تاريخ الفلسفة اليونانية
(١) أصول الفلسفة اليونانية – مدينة يونان – الشعر يُعِد الطريق للفلسفة
لم تُولَد الفلسفة في بلاد يونان ذاتها، إنما وُلدت بين ظهراني الإغريق الذين كانوا يعيشون على شواطئ آسيا الصغرى، وفي جزر بحر إيجه، وكان ظهورها في الوقت المناسب بعد أن مهَّدت لها الطريقَ الأشعارُ الطويلة، والأعياد الدينية، والحروب الداخلية، وبعد أن بدأ الشعراء الحكماء يدوِّنون خواطرهم وتأملاتهم، وبعد أن وُلد عِلم الكائنات، وترعرع في القرن السابع ق.م.
ملأ هؤلاء الإغريق البعيدون عن وطنهم البحار بسفنهم، وطافوا أنحاء الأرض في سبيل التجارة، وأسسوا مدنية، وهذه المدنية الراقية، وعلاقاتها بالأمم المختلفة، وسياحات أربابها في المحيط والتطورات التي اقتضتها أعَدَّت الأفكار للفلسفة.
وكل المدن التي كانت منتثرة على الشواطئ، فضَّلت حريتها واستقلالها على الانضمام لبعضها البعض، لتكوين وحدة سياسية، ولم تتم تلك الوحدة إلا لمحاربة الفرس؛ إنما كانت علاقاتها ببعضها البعض مستمرة.
وكانت تنطلق في كل أربع سنين من كل المدن والجزائر السفنُ الكبرى مملوءة بالهدايا، والقربان، والرجال، والنساء، مُزيَّنين ومُزيَّنات للاحتفال بعيد أيونيا في جزيرة ديلوس، وقد امتزجت بهذا العيد الديني الألعاب الرياضية والرقص، وهذان أعدَّا فنَّ النحت بإعداد الأبدان الحية، وفي ساحةٍ كبرى كان الشعراء ينشدون قصائدهم، والمنشدون قصائد غيرهم، وفي الساحة العامة كانت تُنصب سوقٌ تتبادل فيها المتاجر؛ فيحضر الأثيني بفَخَّاره، والميليزي بصوفه، وأهل أيونيا بزيوتهم الطيبة، وعطور جزيرة العرب، وتِبْر القوقاز (قولشيت)، والأحجار الكريمة، والأقمشة الغالية، كلٌّ مِن مصدره.
وكانت كل مدينة منشقَّة على ذاتها، وقد استُبدلت الملكية البطريرقية (سيادة الوالد) التي كانت في زمن هوميروس بنظام أوليجاركي، ثم اختفى هذا النظام. وقد اقتضت هذه الأحوال وضع قوانين جديدة؛ عامة وخاصة.
وكان التشريع صعبًا في هذه المدن القوية لارتباك الحياة ونموها؛ لذا قام الشعراء الأقدمون وأوائل الفلاسفة بأعباء السياسة، واشتغلوا بها باعتبار أفضليتهم.
وفي شعر هوميروس لا يختلف التعليم الأدبي عن الحقائق ونتائجها، ثم بدأ التفكير ضعيفًا عند هزيود؛ وذلك لعلاقته بعواطف الشعراء. يذكر هزيود خلافه مع أخيه بيرسيه عندما يكتب فيقول: «العراك نوعان؛ الأول مذموم ومخيف، وهو الخصام والدعوى، والثاني شريف وعظيم، وهو مباراة المتفننين وأرباب الصنائع.» وقد أوحى إليه ما قاساه من ظلم الملوك ديوانَ «البلبل والباشق»، ومما جاء فيه:
«لتتحارب الحيوانات المتوحشة والأسماك والطيور، ولتُفنِ بعضها بعضًا؛ لأنه ليس بينها عدل؛ أما البشر فقد أعطاهم زفس العدل، وهو أحسن الأشياء.» وفي قصيدة «العمل والأيام»: السعادة في العمل والفضيلة، وبهما يحصل الإنسان على بركة الرَّب، ورضى «المشتري»، وبهما يتقي شرَّ الكذب والظلم.
هذا أول أشكال الفلسفة العملية، وليس لدينا إلا نُبذٌ من النثر والشعر الموضوعين في القرون الثلاثة ٩–٦ قبل المسيح، ثم ظهر الحزن (وهو علامة الأمم المتعَبة المفكِّرة) في شعرِ ممزم الأزميري الذي وُلد عام ٦٣٢ق.م.، وهو يتغنى بذكْر الشباب، ويتحسَّر على الشيخوخة. وتيونين دي ميجار الذي وُلد عام ٥٨٠ يقول: «أفضل شيء لأهل الدنيا ألا يُولَدوا، ولا يروا أشعة الشمس المشرقة، ولكن إذا وُلدوا، فالأفضل الخروج إلى عالم الخفاء بأسرع فرصة، وأن يرقدوا تحت الأرض.»
ومن حكماء هذا العصر الحكماء السبعة الذين لم تُعرف أسماؤهم، وحاولوا أن ينشروا الأفكار الأدبية في جملٍ قصيرة بدون تطويل، وجُملهم عبارة عن حقائق مفرَّغة في قالبٍ سهل؛ وهي إما ثابتة بذاتها، أو قائمة على سلطةٍ دينية.
وكذلك الشعراء صولون وفوسيلت وتيوجينس، عبَّروا في شعرهم عن نتيجة الخبرة الإنسانية، وخَطَرِ العنف، وضرورة الاعتدال في الحياتين، الخاصة والعامة، وفي الوقت نفسه كانت السريرة الأدبية تتطهر، ثم ظهرت فكرةُ الله.
يناجي أرشيلوك الشاعرُ الربَّ زفسَ: «زفس أيها الأب الأعلى، يا مَن تحكم مِن أعلى السماء، وترى ما يفعله الناس من خير وشر، أنت تعلم ما هو عدل، وما هو ظلم في عالم الحيوان، إذا كان زفس صاحب القدرة كلها، فكيف يسود الظلم؟!»
ومثله يقول تيوجتيس: «مَن ذا الذي يرى الظلم في العالم ثم يحترم الأرباب؟ زفس أيها الأب الأعلى انصر العدل.» هذه الثورة ضد الدين هي الفلسفة الأولى.
إن قصيدة الأعمال والأيام هي أقدمُ تعبيرٍ للفلسفة العملية، وقصيدة التيوجوين التي تُنسب إلى هيزود هي أول شكلٍ من أشكال الفلسفة النظرية، واسم هيزود أول الأسماء.
