعافًا مضاعفة، وسيقان الأشجار تورق في مواقيتها المحددة، وتتضاعف ملايين المرات، فعددها يكثر من جديد بما وهبته حديثًا، والرعاة يتعهدون قطعانهم التي تحت يدهم من ابن لابن؛ حتى الأبد السرمدي، ويقدم لها الكلأ في حظائر الأوز (؟)، وفي المستنقعات، وكذلك الورق والأزهار. وهذه الأرض قد تُركت لها بمثابة حفل ترتع فيه، وليس لأحد قط أن يسيطر عليها، والفحول والثيران قد انتشرت في الأدغال وعلى الشواطئ، فالنتاج القديم يملؤها، والقطعان قد عمرت بطونها بالصغار لتلدها، والفحول التي تتبع أمهاتها هي من نتاجها. وبُنيت له — أي لأوزير — أساطيل من السفن لتكثير عقاقير الأعشاب في معبده، وقد غطى عددها «الأخضر العظيم» (البحر)، ومصبات النهر قد ازدحمت بالقوارب والسفن المجهزة بنواتيها، وكل سفينة منها طولها مائة ذراع، وحمولتها من أعشاب العقاقير الواردة من أرض الإله (بلاد العرب)؛ فترسو عند الميناء العظيمة لتمد تخوم صحراء «تاور» (مقاطعة العرابة المدفونة). وأعد له — لأوزير — الفرعون قوائم تحتوي مئات الآلاف من الأرض المنخفضة، والجزر والأرض العالية، وكل الأرض الصالحة لإنتاج المحاصيل لتصبح قربانًا لروحه، وبنى له سفن كرر لحمل كل محصول، وأصبحت مخازن الغلال طافحة بالقمح، وأكوامها وصلت إلى عنان السماء في ارتفاعها.
وقد صدر مرسوم بسنِّ قانون لأجل عبيده في كل مراكز الوجه القبلي والوجه البحري، وقد ميز كل أهله وحموا مثل الأوز (المقدس للإله آمون) على الشواطئ التي يرغبون فيها؛ وذلك لأن كل أعمالهم موقوفة لخدمة روحه، في المقاطعة العظيمة التي أحبها؛ ولذلك لن يتلقوا الأوامر من آخرين، ولن يتدخل في أمرهم من ابن لابن، كما هو مقرر، في أعمالهم حتى نهايات حدود الأبدية.
ولقد طهرت بيتي ملايين المرات، وقد ميزت أولئك الذين يسكنونه ثانية، ووضعت العبيد الذين حصلت عليهم في بيتي، ولن أنفصل عنهم. وقد بدأت هناك منذ طفولتي حتى تولي الحكم (؟) … ومنحته كل أراضي الوجه القبلي طعامًا لوحه (كا)، ولن أمَلَّ، ولن أنسى واحدًا من منشوراتي سواء أكان ذلك على الماء، أم على اليابسة، وهذا على وجه التأكيد إلى الأبد السرمدي.
-
المرسوم: وعلى الرغم من كثرة الفقرات المتآكلة والمهشمة في المرسوم
التالي، فإن تكرار العبارات في المتن قد سهل علينا نقل هذه
النقوش، وتكملة ما تهشم منها في جهة مما بقي في جهة أخرى، وعلى
ذلك لم يغِب عنَّا من المتن كله إلا بعض جمل أو ألفاظ يمكن
رؤية ما بقي منها أحيانًا، وتقدير أصلها هذا إلى أنه لم يكن في
استطاعتنا حتى الآن فهم معاني بعض الألقاب والاصطلاحات الفنية
المستعملة في هذا المتن على وجه التأكيد، وهاك نص المرسوم:
- نص المرسوم: مرسوم موجه من جلالة البلاط الملكي — له
الحياة والفلاح والصحة — في هذا اليوم إلى الوزير
وكبار الموظفين، ورجال البلاط، ومجلس القضاة، ونائب
الملك في «كوش»، ورؤساء الرماة، والمشرفين على
الذهب، والعمد، ومراقبي المعسكرات في الوجه القبلي
والوجه البحري، والسُّيَّاس، ورؤساء الإصطبل، وحاملي
المروحة، وكل مدير بيت لأملاك الفرعون، وكل فرد بُعث
في مأمورية لبلاد «كوش»، لكل هؤلاء يقول المرسوم:
أمَر جلالته بسن قانون لبيت ملايين السنين ملك الوجه
القبلي والوجه البحري «من ماعت رع» المسمى «القلب في
راحة في العرابة» على الماء واليابسة، وفي كل أنحاء
مقاطعات الوجه القبلي والوجه البحري لمنع أي تدخل في
أمر أي شخص تابع للبيت المسمى «القلب في راحة في
العرابة»؛ في كل البلاد سواء أكان رجلًا أم امرأة،
ولتحريم الاستيلاء على أي أناس تابعين لهذه الضيعة
بالقبض من صقع إلى صقع آخر للسخرة، وإكراههم على حرث
الأرض، أو إجبارهم على الحصد عن طريق أي نائب فرعون،
أو أي رئيس رماة، أو أي عمدة أو أي مدير بيت، أو أي
شخص أرسل في مأمورية لبلاد «كوش»، وكذلك للتحريم على
قواربهم الوقوف على الماء بأي دورية تفتيش.
ولمنع التدخل في أمر أي أرض يملكها «بيت من ماعت رع» المسمى «القلب في راحة في العرابة» في الأرياف أجزاء … في سياحتهم؟ أو في عبورهم على يد أي نائب ملك، أو رئيس رماة، أو مدير بيت تابع لبيت تفتيش أملاك الفرعون، أو أي فرد في مأمورية بلاد «كوش».
ولمنع البقرات والحمير والكلاب والماعز، أو أي حيوان واحد ملك (بيت من ماعات إلخ) من أن تؤخذ سرقة، أو بطريق الامتياز على يد أي نائب ملك، أو أي رئيس رماة، أو أي عمدة مدينة، أو أي رئيس جياد، أو أي رئيس إصطبل، أو أي حامل مروحة، أو أي ضابط جيش، أو أي فرد أرسل في مأمورية لبلاد «كوش».
ولتحريم التدخل في شأن أي صائد طيور تابع لبيت (الاسم الكامل للمعبد) (٣٧) في مستنقعات صيده، وفي مياه صيد سمكه، وعلى اليابسة بقصد مضايقته (؟)، ولمنع الاقتراب من أي صائد سمك تابع لمقر الملك … إلخ (٣٨) على برك صيده للسمك التي على أي جزء من أرض «كوش» بوساطة أي نائب ملك، أو أي رئيس رماة، أو أي عمدة مدينة أو أي مدير بيت تابع لأي جزء من أرض «كوش».
ولتحريم التدخل في أمر أي خدم تابعين لبيت (الاسم الكامل) الذين في أرض «كوش» سواء أكانوا رجالًا أم نساء، أم حراس أرض، أم مديري بيوت، أم نحالين، أم زراعًا، أم بستانيين، أم عاصري خمر (؟)، أم أصحاب قوارب، أم حزامين، أم تجارًا أجانب، أم عمال غسيل الذهب، أم بنائي سفن، أم أي فرد يقوم بعمله في بيت «من ماعت رع المسمى القلب في راحة في العرابة»، بل يجب أن يميزوا ويكونوا محميين، ويقوم كل واحد منهم بمباشرة حرفته التي تؤدي في «بيت من ماعت رع» إلخ، دون أن يزعجهم أي نائب ملك في «كوش»، أو أي رئيس رماة، أو أي موظفين كبار، أو أي رئيس خيل، أو أي رئيس إصطبل، أو أي حامل مروحة، أو أي ضابط جيش، أو أي فرد أرسل في مأمورية لبلاد «كوش».
أما عن أي نائب ملك في كوش، أو أي رئيس رماة، أو عمدة مدينة، أو أي مدير بيت، أو أي فرد يستولي على شخص تابع «لبيت من ماعت» إلخ، بالقبض عليه من صقع إلى صقع آخر سخرة لتشغيله في الحرث أو الحصاد، وكذلك كل من يستولي على أية امرأة، أو أي شخص تابع «لبيت من ماعت رع» إلخ، وكذلك عبيدهم بالقبض عليهم للقيام بأي عمل مهما كان، وكذلك أي رئيس جياد، أو رئيس إصطبل، أو أي فرد تابع لضياع الفرعون من صقع إلى صقع آخر سخرة لتشغيله في الحرث أو الحصاد، وكذلك للقيام بأي عمل كان.
فإنه يعاقَب بجلده ثمانين جلدة، وخمسة جروح دامية، هذا إلى إرغامه على القيام بالعمل الذي كان يقوم به التابع للمقر عن كل يوم سيمضيه معه، ويؤدي ذلك لبيت «من ماعت رع» إلخ.
وأي نائب فرعون، أو رئيس رماة، أو عمدة مدينة، أو مدير بيت، أو أي موظف كبير، أو أي فرد أرسل في مأمورية لبلاد «كوش» يتعمد وقف أي قارب تابع لبيت «من ماعت رع» إلخ، أو أي قارب لمدير بيت تابع لضياعه، ويجعله يرسو إلى البر، ولو يومًا واحدًا قائلًا: «إني سأستولي عليه، كما فرض عليه لأجل عمل خاص بالفرعون له الحياة والفلاح والصحة.» فإنه سيعاقب بالجلد مائة جلدة، ويجرح خمسة جروح دامية، هذا فضلًا عن خصم ما يوازي عمل السفينة منه عن كل يوم تكون قد رسته، ويؤدي ذلك لبيت «من ماعت رع» إلخ.»
وأي موظف أو أي مشرف على أرض تابعة لهذه الضيعة، أو أي حارس لثيران حرث، أو أي مدير بيت يتدخل في حدود الأراضي التابعة لبيت «من ماعت رع»، إلخ، بأن يزحزح حدودها سيعاقب بقطع أذنيه، ويكلف أن يكون زارعًا في المقر … إلخ.
وأي فرد في البلاد قاطبة يهاجم أي صائد تابع لبيت «من ماعت رع» إلخ، في مستنقعات صيده، أو في بركة صيده سيعاقب بجلده مائتي جلدة، وجرحه خمسة جروح دامية.
وأي فرد يوجد سارقًا متاعًا خاصًّا ببيت «من ماعت رع» إلخ، سيعاقب بجلده مائة جلدة، وينتزع منه المتاع الخاص «ببيت من ماعت رع» إلخ، بوصفه متاعًا مسروقًا (؟) بنسبة مائة لواحد.
وكذلك قرر جلالته سن قانون خاص بالموجود من البقر، والماعز، والحمير، والكلاب، والأوز والموجود من … ملك بيت «من ماعت رع» إلخ على الماء (٥٧)، وعلى اليابسة ليمنع التدخل في أمر أي قطيع منها، ويمنع التدخل في شئون رعاتها، ويمنع الاستيلاء على ماشية، أو حمير، أو كلاب، أو ماعز، أو أي شيء من قطيع منها بالقهر أو الاستباحة، وكذلك يحرَّم على كل مشرف على ماشية، أو مشرف على كلاب، أو أي راعٍ تابع لبيت «من ماعت رع» إلخ الاستيلاء على ثور، أو حمار، أو كلب، أو ماعز من أملاك بيت «من ماعت رع» إلخ، أو إعطائها آخر خلسة، أو جعلها تقدم لإله آخر، وألا تقدم ﻟ «أوزير» سيدهم في بيته الكريم الذي أقامه جلالته.
ويحرَّم مهاجمة أي راعٍ تابع لبيت «من ماعت رع» إلخ، في كلئه الخاص بالماشية بوساطة أي موظف كبير، أو عمدة أي مدينة، أو أي مشرف على الماشية، أو أي وكيل، أو أي مشرف على كلاب الصيد، أو أي شخص مهما كان.
ويحرَّم الاستيلاء على نسائهم، أو خدمهم الذين يقبض عليهم في أي عمل للفرعون — له الحياة والفلاح والصحة — وكل شخص سيتعدى حدود هذا القرار، ويستولي على «راعٍ» تابع لبيت «من ماعت رع» إلخ، بالقبض عليه، أو بنقله من صقع إلى صقع آخر للقيام بأي عمل يجعل الراعي يقول: «إنني منذ أن أخذت قد حاقت خسارة بقطيعي في رأس من الحيوان أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة، فإنه سيوقع عليه العقاب بجلده مائتي جلدة، وانتزاع رءوس حيوان بيت «من ماعت رع» منه بوصفها مسروقة، وذلك بنسبة مائة لواحد.
وأي شخص يُضبط مستوليًا على رأس من حيوان بيت «من ماعت رع» إلخ، سيوقع عليه العقاب بجدع أنفه وأذنيه، وجعله زارعًا في بيت «من ماعت رع» إلخ، عقابًا له على جريمته، وكذلك يستخدم زوجه وأولاده عبيدًا لمدير بيت الضيعة.
وأي حارس ماشية، وأي حارس كلاب صيد، أو أي صياد تابع لبيت «من ماعت رع» إلخ، يعطي آخر رأس؛ أي حيوان لبيت «من ماعت رع» إلخ، اختلاسًا؛ وكل من يسعى لإعطائها جهة أخرى، ولا تقدم ﻟ «أوزير» سيده في بيت «من ماعت رع» إلخ، فإنه سيعاقَب بطرحه أرضًا، ووضعه على خازوق، والاستيلاء على زوجه وأولاده، وكل متاعه لبيت «من ماعت رع» إلخ، واسترجاع رأس الحيوان من الذي قد أعطيها بوصفها مسروقة من بيت «من ماعت رع» إلخ، بنسبة مائة لواحد.
وأي فرد في الأرض قاطبة يهاجم راعيًا تابعًا لبيت «من ماعت رع» إلخ، في مرعى (٨٢) ماشيته سيعاقَب بجلده مائة جلدة، وجرحه خمسة جروح دامية.
وفضلًا على ذلك قرر جلالته سن قوانين لأسطول جزية بلاد «كوش» التابع لبيت «من ماعت رع» إلخ؛ لمنع أي مشرف حصن سيكون على حصن «سيتي مرنبتاح» التي في «سخمت» (مكان غير معروف موقعه) أن يستولي على ذهب، أو جلود، أو أي نوع من جزية حصن (؟)، أو أي بضاعة … بوصفها امتيازًا إلى أبد الآبدين.
وكذلك يحرَّم الاستيلاء على أي بحَّار تابع لسفينة خاصة بجزية بيت «من ماعت رع» إلخ، وتكليفه بعمل في طريق آخر.
وكذلك يحرَّم على أي نائب ملك، أو أي رئيس رماة، أو أي رئيس نوبيين تابع لأرض «كوش» أن يتدخل في شأن قارب تابع لبيت «من ماعت رع» إلخ، وكذلك نواتيهم (؟)، وأي مشرف على قلعة، أو أي كاتب فيها، أو أي مفتش تابع لها يصعد على ظهر قارب تابع لبيت «من ماعت رع»، ويستولي على ذهب، أو عاج، أو أبانوس (؟)، أو جلود فهود، أو جلود شواشتي (نوع من الحيوان)، أو ذيول زرافات، أو جلود زرافات … أعشاب، أو أي سلعة من بلاد «كوش» جُلبت جزية لبيت «من ماعت رع» إلخ، سيعاقَب بالجلد مائة جلدة، وتُنتزع منه الأشياء المغتصَبة؛ عقابًا له، وتُرد إلى بيت «من ماعت رع» إلخ، بنسبة ثمانين لواحد.
وكل نائب ملك، وكل مشرف على كلاب، وكل مفتش، أو كاتب تابع الأرض «كوش» يستبيح سفينة تابعة لبيت «من ماعت رع» إلخ. و(٨٥) ويأخذ سلعًا منها، أو يستولي على ضابط أية سفينة تابعة لبيت «من ماعت رع»، ويرسله في عمل سيعاقب وتُنتزع منه السلع تعويضًا لبيت «من ماعت رع»، وكل يوم من أيام الضابط المستولي عليه يؤخذ بدله منه بنسبة … أيام من كل يوم سيصرفه عنده.
وكذلك قرر جلالته سن قانون لأجل … الكهنة، والكهنة المرتلين، وعمال المعبد (٩٩) … وكل الموظفين … بأنواعهم، يحرَّم على أي فرد في البلاد التدخل في شئونهم، أو شئون أهلهم، أو في أمر أي متاع من أمتعتهم، أو أخذ أي واحد منهم، أو سبي نسائهم، وعبيدهم بالقبض من صقع إلى صقع آخر للعمل سخرة في حرث الأرض، أو في الحصاد بوساطة أي حاكم، أو أي عمدة، أو أي شخص في الأرض قاطبة.
وأي شخص في البلاد قاطبة سيتدخل في شئونهم أو في شئون أي فرد من أهلهم أو في أي شيء من متاعهم سيعاقَب بالجلد مائة جلدة، وبخمسة جروح دامية.
وإذا نتجت خسارة خاصة ببيت «من ماعت رع» إلخ، فإن الخسارة يجب أن تعوَّض؛ وإذا شكا فرد تابع لبيت «من ماعت رع» إلخ، لأي مجلس قضائي في أي مدينة قائلًا: «إن مفتشًا أو سائس خيل أو رئيس إصطبلات، أو ضابطًا، قد تدخل في شئوني وأخذ سلعي فعليهم أن ينتزعوا الأشياء الناقصة منه، وأن يسترجعوا السلع من الرجل الذي تدخل في شئونه.»
ولقد تجنب جلالته طرح من ضايقهم أرضًا، ووضعهم على خازوق؛ رغبة منه في أن يترك لمجلس أي مدينة يذهبون إليها أن يُحكم عليهم، وإذا أتى رجل أي واحد من التابعين لبيت «من ماعت رع» آخر في أي بقعة قائلًا: «إن فلانًا … قد تدخل في شئوني، واغتصب ثوري، أو أنه أخذ الثور، أو أخذ ماعزي، أو أي شيء سُرق من الناس، أو أن واحدًا كالمفتش قد قبض على رجل ليقوم له ببعض العمل، ولا يطير لكلمته لإحضار خصمه بسرعة لمحاكمته، فإن «أوزير خنتي أمنتي» (أول أهل الغرب) صاحب هذا الشخص، ومالك السلع سيتعقبه، وزوجه، وأولاده ليمحو اسمه، ويقضي على روحه، ويحرَّم على جسمه البقاء في الجبانة.
وأي عضو (؟) في أي محكمة (؟) في أي مدينة يذهب إليه فرد تابع لبيت «من ماعت رع» إلخ ليشكو إليه، ولم يلتفت إليه، ولم يسرع عند سماع صوته بالفصل في قضيته، سيعاقب بالجلد مائة جلدة، ويحرم وظيفته، ويسخر زارعًا في بيت «من ماعت رع» إلخ.»
- خاتمة: إن جلالته قد قام بعمل هذه برًّا بوالده «أوزير» «خنتي أمنتي» رب «العرابة» رغبة منه في أن يميزه بها لأجل الأعمال المجيدة التي عملتها (؟) في (١٢١) … له لأن العرابة قد قدِّر لها أن تقوم باستعطافه، ولإرضاء روحه (كا) في أثناء كل يوم، ولتجعله … (١٢٣) … في الأرضين … هم الذين في محاريبهم (١٢٤) حتى يستريحوا في أماكنهم (١٢٥)، مبتهجين بكل ما فعل؛ حتى يهبوه بقاء «رع»، وحكم الأرضين باقيًا ضعفين، مخلدًا وسرمديًّا.
- نص المرسوم: مرسوم موجه من جلالة البلاط الملكي — له
الحياة والفلاح والصحة — في هذا اليوم إلى الوزير
وكبار الموظفين، ورجال البلاط، ومجلس القضاة، ونائب
الملك في «كوش»، ورؤساء الرماة، والمشرفين على
الذهب، والعمد، ومراقبي المعسكرات في الوجه القبلي
والوجه البحري، والسُّيَّاس، ورؤساء الإصطبل، وحاملي
المروحة، وكل مدير بيت لأملاك الفرعون، وكل فرد بُعث
في مأمورية لبلاد «كوش»، لكل هؤلاء يقول المرسوم:
أمَر جلالته بسن قانون لبيت ملايين السنين ملك الوجه
القبلي والوجه البحري «من ماعت رع» المسمى «القلب في
راحة في العرابة» على الماء واليابسة، وفي كل أنحاء
مقاطعات الوجه القبلي والوجه البحري لمنع أي تدخل في
أمر أي شخص تابع للبيت المسمى «القلب في راحة في
العرابة»؛ في كل البلاد سواء أكان رجلًا أم امرأة،
ولتحريم الاستيلاء على أي أناس تابعين لهذه الضيعة
بالقبض من صقع إلى صقع آخر للسخرة، وإكراههم على حرث
الأرض، أو إجبارهم على الحصد عن طريق أي نائب فرعون،
أو أي رئيس رماة، أو أي عمدة أو أي مدير بيت، أو أي
شخص أرسل في مأمورية لبلاد «كوش»، وكذلك للتحريم على
قواربهم الوقوف على الماء بأي دورية تفتيش.
- تعليق: كان الغرض من هذا المرسوم المحافظة على حقوق مؤسسة ملكية عظيمة حبسها الفرعون «سيتي الأول» على الإله «أوزير»، غير أن طبيعة هذه المؤسسة، وما جاء فيها من إبهام، أو بعبارة أخرى؛ عدم قدرتنا على فهم كنهها قد عاقنا عن إعطاء حكم واضح على أصلها؛ فنجد أولًا: أن اسمها وموقعها ليسا واضحين تمام الوضوح؛ فقد كُتب الاسم في المرسوم نفسه في عدة مواضع كاملًا، وفي مواضع أخرى كُتب باختصار، هذا فضلًا عن أنه حدث في كتابة الاسم بعض التغيير؛ ولذلك يمكن ترجمته على وجهين؛ فقد كُتب: بيت ملايين السنين للملك «من ماعت رع» راحة القلب في العرابة، وكذلك كُتب: بيت ملايين السنين قلب الملك «من ماعت رع» في راحة العرابة. يضاف إلى ذلك أن الاسم قد كُتب مختصرًا هكذا: بيت «من ماعت رع» راحة القلب في العرابة، أو البيت المسمى «قلب من ماعت رع في راحة في العرابة». ولدينا مرسوم مشابه لهذا المرسوم أصدره الفرعون «رعمسيس الثالث» في «إلفنتين» خاص بمعبد الإله «خنوم»؛٦٠ وتدل الإشارات المستمرة للصيادين والرعاة في متن «نوري» هذا إلى أن هذه الضيعة التي نتحدث عنها كان معظمها مكوَّنًا من مستنقعات ومراعٍ، وكانت منتجاتها ترسل إلى «العرابة»، ومن ثم كانت الحاجة ماسة لبناء أسطول من السفن لحملها إلى هناك، هذا فضلًا عما تكشفه لنا ما كانت عليه بلاد النوبة من رخاء وخصب، وأرزاق كثيرة لا يكاد يصدقها العقل إذا ما قرناها بالحالة الراهنة، وعلى الرغم من أن هذه القوانين كان قد سنها «سيتي» لمعاقبة كل من يتعدى على أملاك الإله «أوزير»، فإنها في الوقت نفسه تضع أمامنا مثالًا حيًّا عن نوع القوانين والعقوبات التي كانت تجري عليها البلاد في عهد «سيتي الأول». وإذا نظرنا إليها بعين فاحصة وجدنا أنها هي نفس القوانين التي كان قد سنها «حور محب» عندما قام بالإصلاح الشامل الذي كان يبغي من ورائه استتباب الأمن في البلاد، وسنرى فيما بعد أن «سيتي» كان يطبقها أو يسنها في أحوال أخرى. ويلاحظ أن «سيتي» بعد أن هدد بالعقاب الدنيوي لجأ في النهاية إلى العقاب الأخروي، وهو غضب «أوزير»، وسخطه على كل مذنب. أما ذكر الذهب في هذا المنشور، فلم يرد إلا ضمن مواد الجزية من بلاد النوبة، ومن ثم يظهر أن «سيتي الأول» قد رصد معظم جزية بلاد «كوش» من الذهب لمعبد «العرابة»، غير أنه لم يرتكن على هذا المصدر لإمداد المعبد، وغيره من الأعمال التي كان يقوم بها بالذهب، بل قرر أن يقوم بمشروع أساسه استغلال مناجم الذهب الواقعة في الصحراء الشرقية.
