الفن
أما صناعة نحت التماثيل وصقلها فإنها كانت تتضاءل أمام فن الرسم، ولكن كان يوجد بلا شك في هذه الفترة بجانب صناعة التماثيل الهائلة عدد عظيم من التماثيل بالحجم الطبعي للفرعون والآلهة على السواء قد أبدع في إخراجها، ونخص بالذكر منها تمثال «رعمسيس الثاني» الجالس، وهو محفوظ الآن بمتحف «تورين»، وقد استطاع المفتن أن يصور في محياه الأريحية والجلال الممتاز، والنشاط بدرجة عظيمة من الإتقان والدقة، ولكن مع ذلك لا نجد التمثيل الصادق الذي كان يطبعه المثال في محيا ملوك الأسرة الثانية عشرة من ألم وحزن، وتقدم في السن، وشباب غض، وغير ذلك من الملامح التي كان ينفرد بها مثالو الدولة الوسطى، يضاف إلى ذلك أن مثالي عصر «رعمسيس» لم يصلوا في تعبيراتهم إلى تصوير تلك السحنة التي يمكن للإنسان أن يرى من خلفها روح الحاكم التي كانت تميز تماثيل «إخناتون»، وغيرها من صور هذا العهد الذي امتاز بصدق التعبير، ومحاكاة الطبيعة.
(١) نظام العمل، والعمال المفتنون
السنة الثامنة، الشهر الثاني من فصل الشتاء، اليوم الثامن من حكم ملك الوجه القبلي والوجه البحري «وسر ماعت رع ستبن رع بن رع رعمسيس محبوب آمون»، في هذا اليوم عندما كان جلالته في «هليوبوليس» يقوم بأداء الأحفال لوالده «حور اختي»، وللإله «آتوم» رب «هليوبوليس»، وحينما كان جلالته يسير في صحراء «هليوبوليس» جنوبًا من معبد «رع»، وشمالًا من معبد التاسوع، وأمام معبد «حتحور» سيدة الجبل الأحمر؛ إذ ذاك عثر جلالته على قطعة حجر ضخمة في محاجر «بيا» لم يوجد مثيلها منذ زمن رع، وكان ارتفاعها أعظم من ارتفاع مسلة من الجرانيت الأحمر، وقد كان الكاشف لها هو جلالته نفسه عندما كانت تسطع مثل أفقه، وعندئذ سلمها جلالته لنخبة رجال مهرة في السنة الثامنة، الشهر الثالث من فصل الصيف، اليوم الواحد والعشرين. وفي السنة التاسعة، الشهر الثالث من فصل الصيف، اليوم الثامن عشر — أي مدة سنة — قد تم تمثال عظيم ﻟ «رعمسيس محبوب آمون»؛ وبذلك أصبح الإله في عالم الوجود لأجله، وعلى ذلك كافأ جلالته المشرف على العمال هذا، والصناع الشجعان الذين كانوا يصنعونه بكثير من الفضة والذهب، وبالعطف الملكي، ولما كان جلالته يحميهم دائمًا فإنهم كانوا يعملون لجلالته — أي ملك الوجه القبلي والوجه البحري رب الأرضين «رعمسيس محبوب آمون» — بقلوب مُحبة، وعندما وجد جلالته بجواره (أي الحجر) محجرًا آخر (صالحًا) لعمل تماثيل من حجر «بيا» الذي يفوق شجرة الصنوبر (في متانته)، فإنه أهداه لمعبد «بتاح»، وقد أطلق عليهم اسم جلالته العظيم أي «رعمسيس محبوب آمون» بن «بتاح»، وقد أهدى بعض تماثيل أخرى منه لمعبد «آمون رعمسيس مري آمون»، ولمعبد «رعمسيس مري آمون»، في مدينة «بررعمسيس». وقد ملأت معبد «رع» بتماثيل «بو الهول» عديدة، وبالتماثيل التي نُحتت في وضع تقدم فيه الزيت، ومقربة طبقًا فيه طعام.
ويدل ما لدينا من الآثار على أن «رعمسيس الثاني» لم يكن يستخدم في نحت تماثيله عمالًا مصريين وحسب، بل لدينا من مظاهر الفن نفسه، وما حدث فيه من تغيير ما يدل على أنه استخدم مفتنين أجانب من البلاد الأجنبية التي جاء منها الآلهة العديدون الذين نشاهد «رعمسيس الثاني» يتعبد إليهم في عاصمة ملكه الدينية «تانيس»؛ ولذلك سنتكلم هنا عن تأثير الفن الأسيوي في نحت تماثيله، وقرنه بالفن المصري الأصيل.
