المدنية
(١) علاقة مصر بأقاليم إمبراطوريتها في الشمال والجنوب
كان الصلح الذي عُقد بين مصر وبلاد «خيتا» آخر مظهر حقيقي لبسط نفوذها، وتوطيد سلطانها على الأقاليم الأسيوية التي تدين لمصر بالطاعة، وتؤدي لها ما عليها من جزية سنوية، ومنذ اللحظة التي وقَّع فيها «رعمسيس الثاني» شروط هذه المعاهدة التاريخية الخالدة في السنة الحادية والعشرين من حكمه، أخذ يحصر همه، ويركز نشاطه وقوته في تثبيت دعائم هذه الأقطار التي فُتحت بجيوش والده وجيوشه، كما أخذ في استغلالها والإفادة منها من كل الوجوه إلى أقصى حد ممكن مترسمًا في ذلك خطوات سلفه العظيم «أمنحتب الثالث».
والواقع أنه تعوزنا التفاصيل الأكيدة التي تستند إلى مصادر أصلية عن سير نظم الحكم وقوانينه (ماعت)، والذي لا شك فيه أن نظام الضرائب، ومراكز الأمراء التابعين للفرعون في هذه الأصقاع النائية قد استمر يجري على ما كان عليه من قبل في عهد أسلافه فراعنة الأسرة الثامنة عشرة. هذا إذا استثنينا التغيرات التي أحدثها «آي» و «حور محب» (راجع الجزء الخامس).
وقد ذكر لنا أحد الموظفين في خطاب حكومي يُنسب إلى عهد الفرعون «مرنبتاح» أنه كتب لرئيسه قائلًا: «إن بعض بدو (شاسو) «إدوم» قد سُمح لهم على حسب التعليمات التي لديه أن يجتازوا الحصن الذي في إقليم «سكوت» (تل المسخوطة) في «وادي طليمات» ليتاح لهم رعي ماشيتهم بالقرب من «بتوم» (بيت آتوم)». ومما يؤسف له أن البردية التي فيها هذا الخطاب قد وُجدت ممزقة؛ ولذلك لم يتسنَّ ترجمتها كلها على الوجه الأكمل، وهاك ما تبقى منها، وهو ما لخصناه:
أمر آخر يسر سيدي، لقد انتهينا من ملاحظة مرور قبائل «شاسو» التابعين «لأدوم» من حصن «مرنبتاح حتب حر ماعت» — له الحياة والفلاح والصحة — في «سكوت» نحو برك «بتوم» لأجل أن يطعموهم، ويطعموا قطعانهم في ضياع الفرعون — له الحياة والفلاح والصحة، وهو الشمس الطيبة لكل أرض … ولقد جعلتهم يحضرون …
ويلاحظ هنا أن اسمي المكانين قد أطلق عليهما اسم الملك الحاكم وقتئذ، والظاهر أن هذه كانت عادة متبعة نشاهدها كثيرًا، ولا بد أنهما كانا قبل ذلك يسميان باسم «رعمسيس الثاني» خلال حكمه، ثم غُيرا عند تولي ابنه الملك. وهذه الفقرة من الخطاب السالف تدل صراحة — كما لاحظ ذلك الأستاذ «جاردنر» — على أن هذين المكانين ليسا موحدين، بل يدلان على مكانين مختلفين؛ إذ يقول: إن «سكوت» (سكو) هو اسم قلعة على الحدود، ولا تزال جدرانها باقية إلى الآن في «تل المسخوطة»، وأن «بتوم» ليس اسمًا آخر لنفس المكان، بل هو مكان آخر يقع على مسافة قريبة نحو الداخل.
فأتى يوسف وأخبر فرعون، وقال: أبي، وإخوتي، وغنمهم، وبقرهم، وكل ما لهم جاءوا من أرض «كنعان»، وهوذا هم في أرض «جاسان»، وأخذ من جملة إخوته خمسة رجال، وأوقفهم أمام الفرعون، فقال فرعون لإخوته: ما صناعتكم؟ فقالوا لفرعون: عبيدك رعاة غنم، نحن وآباؤنا جميعًا، وقالوا لفرعون: جئنا لنتغرب في الأرض؛ إذ ليس لغنم عبيدك مرعى؛ لأن الجوع شديد في أرض «كنعان»، فالآن ليسكن عبيدك في أرض «جاسان» (جوشن).
فكلم فرعون «يوسف» قائلًا: أبوك وإخوتك جاءوا إليك، أرض مصر قدامك، في أفضل الأرض أسكن أباك، وإخوتك، ليسكنوا في أرض «جاسان»، وإن علمت أنه يوجد بينهم ذو قدرة فاجعلهم رؤساء مواشٍ على التي لي.
ثم أدخل «يوسف» «يعقوب» أباه وأوقفه أمام فرعون، وبارك «يعقوب» فرعون، فقال فرعون «ليعقوب»: كم هي أيام سني حياتك؟ فقال يعقوب لفرعون: أيام سني غربتي مائة وثلاثون سنة، قليلة وردية كانت أيام سني حياتي، ولم تبلغ إلى أيام سني حياة آبائي في أيام غربتهم، وبارك فرعون، وخرج من لدن فرعون.
فأسكن «يوسف» أباه وإخوته وأعطاهم مُلكًا في أرض مصر، في أفضل أرض في أرض «رعمسيس» كما أمر فرعون، وعال «يوسف» أباه وإخوته، وكل بيت أبيه بطعام على حسب الأولاد.
ومن الغريب المدهش حقًّا أنه لم يأتِ ذكر بلاد «بنت» فيما لدينا من الآثار حتى الآن، لا في عهد «سيتي الأول» أو «رعمسيس الثاني»، حتى في النقوش الفخرية المعتادة كالتي كان يدونها الفرعون لمجرد حب العظمة في عهد الأسرة الثامنة عشرة إلا نادرًا، وكذلك لم يأتِ ذكرها في قوائم الفتوح التقليدية مع الشعوب الأفريقية التي كان يدعي الفراعنة عادة أنهم قهروها وأصبحت تحت سلطانهم.