وفي القرن السادس ظهر نوع الأورفزم من الأناشيد؛ فإن أونوماقريط — أحد العلماء الذين كانوا محيطين ببسترات — نشر أغاني مقدسةً باسم أورفيه ٥٢٠–٥٤٠ق.م.، وقد استنزل فيها الوحيَ من الأساطير القديمة، ومن الأفكار التي كانت ذائعةً ومنسوبةً إلى الشعراء الأقدمين، وكلُّ ما نعرفه عن الأورفين وصل إلينا من «الإسكندريين» الذين شوَّهوا تلك الأغاني بأن جعلوها خليطًا من سائر الأفكار، وأعطوها صِبغة مقدسة بأن نسبوها إلى الحكماء الأُوَل.
ومن الأغاني التي استمدَّت من الأساطير فكرتَها، أغنيةٌ جميلةٌ على الليل والزمان اللذين يلدان الحُبَّ ذا الجَناحين المذهبَين (إيروس)، فينمو ويكبُر وينحني، فيكون ظهره السماء بنجومها، ومن نور عينه يخرج القمر والشمس، ومن دموعه يخرج الجنس الإنساني البائس، وابتسامته تُخرِج شَعب الآلهة المقدس.
وفي القرن السادس أيضًا كتب فيرسيد بالنثر عن الطبيعة والأرباب، وما دوَّنه من الكوزمولوجيا لا يزال مرتبطًا ارتباطًا شديدًا بالتيوجونا، ولكنه يفوق ما دوَّنه هيسود.
ويمتاز فيرسيد بأمرين؛ الأول أنه ميَّز المواد اليابسة (الأرض) عن غيرها كالمواد الجوية، وفرَّق بين المادة والقوة التي تُدبِّرها.
ويلاحظ المطلِع على تلك الفترة من تاريخ الفلسفة أن فكرةً واحدةً كانت سائدة، وهي فكرة النظام والتناسب والانسجام؛ فهي الفكرة السائدة في ما يدوِّنه الحكماء والمشترعون وغيرهم ممن يريدون أن يسود الانسجام.
(٢) تقسيم الفلسفة اليونانية – بيان عن الفلسفة السابقة لسقراط – تقسيم الفلاسفة السابقين
يمكن تقسيم الفلسفة اليونانية التي تتصل بها الفلسفة اللاتينية إلى ثلاثة أقسام أو فترات:
القسم الأول يبدأ بطاليس عام ٦٠٠ق.م.، وينتهي مع سقراط، والفلسفة في هذا القسم هي عبارة عن عِلْم الكائنات الشاملِ لسائر عناصر الوجود. وفي القسم الثاني فتح سقراط للفلسفة بابًا جديدًا؛ فرفع المنطق والأخلاق على الطبيعيات. والقسم الثالث يبدأ بآراء المحدثين من أتباع فيثاغورس واضعي «نيوفيثاغورزم»، ويمتد إلى نهاية الفلسفة القديمة، ويمتاز هذا القسم بامتزاج الفلسفة اليونانية بالروح الشرقي، وتفوُّق الحكمة الآلهية والتصوف.
كان الفلاسفة الأيونيون (اليونان الأقدمون) طاليس وأناكسيماندر وديوجين دابولوني، والفيثاغوريون، والآليات كلهم يبحثون عن مادة الأشياء.
وفي عهد هيراقليت أصبح السؤال المهم هو معرفة قواعد صيرورة الأشياء، وما يطرأ عليها من التطوُّر، وطريقة النظر إلى المادة الأولى التي يتكون منها الشيء، وعليها يتوقف فهْم قواعد الصيرورة والتغيُّر، ثم إن إمبيدوكل والفلاسفة الأتوميست وأنا كساجور تأثَّروا بآراءِ بارمنيد ضد التحوُّل والتعدُّد؛ فقالوا بأنه ليس هناك صيرورة، ولا هلاك بمعنى الكلمة، ويفسِّرون سائر المظاهر الطبيعية باتفاقِ واختلافِ العناصرِ الأولى (التجاذب والتنافر).
رأينا في اليونان أن الشعراء يسبقون الفلاسفة؛ ولذا كانت المسائل التي حلَّها الشعراء الحكماء جمةً مهمةً؛ فهم يتساءلون عن معرفة تكوين الأرض، وظهور الإنسان، وقد قَبِل الفلاسفة ميراث الشعراء؛ أي إنهم اهتموا بما اهتم به أولئك، ولا يزال مجال بحثهم ماديًّا؛ أي أصل الأرض، وأصل الإنسان، ولكن طريقة البحث تغيَّرت، وتَغيُّر طريقةِ البحثِ أدى إلى صعوبة الاهتداء إلى حلول تلك المسائل غير المحدودة؛ فإنه لا يمكن تعليل الأشياء بتحوُّل مادةٍ أولية، كما أنه لم يكن ممكنًا تعليلها بتاريخ الأرباب؛ ولذا عَرضت صعوبات جمة؛ فتقوَّى العقل البشري بطول البحث، وساد المنطق شيئًا فشيئًا على عِلم الكون، وساد البحث في الانتقال من الواحد إلى المتعدِّد، وإمكان التحوُّل والصيرورة، والذي يهم الباحث هو هذا الانتقال الفكري من الطبيعي إلى المنطقي، ومن النظر في الكون إلى النظر في ذاته.
(٣) آراء الفلاسفة الأُوَل
طاليس أوَّل الفلاسفة الأيونيون كان من أهل ميلت، ومن معاصري كريسوس وصولون، ويُفرض ميلاده عام ٦٤٠ق.م.، ويقول أرسطو في كتابه «ما وراء الطبيعة» جزء ١، قسم ٣ / ٩٨٣ ب٢٠: إن طاليس لم يقُل بشيء سوى استبدال المحيط، وما عبَّر عنه علماء التيولوجيا بالعنصر الرَّطْب، وهذا التغيير قد أحدث ثورة في الأفكار. ويشير أرسطو إلى أن العِلم الذي كان متعلقًا بأهداب الشِّعر قد بدأ ينفصل عنه، وأصبح القول بالآراء الشخصية من أهم الأمور؛ كذلك الدفاع عنها بالجدل وطرقِ البحث العقلي، ولم يكن ذلك مبنيًّا على الأساطير المقدسة، إنما على مراقبة الطبيعة بالذات. قال طاليس: «إن كل الموجودات مملوءة بالأرباب.» ومن المرجَّح في رأي أرسطو أن طاليس تمثل المادة الأولى حية، وهذا رأي الأقدمين في الكاوس (الفوضى الأولى)، وأنها قادرة على توليد الأشياء بذاتها.
أناكسيماندر، وهو من أهل ميلت وُلد ٦١١ق.م.، أخذ أوَّل مبدأ لذاته اللانهاية، وقد تخيَّل اللانهاية مادة غير محدودة مؤلَّفة من اختلاط عدة مواد موجودة في جثمان أو جِرْم لا يمكن تمييزُه.