(٢) تماثيل «رعمسيس الثاني»، وتأثير الفن الأسيوي فيها
تدل البحوث التي قام بها الأثريون، ورجال الفن على أن تماثيل «رعمسيس الثاني» كانت لها ميزات خاصة من حيث الضخامة والصناعة، وأنها كانت تتشكل حسب البيئة التي تحيط بها، وبخاصة تماثيله العديدة التي أقامها في مدينة «تانيس» المقدسة القريبة من حدود مصر من جهة الشمال؛ إذ نجد في تصويرها ونحتها أثرًا أجنبيًّا ناطقًا، والظاهر أن الطابع الفني الأجنبي الذي طُبعت به هذه التماثيل كان قاصرًا على عهد «رعمسيس»، وبموته اختفى هذا الطابع الخاص، وعادت صناعة التماثيل إلى ما كانت عليه من قبل.
وقد كتب على هذه التماثيل الألقاب العادية التي كان يلقب بها كل إله، فكان الإله «آتوم» يلقب مثلًا «سيد الأرضين» في «هليوبوليس»، على أن ذلك لا يعني أن هذا الأثر قد انتزع من «هليوبوليس»، ووضع في «تانيس» بل عمل محليًّا.
وسنحاول هنا أن ندرس بعض مميزات تماثيل «رعمسيس الثاني»، وبخاصة تماثيله في بلدة «تانيس» حتى يمكننا أن نصل إلى التأثير الأجنبي الذي لوحظ فيها، والواقع أن «رعمسيس الثاني» قد ترك لنا تماثيل عدة في هذه المدينة كشف منها حتى الآن ما يربى على ثلاثة وعشرين تمثالًا، وهذه التماثيل قد وجدت في ثلاث جهات من المدينة القديمة: (١) البوابة الضخمة. (٢) في داخل المعبد الكبير. (٣) وفي معبد الإلهة «عنتا»، وسنتحدث عنها فيما يلي، ثم نقرنها بتماثيله الأخرى.
(٢-١) التماثيل التي وجدت جهة البوابة
(٢-٢) في داخل المعبد الكبير
(٢-٣) معبد «عنتا»
(٢-٤) طراز تماثيل «رعمسيس» وصناعتها
يلاحظ أن بعض هذه التماثيل يستند على عمود مستطيل وعريض كان يستعمل وجهه لكتابة النقوش، فكان يكتب عليه ألقاب الفرعون التي كانت تشغل جزءًا كبيرًا من كل سطر بوجه عام، ومن ذلك التمثالان المصنوعان من الجرانيت الوردي الموجودان في المدخل، وكذلك المجاميع التي هناك. ولكن في استطاعة الإنسان أن ينشر العمود الذي تستند عليه التماثيل دون الإضرار بجسم المجموعة. وقد وجدنا في الدولة القديمة تماثيل تستند على عمد مثل هذه عريضة، ولكن أخذت هذه العمد تضيق شيئًا فشيئًا حتى اختفت في نهاية الأمر، وأصبح التمثال بلا عمود؛ ولذلك نجد أن المثَّالين العظام في الدولة الحديثة قد وصلوا إلى الاستغناء عن العمود في كثير من الحالات، وعلى الرغم مما نجده من نقوش تدل على أن هذين التمثالين من عمل «رعمسيس»، فإنه من المحتمل إذن أنهما من صناعة العهود القديمة، والواقع أن الوجه الأكثر حفظًا منهما يدل على أنه من صناعة الدولة القديمة، أو بداية الدولة الوسطى أكثر مما يدل على وجه «رعمسيس».