حقًّا كانت تقوم الرحلات التجارية في هذا العهد إلى البحر الأحمر، ولكنها لم تكن رحلات مباشرة، بل كان يتخللها محاط، وقد كان المصريون يعرفون ويقدرون من قديم الزمان فوائد البخور والبلسم، اللذين يُجلبان من «بنت»، وكذلك كانوا يعلمون أن البحر العظيم الذي يسبح فيه الإنسان إلى «بنت» يصل حتى مصب نهر «الفرات»، وإن كانت السياحة بحرًا لم تمتد إلى هناك قط. وفي ورقة هارس الكبرى التي كُتبت في عهد «رعمسيس الثالث» (ص٧٧ سطر ٩) نجد عند الكلام على الرحلة إلى بلاد «بنت» أنه سمي نهر الفرات «البحر العظيم ذا الماء المقلوب»؛ أي الذي يجرى على عكس نهر النيل، ولكن الجزية التي كانت تأتي من «بنت» حتى عهد «حور محب» كانت لا ترد في تلك الفترة التي نحن بصددها حتى أعادها «رعمسيس الثالث» بإرساله بعثة إلى هناك، كما سنرى بعد.
(١-١) العناصر الأجنبية في مصر
وفي أثناء هذه الفترة من تاريخ البلاد نلحظ أن عناصر أجنبية كانت تفد على مصر بلا انقطاع، وتقيم فيها بوصفهم أسرى حروب يستخدمون عبيدًا للآلهة وللجنود ولعِلية القوم، أو بوصفهم من التجار والجنود المرتزقة الذين كانوا يعملون في الجيش المصري بجانب الجنود الوطنيين، وكذلك كان يفد على البلاد طوائف من البدو استوطنوا «وادي طليمات»، وكل هؤلاء كانت تزخر بهم المدن المصرية الكبيرة، ففي مدينة «بررعمسيس» عاصمة الملك (قنتير الحالية)، وفي «منف» وغيرهما من المدن قد أنشئت أحياء كاملة لأولئك المهاجرين من الكنعانيين، والفينيقيين الذين جاءوا إلى مصر، مصطحبين معهم آلهتهم، وأربابهم المحليين. من أجل ذلك نجد أن الجنس المصري قد اعتراه تغيرًا ماديًّا باختلاط الدم الأجنبي به، وقد كان هذا الاختلاط لا ينقطع وفوده من الجنوب (أهل النوبة والسودان). ولا أدل على ذلك من أن هذا الاختلاط قد ظهر في الدم الملكي نفسه، وهذا ما نلحظه في مومية الملك «سيتي الأول» التي تدل على وجود دم نوبي في عروقه، ونلحظ فضلًا عن ذلك أنه في العهد الذي تلا عصر «رعمسيس الثاني» قد اختلط الدم المصري بدم الأقوام الذين كانوا يسكنون غربي مصر، وهم اللوبيون، كما نجد نفس الظاهرة شائعة من جهة الحدود الشرقية؛ فقد اختلط الدم المصري بالدم السامى؛ ولكن على الرغم من كل هذا الاختلاط في الدم نجد أن المصري من جهة أخرى قد تغلب عقليًّا وخلقيًّا بما له من ثقافة قديمة، ومدنية عريقة وطيدة الأركان ثابتة الدعائم على هؤلاء النزلاء من كل الجهات، وصبغهم بثقافته، وجعلهم جزءًا منه، ولكن نلحظ من جهة أخرى في هذه الثقافة أن تيارًا أجنبيًّا لا ينقطع قد ظهر في المنتجات الصناعية التي كانت تأتي من هذه البلاد الأجنبية، وكان غريبًا عنها، وبخاصة من العالم السامي.
والواقع أن بلاد «فينيقية»، وبلاد «فلسطين» لم يكن لهما فن أو صناعات خاصة بهما، ولكن كل صناعاتهما كانت تنحصر في مصنوعات عادية آلية ليست من مبتكرات البلاد؛ ولذلك لم تترك صناعة هذين القطرين أثرًا في الصناعة المصرية، كالذي تركته الصناعات المبتكرة الكريتية فيها خلال الأسرة الثامنة عشرة، غير أن هذه الأصقاع كان لها أثرها في مصر من ناحية أخرى، وهي اللغة؛ إذ نجد أن الكلمات الكنعانية كانت تتدفق بمقدار عظيم على اللغة المصرية، ولم يكن ذلك قاصرًا على أسماء السلع والبضائع، والأسلحة والخيل، والعربات، وأدوات الحرب من بلط ودروع، بل تخطى ذلك إلى أن الألفاظ السامية التي تستعمل في أداء التحية مثل كلمة «السلام»، وكذلك الألفاظ الدالة على الشباب، هذا إلى حشر العبارات المنمقة من اللغات الأجنبية التي تدل على حسن الذوق، والثقافة العالية في اللغة المصرية. كما نلحظ في أيامنا هذه في استعمال الطبقة الراقية للألفاظ الأجنبية للتعبير عن أشياء خاصة، وإقحامها في لغتنا. وقد ضرب لنا كاتب «ورقة أنسطاسي» الأولى التي تنتسب إلى عهد «رعمسيس الثاني» الأمثلة الكثيرة في هذا الصدد.
والواقع أن ما جاء في هذه الورقة يكشف لنا عن صفحة جديدة في تطور الثقافة المصرية، وصلتها بالبلاد المجاورة، وبخاصة «سوريا» و«فلسطين»، وسنورد ملخصها عند الكلام على الأدب المصري.
أما الإله «بعل» السامي الأصل فكان موحدًا عند المصريين مع الإله «ست» الذي كان يعد إله البلاد الأجنبية، وهو الذي عبده الهكسوس عندما احتلوا مصر، ثم هوت عبادته للحضيض بعد طرد الهكسوس، ولكن لم تلبث أن أحييت عبادته ثانية في عهد الرعامسة، كما فصلنا القول في ذلك (راجع الجزء الرابع)، ولدينا كذلك اسم إلهة تُدعى «بعلات سابون» كانت تُعبد في «منف»، ولا بد أنها كانت زوج «بعل».
