دَرْسٌ جَدِيدٌ لِفَأْرِ الْمِسْكِ جيري
سَيُخْبِرُكَ فَأْرُ الْمِسْكِ جيري أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مِنْ أَصْدَقِ مَا يَكُونُ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَقَدِ اكْتَشَفَهُ بِنَفْسِهِ. وَالْآنَ صَارَ حَرِيصًا أَشَدَّ الْحِرْصِ بِشَأْنِ مَا يَقُولُهُ عَنِ الْآخَرِينَ أَوْ عَنْ أَفْعَالِهِمْ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْحِرْصِ بَيْنَمَا كَانَ ابْنُ عَمِّهِ، الْقُنْدُسُ بادي، يَبْنِي بَيْتَهُ. كَلَّا، لَمْ يَكُنْ جيري حَرِيصًا آنَذَاكَ؛ فَقَدْ ظَنَّ أَنَّهُ أَكْثَرُ دِرَايَةً بِكَيْفِيَّةِ بِنَاءِ الْبُيُوتِ مِنْ بادي. كَانَ وَاثِقًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَمَا رَأَى بادي يَرُصُّ كَوْمَةً كَبِيرَةً مِنَ الطِّينِ فِي مُنْتَصَفِ الْمِنَصَّةِ حَيْثُ كَانَ يَنْبَغِي لِغُرْفَتِهِ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ بَنَى جِدَارًا مِنَ الْعِصِيِّ حَوْلَهَا. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الرَّأْيِ لِلْأَرْنَبِ بيتر.
وَإِنَّ إِخْبَارَ الْأَرْنَبِ بيتر شَيْئًا لَا تُرِيدُ لِلْآخَرِينَ مَعْرِفَتَهُ تَصَرُّفٌ غَيْرُ مَأْمُونٍ بِالْمَرَّةِ؛ فَبيتر يُكِنُّ احْتِرَامًا كَبِيرًا لِرَأْيِ جيري فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبِنَاءِ الْبُيُوتِ؛ فَقَدْ كَانَ شَدِيدَ الْإِعْجَابِ بِبَيْتِ جيري الْأَنِيقِ فِي الْبِرْكَةِ الْبَاسِمَةِ، وَقَدْ كَانَ بَيْتًا جَمِيلًا حَقًّا، وَقَدْ يَكُونُ جيري مَعْذُورًا فِي فَخْرِهِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَعْذُورًا فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ عَنْ بِنَاءِ الْبُيُوتِ. وَبِالطَّبْعِ فَقَدْ أَخْبَرَ بيتر كُلَّ مَنْ صَادَفَهُ أَنَّ الْقُنْدُسَ بادي يَرْتَكِبُ خَطَأً أَحْمَقَ فِي بِنَاءِ بَيْتِهِ، وَأَنَّ فَأْرَ الْمِسْكِ جيري، ذَا الدِّرَايَةِ بِتِلْكَ الْأُمُورِ، قَالَ لَهُ ذَلِكَ.
فَكَانَ سُكَّانُ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ وَالْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ الصِّغَارُ كُلَّمَا وَاتَتْهُمُ الْفُرْصَةُ، يَتَسَلَّلُونَ إِلَى شَاطِئِ بِرْكَةِ بادي الْجَدِيدَةِ ضَاحِكِينَ مِنْ مَنْظَرِ كَوْمَةِ الْعِصِيِّ وَالطِّينِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي بَنَاهَا بادي عَلَى سَبِيلِ الْبَيْتِ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَنْ يَصْنَعَ فِيهَا غُرْفَةً. أَوْ إِنَّهُمْ، عَلَى الْأَقَلِّ، افْتَرَضُوا أَنَّهُ نَسِيَ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْبَالِغَ الْأَهَمِّيَّةِ. لَا بُدَّ أَنَّهُ نَسِيَهُ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَيَّةُ غُرْفَةٍ. فَكَانَ ذَلِكَ مَصْدَرَ تَسْلِيَةٍ كَبِيرًا لَهُمْ. وَكَثِيرًا مَا أَضْحَكَهُمْ، وَقَدْ نَسُوا الْكَثِيرَ مِنَ الِاحْتِرَامِ الَّذِي تَكَوَّنَ لَدَيْهِمْ إِزَاءَ بادي مُنْذُ بِنَائِهِ سَدَّهُ الرَّائِعَ.
وَقَدْ جَلَسَ جيري وَبيتر يَتَحَدَّثَانِ فِي الْأَمْرِ عَلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ. كَانَ بادي قَدْ كَفَّ عَنْ جَلْبِ الْعِصِيِّ مِنْ أَجْلِ بِنَاءِ الْجِدَارِ. وَغَاصَ بَعِيدًا عَنِ الْأَنْظَارِ، وَغَابَ فَتْرَةً طَوِيلَةً. وَفَجْأَةً لَاحَظَ جيري أَنَّ الْمَاءَ تَعَكَّرَ بِشِدَّةٍ حَوْلَ بَيْتِ بادي الْجَدِيدِ؛ فَعَقَدَ حَاجِبَيْهِ مُحَاوِلًا التَّفْكِيرَ فِيمَا قَدْ يَكُونُ بادي يَفْعَلُهُ. وَبَعْدَ بُرْهَةٍ، صَعِدَ بادي لِيَلْتَقِطَ أَنْفَاسَهُ، ثُمَّ غَاصَ مُجَدَّدًا، وَازْدَادَ الْمَاءُ تَعَكُّرًا. وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ الْمِنْوَالِ فَتْرَةً طَوِيلَةً؛ فَكَانَ بادي يَصْعَدُ لِالْتِقَاطِ أَنْفَاسِهِ وَالْحُصُولِ عَلَى بِضْعِ دَقَائِقَ مِنَ الرَّاحَةِ كُلَّ حِينٍ، ثُمَّ يَغُوصُ إِلَى أَسْفَلَ، وَيَزْدَادُ الْمَاءُ تَعَكُّرًا.