ثم تلاه أناكسمين من ميلت أيضًا، وأصغر سنًّا من أناكسيماندر، وقد يكون تلميذه، اتخذ الهواء بدايةً لكل شيء، ويعتقد أنه لا نهاية له، وأنه حي، وأنه يعتنق العالَم بأسره، وأنه بحركة مستمرة يولِّد الموجودات، وكل شيء ينتج عنه بالتكثيف والتخلخل.
ثم تلتهما فترةٌ وقعت فيها حروب الفرس، وجاء ديوجين دابولوني، وهو أصغر من أناكساجور (وعاش ٤٥٠–٤٨٠)، ولا ريب أنه اجتمع به بأثينا التي صارت عاصمة الفلسفة، وقد قال بأن الكائن الأول ينبغي أن يكون مادةً كسائر الأشياء، وينبغي أن يكون ممتعًا بالفكر؛ فإنه إن لم تصدر الأشياء كلها عن مادة واحدة لا يمكن تعليل أثرها في بعضها البعض سلبًا وإيجابًا، وأن قياس الكون وترتيبه، حيث كل شيء سائر في طريق الخير، يُظهِران بوضوحٍ ذكاءَ المبدأ الأول، وهذا المبدأ هو الهواء المفكِّر الذي يحكم الأشياء ويسودها جميعًا؛ لأنه يخترقها جميعًا؛ لأنه مادتها.
إن المعروف عن فيثاغورس وتلاميذه قليل، والتعويل في القول عنهم هو على كُتب أرسطو، وعلى بعض نُبذ نادرة من مؤلَّفات فينولاوس.
وُلد فيثاغورس في ساموس نحو ٥٨٨، وكتب زينوفان وهيراقليت كلامًا عنه، ومن الراجح أنه ظهر أولًا في وطنه، ثم انتشر اسمه في إغريقية الأيونية، وتصعُبُ معرفة حقيقة الأساطير التي نسبت إليه السياحةَ في مصر، وأشوريا، وكلدانيا، وبلاد الفرس، والهند، والمؤكَّد أنه سافر حوالي عام ٥٤٠ إلى إيطاليا، واستوطن كروتون، وتُوفي عام ٥٠٠ بمتابونته، ولا يُعلَم إن كان موته قبل ثورة مدن الإغريق الكبرى ضد النظام الذي وضعه، والجمعية التي ألَّفها أو بعدها، ولم يكن فيثاغورس فيلسوفًا فقط، بل كان مصلحًا سياسيًّا ودينيًّا.
وقد ألَّف فيثاغورس جمعية دينية سياسية علمية انتشرت من كروتون إلى سائر مدن إغريقية الكبرى، وكان يشترط للدخول فيها مدةً يقضيها العضو من قَبيلِ التَّجرِبة قبل الانضمام النهائي، وكان الأعضاء يتعارفون بإشاراتٍ سرِّية، وكان مفروضًا عليهم التعاون، ومساعدة بعضهم بعضًا، وواجبهم نحو الرئيس الطاعة المطلقة، وأشهر فلاسفة هذه المدرسة الفيثاغورية: فيلولاوس أحد معاصري سقراط وديموقريط، وقد جاء إلى طيبة، وتعلَّم عليه سيبيس وسمياس وتيميه دي لوفر، والشاعر الهزلي أبيسام وأرخنياس دمارنت، ونُورِد رأي أرسطو في أتباع فيثاغورس نقلًا عن كتاب «ما وراء الطبيعة» قسم ٥٠١، قال إنهم تغذَّوا بِلِبان الرياضيات، وتأثروا بشدة الشَّبه بين الأرقام والموجودات، فظنوا أن عناصر الأعداد هي عناصر سائر الموجودات، وأن السماء كلها انسجام واحد ورقْم واحد؛ فكان العدد هو المادة والشكل، بل إن الأعداد هي الأشياء بعينها، وينتقد عليهم أرسطو أنهم يخلطون إلى هذا الحد بين الأجسام الطبيعية وبين الأرقام الحسابية؛ أي بين الأشياء ذات الثقل والخفة، وبين الأشياء التي لا ثقل لها ولا خفة.
يقول الفيثاغوريون إن العدد الذي هو مادة الأشياء له في ذاته عناصر (عنصران) هما الزوج والفرد؛ فالزوج هو اللانهاية، والفرد هو النهاية، وكل شيء مركَّب من النهاية ومن اللانهاية؛ كل شيء هو عدد وانسجام، وما العدد إلا انسجام الزوج؛ والفرد انسجام النهاية واللانهاية؛ فالانسجام لا ينفصل عن العدد، بل هو العدد ذاته. فإذا كان النظام سائدًا في العالَم؛ فهذا لأن عناصر الأشياء — أي الأعداد — هي القاعدة والنظام، بل هي موسيقى ذلك الانسجام، وهنا ترى فكرة الترتيب والقياس والانسجام سائدة على سائر آراء فيثاغورس وأتباعه.
وغاية تعليم فيثاغورس هي البحث عن الكائن، والحقيقة في العدد، وليس هناك غاية للتمييز بين ما هو محسوس وما هو معقول؛ بل امتزج عندهم التعقُّل والخيال والشعر والدين والعلم والسياسة، وكل حالات النفس، وَأوضاع الفؤاد، وصور الفكر ممتزجة عندهم في وحدة محسوسة مرتبكة.
أشهر فلاسفة مدرسة إيليات هم: زينوفان وبارمنيد وزيفون الإيلي.
وُلد زينوفان دي كلفون عام ٥٦٩، وساح من بلد إلى بلد يكسِب قوته بنشيد شِعره، ولجأ أخيرًا إلى إيلية، وهي مستعمَرة أسَّسها الآبقون من الفرس عام ٥٤٤، وبدأ زينوفان تعليمه بهجمات شعواء على أرباب العامة؛ ففي النبذتين ٦ و٧ من مؤلفاته ما يأتي:
«لو كان للثيران والأسود أيادٍ لصنعت لنفسها آلهةً على شكل أبدانها؛ إن هوميروس وهزيود نسبا للأرباب كل ما يشين البشر، ويقلِّل من أقدارهم.» ثم ختم قوله بتوحيد الله وهو يقول في وصفه: إنه رب لا يَتْعب، ويدبِّر الموجودات كلها بقوةِ فكرهِ. يقول أرسطو: ولم يفصل زينوفان اللهَ عن العالَم، إنما نظر في السماء بمجموعها، ثم قال إن الواحد هو الله، وقد خلط الكون بالله، وقرَّر أن الواحد لا يتحول ولا يتغير، ثم كان ينبغي لزينوفان أن ينفي التغيُّر والتحوُّل عن العالَم كما نفاهما عن الله، ولكنه لم يصل إلى ذلك، بل قال بأن العالم لا يتحوَّل في مادته، وقد يتحوَّل في شكله.