(١-٢) التجارة مع آسيا الصغرى
(٢) الإدارة الحكومية في عهد «رعمسيس»
إن ما لدينا من وثائق أصلية لا تشعرنا بأن «رعمسيس الثاني» قد غير شيئًا يلفت النظر في نظم البلاد وقوانينها التي كانت تمثل في الظاهر النظام الأولي الذي يعبر عنه بكلمة «ماعت»، وتشمل في تضاعيفها العدل، والحق، والصدق، وحسن النظام، وأداء الواجب؛ والواقع أن النظام البيرقراطي الذي كانت تسير عليه البلاد في عهد الأسرة الثامنة عشرة لم يعتوره تغير ما يذكر في أساسه على الرغم من تسلط طبقة الجنود على البلاد في نهاية الأسرة الثامنة عشرة، ونزعهم السلطة من طبقة الموظفين الذين كانوا يسيطرون على كل أعمال الحكومة. والظاهر أنها كانت سحابة صيف لم تلبث أن تقشعت فعادت الأمور إلى مجاريها الأصلية، ولا شك في أن أساس نظام الحكم كان قوامه تعليم الكتابة والقراءة لإخراج كتَّاب يشغلون الوظائف الحكومية؛ وقد كانت هذه هي السبيل الوحيدة لفتح الباب أمام الذين يريدون علوًّا في الوظائف الحكومية. وقد سارت هذه الإدارة في طريقها القديمة بما فيها من محاسن ومساوئ على الرغم من مناهضة رجال الجيش هذا النظام مدة قصيرة كما ذكرنا كانوا في خلالها هم يقبضون على زمام الأمور جملة، غير أننا بجانب هذا نرى أن بعض المراكز العالية كان يشغلها دائمًا كثير من الأفراد الذين كانت تتألف منهم بطانة الفرعون، وحاشية قصره مثل «ساقي الفرعون»، وغيره من الأشخاص المقرَّبين جدًّا لشخص الفرعون، وتلك علامة ظاهرة على أن المحسوبية في الحكم المطلق ليس في الإمكان تلافيها؛ فقد كانت هذه هي الحالة السائدة في عهد «تحتمس الثالث»، وغيره من ملوك الأسرة الثامنة عشرة كما أوضحنا ذلك في غير هذا المكان (راجع الجزء الخامس)، فقد وضعوا كثيرًا من المقرَّبين لديهم في الوظائف العالية، وهذا هو نفس المنهج الذي سلكه «رعمسيس الثاني»، وغيره من ملوك الأسرة التاسعة عشرة.
على أن الأمر لم يقتصر في عهد هذا الفرعون على تنصيب المقرَّبين منه في إدارة الحكم، بل خطى خطوة أخرى إلى الأمام؛ فعين بعض الأجانب في وظائف الدولة العالية، وفي استطاعتنا تمييز هؤلاء الموظفين بما يحملونه من أسماء سامية، والظاهر أن الجم الغفير منهم كانوا من طبقة الموالي، كما نجد ذلك فيما بعد شائعًا في تركيا، وفي مصر في عهد المماليك البرجية والبحرية.
(٢-١) عاصمة الملك
تحية أخرى لأستاذي أخبره فيها أنني وصلت «بررعمسيس» محبوب «آمون» (ليته يعيش سعيدًا وفي صحة)، وقد ألفيتها غاية في الازدهار. حقًّا إن موقعها جميل منقطع النظير، وهي شبيهة «بطيبة»، وقد أقامها «رع» نفسه. ومقر الملك تُحب الإقامة فيه؛ فحقوله مملوءة بكل شيء طريف، ومجهز بالأغذية الوفيرة يوميًّا، ومياهه الخلفية تزخر بالسمك، وبركه مزدحمة بالطيور، ومراعيه نضرة أعشابها.
أنت السفينة الرئيسية، والمقمعة التي تهشم، والسيف الذي يذبح سكان الصحراء، والسكين الطيعة، والذي نزل من السماء، والذي ولد في «هليوبوليس»، ومن كُتبت له الانتصارات في كل أرض! ما أسعد يومًا من أيام عصرك، وما أجمل صوتك عندما تتحدث، وأنت تشهد أنك قد شيدت «بررعمسيس-محبوب آمون»، والجبهة الأولى لكل أرض أجنبية، ونهاية مصر، والمدينة ذات الشرفات الجميلة، الساطعة بالقاعات من اللازورد والزمرد، ومسرح خيالتك، ومحاط مشاتك، ومرسى سفن جنودك، وهم يحضرون لك الجزية، المديح لك عندما تخرج بين فِرق رماتك ذوي النظرات المفترسة، والأصابع الملتهبة (حماسًا)، ومن يتقدمون عندما يرون الأمير واقفًا يحارب، وعندئذ لا تستطيع الخيالة أن تقف أمامه، وأنهم يخافون بطشك يا «بنر رع» محبوب «آمون»، وأنك ستبقى مثل بقاء الأبدية! وإن الأبدية ستمكث كما تمكث، وأنت ممكن في مكان والدك «رعي حور اختي».
وفي هذه المدينة كان يرابط جنود الفرعون، ومن بين هؤلاء حرس «شردانا»، وقد كان كل شباب المدينة يتدفق أمام جلالته كالسيل بملابس الأعياد، حاملين أغصان النصر في أيديهم في موكبه الفخم، منشدين الأناشيد الحماسية في أيام الأعياد عندما كان يسير في موكبه الحافل في هذه المدينة، أو عندما كان يخرج قاصدًا إلى «طيبة» العاصمة الدينية ليقدم ﻟ «آمون» الأسرى والغنائم الخاصة به.
(٢-٢) المدن الأخرى التي أقامها
وقد أقام «رعمسيس الثاني» غير مقر حكمه مدنًا أخرى جديدة في مختلف جهات القطر، وبخاصة في الدلتا، كما أضاف مباني جديدة في المدن القديمة، فقد أضاف كثيرًا في مباني مدينة «تانيس»، ومدن وادي «طليمات» السالفة الذكر، هذا إلى أنه قد استمر في إقامة العمائر في بلاد النوبة السفلية حتى الشلال الثالث إلى أن استكمل تشييدها. وفي الحق أقام «رعمسيس الثاني» في هذا الجزء من إمبراطوريته ما لا يقل عن خمسة معابد نحتها في الصخر، كما فصلنا القول في ذلك عند وصفنا كلًّا منها؛ وقد كان بطبيعة الحال من مستلزمات بقائها إقامة مساكن تابعة لها لتقوم على تعميرها، وأداء الشعائر المفروضة فيها، كما كانت توضع حاميات من الجنود للسهر على المحافظة عليها، كل ذلك كان مؤداه إنشاء بلدة بجوار كل معبد، نذكر منها «بيت الوالي» القريبة من «كلبشه»، و«جرف حسين»، و«السبوعة»، و«الدر»، و«بو سمبل». يضاف إلى ذلك معبد «اكشه» الصغير الحجم القائم بذاته بالقرب من مدينة «وادي حلفا». ومن الطريف أن «رعمسيس الثاني» كان يعبد في هذه المعابد بوصفه إله الجهة بجانب الآلهة «رع»، و«بتاح». ولا يفوتنا أن نذكر هنا المعابد التي أقامها فراعنة الأسرة الثامنة عشرة في النوبة، وبخاصة معابد «كلبشه»، و«أمدا»، ومعبد «بوهن» الواقع بالقرب من «وادي حلفا»، هذا بالإضافة إلى حصن «سمنه»، ومعبده الواقع عند الشلال الثاني، من كل هذا نعلم أن هذا الجزء من بلاد النوبة كان آهلًا بالسكان بقدر ما كانت تسمح به طبيعة هذا الإقليم من خصب.
