رَسْمُ خُطَّةِ الْبَيْتِ
جَلَسَ الْقُنْدُسُ بادي عَلَى السَّدِّ الَّذِي بَنَاهُ وَقَدْ لَاحَ السُّرُورُ فِي عَيْنَيْهِ لَدَى نَظَرِهِ إِلَى بِرْكَةِ الْمَاءِ الْبَرَّاقَةِ الَّتِي صَنَعَهَا، وَقَدْ أَحَاطَتْ بِحَافَتِهَا أَشْجَارُ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ الْعَالِيَةُ؛ فَكَانَتْ بَالِغَةَ الْجَمَالِ وَالسُّكُونِ وَالْعُزْلَةِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا قَدْ تَبْدُو مُنْعَزِلَةً لِأَيِّ أَحَدٍ تَقْرِيبًا عَدَا الْقُنْدُسِ بادي. وَلَكِنَّ بادي لَا يَشْعُرُ بِالْعُزْلَةِ أَبَدًا. فَرِفَاقُهُ هُمُ الْأَشْجَارُ وَالزُّهُورُ وَالنَّبَاتَاتُ الصَّغِيرَةُ كَافَّةً.
وَكَانَ السُّكُونُ يَعُمُّ الْمَكَانَ؛ سُكُونٌ بَالِغٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَمِنْ نَاحِيَةٍ لَاحَ بَرِيقٌ وَرْدِيٌّ جَمِيلٌ عَلَى صَفْحَةِ الْمَاءِ. كَانَ ذَاكَ انْعِكَاسَ قُرْصِ الشَّمْسِ الْأَحْمَرِ الْمُسْتَدِيرِ الْمَرِحِ. لَمْ يَكُنْ بِإِمْكَانِ بادي رُؤْيَتُهُ بِسَبَبِ الْأَشْجَارِ الْعَالِيَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَلَى عِلْمٍ تَامٍّ بِمَا تَفْعَلُهُ الشَّمْسُ. كَانَتْ تَأْوِي إِلَى فِرَاشِهَا خَلْفَ التِّلَالِ الْأُرْجُوَانِيَّةِ. وَسُرْعَانَ مَا سَتَظْهَرُ لَهُ النُّجُومُ الصَّغِيرَةُ الْمُتَلَأْلِئَةُ. كَانَ يُحِبُّ تِلْكَ النُّجُومَ الصَّغِيرَةَ وَدَائِمًا مَا يَتَرَقَّبُ ظُهُورَ تَبَاشِيرِهَا. نَعَمْ؛ كَانَ الْقُنْدُسُ بادي يَشْعُرُ بِسَعَادَةٍ غَامِرَةٍ. وَكَادَتْ سَعَادَتُهُ تَكْتَمِلُ لَوْلَا شَيْءٌ وَاحِدٌ: أَنَّ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون اكْتَشَفَ سَدَّهُ وَبِرْكَتَهُ عَصْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ بادي مُتَأَكِّدًا تَمَامًا مِمَّا قَدْ يَفْعَلُهُ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون. فَقَدِ اخْتَبَأَ جَيِّدًا أَثْنَاءَ وُجُودِ ابْنِ الْمُزَارِعِ براون، وَكَانَ شِبْهَ وَاثِقٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَنْ بَنَى السَّدَّ. وَلَكِنْ لِهَذَا السَّبَبِ، رُبَّمَا يُحَاوِلُ تَقَصِّيَ الْأَمْرِ، وَهُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ بادي دَائِمَ الْيَقَظَةِ.
وَقَالَ بادي لِنَفْسِهِ: «وَمَا جَدْوَى الْقَلَقِ بِشَأْنِ مَتَاعِبَ لَمْ تَأْتِ بَعْدُ، وَرُبَّمَا لَا تَأْتِي أَبَدًا؟! سَيَكُونُ ثَمَّةَ وَقْتٌ كَافٍ لِلْقَلَقِ عِنْدَمَا تَأْتِي»، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بادي يَتَحَلَّى بِقَدْرٍ كَبِيرٍ مِنْ رَجَاحَةِ الْعَقْلِ دَاخِلَ رَأْسِهِ الْبُنِّيِّ الصَّغِيرِ. ثُمَّ أَرْدَفَ قَائِلًا لِنَفْسِهِ: «وَالْآنَ عَلَيَّ أَنْ أَسْتَعِدَّ لِمَجِيءِ الشِّتَاءِ، وَهُوَ مَا يَتَطَلَّبُ عَمَلًا كَثِيرًا. حَسَنًا، يَجِبُ أَنْ أَبْنِيَ بَيْتًا كَبِيرًا مَتِينًا دَافِئًا، يُوَفِّرُ لِيَ الدِّفْءَ وَالْأَمَانَ عِنْدَمَا تَتَجَمَّدُ بِرْكَتِي. وَلَا بُدَّ أَنْ أَجْمَعَ خَزِينًا مِنَ الطَّعَامِ، يَكْفِينِي حَتَّى تُقْبِلَ الرِّيَاحُ الْجَنُوبِيَّةُ الرَّقِيقَةُ تَمْهِيدًا لِمَجِيءِ الرَّبِيعِ الْبَدِيعِ. يَا إِلَهِي، لَا وَقْتَ لَدَيَّ أُضَيِّعُهُ فِي الْجُلُوسِ هُنَا شَارِدًا، بَيْنَمَا لَدَيَّ الْكَثِيرُ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ أَقُومَ بِهِ!»