والمجاميع التي تشمل «رعمسيس» مع إله أو أكثر قد صُنعت بطريقة مغايرة لذلك، فمثلًا في الثالوث العظيم الذي في المدخل، ويتألف من «بتاح»، و«رعمسيس»، و«حور اختي» نجد أن البارز من جسمهم جزء يسير؛ لأن معظم أجسامهم قد غار في السنادة التي وراء ظهرهم، فأجسامهم لا تكاد تبرز إلا بضعة سنتيمترات من حجر السناد، وكذلك يلحظ أن الذراعين واليدين لم تظهر بصورة واضحة في التمثيل، وأن السيقان اليمنى قد بقيت حبيسة في الحجر، والأقدام اليسرى تخطو إلى الأمام بصورة أقل من المعتاد، وتظهر الرءوس مفرطحة، ولا نزاع في أن مثل هذه الصناعة تُنسب إلى صناعة الحفر أكثر منها إلى صناعة التماثيل المجسمة، غير أنها مع ذلك لا تخضع لقوانين الحفر البارز عند المصريين، وهي التي تضع رأسًا مصورًا تصويرًا جانبيًّا على كتفين مصورتين تصويرًا كاملًا. وتلفت اليدين اللتين صُورتا تصويرًا كاملًا، والقدمين اللتين صورتا جانبيًّا، ولكنا هنا في هذه المجاميع لا نرى أي اعوجاج في التمثيل؛ إذ نجد الشخصيات الثلاثة ينظرون إلى الناظر إليهم بوجوههم كاملة، والوجه والجذع، وكل الأعضاء تُرى من الأمام واليدان مفتوحتان، ويلحظ أن الجوانب الصغيرة للأثر تخضع لنفس الصناعة، فعلى اليمين نشاهد الإله «حور اختي»، وعلى اليسار صورة «بتاح»، وقد مثلا بالنقش البارز دون أي تشويه؛ إذ نجد الكتف في مكانه الحقيقي.
والملاحظات السابقة تنطبق على المجموعتين الأخريين اللتين لم يبقَ منهما إلا قطع، وكذلك على المجموعة التي مثل فيها الآلهة «عنتا»، و«رعمسيس» المحفوظة «بمتحف اللوفر»، وتمثال «رعمسيس الثاني» «بمتحف القاهرة» الذي يحمل رقم ٥٧٥ قد صُنع بهذه الطريقة أيضًا، وصور الأناث اللائي نقشن بصحبة التماثيل الضخمة المصنوعة من الحجر الرملي الموجودة في الردهة الثانية، وكذلك صورة الملكة «مريت آمون» مع التمثال الذي في الجنوب الشرقي، وصورة الملكة «بنت عنتا» على التمثال الذي في الجنوب الغربي، كل هذه قد مثلت بالحفر من غير تشويه؛ والمجموعتان الجالستان وهما: «عنتا»، و«رعمسيس»، و«سخمت»، و«رعمسيس» يظهر أنهما تؤلفان مجموعتين أمرهما وسط بين التمثيل بالحفر نصف البارز، والتماثيل المجسمة فعلًا؛ إذ نجد أن السنادة التي يرتكز عليها التمثالان ليست على قدر عرضهما، فالكتف اليسرى للآلهة، والكتف اليمنى للملك تشاهَد كلها منفصلة تمامًا من الحجر، ولكن المثَّال قد حفر الرقعة التي بين التمثالين حفرًا غير متقن، وقد عمل الجزء الأوسط كله بالحفر، وقد مثل مثالو الدولة الحديثة في معظم الأحيان المجاميع التي وجدت خارج «تانيس» مرتكزة تماثيلها إما على سنادة أو على الجدار الخلفي لكوَّة، وهذه التماثيل قد عملت مجسمة كما كانت الحال في العصور السالفة، ولكن عندما كان المثال لا يهتم بالتعمق في رقعة الحجر — وذلك إما لتراخيه، وإما لعدم حذقه — فإن الأشخاص الممثلين يظهرون كأن نصفهم مختفٍ في الحجر، مثال ذلك: التماثيل التي تحمل الأرقام التالية بمتحف القاهرة: ٤٢٠٦٥، ٤٢٠٦٦، ٤٢٠٨٠، ٤٢٠٩٧، وكلهم من عهد الأسرة الثامنة عشرة، وقد عثر عليهم في «الكرنك».
وهذه التماثيل قد نُحتت مجسمة، وأجسامها وأعضاؤها مثلت بحجمها الطبعي.
وهذا اصطلاح قد شاع كذلك في عهد «رعمسيس الثاني»، ولكنه لم يقتصر على تماثيل «رعمسيس» في «تانيس»، أو الدلتا الشرقية، بل نشاهده على تمثال الإسكندرية، وتماثيل «ميت رهينة» الضخمة، وكذلك في أقاصي الإمبراطورية المصرية جنوبًا، على تماثيل معبد «بو سمبل» الضخمة.