وقد استغل «رعمسيس الثاني» مناجم «وادي علاقي» الغنية بالذهب، كما استغل مناجم شبه جزيرة سينا مما فصلنا فيه القول في مكانه.
(٣) إقامة المعابد، وما تستلزم من مصانع وأيدٍ عاملة
لقد شنَّ كل من «سيتي الأول» وابنه «رعمسيس الثاني» حروبًا طاحنة واسعة النطاق لها شهرة عظيمة في تاريخ الحروب العالمية، وكان الغرض منها إعادة الإمبراطورية المصرية في آسيا شمالًا، وفي بلاد السودان جنوبًا، وتمكين حدودها التي كانت عليها في عهد أباطرة الأسرة الثامنة عشرة الأماجد، غير أنهما لم يتمكنا من الوصول إلى هذا الغرض كاملًا غير منقوص، ولكن من جهة أخرى قد أفلح «رعمسيس الثاني» في إعادة ما كان لمصر من سؤدد ثقافي كرَّة أخرى؛ إذ إن الثقافة المصرية قد انتشرت وازدهرت بصورة بارزة حتى وصلت إلى أعلى درجة من السمو والرفعة في عهده، فحاولت أن تفوق ثقافة عهد «أمنحتب الثالث»، وكان من مظاهرها أن أصبحت الحكومة من جديد ثابتة الأركان، كما مكنت النظم العالمية التي كان يرغب الآلهة في نشرها في البلاد، ويعبر عنها بكلمة «ماعت» التي تدل على الحق والعدل والصدق، وهو النظام الذي وضعه والده «رع» عند بدء الخليقة، وسار عليه من أتى بعده من الملوك الذين ينسبون إليه (أولاد رع)، وبذلك أصبح من السهل تثمير موارد الدولة وأرزاقها إلى أقصى حد ممكن لتعظيم شأن الآلهة وأبنائهم الملوك الذين كان يربطهم بهم رباطًا لا انفصام له، وهو صلة الأبناء بالآباء، وقد كان جل همِّ «رعمسيس الثاني» أن يشيد لنفسه مجدًا مؤثلًا يفخر به بين أبناء إمبراطوريته مدة حياته، ويتحدث به أخلافه في الأزمان التالية.
والواقع أنه قد أُنشئت في عصر «رعمسيس الثاني» عمائر على نطاق ضخم لم يشهد العالم ما يماثله في اتساع رقعته وعظمته في كل أرجاء الوادي، فنعلم أنه في عهد «حور محب» قد بُدئ بوضع أساس قاعة العمد العظيمة القائمة للآن بمعبد الكرنك، واستمر في تنفيذ بنائها «رعمسيس الأول»، وفي عهد «سيتي الأول» بُنيت عمائر دينية في «منف»، و«هليوبوليس»، وغيرها من أمهات المدن في جهات القطر مثل معبد «أوزير» بالعرابة المدفونة، وكذلك شرع في إقامة معبده الجنازي في طيبة (معبد القرنة)، كما نحت قبره الضخم الذي يمتاز بفخامته، ودقة نقوشه في هذه الجهة أيضًا، فلما تولى بعده ابنه «رعمسيس الثاني» قام بإتمام كل هذه المباني التي بدأها والده، ثم شيد العمائر لنفسه ولآلهته في كل بلدة عظيمة في أنحاء الوادي على وجه التقريب من أول الدلتا شمالًا حتى الشلال الثاني جنوبًا، فنراه يقيم المعابد الجديدة من جهة، ويصلح المعابد التي كانت قد هُدمت مع الزيادة في رقعتها، ونقش اسمه عليه. وقد أسهبنا القول عن كل مبانيه في الدلتا، وبلاد النوبة في مكانه.
ويدل ما بقي لدينا حتى الآن من الآثار التي أقامها في «منف» و«هليوبوليس» — وهي التي لم يبقَ منها إلا دمن ضئيلة، على أنها كانت غاية في الفخامة والضخامة؛ أما مبانيه في «العرابة المدفونة» فلا يزال بعضها باقيًا؛ فقد أقام بجوار المعبد الفخم الذي رفع بنيانه والده وأتمه هو من بعده؛ معبدًا صغيرًا لإقامة الشعائر الجنازية الخاصة به في بلدة «أوزير» المقدسة؛ ومع صغره فإنه من آيات الفن والإبداع. وفي معبد الأقصر الذي أقامه «أمنحتب الثالث»، وأصلحه من بعده «توت عنخ آمون»، و«حور محب»، بني «رعمسيس الثاني» ردهة عظيمة، أقام أمامها بوابة هائلة لا تزال باقية حتى الآن، وقد اضطر لتنفيذ مشروعه في هذه الجهة إلى اغتصاب مقصورة صغيرة كان قد أقامها «تحتمس الثالث» العظيم.
وفي الكرنك أتم بعض مباني قاعة العمد العظيمة، كما أنهى كل نقوشها وزينتها، أما المشروع الضخم الذي بدأه على حسب أحدث البحوث «حور محب»، وهو إقامة معبد كامل من كل الوجوه للإله «آمون»، فلم يتم إنجاز الجزء الأمامي منه الذي كان يعد تتميمًا للبناء إلا في العصور التي أعقبت عصر «رعمسيس» بزمن طويل؛ أي في عهد الأسرة الثانية والعشرين، وذلك عندما أقام ملوك هذه الأسرة ردهة أمامية أمام قاعة العمد، وبوابة هذه الردهة بُدئ العمل فيها في عهد البطالمة، وقد اكتفى بذلك على ما يظهر، وأقيم أمام هذه البوابة الأخيرة طريق كباش تمثل الإله «آمون رع» في صورة «بولهول» وأيضًا برأس كبش، وتصل هذه الطريق إلى النيل القريب من المعبد.