(٣-١) بارمنيد
أما بارمنيد الذي يدعوه أفلاطون بالعظيم، فقد كان أكثر شجاعة وإقدامًا؛ فإنه تغالى في تقرير مبدأ زينوفان فأنكر بتاتًا التغيُّر والصيرورة والتعدُّد، ولا يعترف بسوى الحقيقة الواحدة أو الكائن الواحد الأبدي الذي لا يتغيَّر.
(٣-٢) زينون
كان زينون صديقَ بارمنيد وتلميذه، وقد وُلد بإيلية في أوائل القرن الخامس، حوالي ٤٩٠، ولعب دورًا سياسيًّا مهمًّا كما فعل أستاذه، ونسب إليه أرسطو فضلَ وضْع المنطق، ثم إنه قام بتأييد مذهب بارمنيد.
(٣-٣) شأن مدرسة إيلية
وكان لمدرسة إيلية أثرٌ مهمٌّ في تكوين الفلسفة السابقة لسقراط؛ فوافق إمبيدوكل والأتومست وأناكساجور بارمنيدَ على القول بأن الكائن الحقيقي هو أبديٌّ غيرُ هالكٍ. وقد نشأ عن القول بهذا الفكر رأيٌ جديد في الحياة والطبيعة.
(٤) الطبيعيون المحدثون: أولهم هيراقليط وُلد عام ٥٠٤
وكان هيراقليط هذا يقول بأن الكلَّ يتحرَّك، والكلَّ يسيل، والكلَّ يصير الكلَّ، والكلَّ هو الكلَّ. ومن قوله: النهار والليل والنوم واليقظة والشباب والشيخوخة كلُّها أشياءُ واحدة، والطين الذي تُصنع منه سائر الموجودات هو مادة واحدة تتشكل بأشكال مختلفة. إن العالَم محتاج إلى التحريك لئلا يعتريه الفساد. لا شيء موجود؛ الكل هو الوجود. الكل يشمل المتناقضات، وقانون الصيرورة يعود إلى قانون اتفاق الأضداد؛ أي كون الأضداد هي الأشياء بذاتها، وكل الأشياء تُولد من هذا العراك.
وهيراقليط يبحث في هذه الفوضى عن الانسجام؛ لأنه لا يقول بالمصادفات وبحدوث الأشياء اتفاقًا وعَرَضًا. ومن قوله أن النفوس الجافية لا تعرف أن الخير والشر يجتمعان في أثر واحد كما يجتمع في الانسجام العود والقيثار، وكلٌّ له أنغامٌ مخالِفةٌ لأنغام الآخر؛ وهذا الانسجام هو القانون الإلهي.
(٤-١) إمبيدوكل
إمبيدوكل من أغرب وأعجب هؤلاء الفلاسفة الأقدمين؛ فهو شاعرٌ وخطيب سياسي ونبي مطهَّر؛ فيقوم بالمعجزات ويُحيي الموتى ويُوقِف الأوبئة، ويطوف شوارعَ أجريجتيه محزَّمًا ومتوَّجًا بتيجانٍ خضراء، ومعبودًا كأنه بعض الأرباب، وقد انتحل من الفيثاغوريين تعاليمَهم الدينية والأدبية؛ وعلمُ الكائنات الذي قال به هو توفيقٌ بين بارمنيد وهيراقليط؛ فهو يعترف بوجود بعض المواد التي لا تَخلُق ولا تَهلَك، ويُنسِب كلَّ تغيُّر وتحوُّل إلى انفصال وارتباط تلك المواد؛ لا شيء يَعدَم ولا شيء يَخلُق؛ فليس هناك إلا انفصال وارتباط العناصر. والعناصر أربعة: الأرض والماء والهواء والنار. والقوى المحرِّكة هي الحُب وهو مبدأ الاختلاط والاتحاد، والبغض وهو مبدأ الانفصال والانحلال.
(٤-٢) ليوسيب
لا يُعرف عنه شيء تقريبًا، ولا يمكن تمييزه عن تلميذه وصديقه ديموقريط (٤٦٠)، وكان غنيًّا جدًّا، ووقف أمواله على السياحة والأبحاث العلمية، وقضى خمس سنين يجاور علماء الهندسة المصريين، ولا يُعلم عن تاريخ سفره إلى أثينا شيء، وهو كإمبيدوكل يريد التوفيقَ بين التعدُّد والصيرورة؛ أي التَّجرِبة. والحل الذي لجأ إليه ديموقريط هو القول بالجوهر الفرد (أتوميزم)؛ فقال: إن الكائن ليس هو الواحد كما ظنَّ بارمنيد، إنما هو مكوَّن من عدد غير محدود من الذرَّات والوحدات الأبدية غير المنقسمة متشابهة، متحركة على الدوام في الفراغ غير المحدود؛ فبقاء الكائن أمرٌ يمكن التوفيقُ بينه وبين التحول. لا شيء يأتي من العدم، ولا يمكن هلاك شيء من الموجودات، إنما الميلاد والنمو والموت يمكن تفسيرُها بارتباط وانفصال الذرات الأولية المتحركة في الفراغ؛ وتغيير الصفة يرجع إلى تغيير الوضع في الفراغ. ويعلِّل ديموقريط هذه الحركة بحركة سابقة لها، وهكذا ينسب الحركة السابقة إلى حركةٍ أسبقَ من الأولى.
وقد انتقد أرسطو هذا الرأي، وقال كان الأولى به أن يقول بأن هذا السؤال لا جوابَ عليه؛ لأن الأشياء كانت على ما هي عليه أبدًا؛ وأنه لا مجال للبحث عن قاعدة أو قانون.
(٤-٣) أناكساجور
من أهل كلازومنيس، وُلد عام ٥٠٠، وتُوفي عام ٤٢٨، أحد الفلاسفة الأيونيين، جاء أثينا وأقام بها ثلاثين عامًا، وبها تلقَّى عليه العلم أيربيد، وشاهد تشييد البارتينون، وعرف فيدياس، وصادق بريكليس، وحظي بحديث أسبازيا.
وقد حاول مثلَ إمبيدوكل وديموقريط أن يوفِّق بين رأي بارمنيد، وبين التَّجرِبة فقال: إن اليونانيين يسيئون القول عندما يتكلمون عن الميلاد والهلاك؛ لأنه لا شيء يُولد، ولا شيء يهلك، إنما الأشياء موجودة، تتألف وتتحد ثم تنفصل، وإن التغيير في الأشياء ناشئ عن تحوُّل موضعها في الفراغ. وهو يقول بأن عناصر الأشياء وُجدت منذ الأزل، وأن كل شيء يمكن تقسيمه إلى اللانهاية، إلى أجزاء متشابهة ذات صفاتٍ مختلفة؛ والعُشب الذي يأكله الثور يتحوَّل إلى دم وعظم وعضل؛ لأنه يشمل الدم والعظم والعضل. وبعبارة أخرى كان رأي أناكساجور هو الذي قال به بعد ذلك جوردنانو، وباسكال، وليبنتز.
