آثَارٌ فِي الطِّينِ
ذَاتَ صَبَاحٍ بَاكِرٍ سَمِعَ الْقُنْدُسُ بادي طَائِرَ السِّنْدِيَانِ سامي يُحْدِثُ جَلَبَةً شَدِيدَةً فِي إِحْدَى أَشْجَارِ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ عَلَى حَافَةِ الْبِرْكَةِ الَّتِي صَنَعَهَا بادي فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَةِ بادي النَّظَرُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَيْتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ بِبَيْتِهِ نَافِذَةٌ، وَلَكِنْ كَانَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يَسْمَعَ؛ فَعَقَدَ حَاجِبَيْهِ مُفَكِّرًا.
فَقَالَ بادي فِي نَفْسِهِ، وَهِيَ عَادَتُهُ؛ إِذْ كَانَ يَقْضِي أَكْثَرَ وَقْتِهِ وَحِيدًا: «يَبْدُو لِي أَنَّ سامي شَدِيدُ الْحَمَاسِ الْيَوْمَ؛ فَعِنْدَمَا يَصْرُخُ هَكَذَا، عَادَةً مَا يَكُونُ يُحَاوِلُ فِعْلَ شَيْئَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ — كَإِثَارَةِ الْمَتَاعِبِ لِأَحَدٍ وَإِبْقَاءِ آخَرَ بِمَنْأًى عَنْهَا — وَعِنْدَمَا تُفَكِّرُ فِي الْأَمْرِ، تَجِدُهُ غَرِيبًا إِلَى حَدٍّ مَا؛ فَهُوَ يُثْبِتُ أَنَّهُ لَيْسَ شِرِّيرًا تَمَامًا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَسِيرِ أَنْ يُوصَفَ بِالطِّيبَةِ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ. أَظُنُّ، حَسَبَ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَصْوَاتٍ، أَنَّ سامي كَشَفَ الثَّعْلَبَ ريدي وَهُوَ يُحَاوِلُ مُبَاغَتَةَ أَحَدِهِمْ هُنَاكَ حَيْثُ تَنْمُو أَشْجَارُ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ الْمُجَاوِرَةُ لِبَيْتِي. وَريدي يَخْشَانِي، وَلَكِنْ أَظُنُّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَرْنَبَ بيتر يَتَرَدَّدُ عَلَى هَذِهِ الْأَنْحَاءِ كَثِيرًا فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ لِيُشَاهِدَنِي أَثَنْاءَ عَمَلِي، وَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنَ الْإِمْسَاكِ بِبيتر. يَنْبَغِي أَنْ أَهْمِسَ فِي إِحْدَى أُذُنَيْ بيتر الطَّوِيلَتَيْنِ وَأُخْبِرَهُ أَنْ يَأْخُذَ حَذَرَهُ.»
وَبَعْدَ بُرْهَةٍ رَاحَ صَوْتُ سامي يَبْتَعِدُ وَيَبْتَعِدُ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. وَأَخِيرًا لَمْ يَعُدْ يَسْمَعُهُ مُطْلَقًا. فَفَكَّرَ بادي قَائِلًا: «أَيًّا مَنْ كَانَ هُنَاكَ فَقَدْ ذَهَبَ الْآنَ، وَتَبِعَهُ سامي لِكَيْ يَغِيظَهُ فَحَسْبُ.» كَانَ بادي آنَئِذٍ مَشْغُولًا جِدًّا فِي صُنْعِ فِرَاشِهِ؛ فَقَدْ كَانَ الْقُنْدُسُ بادي أَنِيقًا لِلْغَايَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفِرَاشِهِ؛ فَهُوَ يَصْنَعُهُ مِنْ شَظَايَا الْخَشَبِ الرَّفِيعَةِ الَّتِي يَنْتَزِعُهَا بِأَسْنَانِهِ الْقَاطِعَةِ الرَّائِعَةِ؛ فَبِذَلِكَ يَصْنَعُ الْفِرَاشَ الْأَكْثَرَ جَفَافًا. وَهُوَ يَتَطَلَّبُ الْكَثِيرَ مِنَ الصَّبْرِ وَالْعَمَلِ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ أَحَدُ أَوَائِلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَعَلَّمُهَا الْقَنَادِسُ الصَّغِيرَةُ، أَمَّا الْعَمَلُ الْمُخْلَصُ الْمُتْقَنُ فَهُوَ أَحَدُ أَعْظَمِ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ فِي الْعَالَمِ، كَمَا اكْتَشَفَ بادي بِنَفْسِهِ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ. وَلِهَذَا ظَلَّ عَاكِفًا عَلَى صُنْعِ فِرَاشِهِ بَعْضَ الْوَقْتِ بَعْدَمَا حَلَّ السُّكُونُ عَلَى أَرْجَاءِ الْمَكَانِ خَارِجَ بَيْتِهِ.