(٣-١) الفكرة الدينية في أصل المعبد وتكوينه
والواقع أن العمد النباتية الشكل على الرغم من أن تفاصيل أجزائها تجعلها صالحة لتقوم بهذه الوظيفة لا تزال موضع نقاش — على أقل تقدير — عند رجال الفن المحدثين، ويتساءل الإنسان: أكان من المحتم أن تحوَّل البراعيم الغضة والأزهار اليانعة حتى تصير قادرة على حمل أثقال من الحجر، أم لا داعي إلى ذلك؟ ولكن المصريين في الأحوال القليلة التي استعملوا فيها، فيما بعد، ساق شجرة النخل بمثابة عمود نموذج في مبانيهم لم يجعلوا عوارض السقف ترتكز على سيقان العمد، بل وضعوها على تيجان العمد المؤلفة من الجريد؛ ومن أجل ذلك لم يقل استحساننا لها من حيث عدم ملاءمتها للقيام بوظيفتها، ومع ذلك فإنه من الأمور المدهشة أن هذا النوع من العمد لم يطغَ عليه نوع آخر من العمد النباتية. والنباتات المزهرة في كل مكان تقريبًا تبعث في النفس فكرة الفناء والذبول، وهذا ما حاول المصري إبعاده؛ ولذلك يجب أن تستنبط أن كلًّا من زهرة البشنين والبردي كان لهما روابط ذات طابع مختلف حدت بالمصري ألا يجعل طبعية هذه النباتات الفانية تأخذ المكان الأول في فكره.
والمفتاح لفهم العمد النباتية الشكل نجده في كيفية نظامها في المباني، والواقع أن ترتيب العمد في المباني المصرية ينحرف بصورة بارزة عن استعمالنا. حقًّا إن المصري كان ينسق عمده أحيانًا بطريقة تدعو إلى إعجابنا، وبخاصة ما نشاهده منها في البيوت الخاصة، وفي المقابر المنحوتة في الصخر، وما تزين به خارج المعابد، وحتى عندما كان يستعمل نماذج هذه العمد في قطع الفن الصغيرة مثل صنع يد صغيرة للمرآة في هيئة عمود من ساق البردي، أو البشنين فإنها كانت تظهر جميلة خلابة.
وإذا فرض علينا أن نتحدث عن العمد النباتية الشكل التي تعد أهم خواص الفن البنائي المصري، فإنا نفكر في الحال في تلك العمد المتراكمة في المعابد التي أقيمت في الألفين الأخيرين قبل الميلاد. والواقع أن الإنسان عندما يلقي نظرة على عمد أحد هذه المعابد يشعر بحرج في النفس من جرَّاء ضيق المسافات التي بين هذه العمد الضخمة التي تزدحم بها قاعة العمد، والطرقات الأخرى بطريقة لم تفسر حتى الآن تفسيرًا مرضيًا إذا نظرنا إلى الطول المحدود للأحجار التي كانت ترتكز على تلك الأعمدة، ولا نزاع في أن فنًّا حيًّا كالفن المصري لم يكن مقيدًا بقيود المواد التي يستعملها، بل على العكس كان ينتخب المواد التي تساعده على أن يمثل في أكمل صورة، وعلى ذلك يجب أن نسلم أن المصري لم يجد غضاضة في تكديس المعابد بالعمد، بل إن هذه الخاصية التي تمتاز بها معابدهم كان لها قيمة إيجابية في نظرهم. وفي الحق نجد أن المصريين في استعمالهم لهذه العمد التي هي من ابتكارهم، وهم الواضعون لفكرتها؛ كانوا منقادين بميول غريبة بالنسبة لنا لم تخطر على بال، مفتن عادي لا علم له بعقائد القوم وديانتهم، ويمكن الإنسان فهم هذه الميول فهمًا جيدًا عندما يفحص تأثير العمد في تصميم المعبد. والتصميم الأصلي للمعبد المصري منطقي، وسهل الفهم.
فأهم جزء في المعبد هو «قدس الأقداس»، وكانت فكرته أنه يعد بمثابة «التل الأزلي»؛ أي أول رقعة من أديم الأرض ظهرت من مياه العدم في يوم خلق العالم، ولما كانت الكائنات كلها قد ذرأت من هذه البقعة عدت مصدر قوة لا حد لها، صالحة لظهور الإله فيها.
ففي عمد المعبد المصنوعة من الحجر قد تغلب المصري على صفة الزوال بإقامتها من الحجر، وفي الوقت نفسه قد حفظت أهميتها الحقيقية، وهذه العمد كانت بمثابة إعلان في البراح الديني عن موقع المعبد، كما أن نظامها الذي يدل على تكتلها قد زاد في تأثيرها.
والواقع أن المعبد المصري كان محل قوة وعظمة؛ لأن الآلهة كانوا موجودين في كل شيء في الطبيعة على حسب الاعتقاد المصري، وعلى ذلك كان من الصعب وضعهم في مكان بعينه، وكأن المعبد إذا ألقى بتعويذة على مكان معلوم يمكن الاقتراب من الآلهة فيه، وهذا يفسر لنا الارتباك الذي نشاهده في المعابد المصرية الرئيسية مثل: معبد الكرنك، ومعبد الأقصر، وهو ذلك الارتباك الذي يصبح من المستحيل فهمه إذا نظرنا إلى هذه المعابد بوصفها عمائر فنية. وقد رأينا أن التصميم الأصلي للمعبد المصري بسيط ومنطقى، ولكن المعابد التي كانت تتمتع بأعظم نفوذ في عهد الدولة الحديثة كانت تظهر كأنها مبانٍ متراكمة على نظام منحرف عن تلك البساطة، فنرى فيه أن طريق المعبد من مدخله حتى حجرة قدس الأقداس قد زِيد في طولها بإضافة ردهات جديدة، وبوابات عظيمة في حكم ملوك متتالين، أو حتى في عهد الملك المؤسس الأول للمعبد.
والواقع أنه كانت تقام محاريب ثانوية في جوانب المعبد، أو في داخل المنطقة الحرام عندما كان يُزاد في رقعتها، وبذلك نفقد في هذه الوحدة البنائية المترامية الاتساع روح التناسب، والشعور بتناسق أصلي يضع حدودًا معينة للإضافات التي يمكن أن يقبلها التصميم الأصلي، ولكن النقوش التي على المباني الفرعونية تدل على أن المصري كان يشعر بأن أي إضافة في المعبد لم تكن مما يزيد في قدر بانيها وحسب، بل كانت فضلًا عن ذلك تعد ذات قيمة للمعبد؛ لأنه إذا كانت قوة «آمون» السامية قد عبر عنها بضخامة حجم معبد الكرنك المتناهية، فإن المعبد كذلك كان يكتسب قوة، وعلى ذلك فإن مجهودات الأجيال المتراكمة في هذا المعبد الهائل قد زادت في قوة التعويذة التي جعلت الإله غير المستقر في مكان، وهو الذي كان يمثل في الهواء والنور، ويسهل الاقتراب منه في الكرنك؛ أي الإله «آمون».