(أ) رأيه في أصل العالم
في أول الوجود كان الخلق مضطربًا مرتبكًا؛ فلأجل خروج العالَم من تلك الفوضى اقتضى ذلك تداخل قوة محرِّكة مدبِّرة آمرة مرتِّبة؛ وهذه القوة هي العقل، والذي يمتاز به العقل هو البساطة والقوة والعلم. ولكن لم يكن لأناكساجور رأيٌ واضح في الفَرق بين الروح والمادة؛ فهو يتكلم عن العقل بعض الأحيان، كما يتكلم ديوجين دابولوني عن الهواء المفكِّر، ويقول عنه إنه أخفُّ وأنقى الأشياء، وإن كل الكائنات المفردة تحتوي على أجزاء منه، وإن أرواحها تقرُب إلى الكمال بقدْر ما تحتوي من مادته. ويُرى من ذلك أن أناكساجور هو أوَّل مَن أدخل في الفلسفة فكرةَ قانونٍ روحاني يرتِّب العالَم وينظِّمه. إن أناكساجور لفت نظر العقل الإنساني نحو ذاته، وبذا أعدَّ فلسفةً جديدة، وهي فلسفة السفسطة التي اشتغلت بالفِكر عن الموجودات.
(٥) أصول السفسطائية – السفسطائيون المشهورون، وآثارهم في تكوين الفلسفة
كانت الفلسفة اليونانية في أوَّل أمرِها غزيرةً بالآراء، وأنظمة الفكر، وطُرق البحث؛ فقد وضع هيراقليط أكبرَ قواعد عِلم الخوارق عندما قال إن كل شيء يتغيَّر إلا قانون التغيُّر ذاته، كذلك بارمنيد يُنكر الصيرورة (التَجرِبة)، ولا يعترف بغير حقيقة واحدة، وهي حقيقة الواحد المتحِد بذاته الأبدي. وقد اكتشف ديموقريط في المادة سيادةَ الروح على الموجودات، ولكن كل قاعدة كان يقول عنها صاحبها إنها عبارة عن الحقيقة ذاتها؛ فإذا كان العالَم باقيًا كما هو، والمعضلةُ المطلوبُ حلُّها لا تتغير، فلماذا تتعدَّد الحلول؟ هذا هو الذي دعا الفكر إلى التنبُّه والحذر من خطئه، وكانت حال بلاد اليونان السياسية والاجتماعية تقتضي وجود خطباء حاذقين يلعبون بالأفكار، ويهمهم الفوز على الجموع أكثر مما يهمهم قول الحق؛ لذا نشأ فريق السفسطائيين، ولم يؤلِّف السفسطائيون مدرسةً فلسفية بالمعنى الصحيح، وكانوا يُنكِرون الحق والخير المطلقَيْن، ولم يكن لهم غاية سوى الانتفاع بالأشياء، وسنأتي على آراءِ أشهرهم.
أشهرُهم بروتاجوراس وجورجياس وبروديكوس وتراسيماك وأيونيديم.
أما بروتاجوراس فقد اتخذ نظام هيراقليط بدايةً لتعليمه، ولكنه أغفل ذكْر العقلِ العام الذي قال عنه هيراقليط إنه سببُ الانسجام، ووحدة الذات في المتناقضات، إذًا لا يبقى سوى حوادثَ خارقةٍ للعادة وحركة مستمرة.
وليس يوجد باب للمعرفة إلا الحواس الخمس؛ فالإنسان أصبح مقياس الأشياء، وكلُّ معرفةٍ نسبيةٌ بالنسبة للروح التي تَعرف؛ فلا يخرج الإنسان من ذاته، والحكيمُ كطبيب النَّفْس لا يمكنه أن يَخلُق فيها أفكارًا أصحَّ وأصدقَ من الأفكار الموجودة بها، ولكنه يمكنه أن يوجِد بها أفكارًا أنفعَ وأجملَ؛ فالحكمةُ هي صنعة الإسعاد.
وجورجياس وُلد عام ٤٢٧، وجاء إلى أثينا سفيرًا لمدينة ليونتيم، وهي وطنه بصقلية، وقد اتخذ تعريف بارمنيد للكائن، وطبَّق هذا التعريف على الكائنات الحساسة، ويستنتج أن الكائن ليس في مكانٍ ما؛ لأنه لا شيء يوافق تعريف الوجود. وجملةُ تعليمه في ثلاثة آراء؛ الأول أن لا شيء موجود، وأنه لو وُجد شيء فلا يمكن معرفتُه، ولو فرضنا وجودَ الكائن، وأمكن معرفتُه فلا يمكن له أن يعرِّفه لغيره. قال بروتاجوراس إن كل حُكمٍ يصدره الإنسان حقٌّ. وقال جورجياس إن لا حكم حق، يقول لو كان كل حكم حقًّا فهو قاصر على التعبير عن الظاهر، وإذا كان كل حكم غير حق، فمعنى هذا أننا لا نستطيع إلا فهْم الظواهر.
يقول السفسطائيون الذين انتقدهم أفلاطون وسقراط انتقادًا مرًّا إنه ليس هناك عِلم، إنما هناك آراءٌ، وليس هناك حقيقة، إنما هناك ما يشبهها، وإن الخير نسبي كالحق، وروح الأدب هي فن الفوز. ومن أقوالهم أن الأرباب اخترعها واضعو القوانين ليرهبوا البشر، وأنه ليس هناك عدل، ولا ظلم، ولا حق، ولا باطل، وأن القوانين ما وُضعت إلا للضعاف الذين لا يستطيعون مخالفتها، وأن الخير هو القوة، وهو فرح السيادة على الأشياء والفوز على الموجودات، وكون القانون الوحيد الذي يقيِّد الرجل هو إرادته.
وظهور السفسطة دليلٌ على اضمحلال الفلسفة اليونانية القديمة، وبداية تقدُّم في الفكر، وأول عهد للبحث في مسائل معضلة لم تخطر للأقدمين على بال.
(٦) سقراط العظيم والفلسفة السقراطية
لم يكن سقراط فيلسوفًا فقط، بل كان فيه من صفات الرسل والأنبياء، وكان يعتقد أنه تسلَّم من الأرباب رسالته، فتفرَّغ لتلك الرسالة، وكانت نفسه تحدِّثه بإصلاح وطنه إصلاحًا أدبيًّا ودينيًّا، وأنه ما كان يستطيع أن يرد لبلاد الإغريق مجدها بدون أن يستردوا فضيلتهم؛ فنشر طريقة جديدة للاهتداء إلى الحقيقة، وإخراجها واحدة ثابتة من كل المظاهر المتعددة قليلة الثبات. وكل ما يحبه في الحق هو الخير الذي هو الشرط الأول للحق؛ والمنطق مرتبط في نظره بالآداب؛ لأنه أداتها.
