خُطَّةُ الْقَيُّوطِ الْجَدِيدَةُ
عَلَى مَدَى ثَلَاثِ لَيَالٍ كَانَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ يَتَسَلَّلُ عَبْرَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ مَعَ حُلُولِ خُيُوطِ الظَّلَامِ السَّوْدَاءِ وَيَخْتَبِئُ بَيْنَ أَشْجَارِ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ حَيْثُ اعْتَادَ الْقُنْدُسُ بادي أَنْ يُقَطِّعَ طَعَامَهُ، وَعَلَى مَدَى ثَلَاثِ لَيَالٍ لَمْ يَأْتِ بادي إِلَى الشَّاطِئِ؛ فَكُلَّ لَيْلَةٍ كَانَ يَبْدُو أَنَّ لَدَيْهِ مَا يَكْفِي مِنَ الْأَخْشَابِ فِي الْمَاءِ لِيُبْقِيَهُ مَشْغُولًا دُونَ تَقْطِيعِ الْمَزِيدِ مِنَ الْأَشْجَارِ. فَتَمَدَّدَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ هُنَاكَ، وَقَدْ تَحَوَّلَتْ نَظْرَةُ الْجُوعِ فِي عَيْنَيْهِ إِلَى نَظْرَةِ شَكٍّ ثُمَّ نَظْرَةِ رِيبَةٍ؛ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقُنْدُسُ بادي أَذْكَى مِمَّا تَصَوَّرَ؟ فَقَدْ بَدَا كَأَنَّ بادي يَعْلَمُ تَمَامًا أَنَّهُ يَخْتَبِئُ هُنَاكَ كُلَّ لَيْلَةٍ. نَعَمْ، هَكَذَا بَدَا الْأَمْرُ. فَخِلَالَ ثَلَاثِ لَيَالٍ لَمْ يُقَطِّعْ بادي شَجَرَةً وَاحِدَةً، وَكُلَّ لَيْلَةٍ يَكُونُ لَدَيْهِ قَدْرٌ وَفِيرٌ مِنَ الْأَخْشَابِ يَنْقُلُهُ إِلَى مَخْزَنِهِ فِي الْبِرْكَةِ.
فَفَكَّرَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ، أَثْنَاءَ عَوْدَتِهِ إِلَى الْبَيْتِ مُتْعَبًا فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَقَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِغَضَبٍ شَدِيدٍ، قَائِلًا: «مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَأْتِي إِلَى الشَّاطِئِ نَهَارًا لِيُقَطِّعَ أَشْجَارَهُ. لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَشَفَ أَمْرِي وَحْدَهُ؛ فَهُوَ لَا يَمْتَلِكُ الذَّكَاءَ الْكَافِيَ لِذَلِكَ. لَا بُدَّ أَنَّ أَحَدًا أَخْبَرَهُ. وَلَا أَحَدَ يَعْلَمُ بِذَهَابِي إِلَى هُنَاكَ سِوَى طَائِرِ السِّنْدِيَانِ سامي. لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَاشِيَ. أَظُنُّنِي سَأَذْهَبُ لِزِيَارَةِ بادي غَدًا أَثْنَاءَ النَّهَارِ، وَحِينَهَا سَنَرَى!»
مُشْكِلَةُ بَعْضِ الْأَذْكِيَاءِ أَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَبَدًا تَصْدِيقُ أَنَّ الْآخَرِينَ قَدْ يَكُونُونَ بِمِثْلِ ذَكَائِهِمْ؛ فَالْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ عِنْدَمَا زَارَ بِرْكَةَ بادي لِلْمَرَّةِ الْأُولَى خَلَّفَ وَرَاءَهُ أَثَرَ قَدَمِهِ فِي رُقْعَةٍ صَغِيرَةٍ مِنَ الطِّينِ الرَّطْبِ. وَلَوْ عَلِمَ ذَلِكَ، لَمَا صَدَّقَ أَنَّ بادي يَمْلِكُ الذَّكَاءَ الْكَافِيَ لِيُخَمِّنَ مَدْلُولَ ذَلِكَ الْأَثَرِ. لِذَا أَلْقَى الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ بِاللَّوْمِ كُلِّهِ عَلَى سامي، وَفِي الصَّبَاحِ ذَاتِهِ، عِنْدَمَا حَلَّقَ سامي فَوْقَ الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ، اتَّهَمَهُ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ بِأَنَّهُ وَاشٍ، وَهَدَّدَهُ بِأَنْ يَفْعَلَ بِهِ أَفْظَعَ الْأَشْيَاءِ إِنْ أَمْسَكَ بِهِ يَوْمًا.