أما تمثال «رعمسيس» في مجموعة «حورون»، فلا يعد بين واحدة من هاتين السلسلتين، بل من المحتمل أنه التمثال الوحيد في «تانيس»، الذي يقدم لنا صورة تشبه الفرعون؛ إذ لا يعد صورة منقولة عن نموذج عام متفق عليه، أو صورة من طراز محلي، وهذه الميزة تقرِّبه من تمثال «رعمسيس» الجميل، المنقطع القرين، المحفوظ في «تورين» الآن. غير أن تمثال «تورين» يمثل الملك وهو في عنفوان الشباب، في حين أن التمثال الذي يحميه الإله «حورون» قد مثل في هيئة طفل، وقد كان في مقدور المثَّال أن يوضح تصوير عمر تمثاله بالعلامتين الخاصتين، اللتين تدلان على الطفولة، وهما خصلة الشعر، والأصبع التي توضع في الفمِّ، ولكنه قد أفلح فلاحًا عظيمًا في تمثيل جسم ممتلئ قوي لطفل قد بلغ الثانية عشرة من عمره، وأسبغ على وجهه الإشراق والحيوية اللذين ينطبقان على وجه أمير فتيٍّ عزيز على الآلهة.
وهكذا نجد في «تانيس» أن الفن يلقي ضوءًا على مهام الفرعون السياسية والدينية، فلأجل أن يحوز المفتن رضى الفرعون، نجده قد مثله في هيئة ابن خاضع مبجل للآلهة الأجنبية، وقد استفاد فن هذه الممالك من التقديس الذي كان لهذه الآلهة، وهكذا أصبح هذا الطراز هو الشائع لمدة قصيرة في الصور الممثلة بالحفر البارز، والفن المصري الذي لم يعرف هذا الطراز من قبل قط قد انقطع الإنتاج فيه عندما اختفى «رعمسيس الثاني» من مسرح الحياة؛ إذ إنه هو الذي أدخله في البلاد، وشجع على انتشاره في أرجاء إمبراطوريته.
(٣) قيمة فن النحت في عهد «رعمسيس الثاني»
وعلى الرغم مما أحدثته كثرة الأعمال التي أنجزها «رعمسيس الثاني» من الأثر في نفوس القوم، من جهة الضخامة والعظمة، فإنها من جهة أخرى لم تكن لها في غالب الأحيان قيمة فنية تُذكر، ويرجع السبب في ذلك إلى أن الأعمال الهائلة العدد، التي كان يقوم بتنفيذها في وقت واحد، كانت بلا ريب تدعو إلى السرعة السريعة التي لا تنتج إلا أعمالًا أقل ما يقال عنها إنها لم تكن من طراز جميل، بل كانت تعبر عن الكثرة والضخامة وحسب، ولا يتجلى فيها الاعتناء والدقة والذوق السليم الذي كان يمتاز به فن النحت والنقش والعمارة في عهد «أمنحتب الثالث»، وهو نفس ما نشاهده في فن عهد «سيتي الأول» في معبده «بالعرابة المدفونة»، وفي قبره «بطيبة» الغربية، ولا يخرج عن ذلك إلا أشياء فردية، ونخص بالذكر منها غير صور موقعة «قادش»، معبده الذي رفع بنيانه في «العرابة المدفونة»؛ إذ نجد فيه التقاليد الفنية الجميلة التي نشاهدها في فن عهد «سيتي الأول» والده، وبجانب هذا الفن الجميل نجد من جهة أخرى أن مناظر معبد «بو سمبل» على ضخامتها قد نقشت نقشًا سمجًا، وزينت بمناظر عارية عن رفعة الفن، هذا إلى أن الجزء الأعظم من مناظره قد رُسم رسمًا تخطيطيًّا وحسب، كما لوحظ أن المتون اللغوية تزخر بالأخطاء؛ مما يدل صراحة على أن الذين كانوا يقومون بالعمل كانوا صناعًا محليين، ليس لهم دراية المفتنين، الذين نقشوا مناظر معبده «بالعرابة»، وهم الذين تعلموا على ما يظهر بالوراثة؛ ليكونوا مفتنين فقط، كما ذكرنا من قبل؛ ولذلك نجد أن كثيرًا من معابد بلاد النوبة التي نُحتت في الصخر مثل معبد «الدر»، ومعبد «جرف حسين»، وغيرهما قد زُينت بتماثيل فجة تزوَر عنها العين؛ مما يدل على السرعة من جهة، وعدم كفاية الذين قاموا بنحتها من جهة أخرى، فبدلًا من التأني والاتزان في العمل، اللذين كانا يمتاز بهما مفتنو العصر السابق، حلت في عهد «رعمسيس الثاني» السرعة السريعة؛ وذلك لأن روح هذا الفرعون كان مفعمًا بحب العظمة التي لا نهاية لها؛ مما جنى على أعمال الفن التي كانت يانعة مزهرة بما أنتجته من الآيات البينات، فأصبحنا في عصره لا نرى إلا جبالًا مكدسة من التماثيل التي انعدم في معظمها الروح الفني جملة، هذا فضلًا عن اغتصابه للقطع الفنية التي تُنسب للملوك السالفين، ونقش اسمه عليها، وكان قصده في ذلك أن يجعل ذاته الإلهية يسطع بهاؤها، ويلمع ذكرها في كل أرجاء البلاد، بما يقيمه من مبانٍ ضخمة، وتماثيل هائلة مما لم يسبقه إليها أحد أسلافه حتى إنه لم يترك فرصة لأحد أخلافه أن يباريه في هذا المضمار، كما أنه فاق في آن واحد كل من سبقه حتى «تحتمس الثالث»، و«أمنحتب الثالث».
