صَدَاقَةُ بادي وَسامي
طَفَا الْقُنْدُسُ بادي عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ فِي بِرْكَتِهِ وَقَدْ أَسْفَرَ وَجْهُهُ عَنِ ابْتِسَامَةٍ شَدِيدَةِ الِاسْتِفْزَازِ لِلْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ، الَّذِي كَادَ يُمْسِكُ بِهِ. وَكَانَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ يَرْتَجِفُ غَضَبًا عَلَى ضَفَّةِ الْبِرْكَةِ؛ فَقَدْ كَانَ وَاثِقًا لِلْغَايَةِ مِنْ نَيْلِهِ مِنْ بادي تِلْكَ الْمَرَّةَ، حَتَّى إِنَّهُ وَجَدَ صُعُوبَةً كَبِيرَةً فِي تَصْدِيقِ أَنَّ بادي أَفْلَتَ مِنْهُ حَقًّا. وَكَشَّرَ عَنْ أَنْيَابِهِ الطَّوِيلَةِ الْقَاسِيَةِ، فَبَدَا شَرِسًا وَقَبِيحًا لِلْغَايَةِ.
فَنَادَاهُ بادي قَائِلًا: «تَعَالَ إِلَى هُنَا؛ فَالْمِيَاهُ رَائِعَةٌ!»
لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَصَرُّفًا لَطِيفًا مِنْ بادي بِالطَّبْعِ؛ فَقَدْ أَدَّى إِلَى زِيَادَةِ غَضَبِ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ فَحَسْبُ. أَدْرَكَ بادي جَيِّدًا أَنَّهُ فِي أَمَانٍ تَامٍّ؛ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَسْتَطِعْ مُقَاوَمَةَ إِغْرَاءِ التَّلَفُّظِ بِبَعْضِ الْكَلِمَاتِ الْقَاسِيَةِ؛ فَقَدِ اضْطُرَّ إِلَى تَوَخِّي الْحَذَرِ لِأَيَّامٍ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُمْسَكَ بِهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُجِيدَ عَمَلَهُ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ مَا يَخْشَاهُ، وَمَا زَالَ أَمَامَهُ تَجْهِيزَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَجْلِ الشِّتَاءِ؛ لِذَا أَخْبَرَ الْقَيُّوطَ الْعَجُوزَ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ دُونَ مُوَارَبَةٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِالذَّكَاءِ الَّذِي يَظُنُّهُ، وَإِلَّا فَمَا كَانَ تَرَكَ أَثَرَ قَدَمِهِ فِي الطِّينِ لِيَكْشِفَ أَمْرَهُ.
عِنْدَمَا سَمِعَ طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي ذَلِكَ الْكَلَامَ — إِذْ كَانَ يُصْغِي وَيَضْحَكُ مِمَّا يُصْغِي إِلَيْهِ — طَارَ إِلَى حَيْثُ كَادَ يَكُونُ فِي مُتَنَاوَلِ يَدِ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ، ثُمَّ أَطْلَقَ لِسَانَهُ، وَيَقُولُ الْبَعْضُ كَمَا تَعْرِفُونَ إِنَّ لِسَانَ سامي بَالِغُ الطُّولِ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ. لَيْسَ ذَلِكَ صَحِيحًا بِالطَّبْعِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَمَا يَشْرَعُ فِي الْإِسَاءَةِ إِلَى النَّاسِ يَبْدُو أَكِيدًا أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَحِيحٌ. وَقَدْ نَعَتَ الْقَيُّوطَ الْعَجُوزَ بِكُلِّ مَا عَرَفَهُ مِنْ سِبَابٍ؛ فَنَعَتَهُ بِالْمُتَسَلِّلِ وَاللِّصِّ وَالْجَبَانِ وَالْمُسْتَأْسِدِ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَأَلْفَاظٍ أُخْرَى كَثِيرَةٍ.
