سامي يَعْرِضُ الْمُسَاعَدَةَ
جَلَسَ بادي يَنْظُرُ مُتَأَمِّلًا إِلَى أَشْجَارِ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْطِيعُهَا حَتَّى يُكْمِلَ مَخْزُونَهُ مِنَ الْغِذَاءِ لِفَصْلِ الشِّتَاءِ؛ فَقَدْ قُطِعَتْ جَمِيعُ الْأَشْجَارِ الْقَرِيبَةِ مِنْ حَافَةِ الْبِرْكَةِ، أَمَّا الْأَشْجَارُ الْأُخْرَى فَكَانَتْ مُتَنَاثِرَةً عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْهَا بَعْضَ الشَّيْءِ. ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ: «لَا أَدْرِي. لَا أَدْرِي.»
فَسَأَلَهُ طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي، الَّذِي صَارَ شَدِيدَ الِاهْتِمَامِ بِمَا يَفْعَلُهُ بادي بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَا صَدِيقَيْنِ: «مَا الَّذِي لَا تَدْرِيهِ؟»
فَأَجَابَهُ بادي قَائِلًا: «لَا أَدْرِي كَيْفَ أَحْصُلُ عَلَى تِلْكَ الْأَشْجَارِ. فَالْآنَ وَقَدْ صَارَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ لِي بِالْمِرْصَادِ، لَمْ يَعُدِ ابْتِعَادِي عَنِ الْبِرْكَةِ آمِنًا. أَظُنُّ أَنَّ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ أَحْفِرَ قَنَاةً إِلَى أَقْرَبِ الْأَشْجَارِ ثُمَّ أَدْفَعَهَا عَبْرَ الْقَنَاةِ إِلَى الْبِرْكَةِ، وَلَكِنْ مِنَ الصَّعْبِ أَنْ أَعْمَلَ وَأُبْقِيَ عَيْنًا يَقِظَةً عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ. أَظُنُّنِي سَأَكْتَفِي بِبَعْضِ أَشْجَارِ جَارِ الْمَاءِ الَّتِي تَنْمُو بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَاءِ، وَلَكِنَّ لِحَاءَ أَشْجَارِ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ أَطْيَبُ بِكَثِيرٍ، حَتَّى إِنَّنِي أَتَمَنَّى لَوْ كَانَ بِإِمْكَانِي أَنْ أَحْصُلَ عَلَيْهَا.»
فَسَأَلَهُ سامي بَغْتَةً: «مَاذَا تَقْصِدُ بِالْقَنَاةِ؟»
فَأَجَابَهُ بادي قَائِلًا: «الْقَنَاةُ؟ إِنَّهَا نَوْعٌ مِنَ الْمَصَارِفِ الَّتِي يُمْكِنُ لِلْمَاءِ أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا.»
فَأَوْمَأَ سامي بِرَأْسِهِ قَائِلًا: «رَأَيْتُ الْمُزَارِعَ براون يَحْفِرُ قَنَاةً عِنْدَ الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بَدَا شَاقًّا. لَمْ أَتَخَيَّلْ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَهُ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِهِ. أَتَقْصِدُ حَقًّا أَنَّهُ يُمْكِنُكَ أَنْ تَحْفِرَ قَنَاةً يَا بادي؟!»
فَأَجَابَهُ بادي، وَقَدِ اصْطَبَغَ صَوْتُهُ بِالدَّهْشَةِ: «طَبْعًا أَقْصِدُ ذَلِكَ؛ فَقَدْ شَارَكْتُ فِي حَفْرِ الْعَدِيدِ مِنَ الْقَنَوَاتِ. حَرِيٌّ بِكَ أَنْ تَرَى بَعْضَهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَتَيْتَ مِنْهُ.»
فَرَدَّ عَلَيْهِ سامي قَائِلًا: «أَوَدُّ ذَلِكَ. أَظُنُّهُ أَمْرًا شَدِيدَ الرَّوْعَةِ. لَا أَتَخَيَّلُ كَيْفَ تَفْعَلُهُ.»
فَرَدَّ عَلَيْهِ بادي قَائِلًا: «إِنَّهُ أَمْرٌ هَيِّنٌ إِنْ عَرَفْتَ الطَّرِيقَةَ. لَوْ كَانَ لَدَيَّ الْجُرْأَةُ لَأَرَيْتُكَ.»
فَخَطَرَتْ بِبَالِ سامي فِكْرَةٌ مُفَاجِئَةٌ حَتَّى كَادَ يَشْهَقُ، فَهَتَفَ: «مَا رَأْيُكَ أَنْ تَعْمَلَ أَنْتَ وَأُرَاقِبُ أَنَا الْمَكَانَ؟ فَعَيْنَايَ ثَاقِبَتَانِ كَمَا تَعْلَمُ.»