وقد كان «رعمسيس الثاني» طوال مدة حكمه يعمل جهد الطاقة في إنتاج هذا النوع الرخيص من أعمال الفن والصناعات العادية، وعدم الاكتراث بالإنتاج الفني الراقي؛ مما أدى إلى تدهور الفن تدهورًا ملموسًا، وقد كان من نتائج هذا الغلو الفاحش في إقامة المباني، وعمل التماثيل، وغيرها استهلاك كثير من مواد الصناعة؛ مما أدى إلى نفاد مالية البلاد في السنين الأولى من حكمه، وقد يظهر ذلك جليًّا للباحث عندما يكشف أن الشطر الأول من تاريخ حياته كان مفعمًا بإقامة الآثار التي يخطئها العد، وهي التي نقرأ عنها في الوثائق الكثيرة التي دونها هو أو تركها لنا أفراد علية القوم، في حين نجد من جهة أخرى أن الجزء الأخير من حكمه قد قلت فيه إقامة الآثار، وقد يكون ذلك من الأسباب التي جعلته يغتصب آثار غيره لنفسه، ولأفراد أسرته. ولم تحدثنا الوثائق التي تركها لنا في هذه الفترة إلا عن آثار قليلة له حقيقية بدرجة تلفت النظر.
ولذلك لا يسع الإنسان أمام هذه الحقيقة الناصعة إلا الحكم على عهد هذا الفرعون المعمر من حيث الفن والعمارة بأنه كان في بدايته مزدهرًا يانعًا بالكثرة البالغة، ثم انحط إنتاجه في سنيه الأخيرة حتى إنه بانطفاء مصباح حياته ذبل معه العصر الذهبي للدولة الحديثة، وراح يترنح نحو الهاوية السحيقة.
(٤) فن التصوير الجنازي في مقابر الشعب في عهد «رعمسيس الثاني»
كثيرًا ما يمثل المؤرخون عهد حركة الإصلاح الديني التي قام بها «إخناتون» بتصدع جيولوجي أصاب مجرى التاريخ المصري المستقيم، ولكن من وجهة الفن لا يمكن أن ينطبق هذا القول على التغيرات التي ظهرت منذ بداية الأسرة التاسعة عشرة؛ أي منذ ختام القرن الرابع عشر، بل إن أقل ما يقال عنها إنها تطور؛ وذلك لأن هذه التغيرات التي حدثت فيه كانت ثابتة عميقة الصبغة، اللهم إلا إذا كنا نقصد بكلمة تطور شيئًا يدل على العنف مما يجعله عرضة للزوال والفناء.
والواقع أننا إذا أردنا أن نتناول بالبحث كل الصور التي خلفتها لنا مدنية هذا العصر، أو نقتصر حتى على فني النحت والتصوير كان لدينا محصول جدير بالتقدير العظيم الذي يرفع من شأن هذا العصر الجديد في هذه الناحية من الحضارة، ولكن عندما نتناول الفنون الجنازية بالبحث كشفت لنا النتيجة عن انحطاط مشين؛ إذ نجد أن الإنتاج الدال على حسن الذوق في المقابر التي لا تزال حافظة لألوانها ممثلة طراز عصر الرعامسة بصورة بارزة معدوم لحدٍّ ما، وأن جدران المقابر قد كُدست بصور أكثر مما يجب أن تحتويه.