(٥-٧) الذهب واستخراجه من أرض الوادي
(٥-٨) المصور الجغرافي لمناجم الذهب في عهد «سيتي»
- (١)
أن المناجم المشغولة كانت في جنوب الوادي.
- (٢)
أن الوادي يحتوي كلأ وفيرًا، وفي المصور القديم نجد أن الجزء الأوسط المنزرع الذي رُسمت فيه اللوحة يشير بصفة تلفت النظر إلى الرواسب الخصبة الواقعة شمالي الوادي.
- (٣)
لاحظ «لينان» بعض الدلائل على وجود بئر قديمة بالقرب من جامع قرية المناجم، وكذلك لاحظ وجود قبر أو معبد محفور في الصخر في الشمال من المنجم الرئيسي، وهذه الظواهر نجدها كذلك ممثلة في المصور.
- (٤)
يظهر أن موضع الوديان أو الطرق الجبلية متشابهة في المصور القديم وفي مصور «لينان»، ويلاحظ في هذا المصور أن البحر يقع فيه على اليسار، ولولا وجود هذا الاتجاه لأصبح في وسع الإنسان أن يقول: إن منجم «براميا» الواقع شرقي «إدفو» هو الذي يمثل مكان المعبد، أو البئر، والمنجم القديم. ولم يعثَر حتى الآن على اللوحة التي نحتها الملك «سيتي» بالقرب من البئر الموجودة في «وادي مياه»، أو «وادي عباد»، وليس ببعيد أن تكون واحدة قد حُفرت هناك، وأنها لا تزال مطمورة تحت الرمال، وتنتظر الكشف عنها؛ لأن هذا المكان لم تعمل فيه حفريات علمية حتى الآن.
- (١)
الجبال التي يُستخرج منها الذهب، وهي بهذا اللون الأحمر.
- (٢)
نقشان موجودان تحت الطريق السفلية، إحداهما على الشمال، وفوق الطريق العلوية على اليسار، وهو «جبل ذهب»، وعلى الجهة اليمنى تحت أسفل الطريق «جبال من الفضة (؟) والذهب.»
- (٣)
ونقرأ بجانب تخطيط معبد، أو محراب ما يأتي: «محراب آمون صاحب الجبل النقي (الطاهر).»
- (٤)
وعلى الطريق المؤدية جنوبًا إلى أعلى طريق نقرأ: «طريق ثامتني».
- (٥)
وعلى التل الواقع فوق المحراب كتب: «جبل آمون (؟).»
- (٦)
ونجد أعلى من الطريق المؤدية لبيوت العمال، وعلى يمينها ما يأتي: «الجبل الذي يأوي إليه آمون.»
- (٧)
وبجانب بيوت العمال على الطريق كُتب: «بيوت مستعمرة مناجم الذهب.»
- (٨)
وبجانب اللوحة كُتب: «لوحة من «ماعت رع» (سيتي الأول) (له الحياة والصحة).»
- (٩)
وعلى الطريق الوسطي من اليسار كُتب: «طريق أخرى تؤدي إلى الصحراء.»
- (١٠)
وعلى أسفل طريق من اليسار دوِّن: «طريق تنت … بارمر … (؟).»
الأماكن التي كان يُجلب منها الذهب من الوثائق الأصلية
ونقوش «تحتمس الثالث» تشير إلى جلب الذهب من آسيا، ومن السودان كما ذكرنا ذلك من قبل، وقد جاء ذكر بلاد «آمو»، وبلاد «بنت»، والأرض العالية، و«كوش»، والأقاليم الجنوبية. وقد كان أحد ألقاب نائب الملك في بلاد «كوش»: المشرف على أرض الذهب، أو ذهب أرض «آمون» (راجع الجزء الخامس). هذا، ولدينا إشارة في نقوش «منخبر رع سنب» كاهن «آمون» الأكبر، والمشرف على الخزانة في عهد «تحتمس الثالث» إلى حاكم إقليم الذهب في «قفط». ويرى هذا الكاهن العظيم في إحدى صور قبره، وهو يتسلم حمولة سفن من الذهب من هذا الموظف، ومن ضابط الشرطة في «قفط»، وقد فُسر هذا المنظر بمتن: «تسلم ذهب الأراضي العالية في «قفط» بالإضافة إلى ذهب «كوش» الخاسئة، وهو الجزية السنوية» (راجع مصر القديمة الجزء الرابع).
(٥-٩) معبد «وادي مياه» المعروف بمعبد «الردسية»
وقد كانت الطريق في عهد «سيتي الأول» قد أصبحت عسيرة شاقة وعرة بسبب قلة الماء؛ من أجل ذلك قام هذا الفرعون بحفر بئر في هذه الجهة أطلق عليها بئر «سيتي مرنبتاح»، وخرائب هذه البئر لم تزَل ظاهرة حتى الآن، وسنجد في نقوش هذا المعبد وصفًا شيقًا لهذه البئر جاء على لسان الفرعون. فيحدثنا فيه عن عطفه الأبوي، ورعايته لمصالح مواطنيه، والسهر على ما فيه راحتهم وسلامتهم، إذ قد جاس خلال هذه الصحراء بنفسه — كما يقول المتن — باحثًا عن أحسن مكان ليحفر فيه بئر للسابلة، يستقون منه في أثناء ارتيادهم الصحراء إلى مناجم الذهب فيها، والواقع أن هذا الحادث على ما نظن لا يخرج عن صياغة واقعة عادية في قالب فصيح منمق بالألفاظ الخلابة، والتعابير الأخاذة؛ مما كان يصوغه لأولئك الفراعنة طائفة درِّبت عليه، ونُشئت على تسطير مثل هذه الحوادث، وإحاطتها بهالة من التزلف، والمبالغة، والإغراق في المديح؛ حتى إننا نفقد أحيانًا الحقائق التاريخية التي تكون قد غرقت في مثل هذه الألفاظ الجوفاء، ومن ثم تختلط الحقيقة بالخيال، وتغطي على التاريخ الخرافات اللفظية؛ فيصبح نسيًا منسيًّا.
والواقع أنه عندما كان يرغب الفرعون في إقامة أثر، أو الشروع في عمل كانت العادة أن الفرعون بعد الافتتاح الرسمي يمثل جالسًا يستشير قلبه الصالح الآلهة، أو الشعب، ثم يبتدئ بنفسه تنفيذ هذا العمل الصالح، وتقدَّم أمامه تفاصيله، ثم يتبع ذلك مدائح العظماء الذين يكونون قد التفوا حوله؛ ليعرض عليهم ما أوحى به قلبه إليه؛ فيشيدون بعظمته، وأصالة رأيه، ونشاطه بما لم يسمع به من قبل. ويلاحظ أن الدور الذي قام به «سيتي الأول» في «وادي مياه» شخصيًّا كان من هذا النوع من التمثيل، غير أنه لدينا وثائق رسمية تجعلنا في شكٍّ من أن «سيتي» كان يمثل هذا الحادث أيضًا، وهذه الوثيقة تحدثنا بأنه قد قام بزيارة هذا المنجم فعلًا. وهكذا يقف المؤرِّخ حائرًا بين التصديق والتكذيب، وإن كانت أفعال هؤلاء الملوك تجعل الإنسان يميل إلى الرأي الأخير.
وبعد هذه الزيارة المزعومة بزمن قصير استقرَّ الرأي على ما يظهر على إقامة معبد، ومساكن للعمال، وكانت البئر التي حُفرت هناك تعرف — كما قلنا — ببئر «سيتي مرنبتاح» (تاخنمت سيتي مرنبتاح).
المعبد
ومعبد «وادي مياه»، أو معبد «وادي عباد» طرازه بسيط جدًّا، فقد كانت واجهته المبنية من الأحجار والمستندة على واجهة الصخر مرتكزة على أربعة عمد بردية الشكل، وجدرانه الخارجية كانت في الأصل عارية عن كل زينة أو نقش، ولكن نُقش عليها بعد ذلك نقش أو نقشان، واحد منهما باسم «رعمسيس الرابع»، وقد زُينت الواجهة الداخلية بمناظر تمثل «سيتي الأول»، يدوس تحت قدميه رؤساء «كوش» الخاسئين، ورؤساء كل الممالك في حضرة الإلهين؛ «آمون رع»، و«حور بحدَّت» اللذين يقدمان له سيفًا، ويقبضان على حبال غُل فيها البلاد المغلوبة على أمرها بصورة رمزية.
ويشاهد على كل من عارضتي الباب المؤدي إلى القاعة الرئيسية صورة ضخمة للملك في صورة الإله «أوزير»، ويحتمل أن هذا كان رمزًا لعلاقة المعبد ببيت «من ماعت رع» في «العرابة»؛ حيث كان يعبد الفرعون في صورة «أوزير» هذا البلد المقدس. وأبعاد القاعة الكبرى تبلغ حوالي ثمانية عشر قدمًا في نحو عشرين قدمًا، وسقفها يرتكز على أربعة عمد مقطوعة في الصخر، ويشاهد على جدرانها وعمدها الفرعون «سيتي الأول» ممثلًا يقدم القربان للآلهة المحلية «مين-آمون» و«حور بحدت»، «ونخبت» وثالوث طيبة: «آمون رع» و«موت» و«خنسو»، والآلهة الشمسية: «آتوم»، و«حور اختي»، و«رع حور اختي»، والآلهة المنفية: «بتاح»، و«أوزير»، و«إزيس»، و«حتحور». وقد انفردت «إزيس» من بين كل هذه الآلهة بقولها للفرعون: «لقد منحتك بلاد الذهب والتلال تعطيك ما في جوفها الذهب النضار، واللازورد، والفيروزج». ويوجد ثلاث كوات في جدار هذه القاعة في نهايتها القصوى، في كل واحدة منها ثلاثة تماثيل جالسة مقطوعة في أصل الصخر، وتمثل التماثيل التي في الكوة الغربية: «سيتي الأول»، و«أوزير»، والإله «بتاح»، أما التي في الكوة الوسطى فتمثل: «آمون رع»، و«حور اختي»، و«سيتي الأول»، وتمثل التي في الكوة الأخيرة: «سيتي الأول»، و«إزيس»، و«حور بحدت». وهؤلاء الآلهة جميعًا يمثلون التاسوع الإلهي الذي أُهدي إليه المعبد بخاصة. والواقع أنه لا يوجد إلا سبعة آلهة؛ أما باقي التاسوع فقد كمل بتكرار الملك «سيتي» ثلاث مرات في ثلاثة المجاميع التي في الكوات. ولا يدهشنا وجود الملك «سيتي» بين أولئك الآلهة؛ لأنه قد ذكر صراحة في أحد النقوش الطويلة أن الفرعون قد عُد ضمن التاسوع الإلهي، وهؤلاء الآلهة قد وُصفوا — كما سنرى — في نقش آخر بأنهم تاسوع هذا المعبد. وسنجد في النقوش أن «آمون»، و«رع» قد ذكرا كل عن حدته في حين أن شكلي «حور»، وهما «حور بحدت»، و«حور اختي» لم يميزا في الرسم.
السنة التاسعة من الشهر الثالث من فصل الصيف اليوم العشرين من الشهر في عهد جلالة حور الثور المنتصر، الظاهر في طيبة ومنعش الأرضين، والمنتسب للإلهتين، ومجدد الولادة، وصاحب السيف الجبار، قامع الأقواس التسعة، حور الذهبي مجدد المظاهر عظيم الأقواس في كل الأراضي، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «من ماعت رع» ابن الشمس «سيتي مرنبتاح» معطي الحياة إلى الأبد السرمدي في هذا اليوم، كان جلالته يفحص الأراضي الصحراوية تجاه التلال؛ لأن لبه كان يرغب في رؤية المناجم التي يُجلب منها النضار. ولما كان جلالته يسير مصعدًا في هذه التلال، وهو عالم بالكثير من مجاري المياه وقف في الطريق ليتبادل المشورة مع قلبه، فقال: ما أيئس الطريق التي لا ماء فيها! وفي الحق ماذا يفعل المسافرون ليطفئوا حناجرهم الملتهبة، فمن ذا الذي يطفئ ظمأهم وأرض الوطن بعيدة، وهم في الصحراء الشاسعة، فما أتعسه من رجل يصيبه الظمأ في القفار الموحشة، تعال الآن، دعني أفكر في خير هؤلاء، سأعمل على ما يحفظ حياتهم حتى يترحموا على اسمي في السنين المقبلة، وحتى تفخر بي الأجيال التي ستأتي بعدي من أجل نشاطي؛ لأني في الحق رحيم، وممتلئ حزنًا من أجل السابلة.
وبعد أن نطق جلالته بهذه الكلمات لقلبه جال حول الصحراء باحثًا عن مكان يتخذه محطًّا للسقاية — وقد كان الإله وقتئذ يرشده حتى يمنحه طلبته التي كان يرغب فيها — وقد عين عمال قطع أحجار لحفر بئر على التلال ليستطيع الملك إغاثة من أضناه التعب، وينعش القلب الذي يتحرَّق عطشًا وقت القيظ. وقد أنجز العمل في هذا المكان، وسمي بالاسم العظيم «من ماعت رع»، وقد غمرته المياه بوفرة عظيمة، مثل: كهف منبعي النيل في «إلفنتين».
وقال جلالته: تأمل، لقد استجاب الآلهة لدعوتي، فجعلوا الماء ينبع لي من الصخور، وقد مهدت الطريق في حكمي، وكانت منذ زمن الآلهة مشئومة، وأصبحت أراضي المراعي مفيدة للرعاة، وكل البلاد تصبح سعيدة عندما يكون مليكها نشيطًا، فكل عمل عظيم مجهول أصبح معلومًا في زمني، وقد تملك لبي عمل صالح آخر بأمر الإله، وهو تأسيس بلدة يكون فيها مأوى، والمكان الذي يشتمل معبدًا لا شك يكون رفيع القدر، وسأقيم مأوى في هذا المكان يحمل اسم آبائي العظام (الآلهة)؛ وبذلك سيجعلون أعمالي تبقى، واسمي ينتشر ويُذاع في الخارج في الأراضي الأجنبية، وعندئذ أمر جلالته أن تُعْطَى التعليمات رؤساء العمال الذين كانوا معه بوصفهم قاطعي أحجار، وقد عملت حفائر في هذا التل لتكون معبدًا لهؤلاء الآلهة؛ فكان فيه «آمون». و«رع» كان في داخله كما كان «بتاح»، و«أوزير» في قاعته الرئيسية، و«حور»، و«إزيس»، و«من ماعت رع»، وهم جماعة الآلهة الذين كانوا يأوون إلى هذا المعبد، وبعد أن تم الأثر، وزُين، وعملت صوره ونقوشه أتى جلالته ليتعبد لآبائه كل الآلهة فقال: مرحبًا بكم يأيها الآلهة العظام، يا من أسستم السماء والأرض على حسب رغبتكم الطيبة! إنكم سترونني عطفكم مدى الأبدية، وستخلدون اسمي سرمديًّا، بقدر ما أنا خادم ونافع لكم، ويقظ للشئون التي ترغبون فيها.
ومن أجل ذلك ستخبرون أولئك الذين سيأتون، سواء أكانوا ملوكًا أم موظفين، أم أناسًا عاديين أن يثبتوا لي أعمالي تحت مراقبة بيتي في «العرابة»، وإن من يعمل على حسب كلمة الإله يكون سعيدًا لأن خططه لن تخيب، فتكلموا أنتم وكلمتكم ستنفذ لأنكم أنتم الأرباب، ولقد مضيت حياتي وأنا أمين لكم، أبحث عن تحسين حالي معكم، فاجعلوا آثاري تخلد لي، واسمي يبقى دائمًا عليها.
وتدل الأحوال على أنه لم يبقَ أي أثر من البلدة أو المستعمرة التي تكلم عنها «سيتي» في هذا النقش؛ إذ كان المنتظَر في مثل هذا المكان المهجور البعيد عن السكان أن يبقى بعض الدمن من المباني؛ ولذلك يحتمل أن هذا الجزء من المشروع الذي كان قد أخذ في تنفيذه لم يتم، وكذلك من الجائز أنه قد غُطي بالرمال، ولم يزل محفوظًا تحتها ينتظر معول الحفار للكشف عنه، ومكان البئر ليس معروفًا على وجه التأكيد، غير أن الأثري العظيم «جولنيشف» رأى مباني في عام ١٨٨٩ ميلادية في الوادي قريبة جدًّا مقابلة للمعبد، ويعتقد أن في هذه البقعة حُفرت البئر، ولكنا لسنا على يقين مع كل ما ذكرنا من أن «سيتي» قد عاش حتى افتتح هذا المعبد.
حور الثور المنتصر، الظاهر في طيبة، منعش الأرضين ملك الوجه القبلي والوجه البحري «من ماعت رع». لقد أقامه — يقصد المعبد — أثرًا لوالده «آمون رع» مع تاسوع الآلهة، فبنى لهم معبدًا جديدًا كله يرتاح فيه الآلهة، وقد حفرت بئرًا أمامه، ولم يعمل مثله قط على يد أي ملك غير الملك البار ابن «رع» «سيتي مرنبتاح»، الراعي الطيب الذي يحمي حياة جيشه، ووالد بني الإنسان وأمه. وأنهم يتناقلون من فم لفم:
ملك الوجه القبلي والوجه البحري «من ماعت رع»؛ ابن الشمس «سيتي مرنبتاح» يقول أمام آبائه كل ملوك الوجه القبلي وملوك الوجه البحري حكام الشعب:
وقد قلت ذلك عندما عينت عمال تنظيف الذهب لمعبدي لأجعلهم يمدون بيتي … معبدي.
أما عن الذهب، وهو لحم الآلهة فإنه ليس من ضرورياتكم؛ فتجنبوا ذكر ما قاله «رع» عند بداية كلماته؛ إذ يقول: إن جلدي من خالص النضار؛ لأن «آمون» معبدي سوف … وعيناه على أشيائه، وإنهم لا يحبون سوء استعمال أمتعتهم، وعليكم ألا تضايقوا أناسيهم؛ لأنهم — أي الآلهة — مثل التماسيح (؟)، فلا تفرحوا … أما من يشين عمل إنسان آخر فسينال بالمثل في النهاية، وأن الله سيتلف آثار المتلف؛ وأن عمل الكذابين لا يمكث … الملك … وأجعلكم تعلمون أني قد عزمت من بعيد أن أخبركم (؟)، ولقد عينت طائفة من عمال الذهب، وقد قدمتهم كلهم إلى … لأجلي وحدي، وجعلتهم كلهم موظفين جددًا لأجل أن يستمروا معي، ولم آخذهم من موظفين آخرين لأضيفهم … وسيصيرون أولاد بيتي، وتابعين لمعبدي.
وأي ملك سيأتي بعدي، ويمتحن أعمالي ليجعلها باقية … مقدمًا ما ينتجونه — أي العمال — لبيت «من ماعت رع» لتمويه كل تماثيلهم بالذهب أي «آمون»، و«حور اختي»، و«بتاح تنن»، و«وننفر» … سيستيقظون … وسيجعلونهم سعداء، وليحكموا البلاد في نعيم، وليذبحوا الأرض الحمراء (الصحراء)، وأرض النوبة، وروحهم سيبقى وتستمر مؤنتهم الغزيرة، وسيشبع أولئك الذين على الأرض، وسيصغي «رع» لصلواتهم حتى لا يقول واحد: إني أحتاج.
وأي ملك سيأتي بعدي ويقلب خطتي، أو يقول: إن الأراضي تحت تصرفي، وإنها متاعي فذلك عمل آثم في قلوب الآلهة! ولا شك في أن أمثال هذا سيجاب عليه في «هليوبوليس»، وإن هم القضاة … وسيقدمون جوابًا على حسب متاعهم، وأنهم سيكونون حمرًا مثل لهيب النار، وسيطبخون لحوم أولئك الذين لا يصغون إلي، وسيمحون من يتلف خطتي، وسيلقى به في قاعة عذاب العالم السفلي، لقد قلت (؟) … دع إنسانًا بريئًا من إثمه يخلصك، ولماذا إذن؟ فإنه سيكون إنسانًا آخر ضال القلب يتهمه تاسوع الآلهة، وأي موظف يتطاول على سيده بإبداء هذه الرغبة، وهي أن يستولي على عمال، ويستخدمهم في ضيعة أخرى بشهادة زور، فإن مصيره نار تصلي لحمه، ولهيب يلتهم أعضاءه لأن جلالتي قد عمل كل هذه الأشياء لروح أرباب بيتي.
وإن الإله يمقت من يتدخل في شئون قومه، وإنه لن يتوانى عن خذلان المتلف، ولكن عمال تنظيف الذهب الذين ألفتهم لبيت «من ماعت رع» سيُستثنون ويُميزون، ولن يعتدي عليهم إنسان في الأرض قاطبة على يد أي ضابط من ضباط أي مراقب صحراء، وأي شخص يتدخل في شئونهم ينقلهم إلى مكان آخر يجعل الآلهة والإلهات أعداء له؛ لأن كل متاعي إرث لهم تحت أقدامهم أبد الآبدين، وضابط طائفة عمال غسل الذهب الخاص ببيت «من ماعت رع» سيكون مستقلًا في توريد ما ينتجونه من الذهب لبيت «من ماعت رع».
وأي شخص يتجاهل هذا المنشور فإن الإله «أوزير» سيتأثره، وسيحاسبه كذلك زوجه «إزيس»، وابنه «ماحور»، والآلهة العظام أرباب الأرض المقدسة.
