زِيَارَةُ سامي
كَانَ الْقُنْدُسُ بادي مُنْهَمِكًا فِي الْعَمَلِ. فَكَانَ قَدْ فَرَغَ لِتَوِّهِ مِنْ تَقْطِيعِ شَجَرَةِ حُورٍ رَجْرَاجٍ كَبِيرَةٍ نِسْبِيًّا، وَكَانَ حِينَهَا يُقَطِّعُهَا بِأَسْنَانِهِ إِلَى أَجْزَاءٍ قَصِيرَةٍ؛ لِيَضَعَهَا فِي كَوْمَةِ الطَّعَامِ الْمَوْجُودَةِ لَدَيْهِ فِي الْبِرْكَةِ. وَأَثْنَاءَ عَمَلِهِ كَانَ مَشْغُولَ الْفِكْرِ بِمَسْأَلَةِ آثَارِ أَقْدَامِ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ الَّتِي وَجَدَهَا وَسْطَ بُقْعَةِ طِينٍ صَغِيرَةٍ؛ إِذْ عَرَفَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَيُّوطَ الْعَجُوزَ اكْتَشَفَ بِرْكَتَهُ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجُولَ فِي الْمَكَانِ؛ أَمَلًا فِي الْإِيقَاعِ بِبادي عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ. كَانَ بادي وَاثِقًا مِنْ ذَلِكَ تَمَامَ الثِّقَةِ؛ وَمِنْ ثَمَّ شَرَعَ فِي جَمْعِ مَخْزُونِ طَعَامِهِ أَثْنَاءَ النَّهَارِ؛ فَهُوَ عَادَةً يَعْمَلُ لَيْلًا، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَيُّوطَ الْعَجُوزَ عَلَى عِلْمٍ بِذَلِكَ.
فَفَكَّرَ بادي فِي نَفْسِهِ قَائِلًا: «سَيُحَاوِلُ الْإِمْسَاكَ بِي لَيْلًا؛ لِذَا سَأُنْهِي الْعَمَلَ الَّذِي أَقُومُ بِهِ عَلَى الْأَرْضِ الْآنَ وَأَخْدَعُهُ.»
بَدَأَتِ الشَّجَرَةُ الَّتِي كَانَ يُقَطِّعُهَا تَتَأَرْجَحُ وَتَنْكَسِرُ، فَقَضَمَ بادي قَضْمَةً كَبِيرَةً أُخْرَى، ثُمَّ أَسْرَعَ بِالْهُرُوبِ إِلَى مَكَانٍ آمِنٍ، بَيْنَمَا سَقَطَتِ الشَّجَرَةُ مُحْدِثَةً دَوِيًّا عَالِيًا.
فَتَعَالَى صَوْتُ صِيَاحٍ مِنْ خَلْفِ بادي قَائِلًا: «لِصٌّ! لِصٌّ! لِصٌّ!»
فَقَالَ بادي: «مَرْحَبًا يَا سامي! أَرَى أَنَّ مِزَاجَكَ سَيِّئٌ كَالْمُعْتَادِ هَذَا الصَّبَاحَ. أَلَا تَرْغَبُ فِي الْجُلُوسِ فَوْقَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ رَيْثَمَا أُقَطِّعُهَا؟»
فَاسْوَدَّ وَجْهُ سامي غَضَبًا؛ إِذْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ بادي يَسْخَرُ مِنْهُ. فَكَمَا تَذْكُرُونَ، مُنْذُ بِضْعَةِ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ كَانَ اهْتِمَامُهُ مُنْصَبًّا تَمَامًا عَلَى سَبِّ بادي، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَلْحَظْ أَنَّ بادي كَانَ آخِذًا فِي تَقْطِيعِ الشَّجَرَةِ ذَاتِهَا حَيْثُ كَانَ سامي جَالِسًا، فَانْتَابَهُ فَزَعٌ شَدِيدٌ عِنْدَمَا سَقَطَتْ.
فَصَاحَ بِهِ سامي قَائِلًا: «تَظُنُّ نَفْسَكَ بَالِغَ الذَّكَاءِ يَا سَيِّدِي الْقُنْدُسَ، وَلَكِنَّكَ سَتُغَيِّرُ رَأْيَكَ يَوْمًا! لَوْ بَلَغَكَ مَا عَرَفْتُهُ، مَا فَرِحْتَ بِنَفْسِكَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ.»
فَسَأَلَهُ بادي، مُتَظَاهِرًا بِالْقَلَقِ الشَّدِيدِ: «وَمَاذَا عَرَفْتَ؟»
فَرَدَّ عَلَيْهِ طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي قَائِلًا: «لَنْ أُخْبِرَكَ مَا عَرَفْتُ. سَتَعْرِفُ بِنَفْسِكَ عَمَّا قَرِيبٍ. وَعِنْدَمَا تَعْرِفُ، لَنْ تَسْرِقَ شَجَرَةً مِنْ غَابَتِنَا الْخَضْرَاءِ ثَانِيَةً؛ فَأَحَدُهُمْ سَيُمْسِكُ بِكَ، وَهُوَ لَيْسَ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون!»
فَتَظَاهَرَ بادي بِالْخَوْفِ الشَّدِيدِ، وَرَاحَ يَسْأَلُهُ رَاجِيًا: «أُوهْ، مَنْ هُوَ؟ أَخْبِرْنِي أَرْجُوكَ يَا سَيِّدِي طَائِرَ السِّنْدِيَانِ.»
شَعَرَ سامي بِأَهَمِّيَّتِهِ الْكَبِيرَةِ لَدَى مُنَادَاتِهِ ﺑِ «سَيِّدِي طَائِرَ السِّنْدِيَانِ»؛ فَالْجَمِيعُ تَقْرِيبًا عَدَا بادي كَانُوا يُنَادُونَهُ سامي. فَنَفَشَ رِيشَهُ مُحَاوِلًا أَنْ يَبْدُوَ مُهِمًّا مِثْلَمَا تَرَاءَى لَهُ، وَبَرِقَتْ عَيْنَاهُ فِي نَشْوَةٍ. لَقَدْ نَجَحَ فِي إِخَافَةِ الْقُنْدُسِ بادي حَقًّا. أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ كَانَ ذَلِكَ مَا ظَنَّهُ.
فَرَدَّ عَلَيْهِ قَائِلًا: «كَلَّا يَا سَيِّدِي، لَنْ أُخْبِرَكَ. وَلَكِنِّي لَا أَوَدُّ أَنْ أَكُونَ مَكَانَكَ أَبَدًا! فَهُنَاكَ مَنْ هُوَ أَذْكَى مِنْكَ وَسَيُمْسِكُ بِكَ، وَعِنْدَمَا يَنْتَهِي مِنَ الْتِهَامِكَ لَنْ يَتَبَقَّى مِنْكَ سِوَى بَعْضِ الْعِظَامِ؛ نَعَمْ يَا سَيِّدِي، لَا شَيْءَ سِوَى بَعْضِ الْعِظَامِ!»
فَهَتَفَ بادي قَائِلًا: «أُوهْ يَا سَيِّدِي طَائِرَ السِّنْدِيَانِ، يَا لَهَا مِنْ أَنْبَاءٍ مُفْزِعَةٍ! مَاذَا عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ؟» وَطَوَالَ ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا بَرِحَ يُقَطِّعُ الشَّجَرَةَ.
فَأَجَابَهُ سامي، وَهُوَ يَبْتَسِمُ فِي خُبْثٍ مِمَّا أَصَابَ بادي مِنْ خَوْفٍ: «لَيْسَ ثَمَّةَ مَا يُمْكِنُكَ فِعْلُهُ. لَيْسَ ثَمَّةَ مَا يُمْكِنُكَ فِعْلُهُ سِوَى أَنْ تَعُودَ أَدْرَاجَكَ إِلَى الشَّمَالِ الَّذِي جِئْتَ مِنْهُ. تَظُنُّ نَفْسَكَ بَالِغَ الذَّكَاءِ، وَلَكِنْ …»
وَلَمْ يُكْمِلْ سامي حَدِيثَهُ. ثُمَّ، طْرَاخْ! سَقَطَتِ الشَّجَرَةُ الَّتِي كَانَ بادي يُقَطِّعُهَا وَاصْطَدَمَتْ قِمَّتُهَا بِشَجَرَةِ جَارِ الْمَاءِ حَيْثُ كَانَ سامي جَالِسًا. فَبَسَطَ سامي جَنَاحَيْهِ وَحَلَّقَ مُبْتَعِدًا فِي اللَّحْظَةِ الْأَخِيرَةِ، صَارِخًا: «أُوهْ! أُوهْ! النَّجْدَةَ!»
فَجَلَسَ بادي وَأَخَذَ يَضْحَكُ حَتَّى آلَمَهُ الضَّحِكُ، ثُمَّ قَالَ: «عُدْ لِزِيَارَتِي يَوْمًا يَا سامي! وَعِنْدَمَا تَأْتِي، أَرْجُو أَنْ تَجْلِبَ لِي أَنْبَاءً حَقِيقِيَّةً. أَنَا أَعْرِفُ أَمْرَ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ. فَلْتُخْبِرْهُ نِيَابَةً عَنِّي أَنَّهُ عِنْدَمَا يُخَطِّطُ لِلْإِمْسَاكِ بِأَحَدٍ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ تَرْكِ آثَارِ أَقْدَامٍ تَكْشِفُ أَمْرَهُ.»
فَلَمْ يَرُدَّ سامي، وَإِنَّمَا تَسَلَّلَ عَبْرَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، وَقَدْ بَدَا عَلَيْهِ الشُّعُورُ بِالْحُمْقِ.