ولا يمكننا أن نتحدث هنا عن الأسباب الأصيلة التي أدت إلى هذا الانحطاط في التصوير الجنازي، كما لا يمكننا أن نشرح هنا الطريقة التي بها أخذ سلطان الأشكال الفنية الجديدة يحتل مكانة قوية، وأخيرًا ليس في الإمكان هنا أيضًا أن نفصِّل القول عن مقدار ما كان لمدرسة «إخناتون» الفنية البغيضة في أعين الشعب وقتئذ، ولا عن أثر بقايا تقاليد مدرسة الفن الطيبية القديمة في تكوين طراز الفن الجديد الذي ظهر في عهد «رعمسيس الثاني»؛ إذ إن كل ذلك خاص بكتب الفن المطولة، وقد تحدثنا عن ذلك في مناسبات مختلفة بقدر ما سمحت به الأحوال، وكل ما يمكن التنويه عنه هنا هو أنه على أثر انتصار «إخناتون» أخذ أتباع الإله «آمون» بعد أن حرم عليهم تزيين مقابرهم بصور الطراز القديم، يجدون لأنفسهم منفذًا لاظهار شعورهم الديني من طريق أخرى؛ وقد كان أهم مظهر لذلك تزيين أوراق البردي التي كانت تدفن معهم بكل تعاويذهم، وأساطيرهم السحرية والدينية، وقد كان يساعدهم على استحضار الصور اللازمة لهذا الغرض الكهنة الذين كانوا لا يزالون على الولاء لإلههم «آمون»، حتى إنه لما عادت المياه إلى مجاريها برجوع الدين القديم إلى ما كان عليه من قوة وسلطان كان لهذه الصور أكبر الأثر في التصوير الجنازي الذي كان يُرسم على جدران المقابر.
ولما لم يكن هذا الأثر من الأشياء التي نتجت عن طموح فني إنساني مشبع بالروح الدنيوي، وكذلك لم يكن قد نما وترعرع في أحضان الحياة العامة، فإنه قد ترك الفن الجنازي راكدًا جافًّا إلى أقصى حد، ولا نستثني من ذلك إلا تلك الصور الخاصة التي كان يقوم بتصويرها المفتن، وهي التي كان ينقلها من عالم الدنيا إلى مناظر أخرى خاصة بعالم الآخرة، فكان يصور لنا حقول الجنة أو الحديقة التي يجمع فيها بين الإله والناس. والواقع أن تحديد مجال صور المفتن على هذا النمط كان ضربة مميتة للفن، ولسنا ننكر أن عمل الرسام المصري كان يجري على حسب خطط موضوعة، وتقاليد مرعية، غير أنه على الرغم من كل ذلك كان يستند في إبراز صوره إلى حد ما على قوة الملاحظة. وهنا يتساءل الإنسان: أي إلهام يستطيع المفتن أن يجده في رسم الإلهة والشياطين المختصين بعالم الآخرة، أو في أثاث المعبد الجنازي، والشعائر الدينية، وفي دمى أسرة رب المعمل؟ ومع ذلك بين ما ذكرنا أشياء عارضة هامة تصادف الرسام تصور في معظم الأحيان بهيئة شيقة؛ إذ نجد في كثير من المقابر التي صورت بصور مظلمة مثل مقبرة «حوي»، ومقبرة «وسرحات» صورًا أخرى تصل إلى حد الجمال والإشعاع، وذلك عندما يتناول المثال منظرًا تمثيليًّا يقوم فيه الفرعون بدور البطل، غير أن هذه المناظر أخذت في الاختفاء بصورة بينة.
أما الميزة الحسنة التي برزت في الفن الجديد فقد ظهرت فيما ناله المفتن من حرية في إخراج صورة في بادئ الأمر كما ذكرنا من قبل؛ فلم يكن المفتن في هذا العصر مجبرًا على السير على حسب نماذج قديمة لها أوضاعها ونسبها الخاصة، كما أنه لم يكن مقيدًا في رسم خطوطه على حسب قوانين الفن القديم؛ إذ كان في استطاعته في هذا الوقت رسم الأشكال دون أن يضع هياكلها مرتبطًا بلون خاص، وفي حدود معينة. ولا نزاع في أن التخلص من هذه القيود العتيقة كان يفسح المجال للرسام في إبراز صورة جميلة إذا كان المفتن قد تربى على حب الجمال بدلًا من تمرين مواهبه في إصدار صور تقليدية وحسب، وهذه الحرية كانت بمثابة مجال واسع لتقدم الفن. غير أن المدارس التي كانت تلقنه لم تكن قادرة على الاستفادة من فك قيود الماضي عنها، وقد كان من جراء ذلك أن انقلبت النتيجة إلى تراخٍ وعدم دقة، واستغلال التحلل من القيود القديمة في تغطية كثير من الأخطاء، وعدم الكفاية في الفن. وعلى أية حال فإن الغريزة قد حولت الفن القديم إلى وحدة متزنة؛ ولا نزاع في أن الفن الجديد كان غير متناسق؛ وذلك لأن الحرية التي أعطيها في استعمال خطوطه تطلبت إعادة توزيع اللون، ومن ثم نجد أن المصور قد نال إعجابنا في إخراج الصور المختصرة المرسومة بالحبر، ولكنه في تصويرها بالألوان لم يتعد رسم هيكل صورته بخطوط سمجة خشنة.