ثُمَّ انْزَلَقَ بادي فِي الْمَاءِ وَسَبَحَ فِي أَرْجَاءِ بِرْكَتِهِ لِيَتَأَكَّدَ مِنَ الْمَوْضِعِ الْأَمْثَلِ لِبِنَاءِ بَيْتِهِ؛ فَإِنَّ إِقَامَةَ الْمَرْءِ مَنْزِلَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْأَمْثَلِ لَأَمْرٌ بَالِغُ الْأَهَمِّيَّةِ. بَعْضُ النَّاسِ يُهْمِلُونَ ذَلِكَ الْأَمْرَ إِهْمَالًا شَدِيدًا؛ فَالظَّرِبَانُ جيمي، عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي خَطَأِ أَنْ يَحْفِرَ بَيْتَهُ (فَهُوَ يَبِيتُ تَحْتَ الْأَرْضِ كَمَا تَعْلَمُونَ) فِي مَكَانٍ يُمْكِنُ لِأَيٍّ مِنَ الْمَارَّةِ أَنْ يَرَاهُ. رُبَّمَا يُعْزَى ذَلِكَ إِلَى أَنَّ جيمي مُسْتَقِلٌّ لِلْغَايَةِ إِلَى حَدِّ أَنَّهُ لَا يَأْبَهُ بِمَعْرِفَةِ النَّاسِ بِمَكَانِ بَيْتِهِ.
وَلَكِنَّ الْقُنْدُسَ بادي لَيْسَ مُهْمِلًا أَبَدًا؛ فَدَائِمًا مَا يَخْتَارُ الْمَوْضِعَ الْأَمْثَلَ. وَيَتَأَكَّدُ مِنْ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ الْبِنَاءَ. فَالْآنَ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ تَأَكُّدِهِ مِنَ الْمَوْضِعِ الْمُلَائِمِ لِبِنَاءِ بَيْتِهِ، فَقَدْ طَافَ بِالْبِرْكَةِ لِيَتَأَكَّدَ ثَانِيَةً. ثُمَّ عِنْدَمَا اقْتَنَعَ تَمَامًا، سَبَحَ إِلَى الْبُقْعَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا. فَكَانَتْ حَيْثُ بَلَغَتِ الْمِيَاهُ عُمْقًا كَبِيرًا.
ثُمَّ قَالَ لِنَفْسِهِ: «يَجِبُ أَلَّا يَكُونَ ثَمَّةَ أَدْنَى فُرْصَةٍ فِي أَنْ يَصِيرَ الْجَلِيدُ سَمِيكًا إِلَى حَدِّ أَنْ يَسُدَّ مَدْخَلِي. أَنَا وَاثِقٌ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لَنْ يَحْدُثَ هُنَا. لَا بُدَّ أَنْ أُرْسِيَ قَوَاعِدَ مَتِينَةً وَأَبْنِيَ جُدْرَانًا سَمِيكَةً. وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَدَيَّ الْكَثِيرُ مِنَ الطِّينِ لِأُسَوِّيَهَا بِهَا، وَفِي الدَّاخِلِ، فَوْقَ سَطْحِ الْمَاءِ، سَيَكُونُ لَدَيَّ غُرْفَةٌ مُرِيحَةٌ دَافِئَةٌ يُمْكِنُنِي أَنْ أَنَامَ فِيهَا مِلْءَ جُفُونِي. هَا هُوَ الْمَكَانُ الْمُنَاسِبُ لِبِنَائِهِ، وَقَدْ حَانَ وَقْتُ الْعَمَلِ.»
وَبِهَذَا سَبَحَ بادي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قَطَعَ مِنْهُ الْأَشْجَارَ لِبِنَاءِ السَّدِّ، وَقَدْ شَعَرَ بِالرَّاحَةِ، فَقَدْ تَعَلَّمَ مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ أَنَّ السَّبِيلَ الْأَكِيدَ لِلسَّعَادَةِ هُوَ أَنْ يَشْغَلَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ.