بادي يَفْرَغُ مِنْ حَصَادِهِ
عِنْدَمَا صَادَفَ أَنْ سَمِعَ سامي الْقُنْدُسَ بادي يَقُولُ ذَلِكَ الْكَلَامَ لِفَأْرِ الْمِسْكِ جيري، شَعَرَ بِالْفَخْرِ يَمْلَؤُهُ؛ فَقَدْ كَانَ مُعْتَادًا تَمَامًا عَلَى سَمَاعِ كَلَامٍ سَيِّئٍ عَنْهُ، حَتَّى إِنَّ سَمَاعَهُ مِثْلَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَةِ عَنْهُ أَوْرَثَهُ سُرُورًا بَالِغًا؛ فَنَسِيَ فَوْرًا كُلَّ الْمُضَايَقَاتِ الَّتِي وَجَّهَهَا لِبادي عِنْدَمَا رَآهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَأَنَّهُ نَعَتَهُ بِاللِّصِّ لِأَنَّهُ قَطَعَ أَشْجَارَ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ الَّتِي كَانَ يَحْتَاجُهَا. فَنَسِيَ كُلَّ ذَلِكَ، وَنَسِيَ أَنَّ بادي جَعَلَ مِنْهُ أُضْحُوكَةَ الْغَابَةِ وَالْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ بِتَقْطِيعِهِ الشَّجَرَةَ ذَاتَهَا حَيْثُ كَانَ جَالِسًا. نَسِيَ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى أَنَّ بادي عَهِدَ إِلَيْهِ بِمُهِمَّةِ الْحِرَاسَةِ وَأَنَّهُ يَقُولُ عَنْهُ كَلِمَاتٍ طَيِّبَةً الْآنَ. فَقَرَّرَ أَنْ يَكُونَ جَدِيرًا بِكُلِّ مَا قَالَهُ عَنْهُ بادي مِنْ كَلِمَاتٍ طَيِّبَةٍ، وَظَنَّ أَنَّ بادي هُوَ أَفْضَلُ مَخْلُوقَاتِ الْعَالَمِ.
أَمَّا فَأْرُ الْمِسْكِ جيري، فَبَدَا مُتَشَكِّكًا؛ فَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَثِقُ بِسامي، وَكَانَ يَحْرِصُ عَلَى عَدَمِ الِابْتِعَادِ عَنِ الْمَاءِ عِنْدَمَا عَلِمَ أَنَّ الْقَيُّوطَ الْعَجُوزَ فِي الْجِوَارِ. وَلَكِنَّ بادي وَاصَلَ عَمَلَهُ كَأَنْ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ يَخْشَاهُ فِي الْعَالَمِ.
وَقَالَ لِنَفْسِهِ: «إِنَّ السَّبِيلَ لِجَعْلِ النَّاسِ يَرْغَبُونَ فِي أَنْ يَكُونُوا مَحَلَّ ثِقَةٍ هُوَ أَنْ تَثِقَ بِهِمْ. فَإِذَا أَظْهَرْتُ لِسامي أَنَّنِي فِي الْوَاقِعِ لَا أَثِقُ بِهِ، فَسَيَظُنُّ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ مِنَ الْمُحَاوَلَةِ وَسَيَسْتَسْلِمُ. وَلَكِنِّي إِذَا وَثِقْتُ بِهِ حَقًّا، وَعَرَفَ أَنِّي أَثِقُ بِهِ، فَسَيَكُونُ أَفْضَلَ حَارِسٍ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ.»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُنْدُسَ بادي يَتَحَلَّى بِقَدْرٍ كَبِيرٍ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَقَدْ تَحَقَّقَ ظَنُّهُ. فَكَانَ سامي يَأْتِي بَشُوشًا فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ. وَكَانَ يَتَأَكَّدُ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ فِي أَيِّ مَكَانٍ بِالْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ مُرْتَاحًا عَلَى قِمَّةِ شَجَرَةِ صَنَوْبَرٍ عَالِيَةٍ؛ حَيْثُ يُمْكِنُ لَهُ مُشَاهَدَةُ كُلِّ مَا يَحْدُثُ بَيْنَمَا يَقُومُ بادي بِعَمَلِهِ.