(٤-١) سخاء المفتن في استعمال الألوان
ولدينا مظهر آخر يبرز أمامنا في صور هذا العهد، وهو استعمال اللون بسخاء، فقد كان المفتن الماهر يسمو أحيانًا في استعمال الألوان إلى حد الجمال، كما أنه في أحوال كثيرة أخرى كان يسيء استعمالها إلى حد القبح والانحطاط الفني، ففي كهوف «طيبة» الغربية المظلمة نلحظ أن الرقعة القانونية الخاصة بأمثال هذه الصور كانت كبيرة، ولكن مفتن عصر الرعامسة كان يفلح دائمًا في تجاوزها. وقد كان مما يزيد في جمال هذه الصور وضع اللون الأبيض الناصع بدلًا من اللون الأبيض الهادئ. غير أن ما أعطي باليمين كان يُنتزع بالشمال؛ وذلك لأن إضافة تفاصيل في الصور قد أصبح وقتئذ ضربًا من الجنون، وبخاصة أنها كانت إضافات مرتبكة تدل على جهل، فنجد أن عمدًا مخصصة لكتابة المتون التي تعد بمثابة زخرف قد تُركت خالية، أو لونت كلها بلون واحد. ولا نزاع في أن الألوان الأساسية عندما تكون زاهية ومحاطة بإطار أسود لا تعطي العين المتعبة أية راحة، وهذا ما نشاهده في المقابر الفقيرة؛ حيث نجد أشكالًا ثابتة متشابهة لونت بالألوان الحمراء والصفراء القبيحة المنظر، ولكن عندما تكون الألوان أكثر اتزانًا، ونجد أن الألوان الزرقاء المعدنية، وكذلك الخضراء تختلط بالألوان الزاهية، فإنه يصير من الممكن أن يفلح المفتن في إبراز صورة جميلة، وهذه هي الحالة بوجه عام في بعض الإطارات النباتية التركيب، وكذلك في مناظر السقف الجميلة التي من خواص هذا العهد. وقد كان غرام المفتن بالأعشاب ورسم الشجر بصورة طبعية، من مكاسب هذا العهد في الفن، والأمثلة لدينا كثيرة في مقبرتي «وسرحات»، و«إبي»، وقد تحدثنا عنهما فيما سبق.
(٥) مظاهر الضعف في الرسم في هذا العهد
ومن المساوئ الرئيسية التي نشاهدها في مدرسة فن عصر الرعامسة طريقة تحضير الجدران للرسم عليها، فقد كان أهم ما يصبو إليه المثال في إبراز صورته أن تكون رخيصة مبهرجة في مظهرها، ومن ثم نعلم أنه لم يهتم بالإشراف على تأليف الرقعة التي كان سيضع عليها رسمه، ولو وفق في ذلك لكان خيرًا لإبراز مهارته؛ ولذلك لم نعد نشاهد تلك الرقعة الفاخرة التي كان بناءو عهد الأسرة الثامنة عشرة يحضرونها بإتقان وفن لدرجة أنها لو سقطت على الأرض وكُسرت وديست بالأقدام؛ فإنها لم تفقد شيئًا من جمالها. وعلى العكس نشاهد أن طبقة الطين التي كانت توضع على الجدار في عهد الرعامسة كانت تُخلط بالقش الخشن الذي كان يجتذب الحشرات القارضة، ثم تدهن بطبقة رقيقة من اللون الأبيض، أو اللون الأصفر الذي كان يمحى بمجرد أي احتكاك، أو رطوبة تصيبه؛ ولذلك نجد — كما هي الحال في أي عمل نفذ بإهمال — أن أي قبر مخرَّب من عهد الرعامسة يكون منظره محزنًا، يضاف إلى ذلك أن الألوان التي كانت تستعمل في تلوين الجدران لم تطحن بدقة، وتخلط بمادة تكسبها تماسكًا وليونة وثباتًا.