(٣-٢) نقوش «رعمسيس» وتماثيله في المعابد الأخرى
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الفرعون «رعمسيس الثاني» قد تسلط عليه الصلف، وركبه الغرور، وحب العظمة بدرجة بالغة؛ مما جعله لا يتورع عن نقش اسمه بطريقته المحببة إليه بحروف غائرة قبيحة، غاب عنا السبب في إغرامه بها في قاعة عمد «أمنحتب الثالث» بجانب النقوش والصور الفنية الرفيعة الأنيقة التي حلى بها الأخير هذه القاعة في معبد الأقصر، وبذلك شوَّه منظر هذا المبنى الممتاز، وألبسه صورة آية في القبح، وإن كان في الوقت نفسه قد أبرز لعين المفتن، بل لعين المتفرِّج العادي جمال نقوش «أمنحتب الثالث»؛ فبضدها تتميز الأشياء.
وقد كانت تلاصق هذه العمد دعامات مستطيلة الشكل عظيمة الحجم، تتركز عليها تماثيل للإله «أوزير»، أو للملك نفسه، ونخص بالذكر منها التماثيل الهائلة التي كانت تُنحت واقفة أو جالسة ﻟ «رعمسيس الثاني»، وقد ملأ بها معابده، ويلفت النظر من بينها تماثيله الستة الضخمة التي أقامها أمام معبد الأقصر، ويبلغ طول الواحد منها أربعة عشر مترًا، وسبعة منها في قاعة العمد في نفس المعبد؛ ارتفاع كل منها سبعة أمتار، وقد أقام في «الرمسيوم»، وفي «منف» تماثيل تضارع تمثالي «ممنون» اللذين أقامهما «أمنحتب الثالث»، ولكن تمتاز عنهما بنحتها في مادة الجرانيت الصعبة التناول على الحفار، على أن ما أقامه من تماثيل لآلهته في مختلف المعابد لا يقل عددها عن عدد ما أقامه لنفسه، ولم يفُته قطع المسلات الشامخة في علوها من «أسوان»، وإقامتها في معابد الآلهة، وقد كانت جدران تلك المعابد بما في ذلك جدران البوابة العظمى التي تُعد المدخل الرئيسي مزينة بالمناظر والنقوش الملونة، وقد كان جزء منها خاصًّا بالمناظر الدينية، والجزء الآخر صور عليه انتصارات الفرعون على الأعداء، والنقوش التي تمجد أعماله، وترفعه في أعين الشعب، وتخلد ذكره على كر الأيام في أعين الخلف.
(٣-٣) المعابد المنحوتة في الصخر
وقد ظهر بين هذه المباني التي أقامها «رعمسيس الثاني» نوع جديد لم يكن شائع الاستعمال من قبل، وهو المعابد المنحوتة في الصخر. حقًّا كان المصري — كما ذكرنا من قبل — ينحت لنفسه المقابر والمزارات في الصخر، ويزينها بالمناظر والنقوش في كل العصور السالفة للعصر الذي نحن بصدده على نطاق ضيق، غير أن ذلك كان قاصرًا على المقابر بوجه عام، وقد ازداد نحت هذه القبور في الصخر في عهد الأسرة الثامنة عشرة في جبانة «طيبة» بدرجة عظيمة جدًّا، كما زادت النقوش والمناظر التي كانت ترسم على جدرانها، يدل على ذلك ما نشاهده في مقابر ملوك هذه الأسرة، وقد بلغ هذا الطراز أوجه في الأسرة التاسعة عشرة كما نشاهد في مقبرة «سيتي الأول» التي نحتها لنفسه في «وادي الملوك»، وتعد من آيات الفن والنحت معًا. وقد اتخذ «رعمسيس الثاني» هذا الطراز من المباني في إقامة معابد بلاد النوبة، وعممه هناك، ولم يسبقه في هذا المضمار إلا الفرعون «حور محب» الذي أقام لنفسه مقصورة ضخمة في «السلسلة»، وقد رسم عليها انتصاراته على النوبيين، كما زينها بالمناظر الدينية (راجع الجزء الخامس)، وكذلك أقام محرابًا آخر في «جبل أدة» بالقرب من «أبو سمبل» (راجع الجزء الخامس).
وتدل شواهد الأحوال على أن طبيعة أرض بلاد النوبة هي التي حتمت على «رعمسيس الثاني» أن ينحت المعابد لآلهته في الصخر الصلد؛ وذلك لأن الشريط الضيق من الأراضي الزراعية الذي يفصل النيل عن التلال الصخرية التي تشرف عليه قد جعله ينحت المعابد في الصخر لضيق المكان من جهة، وربما كان يقصد منها من جهة أخرى أن يجعلها تناهض الدهر في بقائه وسرمديته، وبذلك يخلد اسمه على صفحة الزمن. ودلت الحقائق الواقعة على أنه لم يخطئ فيما قصد إذا كانت هذه هي فكرته، وهو الرأي الذي نرجحه، كما تدل عليه آثاره الأخرى.
والواقع أن هذه المعابد التي نحتها «رعمسيس» في الصخر لا تختلف في شيء عن المعابد التي كانت تقام بالأحجار في الأراضي المنبسطة، فقد كان كل محتويات المعبد من بوابة، وردهة، وقاعة عمد، وحجرات العبادة، والحجرات الجانبية التابعة لها تُنحت في الصخر على غرار المعابد الأخرى، على أن هذا الطراز الجديد من المباني تتجلى فيه بوضوح الفكرة الأصلية المقصودة منه، وهي أنه الطريق المؤدية للأماكن الخفية المظلمة الموجودة في أعماق المعبد، وهي التي يؤوي إليها الإله، كما أن تأثيرها من الخارج كانت تتجلى روعته في البوابة العظيمة المقامة أمامه ببرجيها الضخمين.