وُلد سقراط في أثينا عام ٤٧٠، واشتغل بصنع التماثيل كأبيه، ثم تركه واشتغل بالحكمة والوعظ، وكان قوي البدن، شجاعًا يقابل الأخطار بصدر رحب، وكان يعتقد أنه يُوحى إليه بما يقول، وكان يعادي سائر الطبقات؛ فاتهم الشعراء بأنهم يقولون ما لا يعلمون، واتهم رجال السياسة بأنهم ضيَّعوا مجد الوطن، واتهم السفسطائيين بفساد الأخلاق. وقد ذهبت به شجاعته إلى هلاكه، فاتهموه بالثورة، ونسبوا إليه السخط على نظام حكومة وطنه. وقد اتهمه ملتيوس وليكون وأنيتوس، وأرادوا عقابه بالموت ليكون مثلًا فيتقوى الدين الوطني، ويظهر مبدأ الديموقراطية على غيره من المذاهب؛ وليُراجَع دفاعه عن نفسه أمام القضاة في محادثات أفلاطون (أبولوجي – كريتون – فيدون) فإنه من أجمل وأبلغ ما نطق به الإنسان.
ولم يكتب سقراط شيئًا، إنما نعرف تعاليمه بالنقل عن تلاميذه ومن قرءوا عليه؛ على أننا نجد في محادثات أفلاطون نظريات أفلاطون ذاته وضعها على لسان معلِّمه. أمَّا زينوفون في «الباقيات» و«المائدة» فهو يشرح بدقة أتمَّ آراء سقراط، ويهتم بما يهمه ويلذ له من علم الأخلاق وقواعده العلمية. فأفلاطون فيلسوف متغال، وزينوفون ليس كذلك، فينبغي لنا، والحال هذه، المقارنةُ بينهما، والرجوع إلى ما كتَبه أرسطو في هذا المعنى. إن الفلاسفة الأُوَل أرادوا أن يعرفوا كل شيء فلم يقدروا، وأعطوا الناس حلولًا متناقضة؛ أما سقراط فقد كان أكثر منهم تواضعًا، وبديلًا من أن يلفت الإنسان إلى الأشياء يكفيه أن يلفته إلى ذاته. فأول قاعدة من الطريقة السقراطية هي أن يعرف الإنسان نفسه؛ لأن الحقيقة ليست بعيدة عنَّا، إنما هي فينا ومنَّا. وعلى كلٍّ فإنه في نفوسنا يمكن وجود الطريق المنطقية الكافية للوصول إلى الحقيقة. كان السفسطائيون يُنكِرون العِلم، ومع ذلك كانوا يجدون لكل مسألة جوابًا؛ أما سقراط فكان يقول: كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا. ومعرفة جهل الإنسان صفة كبيرة؛ لأنها عبارة عن الإلمام بالعِلم، وعرفان حدوده، والاقتدار على التمييز بين الحق والباطل. وقد اكتشف سقراط طريقتين للوصول إلى الحقيقة: الأولى سلبية، وهي الهزء، وهي تنجي من الخطأ، وتطهِّر وتسهِّل لنا التمكُّن من الحقيقة. والأخرى إيجابية، وهي الميوطيقي أو التوليد، وهي تمكِّننا من الحقيقة التي لا يمكن أن نكتشفها إلا فينا، والخلاص من الغلط، واكتشاف الحقيقة شكلان من عرفان النفس.
ولم يكن سقراط يقصد تثبيط همم الناس بالهزل، إنما يريد تخليصهم من الغلط، ويُعِدُّهم للوصول إلى الحقيقة؛ فإن اكتشاف الإنسانِ جهلَه هو بداية عرفانه ذاته؛ إنما المعلِّم لا يُسلِم زمامَ الحقيقة لتلميذه، ولكنه يساعده على استخراجها. قال سقراط: «إن صنعتي كصنعة المولِّدة، ولكني أُولِّد الرجالَ لا النساء، وأعتني بالنفوس لا بالأجسام.» فالعلم لا يُسلِم قيادَه، ولا يُوهب إنما هو حاضر في النفس البشرية التي لا تملكه إلا إذا تركته يفيض منها، والعلم يكمِّل المعرفة التي يصل إليها الإنسان إذا عرف ذاته؛ فعمل الأستاذ هو مزاولة الموطيقي أو التوليد؛ أي صنعة معاونة النفوس على «وضع الحقائق» التي لا تحتاج إلا لأن تولد؛ فما هي إذًا الطرق المنطقية التي تسهِّل توليد الحقيقة؟ أجاب أرسطو على هذا السؤال أن هناك أمرين يُنسبان إلى سقراط؛ الأول المقالات القياسية (الاستدلالية)، والثاني التعريفات العامة؛ فكان سقراط بطريقته يُظهِر غرور الفصاحة السفسطائية بتعيين معاني الألفاظ تعيينًا دقيقًا، وبوضع تعريفات تعبِّر عن طبائع الأشياء، وتمكِّن النفس من الحقيقة التي تستخرجها بعمليات منطقية تشبه الأعضاء الطبيعية للذكاء الإنساني؛ ولأجل الوقوف على حقيقة فِكر سقراط نرجع إلى ما جاء في محادثة فيدون التي وضعها أفلاطون؛ قال سقراط في هذه المحادثة (ن٩٦): «وأخيرًا سمعت واحدًا يقرأ في كتابٍ قال عنه إنه كتاب أناكساجور: «إن الذكاء هو قاعدة وقانون سائر الأشياء؛ فانشرح صدري لأنني فطنت إلى حسن تلك القضية، فقلت في نفسي إذا كان الأمر كذلك فإن الذكاء سيحوِّل الأشياء إلى الخير العام؛ فإذا أراد الإنسان أن يجد سبب كل شيء، وكيف يُولَد، وكيف يَهلك، وكيف يُوجَد، فما عليه إلا أن يبحث عن أحسن حال يكون عليها الشيء».»
(٦-١) آداب سقراط – القوانين الإلهية – علم الفضيلة
يقول سقراط: إن القانون هو العقل، وإن العقل هو الطبيعة ذاتها، وإن القوانين الحقيقية هي غير المكتوبة، بل التي سطَّرتها الأرباب في قلوب البشر. إن مَن لا يطيع القوانين الإنسانية قد يَسلَم من العقاب، ولكن مَن يستخف بالقوانين الإلهية لا يسلم من العقاب، والعقاب يتلو الزلة، فتنتظم الحال، ويعود الترتيب بالتكفير عن الذنب. إذا كان الخير هو الحقيقة ذاتها، وإذا كان من الخطأ يخرج العقاب بضرورة طبيعته، فمن المستحيل أن الإنسان يعمل الشر بإرادته؛ لأن الإنسان يريد الخير لذاته على الدوام، فإذا كان الخير هو الحقيقة بعينها، فخير الفرد لا يمكن فصلُه عن خير المجموع. إذًا فالإنسان عندما يخطئ إنما هو يخطئ لذاته، أو يجني على نفسه، وحيث إنه لا يريد إلا الخير، فهو كلما يفعل الشر يكون مخطئًا، وكل خطيئة أدبية هي غلطة، ولا يمكن إنقاذ البشر من الخطايا إلا بتعليمهم، ولا لزوم للتمييز بين النظرية والعمل؛ لأن مَن يملك علم الخير يرى وحدة ذاته مع السعادة، ولا يمكنه إلا أن يعمل الخير، فالإنسان يعمل كما يفتكر. فالفضيلة هي إذًا عِلم، فالحكيم هو الذي يفتكر في الخير، ويعمل الخير، فإذا كانت الفضيلة علمًا فيمكن تعلُّمها. والحق أنه لا يوجد إلا حقيقة واحدة هي الحكمة، إنما تعددت أسماؤها بحسبما تكون علاقة الإنسان مع ذاته، ومع أمثاله أو مع الله. وإذا نظرنا إلى الحكمة وعلاقتها بالإرادة تصير هي الشجاعة، والشجاعة هي عِلم الأشياء التي تُخشى، والاعتدال عِلم السرور، والعدل هو عِلم ما يستحقه كل إنسان، والصلاح هو علم واجباتنا نحو الأرباب.
وهنا نشير إلى آراء سقراط في الصداقة، وآرائه في العمل، وقوله في المرأة التي يريد جعلها رفيقة الرجل، ومساوية له (راجع كتاب أيكونوميكوس، تأليف زينوفون ١ و٣ و٧ و٩).
أما آراؤه في السياسة فهو يميل إلى الأرستوقراطية، ويريد حكومة أصلح الرجال وأحكمهم؛ وحاجة المدينة إلى العلم كحاجة الفرد، فلا تحصل على الخير المطلق إلا من طريق العلم.
وقد أعطى سقراط دليلَيْن على وجود الإله؛ الأول بالعلل الفعالة، والثاني بالعلل النهائية. والدليل الأول هو القول بأن ما فينا ينبغي أن يوجد في العلة التي خلقت العالم؛ قال سقراط: «أَحِط العِلمَ كلَّه بفكرك تستطِع، ولكن بدنك ليس إلا جزءًا ضئيلًا من الأرض. وأقول كذلك عن الرطوبة وغيرها من العناصر التي تتكوَّن منها الأرض، كلها عظيمة مهولة، ولكن من كل عنصر منها يدخل بدنك جزءٌ يسير، وأنت تظن أنك وحدك امتزت بالعقل.» وسقراط يُظهِر إعجابه بترتيب العالم والنظام السائد، وهو معجب بإعداد كل عضو في بدن الإنسان لما خُلق له، ثم ينتقل من المصنوع إلى الصانع؛ أي من المخلوق إلى الخالق؛ أي من العالَم إلى الله، ويرتفع إلى فكرة إلهٍ أكبر من سائر الآلهة، ويقول إن الآلهة الأخرى التي تعطينا الخيرات إنما تعطينا إياها دون أن نراها، أما الذي يرتِّب العالَم بما فيه من أشياءَ جميلةٍ وخيِّرة، ويحكمه بأسرع من الفكر يعمل أمامنا أعظم الأشياء، ولكن بدون أن يمكِّننا من رؤيته؛ فربُّ سقراط هو العين التي ترى كل شيء، وتسمع كل شيء، وهو حاضر في كل مكان، وساهر على كل ما في الوجود؛ ألم يكن هذا دليلًا على وجود الله في نفس الفيلسوف؟! كما كان يقول إنه يسمع في نفسه صوت الله. وقد قال سقراط بخلود النفس تبعًا للعدل الإلهي؛ فإن النفس خالدة؛ لأنها منفصلة عن البدن وسائدة عليه؛ ولأن لها حياة خاصة بها. وإن الإنسان يرى البدن ينحل ويفسد، والروح لا يراها أحد بعد الموت، ولا في الحياة؛ ولأنها أقدس ما فينا، ولذا ترجع إلى الله. كن ذا أمل في الموت، ولا تفكِّر إلا في حقيقة واحدة وهي أن الشر لا يلحق برجل الخير أثناء حياته، ولا بعد مماته؛ لأن الأرباب لا تتخلى عنه مطلقًا.
(٦-٢) ما كتبه العرب عن سقراط
(أ) اسمه
معنى سقراط باليونانية المعتصِم بالعدل، وهو ابن سفرونسقس، ومولده ومنشؤه وميتته بأثينا.
(ب) وصفه الطبيعي
كان سقراط رجلًا أبيض، أشقر، أزرق، جيد العظام، قبيح الوجه، ضيق ما بين المنكبين، بطيء الحركة، سريع الجواب، شعث اللحية غير طويل، إذا سُئل أطرق حينًا، ثم يجيب بألفاظ مقنعة، كثير التوحيد، قليل الأكل والشرب، شديد التعبُّد، يُكثر ذكرَ الموت، قليل الأسفار، مجدًّا لرياضة بدنه، خسيس الملبس، مهيبًا، حسن المنطق، لا يوجد فيه خلل، مات بالسُّم وله مائة سنة وبضع سنين.
(ﺟ) عائلته
خلف من الولد ثلاثة ذكور، ولما أُلزم التزويج على عادتهم الجارية في إلزام الأفاضل بالتزويج ليبقى نسله بينهم، طلب تزويج المرأة السفيهة التي لم يكن في بلده أسلطُ منها ليعتاد جهلها، والصبر على سوء خلقها؛ ليقدِرَ أن يحتمل جهل العامة والخاصة.
(د) ملخَّص تاريخه
قال القاضي صاعد في كتاب طبقات الأمم: إن سقراط كان من تلاميذ فيثاغورس، اقتصر من الفلسفة على العلوم الإلهية، وأعرض عن ملاذِّ الدنيا، ورفضها، وأعلن بمخالفة اليونانيين في عبادتهم الأصنام، وقابل رؤساءهم بالحِجَاج والأدلة فثوَّروا العامة عليه، واضطَّروا مَلِكهم إلى قتله، فأودعه الملكُ الحبسَ تحمدًا إليهم، ثم سقاه السُّم تفاديًا من شرهم، وله مناظرات جرت مع الملك محفوظة.