وَكَانَ سامي قَدْ طَارَ إِلَى الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ لِيُخْبِرَ الْقَيُّوطَ الْعَجُوزَ أَنَّ بادي كَانَ يُنْهِي كُلَّ عَمَلِهِ عَلَى الْبَرِّ أَثْنَاءَ النَّهَارِ. وَلَكِنْ عِنْدَمَا رَاحَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ يُنَادِيهِ بِالْوَاشِي وَيَتَّهِمُهُ بِأَنَّهُ أَنْذَرَ بادي، وَيُهَدِّدُهُ بِأَفْظَعِ الْأَشْيَاءِ، نَسِيَ كُلَّ غَضَبِهِ مِنْ بادي عَلَى الْفَوْرِ وَصَبَّ جَامَ غَضَبِهِ عَلَى الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ. فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ كُلَّ حَصِيلَتِهِ الْكَبِيرَةِ مِنَ السِّبَابِ؛ إِذْ إِنَّ سامي سَلِيطُ اللِّسَانِ. وَعِنْدَمَا انْقَطَعَتْ أَنْفَاسُهُ، طَارَ إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ؛ حَيْثُ اخْتَبَأَ فِي مَوْقِعٍ يُمْكِنُهُ مِنْهُ مُرَاقَبَةُ كُلِّ مَا يَحْدُثُ.
وَعَصْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ جَرَّبَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ خُطَّتَهُ الْجَدِيدَةَ. فَتَسَلَّلَ إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، جَائِلًا بِبَصَرِهِ فِيمَا حَوْلَهُ كَيْ يَتَأَكَّدَ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَرَهُ. ثُمَّ تَسَلَّلَ بِنُعُومَةٍ بَالِغَةٍ عَبْرَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ تِجَاهَ بِرْكَةِ الْقُنْدُسِ بادي. وَعِنْدَمَا دَنَا مِنْهَا، سَمِعَ صَوْتَ ارْتِطَامٍ، فَابْتَسَمَ؛ فَقَدْ عَرَفَ مَعْنَى ذَلِكَ الصَّوْتِ؛ فَمَعْنَاهُ أَنَّ بادي كَانَ يَعْمَلُ عَلَى تَقْطِيعِ الْأَشْجَارِ. فَتَسَلَّلَ إِلَى الْأَمَامِ مُنْبَطِحًا حَتَّى كَادَ بَطْنُهُ يَلْمِسُ الْأَرْضَ، شَيْئًا فَشَيْئًا، شَيْئًا فَشَيْئًا، مُتَوَخِّيًا أَشَدَّ الْحَذَرِ لِكَيْلَا يُحَرِّكَ وَلَوْ وَرَقَةَ شَجَرٍ. وَسُرْعَانَ مَا بَلَغَ مَوْضِعًا أَمْكَنَهُ رُؤْيَةُ أَشْجَارِ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ مِنْهُ، وَهُنَاكَ كَانَ بادي فِعْلًا، جَالِسًا عَلَى سَاقَيْهِ الْخَلْفِيَّتَيْنِ يَعْمَلُ بِكَدٍّ فِي تَقْطِيعِ شَجَرَةٍ أُخْرَى.
فَاسْتَلْقَى الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ بِضْعَ دَقَائِقَ لِيُرَاقِبَ الْمَشْهَدَ. ثُمَّ زَحَفَ مُقْتَرِبًا مِنْهُ أَكْثَرَ. ثُمَّ سَحَبَ سَاقَيْهِ تَحْتَهُ بِبُطْءٍ وَحَذَرٍ وَتَأَهَّبَ لِلْوَثْبِ. وَأَخِيرًا كَانَ الْقُنْدُسُ بادي فِي مَرْمَى انْقِضَاضِهِ! وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ انْطَلَقَتْ صَيْحَةٌ خَشِنَةٌ فَوْقَ رَأْسِهِ مُبَاشَرَةً: «لِصٌّ! لِصٌّ! لِصٌّ!»
كَانَتْ تِلْكَ صَيْحَةَ طَائِرِ السِّنْدِيَانِ سامي، الَّذِي تَبِعَهُ بِصَمْتٍ طَوَالَ الطَّرِيقِ. فَلَمْ يَتَوَقَّفِ الْقُنْدُسُ بادي وَلَوْ لِيَنْظُرَ حَوْلَهُ؛ فَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ مَعْنَى تِلْكَ الصَّيْحَةِ، وَقَدْ هُرِعَ سَالِكًا مَمَرَّهُ الضَّيِّقَ إِلَى الْمِيَاهِ أَسْرَعَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى. ثُمَّ قَفَزَ فِي الْمَاءِ مُحْدِثًا صَوْتًا عَالِيًا، بَيْنَمَا وَثَبَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ وَثْبَةً هَائِلَةً وَهَبَطَ عِنْدَ حَافَةِ الْبِرْكَةِ مُبَاشَرَةً.