حَسْرَةُ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ
تَمَدَّدَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي يُفَضِّلُ قَضَاءَ قَيْلُولَتِهِ فِيهَا عَلَى الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ. وَكَانَ يُفَكِّرُ فِيمَا اكْتَشَفَهُ ذَلِكَ الصَّبَاحَ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ؛ وَهُوَ أَنَّ الْقُنْدُسَ بادي يُقِيمُ هُنَاكَ. بَدَتْ لِلْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ أَفْكَارٌ مُبْهِجَةٌ جِدًّا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْوَاقِعِ أَفْكَارًا بَغِيضَةً؛ فَقَدْ كَانَ يُفَكِّرُ فِي مَدَى سُهُولَةِ الْإِمْسَاكِ بِبادي، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ وَجْبَةً شَهِيَّةً لِلْغَايَةِ. وَلَعِقَ فَاهَ عِنْدَمَا خَطَرَتْ تِلْكَ الْفِكْرَةُ عَلَى بَالِهِ.
وَفَكَّرَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ قَائِلًا: «هُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّنِي أَعْلَمُ بِوُجُودِهِ، بَلْ إِنِّي إِخَالُهُ لَا يَعْلَمُ بِوُجُودِي فِي الْجِوَارِ مِنَ الْأَسَاسِ، وَبِالطَّبْعِ لَنْ يَتَرَقَّبَ مَجِيئِي. إِنَّهُ يُقَطِّعُ أَشْجَارَهُ أَثْنَاءَ اللَّيْلِ، فَمَا عَلَيَّ الْآنَ سِوَى أَنْ أَخْتَبِئَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَانِ عَمَلِهِ، حَتَّى يَلِجَ بِنَفْسِهِ فِي فَمِي مُبَاشَرَةً. فَطَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي يَعْلَمُ أَنَّنِي كُنْتُ هُنَاكَ صَبَاحَ الْيَوْمِ، وَلَكِنَّهُ يَنَامُ أَثْنَاءَ اللَّيْلِ، فَلَنْ يُطْلِقَ الْإِنْذَارَ. آهِ، كَمْ سَيَكُونُ مَذَاقُ الْقُنْدُسِ طَيِّبًا!» ثُمَّ لَعِقَ فَاهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَتَثَاءَبَ ثُمَّ أَغْلَقَ عَيْنَيْهِ لِيَغْفُوَ قَلِيلًا.
وَانْتَظَرَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ حَتَّى أَوَى قُرْصُ الشَّمْسِ الْأَحْمَرُ الْمُسْتَدِيرُ الْمَرِحُ إِلَى فِرَاشِهِ خَلْفَ التِّلَالِ الْأُرْجُوَانِيَّةِ، وَأَسْدَلَتِ الظِّلَالُ السَّوْدَاءُ أَسْتَارَهَا عَلَى الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ. ثُمَّ تَسَلَّلَ إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ مُحْتَمِيًا بِأَكْثَرِ الظِّلَالِ سَوَادًا، وَقَدْ بَدَا هُوَ نَفْسُهُ أَشْبَهَ بِالظِّلِّ. كَانَتِ الْغَابَةُ مُظْلِمَةً، وَاتَّجَهَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ إِلَى بِرْكَةِ بادي الْجَدِيدَةِ مُبَاشَرَةً، مُهَرْوِلًا بِخِفَّةٍ دُونَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ صَوْتٌ. وَعِنْدَمَا اقْتَرَبَ مِنْ أَشْجَارِ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ الَّتِي كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ بادي يَنْوِي تَقْطِيعَهَا، تَسَلَّلَ إِلَى الْأَمَامِ بِبُطْءٍ وَحَذَرٍ شَدِيدَيْنِ. وَكَانَ السُّكُونُ مَا زَالَ مُخَيِّمًا عَلَى الْأَنْحَاءِ.
فَفَكَّرَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ قَائِلًا: «مُمْتَازٌ! لَقَدْ وَصَلْتُ قَبْلَهُ، وَالْآنَ مَا عَلَيَّ سِوَى أَنْ أَخْتَبِئَ؛ انْتِظَارًا لِخُرُوجِ بادي إِلَى ضَفَّةِ الْبِرْكَةِ.»
فَاسْتَلْقَى مُنْبَطِحًا خَلْفَ بَعْضِ الْأَغْصَانِ الْمُتَشَابِكَةِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَمَرِّ الضَّيِّقِ الَّذِي صَنَعَهُ بادي مِنْ حَافَةِ الْمَاءِ وَانْتَظَرَ. كَانَ السُّكُونُ مُخَيِّمًا عَلَى الْأَنْحَاءِ، إِلَى حَدِّ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ بِإِمْكَانِهِ سَمَاعَ ضَرَبَاتِ قَلْبِهِ. كَانَ يَرَى النُّجُومَ الصَّغِيرَةَ مُتَلَأْلِئَةً فِي السَّمَاءِ، بَيْنَمَا تَلَأْلَأَ انْعِكَاسُهَا عَلَى مِيَاهِ بِرْكَةِ بادي. ظَلَّ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ مُنْتَظِرًا؛ فَهُوَ صَبُورٌ جِدًّا عِنْدَمَا يَكُونُ ثَمَّةَ مُقَابِلٌ لِصَبْرِهِ. فَمِنْ أَجْلِ الْحُصُولِ عَلَى عَشَاءٍ رَائِعٍ كَالْقُنْدُسِ بادي، كَانَ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يَصْبِرَ كَثِيرًا. فَانْتَظَرَ ثُمَّ انْتَظَرَ، وَبَدَا كُلُّ شَيْءٍ سَاكِنًا لِلْغَايَةِ كَأَنْ لَيْسَ مِنْ كَائِنٍ حَيٍّ سِوَى الْأَشْجَارِ. وَحَتَّى الْأَشْجَارُ بَدَتْ نَائِمَةً.
وَأَخِيرًا بَعْدَ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ جِدًّا، نَمَى إِلَى مَسَامِعِهِ صَوْتٌ خَافِتٌ فِي الْمَاءِ. فَانْتَصَبَتْ أُذُنَاهُ وَاخْتَلَسَ النَّظَرَ إِلَى الْبِرْكَةِ وَقَدْ لَاحَتْ فِي عَيْنَيْهِ الصَّفْرَاوَيْنِ نَظْرَةُ جُوعٍ نَهِمَةٌ؛ فَقَدْ كَانَ ثَمَّةَ خَطٌّ فِضِّيٌّ رَفِيعٌ فِي الْمَاءِ يَقْتَرِبُ تِجَاهَهُ. وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ سِبَاحَةَ بادي هِيَ الَّتِي صَنَعَتْ ذَلِكَ الْخَطَّ. رَاحَ الْخَطُّ يَقْتَرِبُ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ، فَضَحِكَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ فِي أَعْمَاقِهِ، دُونَ أَنْ يُصْدِرَ صَوْتًا. كَانَ بِإِمْكَانِهِ رُؤْيَةُ رَأْسِ بادي آنَئِذٍ، وَكَانَ قَادِمًا بِثِقَةٍ، كَأَنَّهُ لَا يَخْشَى شَيْئًا فِي الْعَالَمِ.
سَبَحَ بادي حَتَّى حَافَةِ الْبِرْكَةِ تَقْرِيبًا، ثُمَّ تَوَقَّفَ. وَفِي غُضُونِ بِضْعِ دَقَائِقَ بَدَأَ يَسْبَحُ مُجَدَّدًا، وَلَكِنْ فِي اتِّجَاهِ الْعَوْدَةِ إِلَى بَيْتِهِ هَذِهِ الْمَرَّةَ، وَبَدَا أَنَّهُ يَحْمِلُ شَيْئًا. كَانَ يَحْمِلُ قِطْعَةً مِنْ طَعَامِهِ الَّذِي قَطَعَهُ مِنَ الْأَشْجَارِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَكَانَ يَحْمِلُهَا إِلَى مَخْزَنِهِ. ثُمَّ عَادَ لِيَنْقُلَ أُخْرَى. وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ الْمِنْوَالِ، دُونَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الشَّاطِئِ وَلَوْ مَرَّةً. فَانْتَظَرَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ حَتَّى حَمَلَ بادي آخِرَ قِطْعَةِ خَشَبٍ إِلَى مَخْزَنِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ الْمَاءَ بِذَيْلِهِ الْعَرِيضِ مُحْدِثًا صَوْتًا عَالِيًا، وَغَاصَ فِي الْمَاءِ لِيَخْتَفِيَ فِي بَيْتِهِ.
حِينَهَا نَهَضَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ وَانْطَلَقَ يَبْحَثُ عَنْ عَشَائِهِ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَقَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِحَسْرَةٍ مَرِيرَةٍ.