وقد كان من الجائز أن نعتبر حذف المفتن للمتون المفسرة — وهو أمر ظاهر في صور عهد الرعامسة — كسبًا حقيقيًّا إذا جعل المصور المنظر في هذه الحالة يتحدث عن نفسه، ولا يحتاج إلى تفسير كتابي، غير أن المفتن كان لا يهتم أحيانًا بالموضوع الذي يمثله فتجيء النتيجة عكسية، فالصلوات والصور التي تمثل الأعمال الخارقة للمألوف كانت من نصيب لفافات البردي، أما المناظر التي كانت تصور على الجدران فلا تحتوي إلا صورًا مكبرة من عناوين مصورة من كتاب الموتى وغيره، أو صورًا بمثابة حلية تلون بالألوان الزاهية. والواقع أن المتوفى ليس له تاريخ ينقش في المقبرة وقتئذ، وكل ما نعرف عنه أنه كان مؤسس الأسر، وأولاده هم خدَّامه الأقوياء، وقد كان ينتج عن عدم الدقة في الغرض والتنفيذ؛ عدم الدقة في التعبير، ولذلك لا يمكن الاعتماد على مقابر عهد الرعامسة في إمدادنا بوثائق صادقة للحوادث، أو لشكل الأشياء المصورة ولونها.
(٥-١) خواص أخرى لهذا العهد
ويلاحظ أن المادة في مقابر عهد الرعامسة لم تكن موحدة، ولم توضع على حسب فكرة مرسومة من قبل بالدرجة التي نلحظها في المقابر التي قبل هذا العهد؛ إذ نجد أن المادة كلها كتلة من الموضوعات كان هناك بعض سبب لرسمها على جدران المقبرة؛ من أجل ذلك كان حذف بعض الاقتباسات من المقابر التي من قبل عصر الرعامسة يفقدها شيئًا من قيمتها، ولكن إذا حدث ذلك في عهد الرعامسة أعطى الصورة ميزة بارزة، ولما كان الرسم الذي يمكن فصله عن الأصل، وكذلك التفاصيل المزدحمة في الصور تحتاج إلى رقعة أوسع كانت الصور التي تُرسم بمقياس كبير أكثر جاذبية وأبهى منظرًا، ولكن على العكس من ذلك إذا كبر مفتن عصر «رعمسيس الثاني» صورة صندوق «توت عنخ آمون» المنقطعة النظير، وهو الذي صور عليه مناظر الصيد والحرب خمسين مرة على حسب طريقته التي يظهر فيها الظلال المتغيرة في الأشكال المحفورة بمثابة صور مختصرة والصباغات الخشنة؛ شعر الإنسان بأنه قد نزل بهذه الأشكال إلى الحضيض، وإذا وازنا بين صور المنظرين عددنا الأولى جواهر، والأخرى إعلانًا عنها.
ومن الممكن الحط من قيمة تصوير عصر الرعامسة بسهولة لقلة الأمثلة التي حُفظت لنا في حالة جيدة، على أن عدم بقاء الكثير منها في ذاته يعد من مساوئ هذا الفن، ولكن من جهة أخرى نلحظ أن الميول الحديثة في الفن قد تميل إلى مظاهرة التجارب التي ظهر أنها خائبة بنسبة تسعة من عشرة، ومن باب أولى نستطيع أن نرحب بمثل هذا الحكم فيما يخص الفن القديم، ولا سيما أن التجربة الوحيدة الناجحة تكون بمثابة تخفيف وراحة للنفس من تلك الأشكال المتشابهة التي تتوالى أمامنا في صور العهد القديم.
وإذا كانت هذه هي مظاهر فن الرسام بعد عهد الإصلاح، وقبل القضاء عليه تمامًا، فإن هناك كذلك عهد انتقال قصير تضمن حكم «رعمسيس الثاني»، وقد كان في خلاله أثر مدرسة «إخناتون» الثابت على التصوير في عهد الرعامسة مضاعفًا؛ إذ نقل ما فيه الكفاية من الموضوعات الإنسانية، والغرائز الفنية الرفيعة، فأتيحت له أعمال ذات قيمة عظيمة في ذاتها، وزاد إضافات جديدة للأشكال المحددة التي دونها لنا التاريخ المصري، وكل ذلك يمكن مشاهدته في مقبرتي «وسرحات»، و«إبي» اللتين تكلمنا عنهما ببعض التفاصيل فيما سبق؛ لأنهما هما عنوان فن التصوير في هذا العهد.