إذا ألقينا نظرة فاحصة على هذا المتن وجدنا أنه خطاب من الفرعون «سيتي الأول» إلى الملوك الذين سيخلفونه؛ يحضهم فيه على احترام مؤسسات الذهب التي وضعها لبيته في «العرابة المدفونة»، وهذا الذهب كان مخصصًا لأولئك الآلهة الذين أُهديت لهم تلك المؤسسة، ونراه يعدهم، أنهم إذا حفظوا العهود احترم رغباتهم بالمثل، وكافأ أعمالهم العظيمة، والظاهر أنه كان يرمي إلى صرفهم عن عدم التفريط في الذهب الذي لا يحتاجون إليه، وأنه لا يصلح إلا للآلهة فقط. ويلمح إلى أن استعمال الملوك «لحم الآلهة» — أي الذهب — لأغراضهم الشخصية كفر وجحود وطغيان، ومن الطريف أن «سيتي الأول» قد اقتبس بعض قصة هلاك الإنسانية (راجع كتاب الأدب ج١ ص٧١)، وفيها يقص عن إله الشمس: «والآن قد أصبح جلالته متقدمًا في السن، وكانت عظامه من فضة، ولحمه من ذهب، وشعره من اللازورد.» وكأنه بذلك يحض ملوك المستقبل على أنه ينبغي ألا يتدخل إنسان مع عمال الذهب في المستقبل؛ لأنه لم يخرج على أي نظام كان قائمًا في عصره خاصًّا بتأليف طائفة عمال تنقية الذهب، بل أنشأ طائفة عمال جدد لم يؤخذوا من عمال طائفة أخرى. ثم يذكر لنا بتحفظ أن الذهب كان لازمًا لتمويه صور الآلهة؛ ومن أجل ذلك يطلب الرحمة لكل فرعون يحافظ على مؤسسته، ويستنزل النقمة على كل من أراد أن يستغلها لمنفعته الشخصية. وكذلك نراه يطلب الخير لكل وزير يجعله مليكه يسير في طريق الصلاح، كما يطلب لكل وزير يهيئ سبيل الشر لمليكه عقابًا وخسرانًا مبينًا، ويلاحظ هناك أن اللعنات التي وردت في المتن كانت على وجه خاص شنيعة وقاسية. والظاهر أن «سيتي» كان يهدد الآثم بأن آلهة المعبد هم الذين سيتولون حسابه، وقد كانوا ضمن أعضاء تاسوع «عين شمس»، وهم — كما نعرف — كانوا يؤلفون قضاة يوم الحساب، وبعد تحذيرات أخرى، وعرض حقوق طائفة عمال الذهب، وضباطهم يختتم الخطاب باللعنات الشنيعة، على كل من لا يرعوي لقوله.
على أنه ليس في طبيعة الشره البشرية أن يتعظ الإنسان بأصوات الموتى، وتحذيراتهم، وبخاصة عندما يكون الذهب هو الحافز على إيقاظها؛ إذ يظهر لنا من نقش الإهداء الذي صاغه «رعمسيس الثاني» بألفاظ بديعة منمقة في بيت «من ماعت رع» «بالعرابة» أنه عند موت «سيتي» هجر هذا المعبد الفخم الذي لم يكن قد أتمه بعد، واستولى على دخله؛ مما اضطر «رعمسيس» إلى إعادة نظام المؤسسة كلها، وحبس الأموال عليها من جديد، على أننا لا نُبرئ «رعمسيس الثاني» نفسه من أنه في أواخر أيامه قد استغل مؤسسة «وادي مياه»، أو «وادي عباد» لمنفعته الشخصية؛ إذ قد ترك لنا كاتب لم يهبه الله شيئًا من حُسن البصيرة الكلمات التالية على أحد عُمُد هذا المعبد: «إحضار الذهب للعيد الثلاثيني الحادي عشر للفرعون «وسر ماعت رع ستب أن رع» (رعمسيس الثاني).» وإذا تسامحنا في تفسير هذا المتن، فقد نفرض أنه يشير إلى الذهب الذي كان يقدمه الكهنة قرابين اختيارية لبيت «سيتي» في «العرابة» في مناسبة عيد «رعمسيس الثاني» الثلاثيني الحادي عشر.
وأخيرًا، نعود مرة أخرى إلى موضوع البئر التي حفرها «سيتي الأول» في وادي مياه، أو «وادي عباد»، فنذكر برهانًا قويًّا على إنجاز هذا العمل في عهد «سيتي الأول»، إذ يدل على ذلك إحدى اللوحات التي نُحتت في الصخر المجاور للمعبد، ومما يؤسف له أن اسم مقدم اللوحة قد مُحي، ولكن جاء في النقش ما يأتي: «عملها البحار … الذي كان مكلفًا بحفر بئر «سيتي مرنبتاح».» وهكذا أصبح لدينا وثيقة من أحد الرجال الذين اشتركوا فعلًا في إنجاز هذا العمل العظيم، ويدل تعبد هذا البحار للإله «بتاح»، والإلهة «سخمت» على أنه كان من أصل منفي.
(٥-١٠) معبد «القرنة»
يقع معبد «القرنة» الجنازي الذي أقامه «سيتي الأول» عند مدخل «وادي الملوك»، وما بقي منه إلى الآن لا يمثل إلا جزءًا صغيرًا مما كان عليه البناء الأصلي من بهاء وروعة، فقد اختفت منه «البوابة» الأولى والثانية، وكذلك ردهتاه الأولى والثانية، ولم يبقَ منها إلا آثار دارسة تدل على وجودها، وهذا المعبد كان قد أقامه «سيتي الأول» تكريمًا للإله «آمون» كما كان يقصد استخدامه معبدًا جنازيًّا لوالده «رعمسيس الأول» الذي لم تمكنه مدة حكمه القصيرة من إعداد معبد جنازي لنفسه، وهذا المعبد مثله كمثل معظم مباني «سيتي» العظيمة لم يكن قد تمَّ حتى حضره الموت، وقد كان على «رعمسيس الثاني» إنجاز بناء ما بقي من هذا المعبد، ويلاحظ في أيامنا أن واجهة المعبد الحالية تقابل ما كان في الأصل طريق العمد التي كانت في الطرف النهائي من الردهة الثانية.
- (١)
«سيتي الأول» قد أقامه بمثابة أثر لوالده «آمون رع» رب «طيبة» … الكرنك، فعمل له قصرًا عظيمًا، وقدس أقداس فاخرًا للتاسوع المقدس، ومكان راحة لرب الآلهة في عيد واديه الجميل، وهو الذي أقامه له ابن «رع» «سيتي الأول» مثل «رع» أبديًّا.
- (٢)
«سيتي الأول» عمله بمثابة أثر لوالده «آمون رع» ملك الآلهة، فأقام له بيت ملايين السنين في غربي «طيبة» قبالة «الكرنك» من الحجر الرملي الأبيض الجميل، وقد أقيم عاليًّا جدًّا وعظيمًا، وهو الذي عمله ابن «رع» إلخ.
- (٣)
«سيتي الأول» أقامه بمثابة أثره لوالده «آمون رع» رب «طيبة» الساكن في معبد روح «سيتي مرنبتاح» في بيت «آمون» في «طيبة الغربية»، فصنع له بيت ملايين السنين من الحجر الرملي الأبيض الجميل، وهو مكان لظهور رب الآلهة ليشاهد جمال «طيبة»، وأبوابه من خشب الأرز الحقيقي المشغول بنحاس «آسيا»، وقد أقيم عاليًا شاسعًا.
- (٤)
عمله «سيتي» إلخ. فأقام له قاعة شاسعة، ويضيء في وسط بيته، مكان لظهور تمثاله الفاخر في عيده الجميل «عيد الوادي»، والتاسوع العظيم المقدس للآلهة الذين في «جبانته المقدسة» قلوبهم راضية.
- (٥)
لقد عمله بمثابة أثر لآبائه الآلهة والإلهات الذين يسكنون في المعبد المسمى «روح «سيتي مرنبتاح» في «بيت آمون» في غربي طيبة»، فأقام لهم قصرًا فاخرًا بمثابة بيت لقدس الأقداس للآلهة، وعندما يسكنون في قصره يكون «آمون رع» في المقدمة …
- (٦) عمله بمثابة أثر … إلخ … فأقام له بيتًا لملايين السنين على الشاطئ الغربي لطيبة قبالة «الكرنك»، من الحجر الرملي، وقد بني عاليًا وشاسعًا.٧٤
(٥-١١) مقبرة سيتي الأول
وهذا القبر الواقع على مقربة من مقابر الأسرة الثامنة عشرة نُقر في الصخر لمسافة خمس وعشرين وثلثمائة قدم، وبابه الواسع الشامخ يؤدي إلى سلم ذي سبع وعشرين درجة، ينتهي إلى دهليز منحدر يليه درجات أخرى ومحاط، يتبع ذلك سلسلة حجرات استراحة، وأخرى عظيمة المساحة في الطريق إلى أن يصل الإنسان في النهاية إلى حجرة التابوت العظيمة بسقفها المقبب، وعمدها المربعة، ويوجد خلفها حجرات صغيرة ثانوية، وجدران هذا الضريح الشاسع مزينة بمتون وصور من الكتابين الجنازيين العظيمين الخاصين بالدولة الحديثة، وهما: «كتاب البوابات»، و«كتاب ما في العالم السفلي»، وهذان الكتابان كما ذكرنا آنفًا (راجع ج٣) يصفان السياحة الليلية لإله الشمس في العالم السفلي المظلم، وخروجه ثانية منه منتصرًا على عالم الظلام في الصباح التالي، وهكذا على التوالي، وهذه المناظر الجنازية قد حُفرت بنقوش بارزة ثم لُونت، ويظهر فيها نفس دقة الفن، والرسوم الممتازة التي شاهدناها في معبد «العرابة»، وغيره من مباني «سيتي» التي كانت ذات طابع خاص يميزها.
وبناء القبر وما يحتويه من دهاليز منحدرة إلى أسفل ودرج؛ يتمشى تمامًّا مع تلك الموضوعات التي صُورت على جدرانه، وبخاصة صور الثعابين الطويلة الملتوية، والشياطين الرجيمة، والجن، والآلهة العابسين الذين تزخرَف بصورهم الجدران؛ مما يجعل الإنسان يحس حقًّا أنه ينحدر إلى عالم سفلي حقيقي. وقد خُصصت مساحة كبيرة للصور الحية الناطقة التي تمثل العذاب الذي ينصب على المغضوب عليهم، والذين ضلوا سبيل الرشاد في الحياة الدنيا، كما تمثل الحرب التي لا ينطفئ لهيبها ولا يهدأ أوارها بين قوى الخير وقوى الشر، ويلفت النظر بين هذه المشاهد صورة الثعبان الهائل المسمى «أبوبي» — عدو إله الشمس — وذرِّيته الملعونة. ويلاحظ كذلك أن الزواحف المؤذية كلها قد غُلَّت، ثم خرجت من الأرض يدًا ضخمة عظيمة قابضة على الأغلال كلها دفعة واحدة مبعدة الثعابين الناهشة. وإنه لمن العسير أن يجد الإنسان مزيجًا له أثره في النفس أكثر مما نشاهده هنا بين قوى الخير وقوى الشر، وأن الخير يتغلب في النهاية على الشر ويصرعه.
ويلاحظ أن بعض حجرات المعبد الثانوية لم يتم نقشها بعد؛ مما يدل على أن «سيتي» قد توفي والعمل لا يزال جاريًا في القبر، وهذا هو نفس المصير الذي حاق بمعظم آثار «سيتي»؛ مما يوحي أن هذا الفرعون الطيب الذكر قد مات فجاءة وعلى غير انتظار، وعلى الرغم من جمال زينة هذا القبر، وما فيه من نقوش ومناظر هامة يسود نواحيه جو قاتم عابس، لم يفلح — حتى إله الشمس — في زحزحته عنه، مع انتصاره على الظلمة، وما تحتويه في جوفها من عوامل الشر. حقًّا إن الأيدي الماهرة التي أخرجت لنا ما نشاهده من التحف العجيبة في مناظر «العرابة المدفونة» هي التي أبدعت مناظر هذا القبر، ولكننا مع ذلك نرى أن الروح الوثاب المتقد هنا يختلف اختلافًا بينًا؛ إذ نجد أن اعتلال هذه المناظر، وما فيها من سقم أقل انتشارًا في مناظر معبد «العرابة»، أو في ضريح «سيتي» السالف الذكر، وفي استطاعتنا أن نتساءل عما إذا كانت المتون الجنازية، وما تحويه من إشارات مستمرة إلى تلك الشياطين القبيحة المنظر، وتلك الثعابين الهائلة الأجسام؛ تحدد لنا إلى حد ما، ما تصفه العقائد الدينية التي اعتنقها «سيتي الأول»، أو أنه لم يضمن هذه المناظر وتلك الصور قبره إلا جريًا على التقاليد الموروثة. أو كان يومئ بها عن قصد لمناهضة تعاليم «إخناتون» التي كانت قد حرَّمت كل هذه التصاوير والمتون في القبور عامة؟
وقد عثر على مومية «سيتي الأول» بين الموميات الملكية التي وجدت في خبيئة الدير البحري، وجسمه يدل على أنه كان رجلًا طويل القامة، نحيل القوام، ولم يكن على ما يظهر قد تخطى نضارة العمر، وإن كان قد وخط المشيب حاجبيه. وتدل تقاطيع وجهه المحفوظة تمامًا على ما بلغه فن التحنيط من الإتقان والمهارة، وتشابه محياه بصوره في نقوش معبد «العرابة»، تلفت النظر بوجه خاص إلى ما كان عليه فن النحت في ذلك الوقت من تقدم بالغ، ويلاحظ أن جسمه قد علاه السواد، وأن أنفه قد تفرطح بعض الشيء من أثر اللفائف التي زُمل بها، غير أن ذلك لم يُنقص من جمال محياه الهادئ الذي تنبعث من قسماته نضرة النعيم، ونبل المحتد، أما عيناه فمفتوحتان بعض الشيء، ويمكن الإنسان أن يشاهد بين الجفنين العينين الصناعيتين المتقنتين اللتين وضعهما المحنطون، وذراعاه مطويتان، ويداه النحيلتان الطويلتان مبسوطتان على صدره، وقد عبث اللصوص بلفائفه المصنوعة من الكتان الجميل عبثًا بالغًا إلى أن حولتها إلى طبقة بالية من الخرق، ومع ذلك فإن كل ما حاق بجسمه من عبث قد عجز عن تشويه الجلال الهادئ الذي أسبِغ على تلك المومية التي تعد أعظم الموميات المحنطة تأثيرًا وروعة، من بين كل موتى المصريين المحنطين.
(٥-١٢) آثار «سيتي» الأخرى في أنحاء إمبراطوريته
ذكرنا آنفًا آثار «سيتي» في آسيا عندما تحدثنا عن حروبه، وسنذكر هنا آثاره في الديار المصرية وبلاد السودان.
سيناء
تدل الآثار التي تحمل اسم هذا الفرعون في «سيناء» على أنه استغل فعلًا مناجم هذه البقعة، فقد عثر له على ثلاث لوحات في «سرابة الخادم»، وهي تدل على قيامه ببعض أعمال في هذه المنطقة التي كان قد سبقه فيها والده «رعمسيس الأول» لاستخراج الأحجار منها، وكانت هذه المناجم على ما يظهر قد هُجرت منذ عهد «أمنحتب الثالث».
آثاره في الدلتا
وله آثار عدة منتشرة في أنحاء الدلتا، ولكنها بكل أسف مهشمة، ويمكن الإنسان أن يفهم بسهولة أن هذا الفرعون لم تبقَ له آثار هامة حتى الآن في هذا الجزء من البلاد؛ لأنه يقع في الأصقاع الخصبة الآهلة بالسكان، ولأن كل الآثار القديمة التي لم تقضِ عليها الرطوبة أو تعلوها الرواسب النيلية قد عبث الأهلون بها، وأتلفوها، وبخاصة تلك الأماكن التي لم يكن بها محاجر كما هي الحال في وسط الدلتا.
القنطرة
تكلمنا فيما سبق عن الصقر الضخم المصنوع من الحجر الرملي الذي أقامه «سيتي» تعظيمًا لوالده «رعمسيس الأول»، وتدل ظواهر الأحوال على أن «القنطرة» كانت ذات يوم غنية بالآثار التي من عهد الأسرة التاسعة عشرة.
قنتير
كوم الشيخ رازق
تانيس
تل اليهودية «نموذج معبد «هليوبوليس»»
هليوبوليس
-
مسلة «هليوبوليس»: قفا «سيتي الأول» تقاليد أجداده العظماء، فأقام — على ما
وصلت إليه معلوماتنا — مسلة في «هليوبوليس»، والظاهر أنه
أقام غيرها؛ لأن «رعمسيس الثاني» يحدثنا بأن والده قد ملأ
«عين شمس» بالمسلات، وهذه المسلة نُقلت إلى «روما»، وهي
منصوبة الآن في ميدان «بيازا-دل-بو بولو»، والظاهر أنها من
أواخر الآثار التي أقامها؛ لأنه مات قبل أن يبدأ نقشها،
وقد قام بهذا العمل ابنه «رعمسيس الثاني» الذي حفظ لنفسه
إحدى واجهاتها، ودوَّن عليها ما فعله، أما النقوش فهي:
- (١) الواجهة الشمالية: ألقاب الفرعون «سيتي الأول» صاحب الآثار الجميلة في «عين شمس» مكان الأبدية مثل عمد السماء الأربعة، مخلدة وباقية في ردهة «رع» الأمامية، وتاسوع الآلهة مرتاحون لأعماله لبيت «ابن رع سيتي مرنبتاح» محبوب آلهة «هليوبوليس»، ليته يعيش مثل «رع».
- (٢) الواجهة الجنوبية: ألقاب الفرعون «سيتي الأول» الذي زين «هليوبوليس» لسكانها، والذي طهرها «لرع» ربها، وأرباب السماء والأرض يبتهجون، وحظوته قد تضاعفت بسبب أعماله العظيمة، ليت ابن الشمس «سيتي مرنبتاح» محبوب «حور اختي» يعيش بوساطته مثل «رع».
- (٣) الواجهة الغربية: … «سيتي الأول» الذي ملأ «هليوبوليس» بمسلاته المضيئة بالأشعة، وبيت «رع» قد غمر بجماله، وآلهة البيت العظيم فرحون به، ليت «ابن رع» «سيتي مرنبتاح» محبوب التاسوع الذين في البيت العظيم، يعطي الحياة بوساطته (أي رع).
- (٤) الواجهة الشرقية: ألقاب الفرعون «رعمسيس الثاني» الذي أقام آثاره مثل نجوم السماء، وأعماله تناطح القبة الزرقاء، مبتهجًا بما يشرق عليه «رع» في بيت ملايين السنين، وإن جلالته هو الذي جمَّل هذا الأثر بالنقوش لوالده؛ ليجعل اسمه يبقى في بيت «رع»، ليت «رعمسيس الثاني» محبوب «آمون»، ومحبوب «آتوم»، ورب «هليوبوليس» يعطي الحياة بوساطته (أي رع).٨٤
ولدينا نقش في «أسوان» مؤرَّخ بالسنة التاسعة من عهد «سيتي الأول» دوَّن تذكارًا لحملة أرسلت للمحاجر هناك للحصول على جرانيت لعمل مسلات، وتماثيل ضخمة، والجزء الأعلى من هذه اللوحة المنقورة في الصخر يظهر فيه «سيتي الأول» مقدمًا قربانًا للآلهة «خنوم»، و«ساتت»، و«عنقت»، وفي الجزء الأسفل نقرأ المتن التالي: «السنة التاسعة في عهد جلالة «سيتي الأول»؛ هنا تأتي ألقابه العادية، وقد أمر جلالته — له الحياة والفلاح والصحة — بإنجاز أعمال عدة لصنع مسلات عظيمة جدًّا، وتماثيل ضخمة مدهشة باسم جلالته …»٨٥هذا بالإضافة إلى نقش آخر في نفس البقعة، ولكنه مهشم، والنسخة التي وصلتنا من «لبسيوس» محشوة بالأخطاء، ومؤرَّخة بالسنة التاسعة، وتبتدئ هكذا:٨٦إن جلالته — له الحياة والسعادة والصحة — قد أمر بعمل مسلات عظيمة لمصر، ثم وجد جلالته …
-
عارضة باب من «هليوبوليس»: يوجد الآن بمتحف «الإسكندرية» عارضة باب من الحجر الرملي
الأصفر، وهي بلا شك من المباني التي أقامها «سيتي الأول»
في «هليوبوليس»، كما تدل على ذلك النقوش التي عليها، فعلى
أحد وجوهها أربعة مناظر وضعت في أربعة صفوف بعضها فوق بعض،
فنشاهد في الصف الأعلى إلهًا ممسكًا بيده علامة الحياة،
ومتجهًا نحو «سيتي» ويقول: «خذ لنفسك الحياة بأنفك.» وفوق
هذا المنظر عقاب يُحلق، وفي الصف الثاني يرى الإله «آتوم»
رب الأرضين في «هليوبوليس» ممسكًا بيده الفرعون، ومقدمًا
علامة الحياة لخيشومه قائلًا: «خذ الحياة بأنفك.» وفي الصف
الأسفل يشاهد تمثال «بولهول» برأس إنسان يجثم على قاعدة،
ويحلق فوق رأسه عقاب ولم يبقَ من النقوش التي تصحبه إلا
بعض كلمات لا تؤدي معنى مفهومًا.
أما الوجه الثاني للعارضة، فمنقوش عليه المتن التالي في ثلاثة أسطر، وهو:
- (١) «حور» الثور القوي، الظاهر في «طيبة»، ومنعش الأرضين، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «من ماعت رع» محبوب «آتوم»، رب الأرضين في «هليوبوليس»، الإله العظيم، سيد البيت الكبير، معطي الحياة والثبات والسعادة مثل «رع» أبديًّا.
- (٢) محبوب الإلهتين، مجدد التوالد، صاحب السيف البتار، وقامع الأقواس التسعة، ابن الشمس «سيتي مرنبتاح» محبوب الإله «شو»، والإلهة «تفنوت»، ولقد أقامه أثرًا لوالده «آتوم» رب «هليوبوليس».
- (٣) أقام له بابًا من الحجر الرملي، وأبوابه من خشب الصنوبر المصفح ﺑ … ومؤسسًا بوصفه عملًا سرمديًّا، وهو الذي عمل لجلالته؛ لأنه كان يرغب كثيرًا … لأرواح «عين شمس».٨٧
-
مائدة قربان من «هليوبوليس»: عثر على مائدة قربان من الجرانيت مبنية في جدار أحد
البيوت بعطفة «البرقدار» بالقرب من «بوابة الفتوح»، وتدل
نقوشها على أنها من «عين شمس»، وقد مثل عليها منظران يظهر
فيهما «سيتي الأول» يقدم إناءين للإله «آتوم خبر» الذي
أوجد نفسه، هذا بالإضافة للنقش التالي:
الإله الطيب البار بوالده عظيم الآثار … ابن «آتوم» عالي العرش (؟) ومن جماله صوَّر أرواح «هليوبوليس» (الملوك القدامى) ملك الوجه القبلي والوجه البحري «من ماعت رع» (إوعو رع) ابن الشمس، رب التيجان «سيتي مرنبتاح» محبوب «بتاح»، ومحبوب «آتوم خبري» خالق نفسه، معطي الحياة مثل «رع» مخلدًا.
«الإله الطيب ابن آتوم صاحب التاجين، وجلالة «خبري»، والذي خرج من البذرة الفاخرة لثور «هليوبوليس»، ملك الوجه القبلي والوجه البحري، حاكم الأقواس التسعة، ورب الأرضين «من ماعت رع» (إوعو رع) ابن الشمس، رب التيجان «سيتي مرنبتاح»، محبوب «آتوم» (خالق نفسه)، معطي الحياة مثل «رع».».
