مُفَاجَأَةٌ جَدِيدَةٌ لِابْنِ الْمُزَارِعِ براون
عَبَرَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون الْمَرْعَى الْقَدِيمَ وُصُولًا إِلَى سَفْحِ الْجَبَلِ خَلْفَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، وَأَمَامَهُ خَفَّ كَلْبُ الصَّيْدِ باوزر الْخُطَى، مُتَشَمِّمًا هُنَا وَهُنَاكَ بَحْثًا عَنْ آثَارِ الثَّعْلَبِ ريدي أَوِ الْجَدَّةِ ثعلبة. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْهُمَا بِالطَّبْعِ؛ لِأَنَّ أَيًّا مِنْهُمَا لَمْ يَذْهَبْ إِلَى الْمَرْعَى الْقَدِيمِ مُنْذُ زَمَنٍ. وَلَكِنَّهُ وَجَدَ الْأَرْنَبَ الرَّمَادِيَّ الْعَجُوزَ ثامبر، الَّذِي أَوْقَعَ الْأَرْنَبَ بيتر فِي مَتَاعِبَ جَمَّةٍ ذَاتَ مَرَّةٍ، فَأَفْزَعَهُ بِشِدَّةٍ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ أَمَامَهُ وَكَادَ يَصْطَدِمُ بِابْنِ الْمُزَارِعِ براون مُبَاشَرَةً.
فَهَتَفَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون: «مَرْحَبًا يَا ذَا الذَّيْلِ الْقُطْنِيِّ الْعَجُوزَ!» وَهُوَ مَا زَادَ الْعَجُوزَ فَزَعًا حَتَّى إِنَّهُ مَرَقَ أَمَامَ بَيْتِهِ الْمَصْنُوعِ مِنَ الْكُرُومِ الشَّائِكَةِ دُونَ أَنْ يَرَاهُ.
وَاصَلَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون طَرِيقَهُ، ضَاحِكًا مِمَّا أَصَابَ ثامبر الْعَجُوزَ مِنْ فَزَعٍ. وَحِينَئِذٍ بَلَغَ الْيَنَابِيعَ الَّتِي تَأْتِي مِنْهَا الْمِيَاهُ حَيْثُ يَبْدَأُ الْجَدْوَلُ الضَّاحِكُ. كَانَ يَتَوَقَّعُ أَنْ يَجِدَهَا جَافَّةً؛ إِذْ كَانَتِ الْبِرْكَةُ الْبَاسِمَةُ بِالْأَسْفَلِ عِنْدَ الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ شِبْهَ جَافَّةٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْجَدْوَلُ الضَّاحِكُ، فَافْتَرَضَ أَنَّ السَّبَبَ الْأَكِيدَ وَرَاءَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْيَنَابِيعَ الَّتِي يَبْدَأُ مِنْهَا الْجَدْوَلُ الضَّاحِكُ لَمْ تَعُدْ تَتَدَفَّقُ.
وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَتَدَفَّقُ! فَقَدِ انْبَثَقَتِ الْمِيَاهُ الْبَارِدَةُ الصَّافِيَةُ مِنَ الْأَرْضِ مُحْدِثَةً خَرِيرًا كَعَادَتِهَا دَائِمًا، وَتَدَفَّقَتْ إِلَى أَسْفَلَ عِنْدَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ فِي مَجْرًى مَائِيٍّ صَغِيرٍ رَاحَ يَتَّسِعُ وَيَتَّسِعُ أَثْنَاءَ تَدَفُّقِهِ حَتَّى صَارَ الْجَدْوَلَ الضَّاحِكَ. فَخَلَعَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون قُبَّعَتَهُ الْقَدِيمَةَ الْمُهْتَرِئَةَ الْمَصْنُوعَةَ مِنَ الْقَشِّ وَنَظَرَ، مُقَطِّبًا جَبِينَهُ، إِلَى الْمَاءِ الْمُتَدَفِّقِ كَأَنَّمَا ظَنَّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُفْتَرَضِ أَنْ يَتَدَفَّقَ هُنَاكَ.
طَبْعًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَقَطْ مَا يَظُنُّهُ؛ فَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُ كَانَ فِي حَيْرَةٍ شَدِيدَةٍ؛ فَهَا هِيَ الْيَنَابِيعُ مُتَدَفِّقَةٌ كَعَادَتِهَا دَائِمًا، وَهَا هُوَ الْمَجْرَى الْمَائِيُّ الصَّغِيرُ يَتَدَفَّقُ فِي اتِّجَاهِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ مُحْدِثًا قَرْقَرَةً سُرْعَانَ مَا سَتَتَحَوَّلُ إِلَى ضِحْكَةٍ، كَالْمُعْتَادِ دَائِمًا. وَرَغْمَ ذَلِكَ فَبِالْأَسْفَلِ عِنْدَ الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ فِي الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ مِنَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ جَدْوَلٌ ضَاحِكٌ وَلَا بِرْكَةٌ بَاسِمَةٌ. فَشَعَرَ كَأَنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَقْرُصَ نَفْسَهُ كَيْ يَتَأَكَّدَ مِنْ أَنَّهُ مُسْتَيْقِظٌ وَلَا يَحْلُمُ.
وَقَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ: «لَا أَفْهَمُ. لَا أَفْهَمُ مُطْلَقًا، وَلَكِنِّي سَأَعْرِفُ. كُلُّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ يَحْدُثُ لِسَبَبٍ، وَعِنْدَمَا يَجْهَلُ الْمَرْءُ أَمْرًا، لَا بُدَّ أَنْ يَجْتَهِدَ لِيَعْرِفَ كُلَّ شَيْءٍ عَنْهُ. وَسَأَعْرِفُ مَا حَدَثَ لِلْجَدْوَلِ الضَّاحِكِ، حَتَّى إِنِ اسْتَغْرَقَ الْأَمْرُ عَامًا!»
ثُمَّ أَخَذَ يَتَتَبَّعُ الْمَجْرَى الْمَائِيَّ الصَّغِيرَ الَّذِي تَدَفَّقَ مُقَرْقِرًا إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. كَانَ قَدْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ الْمَجْرَى أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَوَجَدَهُ الْآنَ كَعَهْدِهِ بِهِ تَمَامًا؛ فَكُلَّمَا جَرَى، اتَّسَعَ حَتَّى صَارَ الْجَدْوَلَ الضَّاحِكَ الْمَعْهُودَ لَهُ فِي النِّهَايَةِ، الَّذِي يَتَدَفَّقُ بِمَرَحٍ فَوْقَ الصُّخُورِ لِيُكَوِّنَ الْبِرَكَ الْعَمِيقَةَ الَّتِي يَطِيبُ لِأَسْمَاكِ السَّلَمُونِ الْمُرَقَّطِ الِاخْتِبَاءُ فِيهَا. وَأَخِيرًا بَلَغَ أَطْرَافَ تَجْوِيفٍ صَغِيرٍ مُنْبَسِطٍ فِي قَلْبِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. كَانَ يَعْرِفُ مَا بِالْجَدْوَلِ الضَّاحِكِ مِنْ أَخَادِيدَ عَمِيقَةٍ رَائِعَةٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَكَمْ يَطِيبُ لِأَسْمَاكِ السَّلَمُونِ الْمُرَقَّطِ الْكَبِيرَةِ أَنْ تَرْقُدَ فِيهَا؛ لِعُمْقِهَا وَبُرُودَتِهَا! كَانَ يُفَكِّرُ بِتِلْكَ الْأَسْمَاكِ الْآنَ وَيَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهُ جَلَبَ مَعَهُ صِنَّارَتَهُ. وَمَرَّ بِصُعُوبَةٍ عَبْرَ أَجَمَةٍ مِنْ أَشْجَارِ جَارِ الْمَاءِ، ثُمَّ تَوَقَّفَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون فَجْأَةً وَشَهَقَ بِقُوَّةٍ! فَقَدِ اضْطُرَّ إِلَى التَّوَقُّفِ؛ إِذْ وَجَدَ أَمَامَهُ مُبَاشَرَةً بِرْكَةً!
فَرَكَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ أَعَادَ النَّظَرَ. ثُمَّ انْحَنَى وَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ لِيَعْرِفَ هَلْ كَانَ حَقِيقِيًّا. وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَجَالُ شَكٍّ. كَانَ مَاءً حَقِيقِيًّا، وَبِرْكَةً حَقِيقِيَّةً فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بِرْكَةٌ قَطُّ. وَقَدْ سَادَ السُّكُونُ أَرْجَاءَ جَوْفِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. وَطَالَمَا سَادَ السُّكُونُ فِي أَرْجَاءِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَلَكِنَّهَا بَدَتْ أَكْثَرَ سُكُونًا مِنَ الْمُعْتَادِ بَيْنَمَا كَانَ يَسِيرُ حَوْلَ ضِفَافِ تِلْكَ الْبِرْكَةِ الْغَرِيبَةِ. شَعَرَ كَأَنَّهُ يَحْلُمُ، وَتَسَاءَلَ فِي نَفْسِهِ عَمَّا إِذَا كَانَ سَيَصْحُو عَمَّا قَرِيبٍ وَيَكْتَشِفُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ خَيَالٌ. وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَحْدُثْ، فَظَلَّ يَسِيرُ حَتَّى بَلَغَ سَدًّا رَائِعًا مِنْ جُذُوعِ الْأَشْجَارِ وَالْعِصِيِّ وَالطِّينِ. وَكَانَ الْمَاءُ يَتَدَفَّقُ فَوْقَهُ، وَتَنَاهَى إِلَى مَسَامِعِهِ صَوْتُ الْجَدْوَلِ الضَّاحِكِ بِالْأَسْفَلِ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، وَقَدْ بَدَأَ لِتَوِّهِ يَضْحَكُ مِنْ جَدِيدٍ. فَجَلَسَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون وَاضِعًا مِرْفَقَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَارْتَكَزَ بِذَقَنِهِ عَلَى كَفَّيْهِ، وَقَدْ بَلَغَتْ مِنْهُ الدَّهْشَةُ مَبْلَغًا أَعْجَزَهُ حَتَّى عَنِ التَّفْكِيرِ.