زُوَّارُ بادي الْكُثُرُ
كَانَ الْقُنْدُسُ بادي يَعْلَمُ تَمَامَ الْعِلْمِ أَنَّهُ سَيَسْتَقْبِلُ زُوَّارًا بِمُجَرَّدِ أَنْ يَشْرَعَ فِي بِنَاءِ السَّدِّ. وَكَانَ يَتَوَقَّعُ مَجِيءَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَيًّا مِنْهُمْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ رَأَى قُنْدُسًا أَثْنَاءَ عَمَلِهِ مَا لَمْ يَرَوُا الشَّيْهَمَ الْبَدِينَ بريكلي بوركي، الَّذِي أَتَى مِنَ الشَّمَالِ أَيْضًا. لِذَا كَانَ يُرْهِفُ السَّمْعَ أَثْنَاءَ عَمَلِهِ، وَيَبْتَسِمُ لِنَفْسِهِ لَدَى سَمَاعِهِ صَوْتَ حَفِيفٍ خَافِتٍ هُنَا يَتْبَعُهُ حَفِيفٌ خَافِتٌ هُنَاكَ. فَقَدْ كَانَ يَعْرِفُ مَا يَعْنِيهِ ذَاكَ الْحَفِيفُ. فَكُلُّ حَفِيفٍ مَعْنَاهُ زَائِرٌ جَدِيدٌ. نَعَمْ، كُلُّ حَفِيفٍ مَعْنَاهُ زَائِرٌ جَدِيدٌ، وَلَكِنَّ أَيًّا مِنْهُمْ لَمْ يَظْهَرْ.
فَأَطْلَقَ بادي ضِحْكَةً خَافِتَةً وَقَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ، كَأَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا بِالتَّحْدِيدِ: «يَبْدُو لِي أَنَّكُمْ تَخَافُونَ الظُّهُورَ أَشَدَّ الْخَوْفِ.» فَسَادَ السُّكُونُ الْمَكَانَ. وَلَمْ يَصْدُرْ أَدْنَى حَفِيفٍ بَعْدَ حَدِيثِ بادي. فَأَطْلَقَ ضِحْكَةً خَافِتَةً أُخْرَى. فَقَدْ كَانَ يَشْعُرُ فَقَطْ بِعُيُونٍ عِدَّةٍ تُرَاقِبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرَ أَيًّا مِنْهَا. وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ تَوَخِّيَ زَائِرِيهِ الْحَذَرَ الشَّدِيدَ فِي الِاخْتِبَاءِ مِنْهُ يَرْجِعُ إِلَى خَوْفِهِمْ مِنْهُ. فَبادي أَكْبَرُ حَجْمًا مِنْ مُعْظَمِ سُكَّانِ الْمُرُوجِ وَالْغَابَةِ الصِّغَارِ، وَلَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ عِلْمٌ بِطَبِيعَةِ مِزَاجِهِ. فَالْأَسْلَمُ دَائِمًا أَنْ يَرْتَابَ الْمَرْءُ بِشِدَّةٍ فِي الْأَغْرَابِ. وَذَلِكَ أَحَدُ أَوَائِلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَعَلَّمُهَا جَمِيعُ سُكَّانِ الْمُرُوجِ وَالْغَابَةِ الصِّغَارُ.
وَطَبْعًا كَانَ بادي يَعْلَمُ كُلَّ ذَلِكَ؛ فَقَدْ نَشَأَ عَلَى النَّحْوِ ذَاتِهِ. إِذْ كَانَ أَحَدَ الْأَقْوَالِ الْمَأْثُورَةِ الْمُفَضَّلَةِ لَدَى أُمِّهِ، الَّذِي لَمْ يَغِبْ عَنْ بَالِهِ قَطُّ: «تَأَكَّدْ أَنَّكَ مُصِيبٌ، وَحِينَهَا لَنْ تَأْسَفَ أَبَدًا.» وَالْوَاقِعُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ وَفَّرَ عَلَيْهِ مَتَاعِبَ جَمَّةً. لِذَا كَانَ الْآنَ عَلَى كَامِلِ الِاسْتِعْدَادِ لِأَنْ يُوَاصِلَ عَمَلَهُ وَيَدَعَ زُوَّارَهُ الْمُخْتَبِئِينَ يُرَاقِبُونَهُ حَتَّى يَطْمَئِنُّوا أَنَّهُ لَا يُمَثِّلُ خَطَرًا عَلَيْهِمْ. أَمَّا عَنْهُ فَكَانَ وَاثِقًا، إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ، مِنْ أَنْ لَا أَحَدَ مِنْهُمْ كَبِيرٌ بِمَا يَكْفِي لِكَيْ يُسَبِّبَ لَهُ أَيَّ أَذًى؛ فَثَعْلَبُ الْمَاءِ الصَّغِيرُ جو هُوَ الْوَحِيدُ الَّذِي يَرْتَابُ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ وَاثِقًا، إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ، أَنَّهُ لَنْ يُحَاوِلَ أَنْ يَخْتَلِقَ شِجَارًا مَعَهُ. لِذَا ظَلَّ يُقَطِّعُ الْأَشْجَارَ وَيَنْزِعُ عَنْهَا الْفُرُوعَ، ثُمَّ يَسْحَبُ جُذُوعَهَا إِلَى الْأَسْفَلِ عِنْدَ السَّدِّ الَّذِي كَانَ يَبْنِيهِ. وَكَانَ يَدْفَعُ بَعْضَهَا لِتَطْفُوَ عَلَى سَطْحِ الْجَدْوَلِ الضَّاحِكِ مُتَّجِهَةً إِلَى أَسْفَلِ مَجْرَاهُ، فَذَلِكَ أَيْسَرُ.