ويعتقد «كمال باشا» أن هذه المائدة قد جيء بها من مدينة «هليوبوليس» المقدسة، ومعها آثار أخرى في زمن «بهاء الدين يوسف» حوالي عام ١١٧٥م، وفي تلك المدة كانت الآثار المصرية مستعملة محاجر لبناء العمائر الجديدة التي زين «بهاء الدين» هذا بها عاصمة البلاد (القاهرة)،٨٨ وفي متحف «برلين» عمود مثمن الأضلاع من بناء في «هليوبوليس» أقامه «سيتي الأول»،٨٩ والنقوش التي عليه تحدثنا عن «سيتي» بأنه محبوب «آتوم» سيد «هليوبوليس»، ومحبوب «رع حور اختي» سيد السماء، وقد نُقش على جانبين منه صورة «بولهول»، ولكنها غريبة في بابها؛ إذ مثل جالسًا على مؤخرته، ورافعًا إحدى ذراعيه التي على هيئة ذراع الآدمي في صورة تضرع، والظاهر أنه يمثل الملك الذي ظهرت طغراؤه أسفل منه.ويلاحظ أن صورة الإله «ست» التي كانت في الطغراءات التي تحوي اسم «سيتي» قد مُحيت عمدًا.
وفي متحف «بروكسل» قطعة حجر من الجرانيت الأزرق الرمادي، نُقش عليها مناظر الاحتفال بتتويج «سيتي الأول».٩٠ويشاهد حفل التتويج والتقديس بالإناء «حس»، يقوم به الإلهان «حور»، و«ست» على التوالي، والنقوش تحتوي على لقب «سيتي» المبكر، وهو «من ماعت رع إوعو رع»،٩١ ويظهر الفرعون على جانبي المجموعة الرئيسية مقدمًا إناءين للإله «آتوم»، وعطورًا للإله «حور».
الجيزة
سار «سيتي الأول» على نهج عظماء ملوك الأسرة الثامنة عشرة في الحج إلى معبد «بولهول»، فقام بزيارة رسمية لهذا التمثال العظيم الرابض في صحراء الجيزة حاجًّا بيته، وكذلك ليتمتع بصيد الأسود في الصحراء المجاورة، وكانت هذه عادة محببة لملوك هذه الدولة، وقد خلف لنا وراءه برهانًا محسًّا على انتجاعه تلك البقعة، فأقام هناك لوحة من الحجر الجيري الأبيض أهداها ﻟ «بولهول» في مقصورة صغيرة ضمن المعبد المُقام من اللبن الذي أسسه «أمنحتب الثاني»؛ وفاء لنذر نذره، وهو لا يزال يافعًا قبل تولي العرش للإله «بولهول». ومما يؤسف له أن اللوحة التي أقامها «سيتي الأول» قد تآكل جزؤها العلوي كثيرًا، غير أنه لم يزل بها بقايا صورة «بولهول» رابضًا تحت جناحي الإله «حور بحدتي» الخفاقين، أما الجزء الأوسط من اللوحة فلم يزل على حالة حفظ لا بأس بها. وقد مثل عليه منظر طراد يظهر فيه «سيتي الأول» واقفًا على قدميه على الأديم، ومفوقًا سهمه على قطيع من حيوان الصحراء المنوعة. ويُرى أسد ذو معرفة كثيفة، ووعل قد صُرِعَا أمامه، والسهام الدامية نافذة في جسميهما، ويرى في هذا المشهد لبؤة ملتفتة، ومولية الأدبار، ولكن سهام الفرعون القاتلة قد أصابتها في الكتف والبطن.
يذهب جلالته ليضيء مثل «رع» عندما يشرق في السماء … والآن لمح أسدًا متوحشًا عظيمًا مثلما يلمح الصقر المقدس هدهدًا فامتحن القوس، ثم أخذ سهام «مونتو» — إله الحرب — وقوس «باستت» — إلهة القوة — فأردى الأسد في لحظة؛ لأنه «رع» محبوب والده «آمون». وقد عمل ذلك حقًّا أمام رجال القصر، وعندئذ هللوا لرب الأرضين، ووصلت أصواتهم إلى عنان السماء.
… معطي الحياة للأرضين، ملك الوجه القبلي والوجه البحري، مجدد التوالد، قوي السيف، وهازم الأقواس التسعة «حور» الذهبي، مجدد المظاهر، قوي الأقواس في كل الأرضين، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «ابن رع»، رب التيجان «سيتي مرنبتاح» معطي الحياة مخلدًا مثل «رع»، لقد أقامها — أي اللوحة — أثرًا له ليقدمه لوالده «حول» (اسم بولهول الكبير الرابض في الجيزة، ومن ثم أخذ الاسم الحديث أبو الهول) «حورم اخت»، وقد عمل … وقد خرج ليعلي من شأن الأماكن التي يتعبد فيها الشعب للإله الطيب القوي الشجاع على الخيل عندما يحارب مئات الآلاف … وجنوده، ومن يفتح بسيفه، ويصبح في مقدمة الخيالة … كل الأراضي الأجنبية الآتي … القوي الشجاع القلب … في وسط الجنود، وجميل في مقدمتهم مثل «آمون رع» عندما يشرق في السماء … على رأس الموقعة في كل بلد أجنبي الثوار، والذي يقهر … جنود الماهر في شد قوسه، ومن يرغم الأسيويين على التقهقر بقوة والده «آمون» الذي يكتب له النصر.
وهذه اللوحة على وجه خاص لها أهمية ممتازة؛ لأنها الأثر الوحيد — الذي في متناولنا — يصف «سيتي» في صورة رجل رياضي، ويشير إلى طرحه أعباء الحكم جانبًا، والتفرُّغ لنفسه، وعلى الرغم من أن «سيتي» يقول: إنه أردى أسدًا فعلًا بسهامه — وليس لدينا سبب يدعو إلى الشك فيما قاله — فإن ما يدعو إلى الريبة هو أنه قام بهذا الطراد لا حبًّا في الصيد، بل تمسكًا على ما يظهر بالتقليد القديم الذي كان مرعيًّا في عهد أباطرة الأسرة الثامنة عشرة العظام كما أسلفنا. وقد قام «سيتي الأول» غير هذه اللوحة بإضافات أخرى في المعبد؛ إذ إنه أضاف بعض حجرات في الجزء الأمامي من هذا المبنى، وكذلك في المدخل الرئيسي مستعملًا نفس الطراز، أو نفس المادة التي استعملت في الأصل، أي إنه أقام الجدران من اللبن، أما الأبواب والعتب فمن الحجر الجيري الأبيض الجميل المزين بالمناظر والنصوص، وقد نقش على الباب المؤدي للقاعة الجنوبية الغربية من هذا المعبد ما يأتي: «… «من ماعت رع» معطي الحياة مخلدًا، وابن «رع» رب التيجان «سيتي مرنبتاح»، لقد صنعه أثرًا له ليقدمه لوالده «حول» حور الثور القوي الذي يبقي الحياة في الأرضين، ملك الوجه القبلي والوجه البحري، سيد الأرضين «من ماعت رع»، معطي الحياة»، ثم «يعيش الإله الطيب سيد الأسلحة، ومن يطأ مئات الآلاف، والأسد المحارب على قدميه، ملك الوجه القبلي والوجه البحري، رب الأرضين «من ماعت رع»، ولقد صنعه أثرًا ليقدمه لوالده «حور اختي».» وقد اغتصب «مرنبتاح» حفيد «سيتي» فيما بعد جزءًا من المدخل الرئيسي، ونقشه باسمه، وهو مصنوع من الحجر الجيري الأبيض الجميل النقش.
وقد مثل كل من «سيتي الأول»، والإله «حور اختي» سويًّا على سمك عارضة الباب الأيمن، ويلاحظ أن الملك يضم الإله بحب وحنان، والأخير يقدم بيده صورة الحياة لوجه «سيتي». ولما كان هذا الأثر واقعًا في الجزء الخارج من المبنى نحته المثال بالحفر الغائر الجميل الصنع كما هي العادة. وكذلك نرى أن صورة كل من الإله والفرعون قد نُحتت نحتًا جميلًا في وضع قوي يملأ العين والمشاعر، وفوق رأسيهما نقرأ بقية نقش ذُكر فيه اسم الملك الذي نُعت: بمحبوب «حور اختي».
ولدينا لوحة كذلك من عهد «سيتي الأول» لموظف قدمها لتمثال «بولهول» العظيم، ونشاهد عليها الفرعون يقدم الشراب ﻟ «بولهول» الذي يسمى هنا «حول حور ام أخت»، وأسفل هذا المنظر نشاهد مُهدي اللوحة المسمى «حات تي»، يحمل لقب رئيس وزراء رب الأرضين، وهو راكع تعبدًا. وهذا الأثر الذي كُشف عنه في الحفائر التي قمت بها في منطقة «بولهول» عام ١٩٣٦-١٩٣٧م يحتمل أنه عمل تذكارًا لمصاحبة «حات تي» وزير «سيتي» لسيده عندما قام برحلة الحج لتمثال «بولهول».
منف
سقارة
الفيوم
نقوش «سيتي الأول» في «سبيوس أرتميدوس» (إصطبل عنتر)
يقع المعبد الصغير الذي أطلق عليه اليونان «سبيوس أرتميدوس» وسماه المصريون المحدثون «إصطبل عنتر» على مسافة ميل جنوبي مقابر «بني حسن» المنسوبة للدولة الوسطى (راجع ج٤)، وهذا المعبد أو المحراب منحوت في الصخر، وتاريخه لا يمكن القطع به على وجه التأكيد، ولكن يبدو أنه كان من الأصل من عمل الملكة «حتشبسوت»، وأن «سيتي الأول» قد أصلحه فيما بعد، وأضاف على جدرانه متونًا خاصة به، وليس في استطاعتنا أن نجزم إن كانت إصلاحاته مجرَّد اغتصاب مناظر نقشتها «حتشبسوت» بعد إصلاح ما أفسده الدهر، أو أن هناك ملوكًا سابقين قد غيروا أو أتلفوا هذا الأثر، إذ لم نعثر في الواقع على محو اسم «آمون». ومن المحتمل إذن أن معبد «سبيوس أرتميدوس» كان قد أُهمل كلية في عهد «إخناتون»، أو أخطأه نظر المكلفين بتخريب آثار «آمون». وكان من الطبعي أن نجد المتون الخاصة «بحتشبسوت» كلها قد غُيرت باسم «تحتمس الثالث»؛ لأن ذلك هو ما حدث في المعبد الصغير الذي نحته في «بطن البقرة»، حيث يشاهد اسم «تحتمس الثالث» على العمد، غير أنه لا يمكن البرهنة على صحة ذلك. والواقع أننا لا نجد لقب «تحتمس الثالث»، وهو «منخبر رع» في أي مكان على الجدار الجنوبي من الممر، فمن المحتمل إذن — وليس مؤكدًا — أن «تحتمس الثالث» لم يغير متون «حتشبسوت»، وأن «سيتي الأول» قد قام بإصلاحات أصلية كما يتضح من النقوش؛ فضلًا عن اغتصابه هذا الأثر؛ ولهذا يُعتقد أن هذا المعبد كان قد هُجر، وعفت الأيام على دمنه قبل توليه العرش.
والواقع أن المتون الأصلية التي نقشتها «حتشبسوت» قد أصلحها «سيتي الأول» في أماكن كثيرة، ولم يكتفِ بتجديد الأجزاء الناقصة من المتن وحسب، بل كذلك أعاد اسم الملكة على الرغم من أنها لم تكن ملكة شرعية في نظره، فقد رأينا أنه أسقط اسمها من قائمة الفراعنة التي نقشها على جدران «معبد العرابة» كما سلف. ولكن نشاهد من جهة أخرى أن «سيتي» قد استغل بعض جدران هذا المعبد لنقش المتون الخاصة به شخصيًّا، ولم يقُم مع ذلك بأي مجهود لاغتصاب أعمال «حتشبسوت» عندما كان يجد سبيلًا لإصلاحها. ومن الجائز إذن أن المساحات التي استعملها «سيتي» لنقش متونه الشخصية كانت نقوشها لا يرجى إصلاحها قط. ومتون «حتشبسوت» هي خطابات على لسان الإله «آمون» يؤكد فيها أن «حتشبسوت» كانت ابنته، والوارثة الشرعية لمُلك مصر.
- التاريخ: السنة الأولى: بداية الأبدية وفاتحة الخلود، والاحتفال بملايين الأعياد الثلاثينية، ومئات آلاف السنين التي يسودها السلام، وأبدية «رع» في السماء، وملكية «آتوم» على الأرض.
- ألقاب «سيتي»: حور الثور القوي الذي يجعل الأرضين تنتعشان، والمنسوب للسيدتين صاحبتي البأس الشديد جدًّا، ومن يقهر الأقواس التسعة «حور» الذهبي الكثير الرماة في الأراضي كلها، ملك الوجه القبلي والوجه البحري، وسيد الأرضين «من ماعت رع» ابن «رع» «سيتي مرنبتاح» معطي الحياة مخلدًا وسرمديًّا، محبوب «آمون رع» ملك الآلهة … المشرق على عرش «حور» الأحياء مثل والده «رع» يوميًّا.
- مقدمة: والآن كان جلالته في بلدة «حت كا بتاح» (منف) يعمل ما يرضي والده «آمون رع» رب عروش الأرضين، والمبرز في الكرنك (ابت إسوت)، و«آتوم» رب الأرضين في «هليوبوليس»، و«رع حور اختي»، و«بتاح» العظيم القاطن جنوبي جداره، وسيد «غنخ تاوي» (حي من أحياء «منف»)، والإلهة «بخت» العظيمة سيدة «سرو»، وسيدة السماء، والساحرة وكل آلهة، وإلهات مصر بقدر ما يقدمون له بقاء «رع»، وملك «آتوم»، وكل أرض منخفضة، وكل أرض جبلية قد سقطت تحت قدميه سرمديًّا.
- إطراء الفرعون: الإله الطيب ابن «باستت»، وربيب الإلهة «سخمت» سيدة
السماء، وبيضة «رع»، والذي ولدته «بخت»، ومن ربته
الساحرة، والبذرة المقدسة الخارجة من «آتوم»، ومن
هذبته «وازيت» … بعناية الملك اليقظ المحسن.
وأسنُّ أولاد التاسوع كله.
ومن أقام المعابد، ووسع المحاريب — التي غطيت بالتراب.
ومن … المعابد.
ومن جعل الصور المقدسة تسكن محاريبها.
وماد مائدة القربان العظيمة بالقرب يوميًّا.
… القربان المقدسة …
والذي أعلى لهم الآثار طبقًا للقانون، وجعلها أكثر عددًا مما كانت عليه قبلًا، وأوانيها العدة صيغت من الذهب، والفضة، والنحاس.
وقلائدهم (منت) مصوغة من الذهب، والفضة.
ومخازنهم مملوءة بالحبوب.
وخزاناتها تحتوي على الثراء.
والعبيد قد تضاعفوا في المعابد.
والمأجورون …
والحقول والحدائق … في أماكنها اللائقة.
… مزودة بالرجال الذين يضعون الأحجار في أماكنها (؟).
والمعابد قد مونت بفخامة.
دون أن يقال قط: «إذا كان لي فقط هناك.»١٠٠وذلك لأجل حياة وفلاح وصحة ملك الوجه القبلي والوجه البحري.
«من ماعت رع» ابن الشمس «سيتي مرنبتاح» معطي الحياة مخلدًا وسرمديًّا.
… … … … … … … … …
والذي كافأته والدته بأعياد ثلاثينية، وأعوام يسودها السلام.
وقد اتخذت مكانتها بين حاجبيه.
ومكانها هناك مدى بقاء السماء.
وعندما تمتد ذراعاها للمساعدة.
تخضع له البلاد الأجنبية.
وتستولي له على قلوب الأقواس التسعة.
وإنه يضرب بدو السودان.
ويهزم اللوبيين (تحنو).
ويضع حدوده حيثما أراد.
… … … … … … … …
بطل شجاع القلب في ساحة القتال.
ومخلاب الأسد الذي يقتل في لمح البصر أمام كل الناس.
ولم يرَ مثله في كل سجلات الأجداد.
والقصة لم تتناقل من فم إلى فم.
إلا تشير إلى جلالته نفسه.
… في لمح البصر.
ملك الوجه القبلي والوجه البحري «من ماعت رع».
ابن رع «سيتي مرنبتاح» محبوب «بخت» سيدة «سرو».
- إصلاح «سبيوس» (المعبد): والآن بحث جلالته عما يفيد والدته «بخت» سيدة «سرو» لتجديد — … الخاص بالآلهة أسياد «سرو» — لأجل أن يجدد ما ينعشهم في داخل معبدها، فجدد جلالته معبدها، وأغلق أبوابه على غرار المأوى العظيم لأجل أرباب «سرو».
- الإلهة «بخت» تتحدث للإله «تحوت»: وتحدثت «بخت» سيدة «سرو» إلى «تحوت» سيد الكلمات
المقدسة: «تعال انظر إلى هذا الأثر العظيم جدًّا
الخالد الذي أقامه لي ابني المحبوب سيد الأرضين «من
ماعت رع» على حسب ما أمرت به في الأزل عندما قلت بفمك
سيعتلي ابني العرش، وسيمكث على السدة مخلدًا ابن «رع»
«سيتي مرنبتاح»، وإنه سيقيم آثارًا للآلهة على حسب ما
أمر به ملك الأبدية، وسيشيد آثارًا للإلهة «بخت»،
وسينحت تماثيل آلهة «سرو»، وليته يفعل ما أمرت به يا
ملك الأبدية، امنحه كل الحياة والفلاح الذي ينبعث
منك.
امنحه الأبدية مثل جلالتك، وتلك السرمدية التي أنت فيها.
امنحه النصر تلو النصر مثل «مين» … امنحه عظيم … حبي.
امنحه عظيم … حتى يخدموه متحدين …؟
امنحه قطعانًا عدة سليمة الجسم، وكلأ وفيرًا مثل وفرة الجراد.
امنحه نيلًا عاليًا بهجًا بكل الخيرات.
امنحه أراضي في سلام … وقلبه في كل مكان يرغب فيه.
واجعل كل الآلهة يتمكنون من بسط حمايتهم حوله بالحياة والثبات والسعادة على حسب صلاة ابنتك العظيمة دون حذف أي شيء قلته.»
- جواب «تحوت»: كلام «تحوت» رب الكلمات المقدسة، ما أطيب كلماتك يا «بخت»، يا سيدة «سرو»، إني سأمكن ابني رب الأرضين «من ماعت رع» ابن «رع» مُرضي الآلهة، رب التيجان «سيتي مرنبتاح» بوصفه ملك الخلود، في إقامة الآثار لأمه «بخت» العظيمة، وسيدة «سرو» أبديًّا، وإنه سيكون على رأس الأحياء كلهم مخلدًا.
وادي الحمامات
قفط
المدمود
طيبة
جبل سلسلة
السنة السادسة، الشهر الرابع من الفصل الأول، اليوم الأول من الشهر في عهد جلالة «سيتي الأول» — تأتي بعد ذلك الألقاب الفرعونية مهشمة — في هذا اليوم كان جلالته — له الحياة والسعادة والصحة — في المدينة الجنوبية، يقوم بالأحفال البهجة لوالده «آمون رع» ملك الآلهة، وممضيًا الليل يقظًا طلبًا في عمل الخيرات للآلهة أرباب مصر، وعندما أضاءت الأرض، وطلع النهار أمر جلالته — له الحياة والفلاح والصحة — بإرسال مبعوث ملكي من قبل جلالته مع طائفة من الموظفين من رجال الجيش عددهم ألف نفس … في طوائف لنقل آثار والده «آمون رع أوزير»، وتاسوعه المقدس من الحجر الرملي الجميل.
- جرايات الجنود: وقد زاد جلالته — له الحياة والسعادة والصحة — ما كان يمون به الجيش من عطور، ولحم بقر، وسمك، وكذلك الخضر الوفيرة التي لا حصر لها، وكان نصيب كل رجل منهم عشرين دبنًا (أربعة أرطال) من الخبز يوميًّا، وحزمتين من الخضر، وشواء من اللحم، وثوبين من الكتان شهريًّا؛ ولذلك كانوا يشتغلون بقلب ملؤه الحب لجلالة الملك — له الحياة والفلاح والصحة — وكانت خططه سارة في أفواه الناس الذين كانوا برفقة المبعوث الملكي لجلالته.
- جراية رسول الملك وحاملي أعلامه: كان ما لديه: الخبز الجيد، ولحم البقر، والخمر، والزيت الحلو، وزيت الزيتون، والشحم، والشهد والتين، والسمك، والخضر يوميًّا، وكذلك إكليل الفرعون الذي كان يُدفع له من بيت الإله «سبك»، رب «السلسلة» يوميًّا، وكان يورِّد عشرين ثوبًا إلى مخزن حاملي أعلام جيشه أيضًا١٠٧ …
ومما يلفت النظر أن النقوش تنتهي عادة بالجمل الاصطلاحية التقليدية التي تتبع اسم الفرعون، غير أن هذا النقش كان من نوع آخر يدل على طبيعة الفرعون الطيبة التي رأيناها فيما سبق في نقوش «وادي مياه»، أو «وادي عباد». ولسنا في حاجة للتنويه عما جاء في هذا المتن من حسن معاملة العمال، وإطعامهم وكسائهم.
الكاب
إلفنتين
أسوان
كلبشه
دكة
أمدا
كوبان (قوبان)
دوشه
قصر أبريم
يعيش «حور» الثور القوي الظاهر في «طيبة» منعش الأرضين، والمنسوب للسيدتين، ومجدد التوالد، صاحب السيف البتار، وقار الأقواس التسعة «حور الذهبي» قوي القوس في كل الأرضين، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «من ماعت رع» «ستبن رع» ابن الشمس «سيتي مرنبتاح»، معطي الحياة مخلدًا وسرمديًّا، الملك الطيب ضارب الأقواس التسعة، قوي القلب، ومجدل أعدائه وذابحهم، وهازم أهل «رتنو»، وحاملو جزيتهم يأتون أسرى أحياء أمامك … مثل ابن «نوت» — أي الإله ست — الملك القوي الذي يمد حدوده حتى نهاية قرن الأرض …
جبل بركل
سيسبي
آثار أخرى لسيتي الأول
(٥-١٣) إصلاحات سيتي البنائية
- بوصير: نقش «سيتي»١٢٨ متنًا في المعبد القديم الذي أقامه الفرعون «سحورع» أحد ملوك الأسرة الخامسة، أشار فيه إلى معبد الإلهة «موت سخمت» (باستت) الذي أقامه الملك «سحورع».