وَكَانَ بادي قَدِ انْتَهَى مِنْ حَفْرِ الْقَنَاةِ، وَكَانَتْ قَنَاةً جَمِيلَةً، تَتَّجِهُ مِنَ الْبِرْكَةِ إِلَى أَشْجَارِ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ مُبَاشَرَةً. فَمَا إِنِ انْتَهَى مِنْ حَفْرِهَا، حَتَّى بَدَأَ يُقَطِّعُ الْأَشْجَارَ. وَبِمُجَرَّدِ أَنْ تَسْقُطَ إِحْدَاهَا، كَانَ يُقَطِّعُهَا إِلَى أَجْزَاءٍ قَصِيرَةٍ وَيُدَحْرِجُهَا إِلَى الْقَنَاةِ، ثُمَّ يَدْفَعُهَا إِلَى بِرْكَتِهِ وَمِنْهَا إِلَى مَخْزَنِهِ. وَكَانَ يَأْخُذُ الْفُرُوعَ الْكَبِيرَةَ، الَّتِي يَكْسُوهَا اللِّحَاءُ الطَّرِيُّ الْحُلْوُ، بِالطَّرِيقَةِ ذَاتِهَا، فَبادي لَا يُهْدِرُ شَيْئًا أَبَدًا.
وَبَعْدَ فَتْرَةٍ، ذَهَبَ إِلَى مَخْزَنِهِ، الَّذِي يَتَكَوَّنُ مِنْ كَوْمَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ جُذُوعِ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ وَفُرُوعِهِ لَا أَكْثَرَ، فِي بِرْكَتِهِ بِالْقُرْبِ مِنْ بَيْتِهِ. فَتَفَحَّصَ الْمَخْزَنَ بِحِرْصٍ بَالِغٍ. ثُمَّ سَبَحَ عَائِدًا وَخَرَجَ إِلَى ضَفَّةِ الْقَنَاةِ.
وَقَالَ: «يَا سَيِّدِي طَائِرَ السِّنْدِيَانِ، أَظُنُّ عَمَلَنَا قَدِ انْتَهَى تَقْرِيبًا.»
فَهَتَفَ سامي: «مَاذَا؟! أَلَنْ تُقَطِّعَ بَقِيَّةَ أَشْجَارِ الْحَوْرِ الرَّجْرَاجِ؟»
فَأَجَابَهُ بادي قَائِلًا: «كَلَّا، لَا بُدَّ أَنْ نَتَوَقَّفَ؛ فَلَدَيَّ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَكْفِينِي طَوَالَ الشِّتَاءِ. فَأَنَا أَوَدُّ الِاحْتِفَاظَ بِتِلْكَ الْأَشْجَارِ مِنْ أَجْلِ الْعَامِ الْقَادِمِ. أَمَّا الْآنَ فَقَدْ صَارَ لَدَيَّ مَخْزُونٌ كَافٍ لِلشِّتَاءِ. وَأَظُنُّنِي سَأَسْتَرِيحُ بَعْضَ الْوَقْتِ.»
فَبَدَا عَلَى سامي الْإِحْبَاطُ؛ فَكَانَ قَدْ بَدَأَ يَكْتَشِفُ لِتَوِّهِ أَنَّ أَعْظَمَ سَعَادَةٍ فِي الْعَالَمِ مَنْبَعُهَا السَّعْيُ فِي حَوَائِجِ الْآخَرِينَ. وَلِلْمَرَّةِ الْأُولَى فِي حَيَاتِهِ ثَمَّةَ أَحَدٌ يَرْغَبُ فِي وُجُودِهِ؛ وَهُوَ مَا مَنَحَهُ شُعُورًا رَائِعًا فِي أَعْمَاقِهِ! وَرُبَّمَا كَانَتْ ذِكْرَى ذَلِكَ الشُّعُورِ الرَّائِعِ هِيَ السَّبَبَ فِي رَغْبَتِهِ وَلَهْفَتِهِ الشَّدِيدَتَيْنِ فِي مُسَاعَدَةِ الْغَيْرِ فِيمَا بَعْدُ.