وقد نحت هذا الفرعون بجانب المعابد الصغيرة التي حفرها في «بيت الوالي»، و«جرف حسين» الذي أقامه ابن الملك صاحب «كوش» المسمى «ستاو»، ومعبد «وادي السبوع»، و«معبد الدر» المعبد الهائل الذي يطلق عليه اسم معبد «بو سمبل»، ولا نكون مبالغين إذا قررنا هنا أنه أضخم بناء على وجه البسيطة منحوت في الصخر. والواقع أن الألفاظ تعجز عن وصف ما عليه هذا المعبد من بهاء وفخامة وضخامة؛ فقد أقيم على طوار قدٍّ من الصخر أربعة تماثيل للفرعون «رعمسيس الثاني»، يبلغ ارتفاع كل منها عشرين مترًا، ثم نشاهد على مكان عالٍ فوق الجدار الخلفي الأملس السطح عددًا من تماثيل القردة محيية بأكفها إله الشمس المشرق عندما ينفلق الإصباح، ويرتفع ضوء الشمس وئيدًا حتى يدخل بوابة المعبد الضخمة التي لا تزال تكنفها التماثيل الضخمة، ثم القاعة الداخلية من المعبد، وهي التي ترتكز على ثمانية عمد، وكذلك يستند على هذه العمد ثمانية تماثيل تمثل الفرعون في هيئة الإله «أوزير»، وكلها منحوتة مثل العمد في الصخر الصلد، وعلى الرغم من ضخامة هذه التماثيل التي كانت في داخل المعبد وخارجه فقد نجح المفتن في تصوير محيا «رعمسيس الثاني» في وضوح وجلاء وإتقان، هذا إلى أن بعضها قد نحت بمهارة ممتازة. ومما يلفت النظر من بين النقوش التي كانت تزين بها الجدران الداخلية للمعبد — وقد كانت في العادة موضوعات دينية أو تاريخية — (انظر لوحة موقعة قادش في معبد «بو سمبل»)، وضخامة معبد «أبو سمبل»، وما احتواه من حجرات ونقوش في الواقع تدهش عقول أهل الجيل الحاضر، حتى إنهم يتساءلون أحيانًا: كيف تسنى ﻟ «رعمسيس الثاني» إتمام هذا العمل الفذ في بضع عشرات السنين؟ ولا جدال في أن هذا العمل بمفرده كان كافيًا ليكون عنوان مجد وفخار لكل عصور التاريخ المصري الأخرى؛ وهو لم يزَل باقيًا في مكانه بكل عظمته وضخامته لم يمسه سوء بجانب المعابد الأخرى الصغيرة التي تتضاءل بجانبه، وبخاصة عندما نقرنه بالمعبد الصغير الذي أقامه لزوجه «نفرتاري» بالقرب منه، وقد زين مدخله بثلاثة تماثيل للملك والملكة التي شُيد من أجلها.
ومن جهة أخرى، لا يسع المرء أمام كل هذه المباني الهائلة الضخمة التي نحتها «رعمسيس» في جوف الصخر إلا أن يبدي دهشته وعجبه من جديد متسائلًا عن عدد الأيدي العاملة التي سُخرت للقيام بإتمام مثل هذا العمل الجبار من قاطعي أحجار، وبنائين، وحفارين، ورؤساء عمال، وكذلك من التلاميذ الذين كانوا يتلقون الدروس في المدارس الخاصة بالبناء، والتلوين، والنقش، هذا إلى الرسامين الذين كانوا يكلفون وضع التصميمات، وملاحظي العمل، والمفتنين الذين كانوا ينحتون التماثيل ويصقلونها، فكل هذه الأعمال تحتاج إلى عدد هائل من الأيدي العاملة المدرَّبة من أهل البلاد، وغيرهم من الأجانب، على أن هذا النوع من المباني والأعمال الفنية اللازمة له لم تكن قاصرة في هذا العصر على الفراعنة وحدهم، بل كانت شائعة ذائعة بصورة واضحة عند عِلية القوم ووجهائهم الذين كانوا يعتنون أحيانًا عناية خاصة بحفر مقابرهم في الصخور على مقربة من مقابر الفراعنة، وبخاصة ما نشاهده ماثلًا حتى الآن أمام أعيننا في جبانة «طيبة» الغربية من آثار الفن الذي يعد من الطراز الأول أحيانًا، وقد يرجع سبب هذا الإتقان، وحسن الذوق الذي يبدو أمامنا في مقابر عِلية القوم أحيانًا إلى ما تركه فن عصر «إخناتون» من أثر على الرغم من عودة الأحوال إلى ما كانت عليه في مصر بعد القضاء على عهد «إخناتون» البغيض من جهة الفنون، والصناعات، والدين، وما كانت تحاط به قوانينها من قدسية جامدة. والواقع أن رجال الفن لم يتقيدوا بتلك القيود القديمة العتيقة التي ضربت عليهم، وأرادت أن تغل أيديهم، وتستعبد عقولهم وعبقريتهم، بل ضربوا بهذه القيود عرض الحائط، وأفسحوا لمواهبهم الفنية المجال، وهي تلك المواهب التي كسبوها من تعاليم «إخناتون» الفنية، وما انطوت عليه من حسن ذوق، وميل إلى إظهار الأشياء التي تحذقها أيديهم على حقيقتها، كما تشاهَد في الطبيعة لا كما تقتضيه القواعد الموضوعة التي فرضتها عليهم الأجيال السالفة، والشعائر الدينية الجامدة الجافة إلى حد ما.
وقد ظهرت تلك الحرية الفنية بأجلى مظاهرها في الصور التاريخية الملكية. والواقع أن فن الصناعة القديم نفسه لم يطرأ عليه تغيير يُذكر، كما يشاهد ذلك في كثير من المقابر؛ إذ كانت الأشكال تثبت على جدران المعابد بالنحت البارز، أو النحت الغائر، ثم تلون بالألوان المناسبة؛ مما يكسبها صبغة فنية جميلة، ولكن يلفت النظر عند تصوير المناظر الخاصة بالحياة ومباهجها مثل مناظر حفلات الولائم، أو عند تصوير سير موكب جناز المتوفى، ما نشاهده في تلك الحالات من كثرة الألوان الزاهية المختلفة، وكذلك نلحظ أن المثال قد نفث فيه أحيانًا بآلته روحًا جميلًا يشعرنا بتأثير فن «إخناتون»، وصوره الواضحة الناطقة، ومن أجل ذلك ظهرت في عالم الوجود قطع فنية من الطراز الأول، منها منظر الموكب الجنازي الذي عثر على قطع منه تنسب إلى مقبرة الكاهن الأعظم للإله «بتاح» في «منف» المسمى «نفررنبت»، وهذه القطعة تمثل أمامنا منظرًا فريدًا من موكب جناز هذا الكاهن الذي كان يسير في موكبه كل عظماء الدولة، وقد مثل كل منهم مميزًا عن الآخر بهيئة تلفت النظر، فلم نلحظ فيها هذا التشابه الممل في الصور التي تبدو أمامنا في مواكب الدفن العادية التي نشاهدها ممثلة على جدران معظم وجهاء القوم في مقابر «طيبة» وغيرها.