- الكرنك: أصلح «سيتي الأول» منظرًا على البوابة التاسعة، فيقول في
المتن الخاص بذلك: «تجديد الآثار التي عملها ملك الوجه القبلي
والوجه البحري «من ماعت رع» في بيت والده «آمون».»١٢٩ وكذلك نشاهد على البوابة العاشرة منظرًا ظهر فيه
الملك «سيتي» واقفًا أمام الإله «آمون رع»، وخلفه يقف الإله
«منتو»، وتاسوع «هليوبوليس»، وهم: «آتوم»، و«شو»، و«تفنوت»،
و«جب»، و«نوت»، و«أوزير»، و«ست»، وصورته ممحوَّة، ثم «إزيس»،
و«نفتيس»، والمتن الذي يتكلم عن الإصلاح هو: «يقول الابن
المحبوب رب الأرضين «من ماعت رع» لقد أقمت المعبد من جديد حتى
وصل إلى عنان أفق «نوت» (السماء)، وقلبي ممتلئ بحبك، وفرح
بجمالك، وأعطيت الحياة والسعادة.»١٣٠وكذلك أصلح «سيتي الأول» اسم «آمون» على لوحة الفرعون «تحتمس الثالث»، وكان قد هشمه «إخناتون»،١٣١ وقد جاء في النقش الذي كتبه «سيتي» أنه عمله لوالده «آمون رع» رب تيجان الأرضين، وقد عمل إصلاحًا مشابهًا لذلك في لوحة ﻟ «تحتمس الثالث» في معبد «بتاح القاطن جنوبي جداره.»١٣٢ هذا بالإضافة إلى إصلاحات أخرى نشاهدها في مسلة «حتشبسوت»،١٣٣ ولوحة «أمنحتب الثاني».١٣٤وفي «القرنة» ﺑ «طيبة» الغربية نشاهد إصلاحاته في لوحات «أمنحتب الثالث».١٣٥
- الدير البحري: وقد قام «سيتي» بإصلاحات في معبد الدير البحري،١٣٦ وكذلك في معبد «تحتمس الثالث» في مدينة «هابو»
(راجع L. D., III, pl. 202
d.)، وفي معبد «أمنحتب الثالث» في «الكاب» نجد
كذلك أن الإصلاحات التي قام بها كانت تعظيمًا لوالدته الإلهة «نخبت».١٣٧وفي «إلفنتين» أصلح «سيتي الأول» معبد «أمنحتب الثاني الصغير» الواقع جنوبي مقياس النيل،١٣٨ وقد ذكرنا من قبل إصلاحاته في «أمدا».
(٦) الأسرة المالكة
(٦-١) الملكة «تويا»
- (١) تمثال من الجرانيت الأسود لملكة من الأسرة الثانية عشرة اغتصبه «رعمسيس الثاني» كعادته، ونقش عليه اسم والدته، ويلاحظ أن الوجه قد نُحت من جديد؛ ولذلك نجد الأذنين الكبيرتين لهذا التمثال قد صغرتا، كما أن الشعر المستعار الكثيف الذي كان طرازًا محببًا في عهد الدولة الوسطى قد حوِّل إلى شعر مستعار يتفق مع زي الأسرة التاسعة عشرة، ولباس الأسرة الثانية عشرة البسيط الذي كانت ترتديه هذه الملكة قد أعيد تفصيله إلى جلباب «مكشكش» على غرار طراز الأسرة التاسعة عشرة، وهذه التغيرات قد حتمت أن تكون الذراعان نحيلتين، وكذلك الفخذان. وقد حاول المثال أن يسبغ على اليدين نحافة أنيقة في منظرهما، وذلك بتضييق الإبهامين، غير أن محاولته أخطأت التوفيق، وهذا التمثال عثر عليه في «تانيس»، وهو الآن «بالمتحف المصري».١٤١
- (٢) ولهذه الملكة تمثال «بمتحف الفاتيكان»، وقد رُسم عليه صورة ابنتها «حنت مي رع».١٤٢
- (٣) ولها تمثال آخر عثر عليه في مدينة «هابو» نقش عليه ألقابها، واسمها، فكانت تلقَّب عليه بأم الملك، وقد أضيف إلى ذلك أنها … ﻟ «حور» حملت ابنها للإله «رع»،١٤٣ ويظهر أن هذا اللقب جعل «رعمسيس الثاني» يدَّعي أنه من أصل إلهي.
- (٤) ولها تمثال نُحت على يسار تمثال «رعمسيس الثاني» الضخم القائم أمام معبد «أبو سمبل» العظيم.١٤٤
- (٥) وجد اسمها في نقوش «معبد الرمسيوم».١٤٥
- (٦) وتظهر مع ابنها «رعمسيس الثاني» في مجموعة «مريمار».١٤٦
- (٧) وُجد طغراؤها في نقش في «تانيس» مع اسم «رعمسيس الثاني».١٤٧
(٦-٢) أولاد «سيتي الأول»
رعمسسو
ابنته
(٧) الموظفون والحياة الاجتماعية في عهد «سيتي الأول»
تدل الوثائق التي في متناولنا حتى الآن على أن الوظائف الكبرى سواء أكانت إدارية أم سياسية أم دينية في عهد الأسرة التاسعة عشرة كانت في أغلب الأحيان في يد أسر خاصة وفروعها، وبخاصة منذ أن استقرت الأحوال في البلاد في عهد «سيتي الأول»، حتى إنه لما جاء عهد «رعمسيس الثاني» برز نفوذ إحدى هذه الأسر بدرجة عظيمة جدًّا تسترعي النظر، فجمعت معظم وظائف الدولة العالية في أيدي أفرادها؛ ويرجع السبب في ذلك إلى تسلط رجال الدين في هذا العهد، وما كان لهم من سلطان ونفوذ، وبخاصة في «العرابة المدفونة» التي كانت تُعد كعبة المصريين، ومحط أنظار الملوك، وموضع رعايتهم، فقد كان الإله «أوزير» هو الإله الذي وجه إليه «سيتي» معظم عنايته؛ وبذلك كان كهنته وكهنة الآلهة الآخرين في «العرابة» هم أصحاب النفوذ والسيطرة على مشاعر الفرعون وعواطفه؛ ولذلك نجد أن طائفة الكهنة هناك قد عملوا على جعل كل الوظائف الدينية منحصرة في دائرة أسرتهم، ثم أخذوا بعد ذلك يعملون بما لهم من نفوذ حتى جعلوا الفرعون ينصب أفراد أسرتهم في كل مناصب الدولة الكبيرة، فكان منهم رئيس الوزارة، ورئيس كهنة معبد آمون، وقواد الجيش، ورؤساء المالية، ورئيس الشرطة، ونائب الملك في بلاد «كوش» وغير ذلك من الوظائف العالية، ولم يقف الأمر عند تولي رجال هذه الأسرة الوظائف الدينية والإدارية الكبرى، بل وجدنا نساءهم يشغلن أهم الوظائف الكبرى الدينية، فكان ينتخب من بينهن رئيسات الحريم للمعابد، وكبيرات المغنيات للإله «آمون»، و«أوزير»، و«أنحور»، وغيرهم. وسنرى أن دائرة الوظائف في عهد «رعمسيس الثاني» كانت محصورة معظمها — كما قلنا — في أسرة واحدة، وهي أسرة الكاهن «وننفر» بوجه عام؛ وذلك بفضل ما كان لكهنتها من نفوذ ديني، ولا نزاع في أن ذلك النفوذ هو الذي أخذ يتزايد ويعظم خطره شيئًا فشيئًا من الوجهتين المادية والدينية، حتى انتهى الأمر في عهد الأسرة الحادية والعشرين، إلى أن قفز الكاهن الأكبر ﻟ «آمون» إلى عرش ملك البلاد، وأسس أسرة من الكهنة.
وسنحاول هنا أن نتحدث أولًا عن كبار رجال الدولة في عهد «سيتي الأول»، وما خلفوه لنا من آثار تميط اللثام عن حياة البلاد في هذه الفترة، وكذلك سنتكلم عن صلة هؤلاء الموظفين بعضهم ببعض كلما وجدنا لذلك سبيلًا، بادئين بالكلام عن الكهنة الأول ﻟ «أوزير» الذين سيكون لأسرهم شأن عظيم في تسيير أمور الدولة في عهد «رعمسيس الثاني».
(٧-١) وننفر وأسرته
«مري» الكاهن الأول للإله «أوزير»
وجدت لهذا الكاهن مجموعة تمثله هو وابنه «وننفر» الذي خلفه في وظيفته هذه في «العرابة المدفونة»، وهي الآن في «متحف القاهرة». والمجموعة مصنوعة من الجرانيت الرمادي، وقد مثل «مري» جالسًا بجانب ابنه «وننفر»، وقد عاش «مري» في عهد «سيتي الأول»؛ إذ نجد طغراء هذا الفرعون على كتفه الأيسر، وقد كتب على الشريط الذي وُضع في وسط جلد الفهد الذي يرتديه هذا الكاهن: «الإله الطيب رب الأرضين «من ماعت رع» محبوب «أوزير».» وكتب على الجزء الأمامي من قميصه: «الكاهن الأول للإله «أوزير» المسمى «مري» المرحوم، وابنه الذي يحيي ذِكر والده الكاهن الأول للإله «أوزير»، و«وننفر» الذي وضعته «معياني».» وقد صوِّرت زوجة «مري» هذه على جانب كرسي من هذه المجموعة، وكتب عنها: «ربة بيته «ميعاني»، ووالدها هو الكاهن الأول للإله «أوزير» المسمى «تا» المرحوم الذي وضعته «بويا» المرحومة.»
أما تمثال «وننفر» فقد نُقش على كتفه الأيمن اسم «رعمسيس الثاني» ولقبه؛ مما يدل على أن والده كان كاهنًا — أولًا — ﻟ «أوزير» في عهد «سيتي» كما ذكرنا، وقد خلفه في هذه الوظيفة في عهد «رعمسيس الثاني» ابنه «وننفر»، هذا وقد كتب على «مريلة» تمثاله: «الكاهن الأول للإله «أوزير»، و«وننفر» المرحوم ابن الكاهن الأول ﻟ «أوزير»، والمشرف على كهنة «العرابة» «مري» المرحوم، الذي وضعته «معياني» المرحومة».
ويقف أمام الكرسي شخص صغير رافعًا يده اليمنى نحو «وننفر»، وقد كتب عليه: «أخوه الكاهن المطهر الذي يعلم ما يحدث في بيت الحياة للأرضين «مري».»
وعلى الجهة اليمنى من الكرسي رُسمت امرأة جالسة على كرسي تشم زهرة البشنين، وقد كتب عنها المتن التالي: «أخته ربة البيت، ورئيسة حريم «أوزير» المسماة «تي»، ووالدها المشرف على مخازن الغلال «قني» الذي وضعته «ويا» المرحومة.»
أما ظهر الكرسي فقد كتب عليه متن مؤلف من سبعة أسطر جاء فيها: «حامل الخاتم الإلهي، والذي في المقدمة، والكاهن الثاني ﻟ «حور» الحامي لوالده، والكاهن الأول لأوزير المسمى «وننفر» المرحوم كاتم الأسرار، وكاهن «ماعت»، والذي يصب لها الماء في «العرابة»، الكاهن الأول للإله «أوزير» المسمى «وننفر» المرحوم، كاهن الساحرة العظيمة، وكاهن «وازيت»، والكاهن الأول ﻟ «أوزير» المسمى «وننفر».
(٧-٢) الوزراء في عهد سيتي الأول
الوزير «نب آمون»
ومن هذه الوظائف والنعوت نستطيع أن نفهم مقدار مكانة الوزير في هذا العصر، وبخاصة في حرصه على إقامة العدالة، وإرضاء الفرعون.
الوزير «حات تي»
(؟) عثر لصاحب هذا الاسم على لوحة ضمن اللوحات التي كشفنا عنها بجوار معبد «بولهول»، وهو يحمل لقب رئيس الوزراء، ويشاهد على هذه اللوحة الفرعون «سيتي الأول» يقدم قربانًا من النبيذ، أو الماء لتمثال «بولهول» الذي يُرى جاثمًا أمامه، وقد نُعت التمثال على اللوحة باسم «حول»، ويحتمل أن هذا الوزير قد أقام هذه اللوحة تذكارًا لمصاحبته للفرعون «سيتي الأول» عندما جاء لأداء فريضة الحج لتمثال «بولهول»، كما كانت العادة المتبعة منذ عهد الأسرة الثامنة عشرة على ما نعلم، ويشاهد هذا الوزير في الجزء الأسفل من اللوحة راكعًا يتعبد برأس عارٍ، ويَديْن مرفوعتين، ويقرأ الأنشودة التالية: «تقديم الحمد للإله» «حول»، وتقبيل الأرض ﻟ «حور ام أخت» ليهب الحياة والسعادة والصحة لروح رئيس (؟) الوزراء لرب الأرضين المسمى «حات تي»، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن «حات تي» هذا قد عد «حول»، و«حور ام أخت» بمثابة إله واحد، وهذان هما الاسمان اللذان كانا متداولين لتمثال «بولهول» في هذه الفترة من التاريخ على ما نعلم.
الوزير «باسر»
كان «باسر» الوزير الأول في عهدي «سيتي الأول»، وابنه «رعمسيس الثاني»، وسنفصل القول عن حياته، وأعماله في عهد «رعمسيس الثاني».
«نبنترو» الكاهن الأكبر للإله «آمون» «بالكرنك»١٥٢
لم تصارحنا الآثار التي كُشفت حتى يومنا هذا عن الشخص الذي كان يشغل وظيفة الكاهن الأول للإله «آمون» في «الكرنك»، ولكن من المحتمل جدًّا أن «نبنترو» كان يشغل هذا المنصب في عهد الفرعون «حور محب»، أو في عهد «رعمسيس الأول»، وكذلك في عهد خلفه وابنه «سيتي الأول»، والواقع أن هؤلاء الملوك الثلاثة قد أظهروا برَّهم وغيرتهم على عبادة الإله «آمون»؛ وذلك بما أقاموا له من مبانٍ ضخمة في «الكرنك»، وبخاصة قاعة العمد التي تعد فريدة في ضخامتها بين كل مباني العالم الدينية، والظاهر أن نفوذ هذا الكاهن كان عظيمًا؛ لأن ابنه «باسر» كان هو الجالس على كرسي الوزارة في عهد «سيتي الأول»، وقد انتقلت إليه أوقاف الإله آمون في «أرمنت» على ما يظن، غير أنه لم يتقلد قط وظيفة رئيس كهنة «آمون» في «الكرنك» كما يظن البعض، وسنتحدث عن ذلك فيما بعد. وقد كانت أسرة «نبنترو» على ما يظهر مسيطرة على الوظائف الدينية، فكانت زوجه «مريت رع» تحمل لقب رئيسة حريم «آمون» بالكرنك كما كانت ابنته «تي» تلقب رئيسة حريم «آمون»، وكان «نبنترو» يتقلد الوظائف والألقاب التالية: الكاهن الأول للإله آمون، وكاهن «آمون» في «أرمنت»، والكاهن «سم» في معبد «بتاح» ﺑ «طيبة»، ورئيس كهنة الوجهين القبلي والبحري، أو وزير الأوقاف، ورئيس الأسرار في المعابد، والوجيه، والأمير الوراثي، والحاكم، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد. والألقاب الخمسة الأخيرة كلها ألقاب فخرية. ومما سبق نفهم أن الكاهن الأكبر للإله «آمون» لم تكن وظائفه دينية وحسب، بل كان كذلك يقوم بمهام دنيوية محضة كما كانت العادة في عهد الأسرة الثامنة عشرة (راجع مصر القديمة ج٤).
«أمنمأبت» المسمى «إبي»
أمنمأبت
«أمنمس» الكاهن الأول للفرعون أمنحتب الأول صاحب «الردهة الأمامية»١٥٣
- (١)
منظر سفينة «آمون رع» المقدسة التي كانت تنقل تمثال «آمون» من المعبد إلى الشاطئ الأيمن في احتفال «عيد الوادي»، وقد تحدثنا عنه (راجع مصر القديمة ج٣).
- (٢)
منظر للألعاب الرياضية، وبخاصة اللعب بالعصا — الذي لا يزال موجودًا حتى الآن في ريف مصر وصعيدها، والمصارعة أمام محراب الفرعون المؤله «أمنحتب الأول». ولما كان موضوع الألعاب الرياضية من الموضوعات الهامة على ما يظهر في عهد الدولة الحديثة، فقد آثرنا أن نشير إليه هنا؛ وبخاصة لأنها ألعاب شعبية لا تزال باقية حتى الآن في جميع أنحاء القطر، فنشاهد اللعب بالعصا في الأفراح التي تقوم في حفلات الزواج، ويتقدم للعب بها مهرة من القرى المجاورة للقرية التي أقيم فيها الفرح. أما المصارعة فعلى الرغم من أنها معروفة بين الألعاب الرياضية عند كل الأمم، كان لها طابع خاص بقيت آثاره في مصر حتى اليوم بين أفراد الشعب لا سيما في الأرياف، ويعبر عنه «بالملابطة»، وفيها يظهر كلا المتلابطين قوته الجسمية على قرينه، وهو ما نشاهده في الصور المصرية القديمة.
- (١) منظر على جدران معبد مدينة «هابو» (راجع wresz Atias II, 158 15, 8 a & Meyer Darstellung Der Fermd. 335 ff.).
- (٢)
منظر باسم «رعمسيس الثاني» بمدينة «هابو» نقل من مكانه الأصلي «بالرمسيوم».
- (٣)
منظر قبر «أمنمسو» الذي نحن بصدده الآن.
- (٤)
منظر في مقبرة «مري رع الثاني» من عهد «إخناتون» (راجع مصر القديمة ج٥).
- (٥) منظر على قطعة استراكا محفوظة الآن «بالمتحف المصري» تحت رقم ٢٥١٣٢ من معبد «رعمسيس السادس» (راجع Daressy Ostraca. pl. xxv, p. 26).
ففي مناظر «تل العمارنة» يظهر الفرعون أمام الشعب على عرشه ليتقبل جزية الجنوب؛ فيعبر أفراد الشعب عن فرحهم بهذ الحادث بالمصارعة، والملاكمة، واللعب بالعصيِّ، أما في المنظر الذي على الاستراكا المحفوظة «بالمتحف المصري» فنشاهد عليها مصريين يبدءان بشوط مصارعة — كما يدل المتن المفسر — أمام الفرعون أيضًا.
«باشدو» رسام آمون
«وسرحات» كاتب حرس «منماعت رع» الذي يحمي «آمون» وجنوده
- (١)
«واز رمبت» رئيسة حريم ومغنيات «آمون»، وابنها الذي أقام اللوحة هو الكاتب «وسرحات».
- (٢) حامل العلم المُسمى «حوي».١٥٥
- (٣)
«خعي»، وكان يحمل لقب ضابط.
- (٤) «باكا» ويحمل لقب مقدم الأعمال في مكان الصدق (جبانة دير المدينة)، ويوجد لهذا الموظف لوحة في «متحف تورين»،١٥٦ وقد ذكر معه ابنه، وبعض أشخاص لا نعرف نسبتهم وهم:
- (أ)
ابنه «حورمويا»: الخادم في «مكان الصدق على الجبل الغربي».
- (ب)
«باشدو»: رئيس الصناع في «مكان الصدق».
- (جـ) «أمنمس»: الخادم في «مكان الصدق».١٥٧
- (أ)
ومن ذلك نفهم أنه يجوز اشتراك عدة أشخاص في إقامة لوحة في هذا المكان المقدس، وإن لم تربطهم ببعضهم صلة نسب.
معي
كاتب القربان المقدس لثالوث العرابة؛ أي «أوزير»، و«حور»، و«إزيس»، وكل الآلهة الذين في معبد «من ماعت رع» (معبد «سيتي الأول» بالعرابة).
المنفرد في كماله، والمستقيم، والصادق، والذي يرضي سيده، ومنفذ تعاليم جلالته، كاتب القربان المقدس ﻟ «أوزير»، و«وحور»، و«إزيس»، وكل آلهة معبد «سيتي»، «معي» صادق القول الذي يثوى في سلام في «مكان الصدق» (الجبانة)، ابن رئيس الرماة «بس»، صادق القول في أمان في الغرب، وهو الذي وضعته ربة البيت «ورنور» صادقة القول في سلام.
وفي أسفل هذا المتن يرى «معي» واقفًا رافعًا يده يشير إلى الأنشودة التي نُقشت أمامه في أربعة عشر سطرًا عموديًّا كأنه يقرؤها. ويرى أمامه مباشرة مائدة قربان صُف عليها ألوان من الطعام، ويلاحظ أن «معي» كان يرتدي شعرًا مستعارًا طويلًا كما كان يلبس ثوبًا طويلًا مجعدًا.
الدعاء لك يا «أوزير» من كاتب القربات المقدسة لكل الآلهة في بيت «من ماعت رع» على لسان «معي» صادق القول يقول: السلام عليك يا «أوزير وننفر»، يابن «نوت» (ربة السماء)، ويا سيد القرابين، ويا رفيع التاج، ويا سيد القوة، وعظيم الاحترام، ويا من أعطى التاج المزدوج، والفرح على رأس «هرا كليوبوليس» (أهناسيا المدينة التي كان يُعظَّم فيها «أوزير»)، ومن الإله «رع» قد أذاع الخوف منه، ومن أوجد «آتوم» الرعب منه في قلوب الناس، والآلهة والمنعمين والموتى، ومن أعطى روحه في «منديس»، ومن يخاف في «هرا كليوبوليس»، ومن قواه قد اتخذت مكانتها في «هليوبوليس»، ومن صوره عظيمة في «بوصير»، وسيد الخوف في المكانين المقدسين (أي المعبدين)، ومن الفزع منه عظيم في «روستاو» (عالم الآخرة)، وسيد القوة في «تنين» (قبر أوزير)، ومن حبه عظيم على الأرض، وصاحب الذكرى الحسنة في القصر، والعظيم الظهور في العرابة (خلال أعياده)، ومن أعطى صدق القول؛ أي برئ أمام الإله «جب»؛ إله الأرض وتاسوع الآلهة مجتمعين، ومن لأجله ذُبحت الذبائح في القاعة العظمى الشاسعة التي في «حرور»؛ أي بلدة «قصر هور» في الشمال الشرقي من «الأشمونين»، ومن يخافه الأقوياء والعظماء؛ لأنه قد وُهب الخوف، ومن يقف العظماء له على حصرهم، ومن نشر الإله «شو» — أي إله الفضاء — الذعر منه، ومن الإلهة «تفنوت» قد أوجدت سلطانه، وإنه ملك الآلهة وصاحب القوة المطلقة في السماء، وحاكم الأحياء — يقصد الأموات — وملك من هم هنالك؛ أي الأموات، ومن تقوم له الملايين بالأحفال في «بابليون» (مصر عتيقة إشارة إلى أن «أوزير» هنا يمثل النيل)، ومن تبتهل له الإنسانية بصياح الفرح في «هليوبوليس»، وصاحب القطع المنتخبة من اللحم في البيوت العالية؛ أي المكان الذي تُذبح فيه الذبائح، ومن جُزرت له الذبائح في «منف»، ومن احتفل له بعيد اليوم السادس من الشهر، وعيد اليوم السابع في «هليوبوليس» عندما ينادَى في محط «بنو» (قصر في عين شمس)، ومن عملت له الوجبات الليلية في «ليتوبوليس» (أوسيم الحالية)، ومن أعطي السيف والنصر في «هليوبوليس»، وعندما تراه الآلهة يقدمون له الخضوع، وعندما يراه المنعمون (الأموات) يهللون له. هذا هو «أوزير» بن «نوت» عظيم الرهبة، وعظيم السطوة، ومن يأتي إليه الرجال والآلهة والمنعمون والأموات خاشعين.
وكذلك تهرول نحوه الجماهير في «جحستي» (المكان الذي قُتل فيه أوزير)، مهللين ومعهم من في العالم السفلي. وإني ابنك «حور» وقد أتيت وضربت لك أعداءك، وضحيت بهم لك مثل حيوانات الأضاحي، وأهلكتهم مثل الثيران، وقد سقطوا على وجوههم من أجلك، وإني أرضيك لأنك محبَّب، فلتكن راضيًا عني رضاء طيبًا في هذا اليوم (يوم الحساب)، وتقصي عني شري، وتسمع عندما أدعوك، وتخرج لتبعد عني الشر بسبب ما قلته من خير في هذا اليوم.
والأمر الهام الثاني الذي نلحظه في صور هذه اللوحة هو صورة الأمير الصغير «رعمسيس» بِكر أولاد «سيتي الأول»، غير أننا لا نعلم إذا كان «مِعِي» قد كتب هذه اللوحة في أول عهد «سيتي الأول» عندما كان ابنه «رعمسيس» الذي توفي فيما بعد، وهو الذي كشف قبره في «سد منت»، وتابوته في مدينة «هابو» هو «رعمسيس» هذا أم هو «رعمسيس» الذي أصبح فيما بعد «رعمسيس الثاني»، والأرجح أن الذي صُور على هذه اللوحة هو «رعمسيس الثاني» فيما بعد؛ إذ قد محا «سيتي الأول» اسم «رعمسيس» المتوفى من نقوش معبد الكرنك على حسب قول «كيث سيلي»، ووضع مكانه صورة «رعمسيس» الذي أصبح وارثه في الملك، هذا فضلًا عن أننا لا نجد آثار محوٍ هنا.
حوي
حوي شرا
حور مين
وتوجد له لوحة عثر عليها «مريت» في «السربيوم» تُدعى أحيانًا باسم لوحة الأطواق، أو القلائد؛ وذلك لأن الفرعون «سيتي الأول» يظهر فيها واقفًا في شرفة قصره، مانحًا «حور مين» الذي كان يحمل لقب المشرف على حريم الفرعون القلائد الذهبية، وفي الصورة خادمان قد شُغلا بتحلية جِيد «حور مين» هذا بالقلادات الذهبية، في حين أن المنعم عليه كان يرفع ذراعيه فرحًا واعترافًا بالجميل. والواقع أن منح القلائد كان إنعامًا ملكيًّا كما هي الحال الآن، كما تكلمنا عن ذلك من قبل.
حعبي
سايمبترف
والمدهش أن الإنسان عندما يفحص الآلهة لأول وهلة يخيل إليه أن لها أربع أذرع بدلًا من اثنتين، ويلحظ أن اثنتين تحمل كل منهما إناء ماء، أما الذراعان الأخريان فتحملان مائدة قربان عليها خبز، وطاقة أزهار، وخيارة. ولكن نشاهد أن ورق شجرة الجميز تعلوه نخلة، وأمام الآلهة نرى المتوفى راكعًا ورافعًا يده ليتقبل الماء الذي تصبه له الآلهة، وتحت المتوفى زوجه المسماة «ناشايت» راكعة، وتحت الشجرة طائران برأس آدميين، وهما يمثلان روحا الرجل وزوجه، وأمام هذين الروحين وضعت مائدة قربان تشبه التي أمام الرجل وزوجه. والحوض المستطيل الذي نبتت فيه الجميزة هو حوض مقدس.
وعلى حسب الاعتقاد المصري كان المتوفى في أثناء سياحته في عالم الآخرة تستقبله إلهة «طيبة» فتطعمه وتسقيه، وكان اسمها بوجه عام الإلهة «نوت»، أو «حتحور»، أو «إزيس»، ولكن في غالب الأحيان كانت تسمى «سيدة الجميزة» فحسب. والواقع أن شجرة الجميزة كانت تلعب دورًا هامًّا في المتون المصرية، غير أن رسم هذه الآلهة الخارجة من شجرة الجميزة لم يظهر إلا منذ الأسرة الثامنة عشرة.
والآن يتساءل الإنسان عن السبب في أن لهذه الإلهة أربع أذرع، ولماذا نجد نخلة تعلوها؟ والجواب على ذلك: أنه لا بد أن تفصل هذه الصورة على الوجه الآتي: نرى في الصورة أولًا المنظر المعروف الذي يمثل الآلهة في شجرة الجميز، وأن جذع الجميزة هذه كان يغطي جذع النخلة، ولا نرى من الأخيرة إلا جزءها الأعلى الذي يفوق الجميزة في ارتفاعها، وكذلك نشاهد أن إلهة الجميزة كانت تغطي إلهة النخلة التي لا نرى منها إلا ذراعيها، وهذا هو السبب الذي من أجله نرى في الرسم إلهة بأربع أذرع. والمنظر كما يقول الدكتور «كيمر» منقطع القرين في كل المناظر المصرية التي عرفها حتى الآن من هذا النوع: ولكن يجب أن تكون هناك مناظر أخرى مماثلة. على أنه من جهة أخرى توجد بعض مناظر من الدولة الحديثة نشاهد فيها إلهة الجميزة وإلهة النخلة مجتمعتين معًا في صورة واحدة.
أما المتن الذي على هذا الحجر فهو: كلام الجميزة البارة بسيدها: «إني أقدم لك الخبز والماء العذب إلى «أوزير» — أي لك — يا رئيس صياغ ملك الأرضين «سايمبترف».»
والواقع أن كلا شجرة الجميزة والنخلة لم تزالا موضع تقديس عند العامة حتى الآن، وأنه محرَّم عند العامة قطع شجرة الجميز، وبخاصة ما كان منها في الجبانة؛ لأن العامة يعتقدون أنها تروي الموتى، وتظلهم بظلالها.
وكذلك تعد النخلة شجرة مقدسة لا يستحسن قطعها أبدًا، حتى إن بعض القرى، وبعض المدن قد غير نظام تخطيط بعض البيوت فيها لوجود شجرة نخيل في مكان البناء، هذا بالإضافة إلى أن سعف النخل لا يزال يوضع على قبور الموتى عند زيارتهم، وبخاصة في الأعياد، وهذه العادة منتشرة كثيرًا في ريف مصر وصعيدها، ولا أظن ذلك إلا من بقايا الاعتقاد القديم.
«ستي»١٦٤ حامل المروحة على يمين الفرعون
يقع قبر هذا الموظف الكبير في جبانة قرية «الخوالد» الحالية عند سفح الجبل الشرقي المواجه لبلدة «أبو تيج»، وقد عثر عليه أحد الأهالي عندما كان يحفر قبرًا لأسرته. وقد نحت «ستي» قبره في مكان أحجاره هشة، ويظهر أنه أقام سقفه من الحجر الجيري الأبيض، ويصل الإنسان إلى الضريح بوساطة بئر يبلغ عمقها نحو ثلاثة أمتار وسبعين سنتيمترًا، وفي الجدار الشرقي باب يوصل إلى قاعة تستند على ستة عمد من الحجر الجيري، وقد نُقشت جدرانها بصيغ دينية للإله «أوزير»، وألقاب المتوفى. فعلى الجدار الأيسر لهذه القاعة نقرأ الألقاب التالية: «حامل المروحة على يمين الملك، والكاتب الملكي، وقائد الجيش الأعظم لجلالته … رب الأرضين، والمشرف على بيت المال لمعبد «ستي» المقدس في بيت «آمون ستي».» وعلى جانبي الباب مثل المتوفى يقدم قربانًا للإله «أوزير»، وعلى العتب صورة سفينة «رع» المقدسة التي كان يقوم فيها المتوفى بسياحته من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق مع الإله «رع»، وفوق صورة «أوزير» نقرأ: ««أوزير» رب الغرب، الإله العظيم، حاكم الأبدية.» وفوق صورة المتوفى نُقشت صيغة قربان ﻟ «أوزير»، وكذلك ألقاب «ستي»، وقد جاء فيها غير ما ذكرنا أنه: «المشرف على بيت مال الفرعون في كلا الأرضين»، وكذلك نقش على العتب صيغ قربان للآلهة «أوزير» و«بتاح» و«أنوبيس» ثم الإله «آمون رع» رب تيجان الأرضين، ورئيس الكرنك، ورب السماء، وحاكم الأبدية، وكذلك للإله «حور اختي». وقد وجد في هذه القاعة بعض التماثيل الصغيرة المصنوعة من الجرانيت تمثل المتوفى، وعلى يمين هذه القاعة حجرة خالية من النقوش، وتؤدي قاعة العمد من الشرق إلى حجرة مقسمة ثلاثة أقسام، ففي الجزء الأوسط الذي تبلغ مساحته ٤٫٦٥ + ٢٫٣٥ مترًا نجد عند المدخل بئرًا مكسوة بالحجر الجيري الأبيض، وقد دفن فيها «ستي»، ووضعت جثته في تابوت من الجرانيت له غطاء من نفس المادة، غير أن التابوت وُجد مهشمًا، وقد نُقش كل منهما بالمتون والصور التي تشمل ألقاب المتوفى، والصيغ الدينية، وبخاصة أسماء الآلهة الذين يحرسون المتوفى أمثال «حابي»، و«دواموتف»، و«أنوبيس»، و«أوزير». أما الجزء الثاني: فهو حجرة وجد فيها بعض عظام، وفي الجهة الشرقية نجد سلمًا يؤدي للتابوت. أما الجزء الثالث: فيقع على اليسار، ويحتوي على ممر يؤدي إلى حجرة أخرى توصل إلى حجرة تحتوي على بقايا مومية، وعلى قطع من أواني الأحشاء المصنوعة من المرمر.
وقد تكلمنا عن هذه المقبرة ببعض التفصيل؛ لأنها كانت لرجل من كبار رجال الدولة في عهد الأسرة التاسعة عشرة، وهذا العظيم لم يدفن بجوار مليكه في «طيبة»، بل فضَّل — على ما يظهر — أن يدفن في مسقط رأسه؛ وبذلك قدم لنا نموذجًا للمقبرة التي كانت تقام في الأقاليم في هذا العصر، وهي قليلة لدينا، ويلاحظ أن «ستي» كان يتعبد جريًا على التقاليد المتبعة للآلهة العظام في الدولة وقتئذ، وهم: «آمون رع»، و«بتاح»، و«حور اختي»، و«أوزير»، وكان آمون يلقب «آمون رع» رب تيجان الأرضين، ورب السماء، وحاكم الأبدية؛ مما يدل على مكانته في العاصمة والأقاليم.
ومحتويات هذا القبر التي بقيت لنا حتى الآن تدل دلالة واضحة على أن صاحبه كان من عظماء القوم، كما تدل على ذلك ألقابه، فقد صنع تابوته من الجرانيت، وكذلك تماثيله المجيبة من نفس المادة، كما نُحتت أواني أحشائه من المرمر، ولا بد أن التابوت كان يحوي بعض المجوهرات، وبخاصة أن صاحبه كان يحمل لقب المشرف على بيت مال رب الأرضين.
ومما يلحظ هنا أن هذا الموظف الكبير قد تسمى باسم مليكه، غير أنه لم يستعمل في كتابة اسمه صورة الحيوان الدال على الإله «ست»؛ مما يبرهن على أن هذا الإله، على الرغم من انتشار عبادته في هذا الوقت، كانت صورة الحيوان الدال عليه مكروهة، وقد تحاشى كتابتها الملك «سيتي» في اسمه في كثير من الأحيان، كما شرحنا ذلك من قبل، ومع ذلك نجد أن «ستي» صاحب المقبرة، قد نقش اسم سيده «سيتي الأول» بصورة الحيوان «ست»، ولعله فعل ذلك في داخل قبره؛ لأنه بعيد عن أعين النظارة بخلاف المعابد التي كانت تحت نظر القوم في كل وقت.
رِر
المشرف على جياد رب الأرضين، والمدير العظيم لبيت الملك: توجد بمتحف «اللوفر» لوحة جميلة الصنع لهذا الموظف الكبير، وزوجه ربة البيت مغنية «آمون»، و«سخمت»، وقد نقشت هذه اللوحة نقشًا بديعًا من طراز نقش «سيتي الأول» الدقيق، وكان «رِر» هذا يحمل ألقابًا أخرى، وهي: «كاتب الفرعون، والمدير العظيم، والكاهن «سم» في معبد «من ماعت رع» راحة القلب، والذي يملأ قلب سيد رب الأرضين.»
ونشاهد صاحب اللوحة وزوجه في الجزء الأعلى يتعبدان أمام «أوزير» الذي كان يتبعه «إزيس»، و«حور»، والإله «وبوات». وفي الجزء الأوسط من اللوحة نرى صاحب اللوحة يتقبل القربان والبخور من كاهن يصحبه خمس من بنات المتوفى. وفي الجزء الأسفل من اللوحة نجد خمسة آخرين من أفراد الأسرة يقدمون الأزهار لوالد المتوفى المسمى «باكا»، ولزوجه مغنية «آمون»، وتُدعى «حنت إبون».
نياني
نب زفا
ولهذا الموظف كذلك لوحتان في «المتحف البريطاني» وحوض، وله لوحة في «متحف فلورنس» بإيطاليا مهداة للإله «بتاح»، وزوجه «سخمت»، وكذلك باب محراب من الحجر الجيري الأبيض مهدى للإلهة «نوت»، وهو محفوظ الآن «بالمتحف المصري» (رقم ٦٣٦٤٤). وعلى كل هذه الآثار نجد أن «نب زفا» يعدد لنا أفراد أسرته، ومن مجموعها نعلم أنه عاش في أوائل الأسرة التاسعة عشرة، وأنه أضاف إلى لقب زملائه الذين كانوا يعملون في هذه الجبانة — وهو لقب خادم مكان الصدق — لقبًا آخر يظهر أن أسرته كانت أول من حمله، وأنه خلعه على ابنيه «حور نفر»، و«تحوت حر مكتف»، وهذا اللقب يظهر أنه يعني رئيس فرقة أو إدارة عمل. وكان حامله تحت إدارة رئيس العمال في الجبانة مباشرة، والظاهر أنه كان لقبًا مدنيًّا خاصًّا بالمعامل والمصانع في الجبانة الملكية، وليس له دخل بالأمور الدينية، والظاهر أن هذه الوظيفة قد أوجدها «سيتي الأول» لضرورة وقتية خاصة بالأعمال العظيمة التي قام بها في أوائل حكمه، وعين فيها كلًّا من «نب زفا»، وموظف آخر يُدعى «عم كت» وحسب.
وقد خلعها كل منهما بدوره على ابنه، غير أنه — على ما يظهر — قد بدا لأولي الأمر أن هذه الوظيفة كانت منبع شقاق ومخاصمات بين كبار رجال جبانة «دير المدينة» فألغيت. وهذا هو التفسير الوحيد لعدم وجود هذا اللقب قبل هذا العهد وبعده.
تحوت حر مكتف
«نب زفا»: تزوج من «حتحور حنرا»، وأنجب منها «تحوت حر مكتف» الذي تزوج من «تاورت» (ورنرا)، وأنجب منها «نخت تحوتي».
مقبرة الكاهن «وسرحات»
- (١)
تقدم لنا مناظر هذه المقبرة صورة واضحة عن حالة فن التصوير، وما طرأ عليه من تغير وبخاصة التلوين، وإدخال التظليل في التصوير المصري مما لم يسبق له مثيل من قبل.
- (٢)
وكذلك نفهم من النقوش مقدار ما كانت عليه البلاد من رخاء، ونستنتج ذلك من الهدايا التي كانت تُقدم للمتوفى من مليكه، وما فيها من صناعات وفنون دقيقة تستحق الإعجاب. وكذلك تضع أمامنا صورة ناطقة عن زي هذا العصر، والتأنق في الملبس، وحب الأزهار، ومباهج الطبيعة.
- (٣)
نشاهد فيها التغييرات التي حدثت في هذا القبر ونقوشه من محو وإثبات؛ مما يدل على محاولة اغتصابه من صاحبه، والدور الذي كان يلعبه كل من الكاهن والمرأة، وكذلك المنافسات التي كانت تقوم بين نساء الرجل الواحد.
- (٤) تقدم لنا مناظر هذا القبر صورة واضحة عن الشعائر الدينية التي كانت تؤدَّى للمتوفى عند دفنه، وصورة عن محاسبته في عالم الآخرة، وما طرأ على ذلك من تغير، وبخاصة الميزان، والدور الذي كان يلعبه في حساب المتوفى، وقد ظهرت أمامنا ظاهرة غريبة في هذا الصدد، وذلك أن المتوفى وقت حسابه في عالم الآخرة كان يوضع قلبه في كفة، والعدالة توضع في كفة أخرى، أما الآن فقد وجدنا مقبرة «وسرحات» أن جسم الرجل نفسه كان يوضع في كفة، وقلبه في كفة أخرى، وفي مقبرة أخرى وجدنا أن جسم المتوفى نفسه كان يوضع في كفة، والعدالة في كفة أخرى. ومن ذلك يمكن أن نستخلص أن الإنسان في هذا العهد قد بدأ يشعر بمحاسبة ضميره له؛ ولذلك كان يوضع ضميره الذي عبر عنه بالقلب في كفة، وجسمه في كفة أخرى، وهذا بالطبع أعلى ما وصل إليه الخلق الإنساني من الرقي، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كان لتأثير ديانة «إخناتون» التي كانت تدعو للوحدانية، والعدالة المطلقة أثر قوي حتى بعد التغلب على مبادئها، والعودة إلى الديانة القديمة، يضاف إلى ذلك أننا نجد أن محاسبة الإنسان لنفسه ولضميره ومناجاته لربه والتنسك، كل ذلك قد ظهر بصفة بارزة في هذا العهد، وبخاصة بين أفراد الشعب، كما سنبين ذلك بعد. وسنحاول هنا أن نصف مناظر هذا القبر الذي يعد من أجمل المقابر الباقية لنا من هذا العهد على حسب الرسوم التي نقلها المستر «ديفز»١٧٠ الأثري، والمفتن العظيم.
نحت الكاهن «وسرحات» قبره في الجزء الأسفل من واجهة علوة «شيخ عبد القرنة» بالقلعة التي تسمى «الكوم الأحمر»، وقد عاصر الكاهن «وسرحات» كلًّا من الفرعونين «رعمسيس الأول»، و«سيتي الأول»، كما يستدل على ذلك من نقوش هذا القبر.
ويحتوي القبر على ردهة صغيرة تمدُّنا بتاريخ الفن في النصف الأول من الأسرة التاسعة عشرة، ويصل إليها الإنسان من الشرق، وقد نحت في ركنها الشمالي الغربي لوحة جنازية، وتوصل هذه الردهة إلى قاعة مستطيلة بوساطة مرقاة مرتفعة بعض الشيء، وهذه القاعة تمتد على يمين الداخل ويساره، وقد نقشت جدرانها بالرسوم، والأشكال الزاهية الألوان، ومنها يصل الإنسان إلى حجرة أخرى بابها في المحور، غير أنها عارية من النقوش، ويرتكز سقفها على أربعة عمد مقطوعة في أصل الصخر، والظاهر أن إطار مدخل هذه الحجرة كان مغطى بملاط من الجبس، كما أن عمدها وسقفها قد غُطيت بطبقة من الطين، وفي نهايتها باب يؤدي إلى حجرة صغيرة بمثابة استراحة، وهذه الحجرة توصل إلى الحجرة التي دفن فيها الكاهن «وسرحات»، وبابها صغير جدًّا.
هذا، وفي قاعة العمد مكانان أُعدَّا للدفن، ويلحظ كذلك أن سقف القاعة الأولى مقبب، وقد نُقش عليه اسم صاحب المقبرة.
- (١)
مناظر خاصة بخدمة الكاهن «وسرحات» للآلهة، والملك «تحتمس الأول»، ومكافأته على هذه الخدمات.
- (٢)
مناظر تصف لنا محاكمة المتوفى، وبراءته في عالم الآخرة، وكذلك ما ناله من مكافآت في الحياة الدنيا على يد الفرعون، وما كسبه في الحياة الآخرة أيضًا.
- (٣)
منظر مثل فيه تمتع «وسرحات» بحديقته الجنازية.
وصف المقبرة
-
المناظر التي على الجدار الشمالي الخاصة بعبادة
«أوزير»: يشاهد على هذا الجدار محراب للإله «أوزير» وضع تحت جوسق،
وهو محلى بالأزهار والأكاليل، ويلفت النظر أن حب المفتن
للزخرفة قد حوَّل قاعدة المحراب الذي يجلس فيه الإله
«أوزير» إلى بحيرة نبتت فيها سيقان السقي المزهرة، وقد وقف
على أربعة من أزهارها أولاد الإله «حور» الأربعة الذين
كانوا يحمون أواني الأحشاء كما هو معلوم في الشعائر
الدينية، وقد التفت حولها أعشاب نضرة. أما الآلهة الذين
كانوا بصحبة «أوزير» في هذا المنظر فهم: الإلهة «حتحور
سميت»، والإلهة «ماعت»، والإله «أنوبيس» (راجع
p1. V)، ويلحظ هنا أن
الإله «أوزير» قد لون جسمه كله باللون الأخضر علامة على
أنه إله الخضرة النضرة، وإله النيل الذي يبعث الخضرة،١٧١ وقد جلس على عرش مزخرف بالألوان الزاهية، وقد
حَلي جيده ويداه بالقلائد الفخمة، والأساور الثمينة، وقد
وضعت أمام المحراب كومة من الطعام على أربع قواعد فيها من
اللحوم قلوب حيوانات، وضلوعها، ورءوسها، وشحم، وأفخاذ لحم،
هذا بالإضافة إلى خيار قد شُق ليرى ما في داخله، وقد حليت
كل هذه الأطعمة بالأكاليل، وكذلك نُشرت عليها الأعشاب
النضرة، وطاقات الأزهار. ويسترعي النظر ما نشاهده من قطع
فحم أسود قد وضعت بين القرابين؛ ليستمر حرق الزيت العطر
(راجع p1. VI a).
ويقف أمام الإله «أوزير» صاحب المقبرة «وسرحات»، ويقوم بدور الكاهن فيصب البخور على كومة الطعام السالفة الذكر، وقد مثل هنا «وسرحات» برأس عارٍ، ويحلي جيده قلائد من أقراص الذهب، وغيره من الأحجار الثمينة، ويرتدي قميصًا قصيرًا، ويتدلى من خلفه شريط، ويرتدي فوق القميص جلبابًا فضفاضًا، وفوق كل هذا يرتدي فراء فهد، وهو رمز لوظيفة الكاهن، وهذا الفراء قد نُمق بتفاصيل مدهشة لا تتفق مع ما يشاهد في الطبيعة، وهو يختلف عما كان يُلبس من قبل في عهد الأسرة الثامنة عشرة، إذا كان الفراء يُنقش بنقوش طبعية، وقد سُجل على كتف فراء «وسرحات» طغراءان خاليتان من النقوش، ويجب أن تكونا للفرعون «رعمسيس الأول»، وهو الملك الذي عاش في عهده «وسرحات»، وكذلك وُجد على «مريلته» نقوش خاصة بهذا الفرعون، وهي: «الإله الطيب رب الأرضين وسيد الشعائر، عظيم القوة، ومن عدالته جميلة أمام «آمون» ملك الوجه القبلي والوجه البحري، رب الأرضين «من بحتي رع» ابن «رع»، رب التيجان «رعمسيس الأول» معطي الحياة مثل «رع».» ويظهر أمامنا جليًّا الغرض المادي الأصلي الذي من أجله كُتب هذا النقش عندما نرى أن كاتبه قد نقش فوق صورة «وسرحات» الجملة التالية:
لأجل روح «وسرحات» الكاهن الأول لروح الملك «عاخبر كارع».