وَعِنْدَمَا اتَّجَهَ سُكَّانُ الْبِرْكَةِ الْبَاسِمَةِ الصِّغَارُ — وَهُمْ أَوَّلُ مَنِ اكْتَشَفَ أَنَّ الْقُنْدُسَ بادي قَدْ أَتَى إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ — إِلَى أَعْلَى مَجْرَى الْجَدْوَلِ الضَّاحِكِ لِيَنْظُرُوا مَاذَا يَفْعَلُ، وَأَخْبَرُوا النَّسَمَاتِ الرَّقِيقَةَ الْمَرِحَةَ بِوِجْهَتِهِمْ، اضْطَرَبَتِ النَّسَمَاتُ أَيَّمَا اضْطِرَابٍ، وَلَمْ تَفْهَمْ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ غَرِيبٌ لِلْعَيْشِ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ دُونَ عِلْمِهَا. فَقَدْ نَسِيَتْ أَنَّهَا نَادِرًا جَدًّا مَا تَجُولُ فِي جَوْفِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. وَبِالطَّبْعِ انْطَلَقَتْ عَلَى الْفَوْرِ بِأَقْصَى سُرْعَةٍ لِتُخْبِرَ بَقِيَّةَ سُكَّانِ الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ الصِّغَارِ وَالْمَنَاطِقِ الْمُحِيطَةِ بِهَا، كُلَّهُمْ إِلَّا الْقَيُّوطَ الْعَجُوزَ. فَلِسَبَبٍ مَا رَأَتْ أَنَّهُ مِنَ الْأَفْضَلِ أَلَّا تُخْبِرَهُ؛ فَقَدْ كَانَتْ تَنْتَابُهَا بَعْضُ الشُّكُوكِ إِزَاءَ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ؛ فَقَدْ كَانَ كَبِيرًا وَقَوِيًّا جِدًّا وَشَدِيدَ الْمَكْرِ وَالذَّكَاءِ، حَتَّى إِنَّ جَمِيعَ جِيرَانِهِ كَانُوا يَخَافُونَهُ. رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَا جَالَ بِبَالِ النَّسَمَاتِ الرَّقِيقَةِ الْمَرِحَةِ، وَعَرَفَتْ أَنْ لَا أَحَدَ سَيَجْرُؤُ عَلَى الذَّهَابِ لِزِيَارَةِ الْغَرِيبِ إِنْ عَرَفَ أَنَّ الْقَيُّوطَ الْعَجُوزَ ذَاهِبٌ بِدَوْرِهِ. وَعَلَى أَيِّ حَالٍ، فَقَدِ اكْتَفَتْ بِقَضَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْيَوْمِ مَعَ الْقَيُّوطِ الْعَجُوزِ، ثُمَّ أَسْرَعَتْ لِتُخْبِرَ الْبَاقِينَ جَمِيعًا، وَكَانَ آخِرُ مَنِ الْتَقَتْهُ هُوَ طَائِرَ السِّنْدِيَانِ سامي.
إِنَّ أَكْثَرَ مَا يُزْعِجُ سامي فِكْرَةُ أَنْ يَجْرِيَ شَيْءٌ دُونَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَعْلَمُ بِهِ. فَهُوَ كَمَا تَعْلَمُونَ شَدِيدُ الْوَلَعِ بِالتَّدَخُّلِ فِي شُئُونِ الْآخَرِينَ، وَأَكْثَرُ مَا يُحِبُّ أَنْ يَتَفَاخَرَ بِأَنْ لَا شَيْءَ يَجْرِي فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ أَوْ عَلَى الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ دُونَ عِلْمِهِ. فَالْآنَ أَحَسَّ جُرْحًا فِي كِبْرِيَائِهِ، وَكَانَ غَاضِبًا أَشَدَّ الْغَضَبِ بَيْنَمَا تَبِعَ النَّسَمَاتِ الرَّقِيقَةَ الْمَرِحَةَ إِلَى جَوْفِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ؛ حَيْثُ قَالُوا إِنَّ الْقُنْدُسَ بادي كَانَ يَعْمَلُ. لَمْ يُصَدِّقْ حَرْفًا مِمَّا سَمِعَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَأَكَّدَ بِنَفْسِهِ.