(٤) تصوير المواقع الحربية
وقد خطى مثَّال الفرعون خطوة أخرى واسعة في تصميم المناظر، وإبرازها على حقيقتها بعد أن كان مقيدًا بالتقاليد الموروثة من قديم الزمان، فقد رأينا عند الكلام على التأثير المباشر الذي حدث في تصوير المواقع الحربية، وفي مناظر الصيد في الفن المصري، عن طريق الفن الكريتي الميكاني (أي المسيني) تدرُّجًا في الفن؛ مما أدى إلى ما نشاهده من رسم «سيتي الأول» على جدران معبد الكرنك في مناظر حروبه في سلسلة مناظر كل واحد منها على حدة، وهي تفسر لنا مجرى سير حروبه في ميدان القتال من أول الأمر حتى تقديم رؤساء الأسرى جميعًا مكبلين ومصفدين في الأغلال إلى الإله «آمون»، ثم طرح الفرعون إياهم أرضًا ليجهز عليهم على حسب التقاليد القديمة التي نشاهدها منذ القدم، ولكن «رعمسيس الثاني» تقدَّم خطوة إلى الأمام في تمثيل هذه المناظر الحربية، فمثل لنا لأول مرة في تاريخ الحروب المصرية سير موقعة «قادش» التي أظهر فيها من ضروب الشجاعة والإقدام ما جعله يشيد بذكرها، ويفخر بها على كل ما سواها من الأعمال الجليلة التي تمت في تاريخ حياته، في منظرين منفصلين بعضهما عن بعض نقشهما على أهم معابده في طول البلاد وعرضها، بل كان يكررهما في المعبد الواحد مرات.
ويمثل المنظر الأول الحوادث التي وقعت في المعسكر منذ استجواب جواسيس الأعداء حتى هجوم «خيتا» المعادين على جيشه. أما المنظر الثاني فيمثل أمامنا الموقعة التي دارت رحاها أمام الحصون التي تحيط بالنهر حتى إحضار الأسرى، وتعداد الأيدي التي كانت تقطع من أجسام الجنود الذين سقطوا صرعى في ميدان الواقعة. وقد مثل «رعمسيس الثاني» مناظر هذه الموقعة أكثر من ست مرات على جدران معابده العظيمة كما قلنا، ففي معبد الأقصر نجدها ممثلة على جدران بوابته العظيمة التي أقامها «رعمسيس» نفسه، وكذلك على جدران هذا المعبد الخارجية، ثم مثلها في معبد «الرمسيوم» على البوابة مرة، وعلى الجدران الداخلية للردهة الثانية من نفس المعبد مرة أخرى، وفي «العرابة المدفونة» نجدها منقوشة على جدران معبده الخارجية، وفي معبد «أبو سمبل» العظيم مثلت على جدرانه الداخلية.
ويلاحظ بعض الفروق البسيطة في التفاصيل في تصوير هذه الموقعة في المعابد المختلفة، فأحيانًا نجد تفاصيل أكثر على جدران أحد المعابد لم نجدها في غيره، وقد يعزى ذلك إما إلى مساحة الرقعة التي كانت في متناول المثال لينقش عليها الصورة التي أمامه، أو إلى ذوق المثَّال وعبقريته إلى حد لا يخل بالتصميم الأصلي؛ إذ لم نجد في منظر من كل المناظر التي تمثل هذه الواقعة ما يدل على نقص فاضح.
ولا زلنا حتى الآن في حاجة إلى درس تفاصيل هذه الموقعة درسًا علميًّا تامًّا بما فيه من ألوان ودقائق لم تحلل بعد فنيًّا. وعلى أية حال فإن الفكرة التي تصورها لنا هذه الموقعة في مجموعها بوصفها لوحة مثالية كالتي نشاهدها في صورة انتصار «نارامسن»، أو الفسيفساء الذي يمثل موقعة «الإسكندر» لم تكن لتخطر على بال المثَّال المصري من جهة، كما أنها من جهة أخرى تبعد عن صورة المثال الذي تصور موقعة «ماريتون»، وتخريب «طروادة»، أو أي صورة مما أخرجته عبقرية مفتني القرون الوسطى حتى بداية عصر «إحياء العلوم» في أوروبا، ومع كل ذلك فإن الناقد البصير لو نظر إلى صورة موقعة «قادش» بعين فاحصة لوجد أنها تمثل كل الأحداث الرئيسية التي جرت في أثناء الموقعة بصورة أخاذة مثيرة للعواطف، حتى إذا ما قرنها بلوحة حروب «سيتي الأول» التي تتألف من سلسلة مشاهد، وجد أن المنظرين اللذين تتألف منهما موقعة «قادش» قد مُثلا بطريقة شيقة، وأن لهما معًا تأثيرًا بينًا؛ إذ نشاهد في وسط كل من المشهدين صورة الفرعون بحجم هائل بالنسبة لمن حوله (انظر موقعة «قادش» في الكرنك، و«الرمسيوم»، و«بو سمبل»).
على أن هذه الصورة ليست الوحيدة من نوعها في حروب «رعمسيس الثاني»، فهناك ما يماثلها في حروبه التي شنها بعد موقعة «قادش»، ونخص بالذكر المنظر الذي يمثل ما أحرزه من النصر في «ساتورنا»، وهي موقعة وقعت عند حصار بلدة في وسط سهل مقفر، وأهم منها حصار بلدة «دابور» الذي تكلمنا عنه في مكانه، ففي هذا الحصار نشاهد الخطوات المميزة لسير القتال من البداية حتى النهاية، وقد ربطت بعضها ببعض بصورة بارزة قوية تترك في النفس أثرًا بالغًا، فنشاهد الفرعون وهو يطارد الأعداء، ثم يقفز من عربته في ملابس رثة لا يحميه درع، ويفوق سهامه على الأعداء المدافعين في داخل الحصن، في حين كان المحاربون الآخرون يقاتلون بجانب أبناء الفرعون الذين كانت تحميهم الدروع في أثناء مهاجمتهم أبراج الحصن، ثم نشاهد هذه المعاريج مطروحة على الجدران ليعرج عليها جنود آخرون للاستيلاء على الحصن عنوة، أما المدافعون فكانوا يجاهدون بكل ما أوتوا من قوة لحماية أنفسهم بإلقاء المقذوفات، والأحجار على المهاجمين، ولكن كان الحظ قد أخطأهم إذ كان المصريون الأبطال قد وصلوا في تسلقهم المعاريج إلى أعلى برج في الحصن، وعندئذ لم يبقَ للمحاصرين إلا طلب الأمان والتسليم.