تحتمس الأولوتقف خلف «وسرحات» زوجه «شبسوت» برشاقة، وقد زاد في جمال وقفتها ساق البردي المزهر الطويل المنحني بعض الشيء الذي تحمله في يدها، وهنا نلحظ أن المفتن قد رسمه بالوضع الطبعي لا حسب التقاليد الدينية العتيقة التي نشاهده فيها يرسم بصورة جافة مستقيمة لا عوج فيها كأنه خُلق في صورة خط مستقيم.
ويسترعي النظر في ملابس هذه الزوجة أنها تلبس شعرًا ضخمًا غزيرًا، ولكنه كان مستعارًا؛ إذ قد ظهر من تحته بعض خصل من شعرها الحقيقي، وقد استعمل المثَّال هنا — في تمثيل بشرة الجلد — ألوانًا مختلفة، فرسم بشرة الرجل باللون الأسمر الزاهي وكذلك باللون الأحمر اللامع، أما بشرة المرأة فقد مثلت باللون البرتقالي أو اللون الأسمر الخفيف، وقد استعمل اللونان الكميت والأصفر لكل من الجنسين، وقد كان هذان اللونان لا يستعملهما المفتن من قبل بهذه الكيفية. وقد نُقش بجوار زوجة «وسرحات» المتن التالي: «زوجه (أخته) وربة البيت، ومغنية آمون «شبسوت»، (وهذا الاسم هو مصغر اسم «حتشبسوت»).» ويشاهد بجوار «شبسوت» ولد صغير في يده طاقة أزهار وأوزة، ويلقب ابن الكاهن الأول للملك «عا خبر كا رع» «تحتمس»، أما السيدة التي تأتي بعده في المنظر فتُدعى زوجه (أخته) ربة البيت، ومغنية «آمون» …» والظاهر أن اسمها قد مُحي هنا عمدًا.
والواقع أن تاريخ العلاقات بين أفراد هذه الأسرة يحيطه الغموض، كما سنرى بعد.
- عبادة تحتمس الأول (المنظر السفلي): يشاهد في هذا المنظر «تحتمس الأول» جالسًا في جوسق، وقد وقفت خلفه الملكة «أحمس نفرتاري»، ويسترعي النظر هنا أن تاج عمود الجوسق الذي جلس فيه هذا الفرعون قد جمع بين زهرتي السوسن والبردي، اللهم إلا إذا كان يمثل عمودين معًا.
-
«وسرحات» كاهن شعائر هذا الفرعون: والظاهر أن ما تقدمه أسرة «وسرحات» من احترام ﻟ «تحتمس
الأول» لا يرجع إلى ما لهذا الفرعون من شهرة تاريخية، بل
إلى ما كان يجنيه أفراد هذه الأسرة من فوائد مادية من
الأوقاف التي حبسها هذا الفرعون على معبده الجنازي، وبخاصة
إذا علمنا أن وظيفة الكاهن الأول لروح هذا الفرعون كانت
وراثية في أسرة «وسرحات» منذ وفاته.
والقربان الذي وضع أمام هذا الفرعون وأمه المؤلهين قد كُدس في إناء جميل من الذهب، هذا فضلًا عن أن «وسرحات» كان يقدم أوزة تُشوى على موقد، وقد مثل لابسًا شعرًا مستعارًا، ولحية قصيرة، وفراء نُقش على كتفه اسم «سيتي الأول»، كما نُقش كذلك على مريلته. وهاك النص: «الإله الطيب، رب الأرضين، وسيد الشعائر لعظماء الأبدية، وﻟ «رع»، والآلهة الآخرين، ملك الوجه القبلي والوجه البحري، رب الأرضين «من ماعت رع»، ابن الملك من صلبه، ابن الشمس ومحبوب «سيتي»، معطي الحياة مثل «رع» أبديًّا.»
-
أقارب «وسرحات» من النساء: وهنا تتبع «وسرحات» والدته الملقبة «والدته ربة البيت،
ومغنية «آمون رع»، ملك الآلهة «حنت تاوي».١٧٢ وتحمل هذه السيدة في إحدى يديها ثلاث بطات،
وصاجات، وعقد منات من الطراز الجديد، يظهر فيه الرأس
الملكي، وكذلك يتدلى من ذراعها طاقة أزهار شكلت على هيئة
رمز يدل على الحياة ، وعلى طاقة أزهار في آن
واحد، ويأتي بعد ذلك صورة امرأة كتب عليها: «زوجه ربة
البيت ومغنية …» ويلفت النظر هنا أنها لم تلون باللون
الزاهر، وصاجاتها غير ظاهرة، وملابسها ليست منمقة مثل
سالفتها.
وبعد ذلك نصل إلى أربعة مناظر صغيرة ذات طابع مختلف، في كل منها المتوفى وزوجه قد جلسا إلى مائدة قربان على اليمين، وعلى اليسار كاهن يطهر القربان بالبخور والماء، وكذلك نرى أربع نسوة كن يقمن بدور النائحات على المتوفى؛ مما لا يتفق مع العقيدة الصحيحة، وفي ثلاثة من هذه المناظر نعرف أن الرجل وزوجه هما «وسرحات»، و«شبسوت»، ولكن نجد أن القربان في الصف الأسفل مقدم لروح موظف آخر يُدعى «نب محيت»، وزوجه التي لم يذكر اسمها. هذا إلى أن الكاهن الذي يقوم بخدمتهما قد كتب فوقه: «طهور لأوزير «تا» المرحوم»؛ وذلك يدل على ظهور أشخاص آخرين في القبر؛ مما يبرهن على أن نقشه قد تم بعد موت «وسرحات» على يد أشخاص معادين له، وهذا ما يفسر لنا انحطاط التلوين في الجزء الغربي من المقبرة (راجع p1. XVII)، هذا بالإضافة إلى المحو والإثبات الذين نشاهدهما كثيرًا في أجزاء مختلفة من القبر؛ مما يدل على أن النية كانت متجهة لحرمان «وسرحات» من قبره. ويظن الأثري «ديفز» أن الذين قاموا بهذه المؤامرة هم: أمه «توازرت»، وأولاد أخيها؛ وذلك لأنها قد تزوجت من «نب محيت» بعد موت والد «وسرحات».
ونشاهد في المنظر الأعلى من هذه المناظر الأربعة أن الشعيرة التي كانت تؤدى هي تقديم المياه والقربان، وتقديم حزمة بصل أخضر هُيئت على شكل إكليل، ويرى الدخان يتصاعد من القربان كأنما قد وضع عليه بخور.
- تقديم البصل: ويلاحظ في هذا العصر تقديم البصل قربانًا في حالات كثيرة؛ وذلك لما له من مفعول قوي في إنعاش جسم المتوفى، وإعادة حواسه.١٧٣ أما المنظر الثاني فقد نُقش عليه صيغة القربان المعروفة التي كانت تُتلى عند تقديم كل أنواع الطعام للمتوفى.
- المنظر الثالث: والمنظر الثالث له أهمية كبرى؛ إذ يمثل لنا عملية الإضاءة للمتوفى، وهي تختلف هنا عن عملية الإضاءة المعتادة التي كانت تنحصر في وضع الشريط على الدهن الذي يشعل فيه النار، فإنها كانت توضع على الأرض، ولا تُحمل على اليد، وتتألف من ثلاثة أشرطة ملفوفة كالحبل، ومربوطة من الوسط. والظاهر أن كل خيط من هذه الخيوط الثلاثة قد أُشعل على حدة، وبين هذه المشاعل شموع من نوع مختلف جدًّا، وهي التي تصور كثيرًا في مقابر هذا العصر، ويخرج اللهيب من قمتها، وتشبه المشاعل ذات الخيوط الثلاثة التي ذكرناها الآن المشاعل التي تستعمل في الأرياف الآن في الأفراح.
- الجدار الجنوبي للجهة الشرقية PL. XL: وعلى الجدار المقابل نشاهد عبادة «أوزير»، وقضاة محكمته، وكذلك عبادة الإله «منتو»، وهو الذي كانت والدة «وسرحات» ضمن موظفي معبده، والصورة السفلى تؤلف جزءًا من مناظر المحافل المرسومة التي على الجدار الذي بحثنا مناظره الآن. والإله الذي يتقبل القربان الآن هو الإله «منتو»، ويمثل هنا برأس صقر وجسم إنسان، وهذا الإله القديم الذي أخرج من «طيبة» قد اتخذ مقره في بلدة «أرمنت»، وأخذ يناهض الإله «آمون» من مقره هذا، والإلهة التي تتبعه هي الإلهة «مرت سجر» سيدة الغرب، و… بيت التحنيط، وهذه الإلهة بوصفها رفيقة آلهة الموتى — واسمها يعني محبوبة القاهر — كان عامة الشعب يقدرونها كثيرًا في «طيبة». وفي المنظر نشاهد «وسرحات» يطهر الطعام الذي أمام الإله «منتو» يصب زيت بخور أحمر بين القرابين، ويتبعه كاهنان يلبسان نفس الملابس التي كان يرتديها، ويحملان نفس الوظيفة التي كان يحملها، ثم يأتي بعد ذلك ثلاث سيدات يحتمل أنهن زوجاتهم، وأحد هؤلاء الكهنة يسمى «عاخبر كارع سنب»، وسنصادفه فيما بعد. والظاهر أنه كان ضمن الكهنة المرصودين لخدمة «تحتمس الأول». أما الكاهن الثاني فهو «نب محيت» الذي شاهدنا أنه قد حشر نفسه في المناظر السالفة الخاصة ﺑ «وسرحات» على غير استحياء، والكتابة التي عليه، وكذلك التي على «شبسوت» زوجة «وسرحات»: «ربة البيت ومحبوبة «حتحور» سيدة السماء وربة الأرض» أصلية. والسيدة التي تأتي بعد ذلك في الصورة قد كتب عليها: «زوجه وموضع حبه.» وعلى الرغم من أن المنظر هنا يدل على ذلك، فإن اسمها قد محي؛ والسيدة الأخيرة في المنظر قد محي اسمها ولقبها معًا (راجع Pl. XII)، ولا يسع الإنسان أمام كل هذه الألغاز، وهذا المحو والإثبات إلا الحيرة والدهشة من أمر هذه الأسرة.
- الصف الأعلى «أوزير القاضي»: نشاهد في هذا المنظر الإله «أوزير» جالسًا في جوسقه، ومعه قضاة محكمته، فمنهم «تحوت» سيد «الأشمونين»، والكاتب العادل لجماعة الآلهة، «وأنوبيس» الذي يشرف في المحراب المقدس على خدمة الإله الأكبر رب الأبدية، وبارئ السموات والأرض، ويتقمص «تحوت» صورة القمر في تمامه، وفي بدوره معًا، وهو الذي ينظم بعلمه حركاتها، ويدونها بالدواة التي يحملها، ثم يشاهد «وسرحات» جالسًا في النهاية الأخرى من المنظر كأنه لم يجسر أن يجلس بجوار الآلهة إلا بعد أن يطهر.
- تطهير «وسرحات»: بعد ذلك نشاهد «وسرحات» راكعًا على قاعدة ضامًّا إلى صدره جُعل القلب، وهو الذي كانت تُنقش عليه صيغة سحرية حتى لا يشهد على صاحبه يوم القيامة، بل يكون في جانبه، وحول «وسرحات» ثمانية من الكهنة في يد كل منهم إبريق لتطهيره. ويدل المتن التابع لهذا المشهد على أن أصدقاءه قد خانوه؛ ذلك لأن المتن الذي كان يتلوه الكهنة في أثناء التطهير لم يكن ﻟ «أوزير وسرحات»، بل نجد اسمه قد مُحي ووُضع مكانه اسمان آخران وهما: ««عاخبر كارع سنب»، وابنه …» على طبقة من الملاط وُضعت فوق اسم «وسرحات». ومتن الطهور هو: «طهر طهر لأجل أوزير «وسرحات» المبرأ، والضامن لعزلة شريفة في سلام.»
-
صلوات «وسرحات» لقضاته: وبعد أن أتم «وسرحات» طهوره جلس أمام «أوزير»، وأمامه
مائدة قربان، وكان قرير العين مطمئنًا، والظاهر أن تقاه
كان أحسن حالًا من كلامه؛ لأن لغة صلاته كانت ركيكة؛ إذ
يقول ما قاله «أوزير» لأجل روح الكاهن الأول لروح الملك
«تحتمس الأول» «وسرحات» والمنتصر، يقول: «الخضوع لك يا رب
الأبدية وللأمراء أصحاب الأبدية السرمدية ليمنحوا حياة
سعيدة في مصاحبة روحك بعد شيخوخة، ودفن حسن في غربي «طيبة»
في مكان العدل (الجبانة) لروح الكاهن الأول «وسرحات».» وقد
كان الأجدر به ألا ينطق بالجملة الافتتاحية إذ ليس لها
معنى هنا.
وليس من الغريب أن يتلعثم في كلماته؛ فقد كان يجلس بين ثلاث مجاميع من الآلهة كل منها يتألف من ثمانية آلهة، وبإضافة اسم «أوزير» لمجموعتين منها يتألف تاسوعان، فالبيت الذي كان فيه التاسوع الأول في المنظر يحتوي على «أوزير» رئيس آلهة السماء الشرقية، ورب الأبدية وكل الآلهة الذين يأوون إلى الجبانة، وكل أرباب الأبدية في حضرة «وننفر»، وفي المجموعة الثانية نجد «أوزير» يشرف على مجاميع آلهة جنوبي وشمالي وغربي السماء. أما مجموعة الآلهة الثمانية الأخرى فلم يعرف منها «وسرحات» إلا الآلهة الأربعة الذين يحرسون أحشاء المتوفى (راجع p1. XVII a).
-
الجدار الشرقي: كرم الإلهة «نوت» راجع P.
LIX: يعد تلوين هذا المنظر ورسمه على ما يظن أحسن ما أخرجته
يد «المفتن» في عهد الرعامسة. حقًّا إن الاستقبال الكريم
الذي استقبلت به الإلهة «نوت» إلهة الجميزة، موضوع عادي
جدًّا في مناظر الأسرة الثامنة عشرة، غير أنه كان يُرسم
عادة بصورة مصغرة؛ حيث نشاهد الإلهة تطلع علينا من شجرة
الجميزة، غير أن المفتن في المنظر الذي أمامنا قد رسم
الصورة بحجم كبير؛ لما في ذلك من ذوق حسن، يضاف إلى ذلك
أنه راعى أن الفائدة البشرية لا بد أن تتغلب على شخصية هذه
الإلهة الخاملة الذكر؛ ولذلك رأى أن الشجرة التي يجلس تحت
ظلالها ضيفانها لا بد أن تكون ظلًّا ظليلًا لهم لا مأوى
لها، هذا فضلًا عن أنه قد استعمل في الرقعة التي رسم عليها
صورته اللون الأصفر؛ وبذلك أضفى على ورق الشجرة الخفيف
متانة وبهجة.
وتحت ظل هذه الشجرة جلس «وسرحات» في ثوب عيد، وعلى رأسه تاج يجوز أنه صُنع من ورق النضار على شريط أحمر وعريض مشغول بالخرز، وفوق ذلك لبس مخروط العيد، وهو عبارة عن كتلة من العطور توضع فوق قمة الرأس لتضوع منها الرائحة الذكية، والظاهر أنه في هذا الوقت كان هذا المخروط يوضع لمجرد الرمز لذلك وحسب. ويتقبل «وسرحات» الماء في قدح مزخرف تصبه له الإلهة «نوت»، كما أنه كان يقطف بيده الأخرى ثمرة الجميز من الشجرة بنفسه، وقد جلست بجانبه كل من والدته وزوجه على كرسي، وكانتا تتقبلان كذلك الماء السماوي من الإلهة «نوت».
وقد كُتب اسم كل منهما على ساعدها «زوجه ربة البيت، ومغنية آمون «حتشبسوت»؛ وأمه مغنية الإله «منتو توازرت».» والواقع أن جمال وجهيهما الطبعي قد أضفى على المنظر بهاء ورونقًا؛ إذ نشاهد «حتشبسوت» بلونها الأسمر الجذاب «وتوازرت» أمه بلونها الأسمر الفاتح يظهران بمظهر أنيق. وبجانب هذا نشاهد كلًّا من روحي «وسرحات» وزوجه قد رسم بصورة طائر وجسم إنسان، وهو يشرب بحفنته من بركة، في حين أن الإلهة «نوت» نفسها قد رُسمت خارج الشجرة على غير المألوف واقفة، وعلى رأسها شجرة، وتحمل في يدها إناء.
- إدخال التظليل في التصوير: أما الظاهرة الغريبة الأخرى التي نشاهدها في هذه الصورة للمرة الأولى في تاريخ الفن المصري فهي استعمال التظليل، مع أن الأدلة على ذلك قليلة؛ إذ قد مثل هنا التظليل بتغميق لون خدود زوجتي «وسرحات»، وكذلك تحت الذقن، وبين الشفتين، وتحت كعب «حتشبسوت»، ثم بدرجة خفيفة تحت الحاجب. وقد يعد البعض ذلك مجرد إبراز موضعي اللون لا تظليلًا؛ وبذلك يُحرم الرسام المصري كشفه كيفية تصوير الأشياء بالنور والظل. غير أن ما نشاهده في مقبرة الملكة «نفرتاري» (زوج «رعمسيس الثاني») من تقدم في استعمال الظلال، كما يشاهَد ذلك على بشرة الملكة الوردية لدليل ناطق على أنه فن مقصود، وإن كان ذلك لم يستعمل على بشرة الآلهة والإلهات. ولا نزاع في أن المفتن قد لحظ الدور الذي يلعبه كل من النور والظل على هذه الصور التي كان يرسمها، ثم استعمله ثانية بدوره إلى حد ما، وإن لم يكن بدرجة شيقة.
- خطاب الإلهة نوت: والنقوش التي نُقشت فوق رأس الإلهة «نوت» قد هُشمت، ولكن يمكن إصلاحها من نقوش أخرى مماثلة، وهي: «خطاب «نوت» الواحدة العظيمة التي تقوم بالمعجزات باسمها الجميزة، لقد منحتك هذا الماء السائغ لأجل أن ينعش قلبك به، هذا الماء الذي يأتي من البركة في الجبانة التي في غربي «طيبة»، وأنك تسلمتِ طعامًا لذيذًا يخرج من أعضائي، وطائر روحك يجثم في ظلي، ويشرب ماء بقدر ما يحب قلبه.»
- المنظر الثانوي: أما المنظر الثانوي في هذه الصورة فيمثل رحلة المتوفى إلى «العرابة»، والعودة منها (راجع الجزء الثالث).
-
مناظر الجدار الغربي: «منظر تنزهه»: لقد لاحظنا أن فائدة «وسرحات» الشخصية في قصته ومصيره
كانت ظاهرة في الصورة العظيمة التي في الجزء الشرقي من
المقبرة، والظاهر أن نفس الدافع نجده في الصور التي على
الجزء الأسفل من الجدار المقابل (راجع p1.
XV)، غير أنه مما يؤسف له قد وجد في
حالة خربة، فعلى الجهة اليسرى نشاهد «وسرحات» وزوجه جالسين
معًا تحت تكعيبة كرمة، وقد نشرت شجرة عنب ظلالها اللطيفة
على عمدها، وتجلس «حتشبسوت» على كرسي خلف زوجها الذي يجلس
على كرسي بدون ظهر، ويشاهَد وهو يقدم قضيبًا لصيد السمك
لزوجه، فتتسلمه منه محبوبة «حتحور»، وفي الوقت نفسه كانت
تقدم شيئًا لزوجها. ويلحظ هنا أن المفتن كان حرًّا في رسم
شجر العنب، ولكنه قد بالغ في زخرفتها، فنشاهد أن ورق العنب
كان حقيقيًّا، يضاف إلى ذلك أن المثَّال كان يُظهر ورقة
العنب الملفوفة عندما يرى ذلك ضروريًّا لإبراز صورته في
هيئة طبعية».
ويشاهَد كلب صيد «وسرحات» جالسًا تحت كرسيه، ومما يؤسف له أن باقي المنظر مهشم، ولكن كان بالقرب من الكرمة (التكعيبة) بِركة حُليت شواطئها بالأعشاب المزهرة.
-
الأسرة تتعبد للإله «منتو»: والمنظر الذي فوق السالف مهم لأهمية المتن المفسر له؛
لأن رسمه رخيص جدًّا لا يدل على أي فن، وهو يمثل عبادة إله
برأس صقر، ويحتمل أنه الإله «منتو»، ويتعبد إليه ثلاثة
رجال، أولهم يلبس حول رقبته خاتم الوزير، والاثنان الآخران
يلبس كل منهما فراء الكهانة، وقد كتب اسماهما على طبقة من
الطين خشنة الصنع، كان تحتها المتن الأصلي الذي أصبح مغطى،
والأسماء هي: «الأمير الوراثي، وعمدة المدينة، والوزير
«أمنحتب» ابنه، ومحبوبه الكاهن الأكبر لآمون «حبو سنب»،
ووالده — أي والد «وسرحات» — كاهن «آمون الأول» «خنسمحب»
(؟)، وابنه — أي نسله — الذي يخلد أسماءهم الكاهن الأكبر
لزوج «عاخبر كارع» «وسرحات» الذي يسمى كذلك «نفر
حبف».»