فِي النِّهَايَةِ لَمْ يَعُدْ جيري يُطِيقُ الِانْتِظَارَ. كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَجْرِي؛ فَانْزَلَقَ فِي الْمَاءِ وَسَبَحَ إِلَى الْبُقْعَةِ الْأَكْثَرِ تَعَكُّرًا. وَمَا إِنْ بَلَغَهَا حَتَّى صَعِدَ بادي إِلَى أَعْلَى.
فَقَالَ لَهُ بادي: «مَرْحَبًا يَا ابْنَ الْعَمِّ جيري! كُنْتُ عَلَى وَشْكِ دَعْوَتِكَ لِلْمَجِيءِ لِأَعْرِفَ رَأْيَكَ فِي بَيْتِي مِنَ الدَّاخِلِ. اتْبَعْنِي.»
ثُمَّ غَاصَ بادي، وَمِنْ وَرَائِهِ جيري، وَتَبِعَ بادي إِلَى أَحَدِ الْمَدَاخِلِ الثَّلَاثَةِ تَحْتَ سَطْحِ الْمَاءِ، وَالَّذِي يُؤَدِّي إِلَى رَدْهَةٍ مُمَهَّدَةٍ حَتَّى بَلَغَ أَكْبَرَ وَأَلْطَفَ حُجْرَةٍ رَآهَا جيري فِي حَيَاتِهِ؛ فَشَهَقَ فِي ذُهُولٍ. لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ سِوَى أَنْ يَشْهَقَ فِي ذُهُولٍ، فَقَدِ احْتَبَسَتِ الْكَلِمَاتُ فِي حَلْقِهِ. فَهَا هُوَ كَانَ يَقِفُ فِي تِلْكَ الْغُرْفَةِ الرَّائِعَةِ فَوْقَ سَطْحِ الْمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ وَاثِقًا لِلْغَايَةِ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ غُرْفَةٍ! وَبَدَا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ.
فَبَرِقَتْ عَيْنَا بادي وَقَالَ: «حَسَنًا. مَا رَأْيُكَ؟»
فَرَدَّ عَلَيْهِ جيري قَائِلًا: «أَنَا … أَنَا … أَظُنُّهَا رَائِعَةً، رَائِعَةً بِحَقٍّ! وَلَكِنِّي لَا أَفْهَمُ الْبَتَّةَ يَا ابْنَ الْعَمِّ بادي.» ثُمَّ سَأَلَهُ، وَقَدْ بَدَا عَلَيْهِ الْغَبَاءُ الَّذِي شَعَرَ بِهِ حِينَ سَأَلَ: «أَ… أَ… أَيْنَ كَوْمَةُ الطِّينِ الْكَبِيرَةُ الَّتِي سَاعَدْتُكَ فِي صُنْعِهَا فِي الْمُنْتَصَفِ؟»
فَأَجَابَهُ بادي: «تَخَلَّصْتُ مِنْهَا كُلِّهَا؛ لِذَا كَانَ الْمَاءُ مُتَعَكِّرًا لِلْغَايَةِ.»
فَأَلَحَّ جيري بِالسُّؤَالِ: «وَلَكِنْ لِمَاذَا صَنَعْتَهَا مِنَ الْأَصْلِ؟»
فَأَجَابَهُ بادي: «لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِي مِنْ شَيْءٍ أَضَعُ عَلَيْهِ الْعِصِيَّ أَثْنَاءَ بِنَائِيَ الْجُدْرَانَ بِالطَّبْعِ. فَعِنْدَمَا رَبَطْتُهَا مِنْ أَعْلَى لِتَصْنَعَ سَقْفًا لَمْ تَعُدْ بِحَاجَةٍ إِلَى دِعَامَةٍ، فَتَخَلَّصْتُ مِنْهَا لِكَيْ أَبْنِيَ هَذِهِ الْحُجْرَةَ. فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ السَّبِيلَ الْوَحِيدَ لِبِنَاءِ مِثْلِ تِلْكَ الْحُجْرَةِ الْكَبِيرَةِ؛ أَرَى أَنَّكَ لَا تَعْرِفُ الْكَثِيرَ عَنْ بِنَاءِ الْبُيُوتِ يَا ابْنَ الْعَمِّ جيري.»
فَأَقَرَّ جيري بِذَلِكَ بِحُزْنٍ قَائِلًا: «أَخْشَى أَنْ تَكُونَ عَلَى حَقٍّ.»