هَتَفَ بادي بِحَمَاسٍ قَائِلًا: «حَقًّا؟! سَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا رَائِعًا لِلْغَايَةِ. فَبَصَرُكَ أَقْوَى مِنْ أَيِّ أَحَدٍ أَعْرِفُهُ، وَسَأَشْعُرُ بِأَمَانٍ تَامٍّ إِذَا تَوَلَّيْتَ أَنْتَ الْحِرَاسَةَ. وَلَكِنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أَتَسَبَّبَ فِي مَشَقَّةٍ لَكَ يَا سَيِّدِي طَائِرَ السِّنْدِيَانِ.»
فَرَدَّ عَلَيْهِ سامي قَائِلًا: «لَنْ يَكُونَ فِي الْأَمْرِ أَيُّ مَشَقَّةٍ، فَذَلِكَ مِنْ دَوَاعِي سُرُورِي حَقًّا.» وَقَدْ أَحَسَّ سامي فَخْرًا بَالِغًا لَدَى قَوْلِ بادي إِنَّ عَيْنَيْهِ ثَاقِبَتَانِ. ثُمَّ سَأَلَ: «مَتَى سَتَشْرَعُ فِي الْعَمَلِ؟»
فَقَالَ بادي: «فَوْرًا، إِنْ تَفَضَّلْتَ بِإِلْقَاءِ نَظْرَةٍ عَلَى الْمَكَانِ لِتَرَى إِنْ كَانَ خُرُوجِي مِنَ الْمَاءِ آمِنًا تَمَامًا.»
فَلَمْ يَنْتَظِرْ سامي لِيَسْمَعَ الْمَزِيدَ، بَلْ بَسَطَ جَنَاحَيْهِ الْأَزْرَقَيْنِ الْجَمِيلَيْنِ وَانْطَلَقَ عَبْرَ الْغَابَةِ إِلَى الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ. فَشَاهَدَ بادي رَحِيلَهُ وَقَدْ بَدَتْ عَلَيْهِ الْحَيْرَةُ وَالْخَيْبَةُ. وَفَكَّرَ قَائِلًا: «عَجَبًا! ظَنَنْتُهُ يَعْنِي مَا قَالَهُ حَقًّا، وَهَا قَدْ مَضَى دُونَ حَتَّى أَنْ يُوَدِّعَنِي!»
وَبَعْدَ بُرْهَةٍ عَادَ سامي مُتَقَطِّعَ الْأَنْفَاسِ، وَقَالَ لَاهِثًا: «الْأُمُورُ عَلَى مَا يُرَامُ. يُمْكِنُكَ الْبَدْءُ فِي الْعَمَلِ مَتَى شِئْتَ.»
فَبَدَا بادي مُحْتَارًا أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى، وَسَأَلَ: «كَيْفَ عَرَفْتَ؟! لَمْ أَرَكَ تَجُولُ بِبَصَرِكَ فِي الْمَكَانِ.»
فَرَدَّ عَلَيْهِ سامي قَائِلًا: «لَقَدْ قُمْتُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَوْ كَانَ الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ مُخْتَبِئًا فِي مَكَانٍ مَا بِالْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ لَاسْتَغْرَقَ عُثُورِي عَلَيْهِ بَعْضَ الْوَقْتِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مُخْتَبِئًا فِيهَا؛ فَقَدْ طِرْتُ إِلَى بَيْتِهِ فِي الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ لِأَرَى إِنْ كَانَ هُنَاكَ أَمْ لَا، وَوَجَدْتُهُ جَالِسًا تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ بَادِيًا عَلَيْهِ أَشَدُّ الْغَضَبِ. لَا أَظُنُّهُ سَيَعُودُ هُنَا هَذَا الصَّبَاحَ، وَلَكِنَّنِي سَأُرَاقِبُ الْمَكَانَ جَيِّدًا أَثْنَاءَ قِيَامِكَ بِعَمَلِكَ.»
فَانْحَنَى بادي لِسامي انْحِنَاءَةً صَغِيرَةً، وَقَالَ: «إِنَّكَ ذَكِيٌّ حَقًّا يَا سَيِّدِي طَائِرَ السِّنْدِيَانِ. مَا كَانَ لِيَخْطُرَ بِبَالِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَى بَيْتِ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ لِأَرَى إِنْ كَانَ هُنَاكَ أَمْ لَا. سَأَشْعُرُ بِأَمَانٍ تَامٍّ لَدَى تَوَلِّيكَ مُهِمَّةَ الْحِرَاسَةِ. وَالْآنَ سَأَشْرَعُ فِي الْعَمَلِ.»