وقد فُسر هذا الاقتباس من تاريخ أسرة «وسرحات» بأنه قلب للحقائق مقصود، وأن الغرض منه أن يعطى الكاهن «وسرحات» أهمية لا يستحقها (راجع A. S., VIII, p. 258). ولكن التاريخ الشخصي للوزراء والكهنة الأول للإله آمون في مصر لا بد كان قد استعمل هنا فعلًا، ويمكن مراجعة هذا الموضوع والوقوف على كنهه من تاريخهم، ومما دون على قبر «حبو سنب» القريب من قبر «وسرحات» هذا. والغرض هنا ليس وضع تاريخ سلالة «وسرحات» أمامنا، ولكن إظهار ارتباط أسرته بالملك «عاخبر كارع» في أثناء حياته قبل خدمته وبعد مماته عندما أصبح إلهًا، وأن أفرادها كانوا يشغلون وظائف مدنية ودينية سامية خلال حكم أخلاف هذا الفرعون، والظاهر أن الحاجة كانت ملحة لإظهار ذلك في هذه الفترة لضمان تسلسل وراثة وظيفة «وسرحات» في أخلافه من بعده لإلهه هو، ويخيل إليَّ كثيرًا أن كتابة بعض عظماء رجال الأسرة هنا هو من عمل نفس اليد التي وضعت أسماء الأفراد الذين لا صلة لهم بالأسرة في أماكن أخرى من المقبرة؛ وذلك بقصد إظهار أن هذه الأسرة كانت منذ الأزمان القديمة هي مصدر الكهنة الأول للشعائر، وأنه كان منها الكهنة الأول ﻟ «آمون» والوزراء، وعلى حسب المصادر التاريخية نجد أن كل هؤلاء الأشخاص لهم وجود في التاريخ المصري، فنعلم أن «أمحتب» كان وزيرًا في عهد «تحتمس الأول»، و«حبوسنب» كان كذلك الوزير الأول، والكاهن الأول ﻟ «آمون» في عهد «حتشبسوت» (راجع مصر القديمة الجزء الرابع)، وقد ذكر لنا «حبو سنب» في نقوش قبره أن والده «حبو» كان يشغل وظيفة مرتل ثالث للإله «آمون»، غير أنه ليس لدينا أي برهان على أن «حبو» كان حتى ابن «أمحتب». وإذا فرضنا أن «ابن» هنا يعني «ابن ابنه»، فان العلاقة على أية حال تكون ممكنة، فقد وجد فعلًا وزير اسمه «حبو» (راجع Tomb. 66 & Daressy, Recueil de Cones funeraires No. 270). وقد دفن بالقرب من «حبو سنب»، غير أنه لا يمكننا أن نقدر أنه هو والد «حبو سنب»، هذا إذا فرضنا أن هذا اللقب كان قد اعترض عليه، وأنه مات بسرعة، وترك الوظيفة لابنه الذي لم يشغلها بدوره إلا مدة قصيرة؛ وذلك لأن الأخير لم يدَّعِ هذه الوظيفة لا لنفسه، ولا لوالده في قبره. ومن المحتمل إذن أن «حبو»، وابنه كانا قد تقلدا الوزارة في عهد «حتشبسوت» على غير إرادة الحزب المعارض لها في اعتلاء العرش؛ وأن كلًّا منهما قد دفع بحياته ثمنًا لذلك (راجع ما كُتب عن الوزير «وسر»، ووالده «عمثو» في مصر القديمة الجزء ٤)، وأنه لم يُعترف بواحد منهما وزيرًا بالحزب المنتصر فيما بعد.
وعلى أية حال، فالمرجح أن هذه القائمة قد بُنيت على تقاليد أسرية، وليس لها قيمة تاريخية على الأقل في نظرنا حتى الآن إلا إذا كشف ما يؤكدها.
- والد «وسرحات»: كان «أمحتب» — والد «وسرحات» كما يدَّعي النقش — مربي أولاد «تحتمس الأول»، وليس من المؤكد أنه كان «خنسم» … الكاهن الأول ﻟ «آمون»، وعلى ذلك فيكون هذا الرجل والد «وسرحات» الذي بوساطته يتصل بهؤلاء العظماء الغابرين، وعلى ذلك يكون زوج «توازرت»، وليس لدينا وثيقة تدل على حامل هذه الوظيفة في عهد «حور محب» (؟)، والواقع أن «وسرحات» قد أحيى أسماء أجداده ثانية بصورة ناقصة، وغير مرضية من الوجهة التاريخية كما ذكرنا.
- الجدار الشمالي، الحفل السنوي لدفن «تحتمس الأول»: والمنظر الذي على الجهة الغربية من الخلف «الشمال» (راجع p1. XVI) مقسم ثلاثة أقسام في ثلاثة صفوف، وليس من السهل علينا أن نحكم إذا كانت كلها تتحدث عن موضوع واحد، فالمناظر العلوية يحتمل أنها تمثل أمامنا الاحتفال بعيد ودفن الملك «تحتمس الأول» الذي كانت تمثل فيه الشعائر ثانية على الماء والأرض. وقد كان التمثال في هذه الحالة يحل محل المومية الموضوعة في تابوتها. فالمنظر السفلي خاص بعرض الأثاث الجنازي، غير أن دلائل الأحوال تُشعر بأنه كان أثاث «وسرحات»، وأن هذا العرض لا بد أن يكون متصلًا بما جاء على الجدار الجنوبي من الجهة الغربية (راجع p1. XIII).
- السفينة الجنازية: في وسط المنظر الأعلى نشاهد باب المعبد الذي دخل منه «وسرحات» توًّا إلى الردهة الداخلية أو المحراب ليتعبد للملك الذي أُخفي عن الأنظار بستائر مسبلة داخل المقصورة التي في سفينته، ويلبس الفرعون على رأسه الذي يحلي مقدمة السفينة ومؤخرتها التاج «آتف»، ويُحرق البخور أمامه في أطباق موضوعة على قواعد للقربان، ونشاهد من بينها طاقة يقدمها كاهن ﻟ «وسرحات» علامة على رضاء الملك المؤله، وكذلك يشاهَد صف من الخدم خارج الردهة يحضرون مؤنًا أخرى لأجل إقامة الشعائر.
- تمشية التمثال: وفي وسط الصف نجد تمثال الإله قد كُشف عنه غطاؤه، وأُلبس ملابس العيد الكاملة، ويجرُّه رجال على قاعدة تشبه الزحافة ليظهر للملأ كأنه يمشي فعلًا. وحبكًا لهذه الحيلة كان يمشي على جانبي التمثال مرتلان يظللان وجه الملك من أشعة الشمس، غير أن استعمال البخور يظهر الحقيقة. والتمثال لونه أسود؛ وذلك لأن تمثال الشعائر بلا شك في بادئ الأمر كان من الأبنوس. وكان في الحفل كذلك خمس نسوة يستقبلن ظهور الملك بعلامات الحزن، كما كن يفعلن لو كان المتوفى جديدًا، وكذلك نجد خمسة رجال يقودون الموكب، ويؤلفون جماعة من الموظفين لم يرتَّبوا على حسب مراكزهم، ويظهر أن أولهم — الذي كان يقف على حدة — أمير يُدعى على ما يظن «أحمس»، ويتبعه مشرف على الخزانة يسمى «نب محيت» (؟)، ومشرف … «أمنحتب»، ونائب الجيش (؟) «مام حكا»، وفرد آخر يُدعى «أمحتب» (؟)، وأمام الموكب بحيرة تحيطها حديقة. وهنا يبتدئ الجزء الثاني من منهج الاحتفال، فقد أنزل التمثال الملكي في قارب، ويقوم بخدمته كهنة فيه، على حين نشاهد ثلاثة رجال على الشاطئ يجرون القارب حول البحيرة، وفي خلال ذلك يقوم عوَّام بتطهير الطريق للقارب من الأعشاب التي تعترضه. وتشاهد جواسق بسيطة محاطة بعصي لراحة المتوفى في يوم دفنه، ونجدها منتشرة بين أشجار الحديقة.
- جهاز «وسرحات» الجنازي: وليس من الغريب أن نجد «وسرحات» — الذي كان يقرأ الصلاة مرارًا وتكرارًا لروح «تحتمس الأول» في معبده الجنازي — يعلق آماله على أن يُدفن دفنًا يتناسب مع دفن سيده الملك، ويمكننا أن نتصور «وسرحات» — الكاهن الأول للفرعون «تحتمس الأول» في معبد «خنمت عنخ» — جالسًا؛ لأن يده قد ظهرت ممتدة لتلمس أنواع الهدايا التي منها صدرية، ووجه مستعار من النسيج المقوى، وهما اللذان قد أهداهما إياه ابنه … الذي يخلد اسمه. ويشاهَد خلف هذا الابن مهدون آخرون يحملون قربانًا من الطعام وصفًا من الأثاث، ويشمل أطواقًا وأدوات جنازية، ومبخرة، وموقدًا، وإناء ماء القربان، وثلاثة وجوه مستعارة، وعدة أغطية مومية، وتوابيت، وتماثيل صغيرة، ومواد طعام أخرى.
- الجدار الجنوبي، الجانب الغربي: آمال المتوفى في الحياة الآخرة: والواقع أن المناظر التي على الجانب الغربي من الجدار الجنوبي (p1. XIII.) يمكن وصفها بأنها لوحة قبر مصورة تلخص في الجمل الثلاثة التالية: «كرَّمه الملك في الحياة الدنيا، وبكاه أصدقاؤه عند موته، ورحب به الآلهة في السماء.» ولا نزاع في أن المصري كان بعيدًا كل البعد عن النظر إلى الحياة بأنها وصمة ذات ألوان متعددة على ضياء الآخرة الأبيض، بل على العكس كان ينظر للحياة بأنها صورة من عالم الآخرة إلى حد ما، ذلك العالم الذي كان يرجو أن يكون وجه الخلاف بينه وبين عالم الدنيا هو أنه أقوى وأكثر تنوعًا، وإن كان بعض الأحيان ينساق للمخاوف التي كانت تمثل له الآخرة بأنها ليست إلا ظلًّا من الأرض أشد كآبة، وأكثر حلوكة. وليس من الغريب أن نجده ينتظر معاملة كريمة من ملك الأبدية لما أسداه من خدمات لمليكه؛ ولذلك نجد «وسرحات» يضع الهبات التي أعطاها إياه الفرعون عند طلبه للظهور أمام «أوزير» لتكون شاهدًا عدلًا على إخلاصه، ورضاء الملك الذي كان يعد ابن الإله عنه.
- مكافآته في الحياة: والهبات الملكية نجدها ممثلة في أسفل صف، وقد مثلت على وجه عام بصور الأشكال التي كانت في «تل العمارنة». وقد حُذف في المنظر هنا استقبال الملك الفعلي، وقد مثل بصورة مختصرة برسم القصر الذي يحتل وسط المنظر فحسب، والصورة تمثل واجهة قصر لا معبد، ومع ذلك نجد خلف هذه الواجهة تمثالين كل منهما في هيئة «أوزير»، يمثلان ملك مصر العليا، كما نشاهد لوحين للقربان بجانبيهما، وعلى مسافة بعيدة على اليمين مائدة قربان، والخدم يحضرون الطعام، أو يحضرون المؤن، وعلى اليسار «وسرحات» المقدم في القصر — أو الكاهن الأول في معبد الملك — يغادر المبنى الذي احتفل به فيه، وحوله الخدم، وطاقات الأزهار، وقد أثقل نحره بالقلائد من الذهب، كما حليت ذراعاه اللتان كان يرفعهما ليظهر ما أنعم به عليه من أساور أمام أصحابه. أما المجوهرات التي لم يمكنه لبسها فقد وُضعت على منضدة. وقد جاءت نساؤه ليرحبن به بالموسيقا والغناء؛ ولم ينسَ الفرعون زوجه «حتشبسوت»، فقد كان ضمن الهدايا التي نالها «وسرحات» أقراط، وكذلك كان الخادم يحمل إليها شيئًا في يديه. وقد غنت النساء مديحًا لكرم الفرعون، وهاك النص: «إن ثروته عظيمة، ذلك الذي يعرف الهدايا التي أعطاها «آمون» ليسر قلبه، الفرعون، سيد مصر، وإنك ستمنح ثروة لأجيال لم تأتِ بعد يأيها الفرعون، يا سيد كل واحد منا.» وكانت عربة «وسرحات» في انتظاره، وكان سائسه يقف عند رأس خيله، أما السائق فكان يتحدث مع «البواب»، هذا إلى أن الاستعداد للوليمة كان قد تم؛ إذ نشاهد ثانية هدايا، ويحتمل أنها من مائدة الفرعون قد صُفت على الموائد.
- تكريمه في الممات: والصف الثاني يمثل أمامنا الموكب الجنازي، وهو ذاهب نحو مقر المتوفى الأخير في الغرب؛ فيأتي أولًا القارب النموذجي، وفيه المحراب المزخرف الذي وُضع فيه التابوت، ويجر القارب على زحافة ثلاث بقرات، ويشاهد طاقات عظيمة من الأزهار على هيئة عمد — مما يذكرنا أن العمود المصري لا يخرج عن كونه طاقة أزهار بسيطة أو مركبة — منصوبة في أركان القارب الأربعة، ومتصل بعضها ببعض بأكاليل نضرة، وبجانب الطريق التي يسير فيها الموكب أواني ماء محلاة بأزهار، وقد حلت محل الجواسق التي تكلمنا عنها فيما سبق (p1. XVI.)، ويسير خلف التابوت مشيعون ثلاثة، وقد وضعوا أيديهم على أفواههم رمزًا للسكوت الرهيب، أو خوفًا من إزعاج قداسة الاحتفال بالمتوفى. والأشخاص الثلاثة الأوَل قد عُرفت شخصياتهم؛ وهم: الكاهنان المطهران، و«وسربحتي»، و«أمنحتب»، ثم المشرف على مصانع «آمون» «نب موسى». والثلاثة الباقون هم: الكاهنان المطهران «نفر حبف»، و«نبسني»، وكاتب خزانة الإله «تحوت». أما الثلاثة الأخيرون فقد وُضعوا سويًّا، ولكن لم يمكن قراءة لقبهم. والأنشودة الجنازية المحزنة التي كانوا يرتلونها هي: «يا «وسرحات» يا رئيس الكهنة في معبد «خنمت عنخ» الذي تجدد حياته، يا «وسرحات» يأيها الكاهن الأكبر لروح «تحتمس الأول».» ويشاهد رجلان يمشيان بجانب البقرات، حاملين صناديق فيها جهاز الدفن ومراوح. والواقع أن هذه الهبات كانت قليلة بالنسبة للعطايا التي كانت تقدَّم عادة في العصور السالفة، ولكن يجب أن نضيف إلى هذه الهدايا التي ذكرناها من قبل (p1. XVI).
- شعيرة الدفن: وقد قابل الموكب طائفة من النساء النائحات، عددهن سبع، كن ينثرن التراب على رءوسهن بسخاء، حتى أن أثره الأخير كان يُرى عليهن من الرأس إلى الكعب، وقد رُسمن بصورة قبيحة، ويشاهد كذلك امرأتان — هما بلا شك أم «وسرحات» وزوجه، وقد التفتتا إلى التابوتين المنصوبين أمام القبر — التابوت الثاني لزوجه باعتبار ما سيكون — في حين أن كاهنًا مرتلًا كان يقرأ صيغة القربان، وآخر يقوم بأداء الشعيرة، وأمامهم مائدة تحتوي طعامًا، وستة عشر إناء لصب الماء المطلوب، والستة عشر هذه كانت لعملية التطهير أربع مرات.
- الترحاب بالكاهن «وسرحات» في الغرب: ويشاهد في الصورة أنه كان لا يفصل بين الحياة وبين الموت إلا طاقة أزهار وضعت خلف التابوتين؛ وذلك لأنه يوجد على الجانب الآخر المتوفى، وقد مُنح قوة الحياة المجددة، ترحب به «حتحور» ربة الغرب، وهي واقفة أمام بناء غريب الشكل لا بد أنه يمثل القبر، وإن كان على النقيض من الضريح الذي يوجد فيه المتوفى. وعلى أية حال، فإنه يشبه كثيرًا منظرًا جانبيًّا لهرم مقابر عهد الرعامسة في «ذراع أبو النجا»، وتتمثل فيه الخصائص البارزة لمعبد «منتوحتب»١٧٤ في الدير البحري الذي كان يحتوي على محراب «حتحور»، وكان النموذج على ما أعتقد للقبر الهرمي الشكل. ومن الجائز أنه لم يكن واضحًا لمصممه، وكذلك لنا، إذا كان هذا البناء يمثل المعبد الذي تسكن فيه «حتحور»، أو إذا كان القبر المثالي الذي لا يوجد بينه وبين قبر «وسرحات»، ولا الأغلبية العظمى من مقابر «طيبة» أي شبه قط، وقمة الهرم هنا قد لونت بالأسود كأنه مصنوع من البازلت، ومنحدراته قد كُللت بأكاليل على حسب خيال المفتن.
-
سعادة «وسرحات» الأبدية قد عُرضت للخطر على يد مغتصب: تدل شواهد الأحوال على أن رجال الكهانة قد نمت في نفوسهم
هبة النفاق إلى درجة عظيمة؛ إذ نجد أن ما بذله «وسرحات»
للحصول على سعادة أبدية لروحه في عالم الآخرة قد مُحي
خيانة في آخر لحظة؛ وذلك لأن اسم الرجل الذي قبلته الآلهة
في عالم الغرب قد تغير بالحيلة المألوفة في كل عهد من عهود
التاريخ المصري، وتنحصر في تغطية الاسم الأصلي بملاط من
الجص، وكتابة اسم الشخص المراد إحلاله محله بالمداد، وهنا
نجد أنه قد كُتب بدلًا من «وسرحات» اسم كاهن آخر يُدعى
«أمنموسي» (وهو الخامس في عداد الكهنة الأول لعبادة «تحتمس
الأول»، وقد أراد بذلك أن يغتصب ما للكاهن «وسرحات» من
حقوق في عالم الآخرة أمام الإله «أوزير» المنتقم من
الظالم، وهذا الكاهن معروف لدينا (راجع
Daressy Cones Funeraires No.
93).
والواقع أن عمل «أمنموسي» لا يدل على الحقد، بل على الدناءة، ومع ذلك لم تكن حالة «وسرحات» موئسة؛ لأنه كان عليه أن يحصل كذلك على جواز مرور لأجل أن يدخل في مملكة «أوزير» الواقعة فيما وراء القبر.
-
الحساب الأخير: والصورة العلوية (p1.
XI.) يظهر فيها «أنوبيس» يقود
«وسرحات» وزوجه إلى قاعة الحساب، وهنا نجد كاتب الإلهة
«تحوت»، والإلهة «ماعت» ربة العدالة يشرفان على الميزان
الذي كان على خلاف المعتاد يوزن فيه المتوفى في كفة والقلب
في الكفة الأخرى؛ وذلك بدلًا من وزن القلب قبالة العدالة
كالمعتاد، وقد ظن البعض أن الفكرة المليئة بالمعاني التي
تتجلى في محاسبة الإنسان بضميره هي فكرة لم تنضج بعد في
الأخلاق البدائية، وأنه لا بد من وجود خطأ هنا من الرسام
(راجع Davies. Ibid. p. 28. & Note.
1). وقد فاتهم أن هذا المنظر ليس
الوحيد في بابه، بل وجد له ما يشابهه، والواقع إذن هو أن
هذا العصر كان عصر التنسك الشخصي، ومحاسبة الإنسان ضميره،
كما فصلنا القول في ذلك في مكانه، وقد جاء ذلك عن طريق
تأثير عبادة «إخناتون».
وبجانب الميزان يُرى مارد ملتهم برأس تمساح، ومقدمتي كلب، ومؤخرتي فرس البحر رابض ينتظر نتيجة الميزان، ولكن كما جرت العادة تتعادل الكفتان؛ وبذلك ينجو «وسرحات» من فكي هذا الوحش المفترس، ومن ثم نراه غير مكترث بمصير زوجه راكعًا بوصفه روحًا مبرأة أمام عرش «أوزير»، وهذا الإله في محرابه تحيطه إلهة الغرب بذراعيها وجناحيها ذوي الريش، وهذه طريقة جديدة لتحل مكان الأيدي التي كانت تتدلى من قرص الشمس في عهد «إخناتون».
وبعد أن اجتاز «وسرحات» عقبة الميزان الإلهي أصبح ضمن أهل الغرب (راجع P1. XIV)، وقد رحب به إلهة أهل الغرب عندما ركع باحترام أمام التلال المقدسة؛ لأنه يعلم أنها هي المدخل الذي تمر منه الشمس المغربة في مملكتها الليلية، وهذه التلال قد مثلت ببساطة في أشكال بدائية، وقد لُونت بلون قرنفلي مائل للصفرة، ومن المدهش أن هذا هو نفس اللون الذي تُصبغ به التلال المصرية عند الغروب، وتشترك في هذا التعبد أرواح «نخن»، وأرواح «بوتو» (الملوك الذين تُوفوا)، وكذلك كانت تشترك١٧٥ القردة التي قد لُونت بلون باهت لدرجة أنها تظهر كعفاريت الجن، في حين أن صورة أرواح «نخن»، و«بوتو» كانت ألوانها ظاهرة، وتتقبل إلهة الغرب الطارق الجديد بعلامة الترحاب المعروفة. -
اللوحة الجنازية: ويلحظ أن آخر شعائر لدفن المتوفى قد كررت على اللوحة
التي أقيمت في الردهة (راجع p1.
XIX)، ونشاهد عليها تابوت «وسرحات»
منفردًا، وتتبعه زوجه «حتشبسوت» وابناه، وكان يقوم
بالشعائر كاهنان، ويبكيه واحد أو اثنان من أقاربه، والمتن
التابع لذلك هو: «قربان يقدم ﻟ «آمون»، و«آتوم»، و«حور
اختي» و«جب»، و«أوزير» و«إزيس» سيدة الغرب، و«حتحور»
المشرفة على الجبانة، و«أنوبيس» المشرف على قاعة الإله
وجماعة الآلهة … وللآلهة والإلهات هناك، ولعظماء الجبانة،
ولمعبد الجنوب، ومعبد الشمال، ولسفينة الليل، ولسفينة
النهار، وللآلهة الذين في السماء والأرض؛ لأجل أن يمنحوا
مياهًا باردة (؟)، وعبير النسيم، وحتى لا تصد الروح أبدًا،
وحتى يُنادى اسمك، ويخرج في كل عيد على الدوام، وحتى
تستطيع أن ترى «رع» عند الفجر، وتتبع «سكار» رب «روستاو»،
ولتستطيع رؤية الإله على العرش، ولأجل أن يمنحك «رع» السفر
في سفينة الليل، ويستقبلك الغرب، وتصب ماء الطهور على
القربان، وتتسلم قربان الإله، ويعطيك «حعبي» (النيل) من كل
أنواع الطعام ألفًا، من الخبز، والجعة، والثيران، والطيور،
والخيط، والكتان، والشحم، والبخور، والخمر، واللبن،
والخضر، والأزهار العطرة … لأجل روح الكاهن الأول للملك
«تحتمس الأول»، «وسرحات» المنتصر. يقول: إن وظيفتي كانت
كاهنًا مطهرًا (؟) … محراب الإله الكاهن الأول … الذي
وضعته ربة البيت مغنية «منتو» رب «أرمنت» توازرت، وزوجه
ربة البيت «حتشبسوت»، وابنه «رع مويا»، وابنه «حوي» وابنه
…»
والنقوش التي على السقف تحتوي على صيغ دينية من الطراز المعتاد، وليس فيها من جديد.
هذه لمحة عن قبر هذا الكاهن ومحتوياته، وهي في الواقع تضع أمامنا صورة عن حياة القوم الدينية، وعقائدهم بالنسبة للآخرة، كما تمثل لنا صفحة من الأحقاد الشخصية، وبخاصة بين الكهنة أنفسهم، بل الكهنة الذين من أسرة واحدة، ومقدار عبثهم وغشهم، بل افترائهم، ونفاقهم حتى أمام الآلهة، هذا فضلًا عن افترائهم على التاريخ لبلوغ مآربهم الشخصية، على الرغم من إيقاظ الضمير في ذلك الوقت الذي مثل أمامنا في أجلِّ مظاهره وأرقاها؛ فقد انتزع الإنسان من نفسه في هذا العهد ضميره، وهو قلبه، وجعله في كفة، وهو في يوم الحساب ليلقى عقابه أو ثوابه.
راجع: Wresz Atlas II, pl. 47; Sander Hansen. Hist. Insch. Der. 19. Dy. I, p. II, 6 ff..
Legrain.Le Temple de Ptah Ris Anbou f dans Thebes A.s; III, p. 112,113.