وَصَاحَ سامي قَائِلًا: «قُلْتَ إِنَّنِي أَنْذَرْتُ بادي بِمُحَاوَلَتِكِ الْإِمْسَاكَ بِهِ، وَأَنَّكَ لِذَلِكَ لَمْ تَجِدْهُ يَعْمَلُ أَثْنَاءَ اللَّيْلِ، وَطَوَالَ الْوَقْتِ كُنْتَ أَنْتَ مَنْ أَنْذَرَهُ! كُنْتُ أَظُنُّكَ ذَكِيًّا، وَلَكِنِّي عَرَفْتُ الْحَقِيقَةَ الْآنَ؛ فَذَكَاءُ بادي ضِعْفُ ذَكَائِكَ.»
ضَحِكَ الْقُنْدُسُ بادي حَتَّى دَمَعَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْأَبْيَاتِ الْحَمْقَاءِ الَّتِي أَلْقَاهَا سامي، وَلَكِنَّهَا زَادَتِ الْقَيُّوطَ الْعَجُوزَ غَضَبًا عَلَى غَضَبٍ. كَانَ غَاضِبًا مِنْ بادي لِأَنَّهُ أَفْلَتَ مِنْ يَدَيْهِ، وَغَاضِبًا مِنْ سامي، بَلْ شَدِيدَ الْغَضَبِ، وَكَانَ أَسْوَأُ مَا فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْإِمْسَاكِ بِأَيِّهِمَا؛ فَأَحَدُهُمَا كَانَ بَيْتُهُ فِي الْمَاءِ وَالْآخَرُ كَانَ بَيْتُهُ فِي الْهَوَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي إِمْكَانِهِ أَنْ يَتْبَعَ أَيًّا مِنْهُمَا فِي بَيْتِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ فَهِمَ أَنَّهُ لَا جَدْوَى مِنَ الْبَقَاءِ؛ حَيْثُ صَارَ أُضْحُوكَةً، فَانْطَلَقَ إِلَى الْغَابَةِ، وَهُوَ يُرْغِي وَيُزْبِدُ.
فَمَا إِنِ اخْتَفَى عَنِ الْأَنْظَارِ حَتَّى الْتَفَتَ بادي إِلَى سامي.
وَقَالَ: «يَا سَيِّدِي طَائِرَ السِّنْدِيَانِ»؛ فَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ كَمْ يَطِيبُ لِسامي أَنْ يُنَادَى بِسَيِّدِي، وَأَرْدَفَ: «يَا سَيِّدِي طَائِرَ السِّنْدِيَانِ، قَدْ أَسْدَيْتَ لِي مَعْرُوفًا عَظِيمًا الْيَوْمَ، وَلَنْ أَنْسَاهُ. يُمْكِنُكَ أَنْ تَنَعَتَنِي بِمَا تَشَاءُ وَتَصِيحُ بِي كَمَا تَشَاءُ، وَلَكِنَّكَ لَنْ تَجِدَ أَيَّ رِضًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنِّي لَنْ أَغْضَبَ. سَأَقُولُ لِنَفْسِي «لَقَدْ أَنْقَذَ سَيِّدِي طَائِرُ السِّنْدِيَانِ حَيَاتِي ذَلِكَ الْيَوْمَ»، وَلَنْ أَتَضَايَقَ مِمَّا تَقُولُ.»
فَأَوْرَثَ ذَلِكَ الْكَلَامُ سامي شُعُورًا بِفَخْرٍ بَالِغٍ وَسَعَادَةٍ غَامِرَةٍ؛ فَمِنَ النَّادِرِ جِدًّا أَنْ يَسْمَعَ كَلَامًا لَطِيفًا عَنْهُ؛ فَطَارَ إِلَى أَحَدِ جُذُوعِ الْأَشْجَارِ الَّتِي قَطَعَهَا بادي، وَقَالَ: «لِنَكُنْ أَصْدِقَاءَ.»
فَأَجَابَهُ بادي قَائِلًا: «بِكُلِّ سُرُورٍ!»