وَأَخِيرًا قَرَّرَ بادي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَشْجَارِ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ وَيَتَفَقَّدَهَا؛ لِكَيْ يُحَدِّدَ أَيُّهَا سَيُقَطِّعُهُ اللَّيْلَةَ الْقَادِمَةَ. فَانْزَلَقَ إِلَى أَسْفَلِ إِحْدَى رَدَهَاتِهِ الطَّوِيلَةِ، خَارِجًا مِنَ الْبَابِ عِنْدَ قَاعِ الْبِرْكَةِ، ثُمَّ سَبَحَ إِلَى السَّطْحِ؛ حَيْثُ طَفَا عَلَى الْمَاءِ بِضْعَ دَقَائِقَ مُطِلًّا مِنْهُ بِرَأْسِهِ فَقَطْ. وَطَوَالَ الْوَقْتِ انْشَغَلَتْ عَيْنَاهُ وَأَنْفُهُ وَأُذُنَاهُ بِالنَّظَرِ وَالشَّمِّ وَالسَّمْعِ بَحْثًا عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يُنْذِرُ بِالْخَطَرِ. وَلَكِنَّ السُّكُونَ سَادَ أَرْجَاءَ الْمَكَانِ. وَعِنْدَمَا تَأَكَّدَ مِنْ أَنَّ الْوَضْعَ آمِنٌ، سَبَحَ إِلَى حَيْثُ نَمَتْ أَشْجَارُ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ، وَسَارَ مُتَهَادِيًا عَلَى شَاطِئِ الْبِرْكَةِ.
ثُمَّ نَظَرَ يَمِينًا وَيَسَارًا. ثُمَّ نَظَرَ إِلَى قِمَمِ الْأَشْجَارِ، وَأَعْلَى التِّلَالِ، وَلَكِنَّهُ نَظَرَ أَكْثَرَ إِلَى الْأَرْضِ. نَعَمْ، رَاحَ بادي يَتَفَحَّصُ الْأَرْضَ؛ فَهُوَ لَمْ يَنْسَ الْجَلَبَةَ الَّتِي أَثَارَهَا طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي، وَكَانَ يُحَاوِلُ مَعْرِفَةَ سَبَبِهَا. فِي الْبِدَايَةِ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا خَارِجًا عَنِ الْمَأْلُوفِ، وَلَكِنَّهُ لَاحَظَ بَعْدَ حِينٍ رُقْعَةً صَغِيرَةً مُبْتَلَّةً، وَفِي مُنْتَصَفِهَا كَانَ شَيْءٌ اتَّسَعَتْ لَهُ عَيْنَاهُ؛ كَانَ أَثَرَ قَدَمٍ! فَقَدْ دَاسَ أَحَدُهُمْ فِي الطِّينِ بِتَهَاوُنٍ.
هَتَفَ بادي مُتَعَجِّبًا، وَقَدِ انْتَصَبَ الشَّعْرُ عَلَى ظَهْرِهِ قَلِيلًا، وَاقْشَعَرَّ بَدَنُهُ لِدَقِيقَةٍ؛ فَقَدْ كَانَ أَثَرُ الْقَدَمِ يُشْبِهُ آثَارَ أَقْدَامِ الثَّعْلَبِ ريدي كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ.
فَهَتَفَ مُتَعَجِّبًا مَرَّةً أُخْرَى، وَأَرْدَفَ: «مِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ تِلْكَ آثَارُ أَقْدَامِ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ! أَرَى أَنَّنِي لَا بُدَّ أَنْ آخُذَ حَذَرِي أَكْثَرَ مِمَّا ظَنَنْتُ. حَسَنًا يَا سَيِّدِي الْقَيُّوطَ؛ الْآنَ وَقَدْ صِرْتُ أَعْرِفُ أَنَّكَ قَرِيبٌ مِنْ هُنَا، عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ أَذْكَى مِمَّا أَتَخَيَّلُ حَتَّى تَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِمْسَاكِ بِي. قَطْعًا سَتَعُودُ لِتَبْحَثَ عَنِّي اللَّيْلَةَ، فَأَظُنُّنِي سَأَفْرَغُ مِنْ تَقْطِيعِ الشَّجَرَةِ الْآنَ فِي وَضَحِ النَّهَارِ.»