(ﻫ) طريقة تعليمه
بلغ سقراط من تعظيمه الحكمة مبلغًا أضرَّ بمن بعده من محبي الحكمة؛ لأنه كان من رأيه ألا يستودع الحكمةَ الصحفَ والقراطيسَ تنزيهًا لها عن ذلك، ويقول: إن الحكمة طاهرة مقدَّسة، غير فاسدة، ولا دنِسة، فلا ينبغي لنا أن نستودعها إلا الأنفس الحية، وننزهها عن الجلود الميتة، ونصونها عن القلوب المتمردة. ولم يصنِّف كتابًا ولا أملى على أحدٍ من تلاميذه ما أثبته في قرطاس، وإنما كان يلقِّنهم علمَه تلقينًا لا غير، وتعلَّم ذلك عن أستاذه طيماتاوس؛ فإنه قال في صباه لمَ لا تدعني أدوِّن ما أسمع منك من الحكمة؟ فقال له: ما أوثقك بجلود البهائم الميتة، وأزهدك في الخواطر الحية! هبْ أن إنسانًا لقيك في طريقٍ فسألك عن شيء من العلم، هل كان يحسُن أن تُحيلَه على الرجوع إلى منزلك، والنظر في كتبك؟! فإن كان لا يحسُن فالزم الحفظ. فلزمه سقراط.
(و) سبب محاكمته
ولما أكثر سقراط على أهل بلده الموعظةَ، وردَّهم إلى الالتزام بما تقضيه الحكمة السياسية، ونهاهم عن الخيالات الشعرية، وحثَّهم على الامتناع عن اتباع الشعراء، عزَّ ذلك على أكابرهم، وذوي الرئاسة منهم، واجتمع على أذاه عند الملك والإغراء به أحد عشر من القضاة في ذلك الزمن، فتكلَّموا فيه بما أفسد عليه قلب الملك، وزيَّنوا له قتله، والراحة منه، وخيَّلوا له أنه إن بقي في دولته أفسدها، وربما يخرج المُلْك بأقواله عن يده، فقال الملك: إن قتلته ظاهرًا ساءت سمعتي، واستجهلني أهل مملكتي، والمجاورون لي؛ فإنَّ قدْرَ الرجل لديهم كبير، وذكْرَه في الآفاق سائر. فقالوا نتحيَّل له في سُمٍّ نسقيه، فاسجنه أيامًا. فأمر بسجنه.
(ز) مدة حبسه
لما حَبس المَلِكُ سقراطَ بقي في الحبس أشهرًا بعد فُتيا قضاة مدينة أثينا بقتله، وسببُ ذلك أن المَركَب الذي كان يُبعث به في كل سنة إلى الهيكل المرسوم بهيكل أبولون، وهو الذي تُحمل فيه الهدايا في كل سنة إلى ذلك الهيكل لا تتلف نفس علانية بإراقة دم ولا غيره حتى يرجع إلى أثينا، وأنه عرض للمركب في البحر عارض منعه من المسير، فأُبطئ قتله تلك الشهور، فلم يُقتل حتى انصرف المركب.
(ﺣ) اجتماع أصحابه به في سجنه عن رواية خفراطيس
«كنا جماعة من أصحابه نختلف إليه، نتوانى في كل يوم في الغَلَس، فإذا فُتح باب السجن دخلنا إليه، فأقمنا عنده أكثر نهارنا؛ فلما أن كان قبل قدوم المركب بيوم أو يومين وافيت في الغَلَس فأصبت أقريطون، وقد سبقني، فلما فُتح الباب دخلنا معًا فصرنا إليه؛ فقال له أقريطون إن المركب داخل غدًا أو بعد غد، وقد أزف الأمر، وقد سعينا في أن ندفع عنك مالًا إلى هؤلاء القوم، وتخرج خفيًّا فتصير إلى رومية فتقيم بها حيث لا سبيل لهم عليك.»
(ط) رفضُه الفرارَ
«فقال سقراط: يا قريطون، قد تعلم أنه لا يبلغ ملكي أربعمائة درهم، وأيضًا فإنه يمنع من هذا الفعل ما لا يجوز أن يخرج عنه. فقال له أقريطون: لم أقل هذا القول على أنك تغرم شيئًا، وإنَّا لنعلم أنه ليس لك ولا في وسعك ما سأل القوم، ولكن أموالنا متسعة لك بذلك، وبمثله أضعافًا كثيرة، وأنفسنا طيبة بأدائه لنجاتك، وألا نفجع بك. فقال: يا قريطون، هذا البلد الذي فُعل بي فيه ما فُعل هو بلدي وبلد جنسي، وقد نالني فيه من حبسي ما قد رأيت، وأُوجب عليَّ فيه القتل، ولم يُوجب عليَّ لشيءٍ أستحقه، بل لمخالفتي الجور، وطعني على الأفعال الجائرة وأهلها، والحال التي وجب عليَّ بها عندهم القتل هي معي حيث توجَّهت، وإني لا أدع نصرة الحق، والطعن على أهل الباطل والمبطلين، وأهل رومية أبعدُ مني رحمًا من أهل مدينتي؛ فهذا الأمر إذا كان باعثه نصرة الحق، فهي حيث توجَّهت واجبةٌ عليَّ؛ فغير مأمون هناك عليَّ مثل ما أنا فيه، ثم لا يعطف واحد منهم على رحم يفديني بها. فقال له أقريطون: فتذكَّر ولدك وعيالك، وما تخاف عليهم من الضيعة، وارحمهم إن لم تشفق على نفسك. فقال: الذي يلحقهم من الضيعة برومية كذلك، ولكنهم ها هنا أحرى بألا يضيعوا معكم. خبِّرني يا أقريطون: لو أن الناموس مُثِّل رجلًا، فقال لي يا سقراط، أليس بي اجتمع أبواك وبي كان تأديبك، وبي تدبير حياتك؛ أكنت أقول لا، أم أقول الحقَّ الذي هو الإقرار بذلك؟ فقال له: بل الحق. قال سقراط: أفرأيت إن قال لي أفي العدل أن يظلمك ظالمٌ فتظلِم آخَر؛ أفكان يجوز لي أن أقول نعم؟ قال له أقريطون: لا يجوز ذلك. قال له سقراط: فإن قال أفخروجك من الصبر على ما حكم به الحاكم خروجٌ عن الناموس ونقص له أم لا؛ أيجوز أن أقول ليس بنقص وخروج عن الناموس؟ فقال له أقريطون: لا يجوز ذلك. فقال له سقراط: فإذًا لا يجب إن ظلمني هؤلاء القضاة أن أظلم الناموس.»
(ي) اعتقاده في الأحلام
ودار بينهما في ذلك كلام كثير، فقال له أقريطون: إن كنت تريد أن تأمر بشيء فتقدَّم فيه؛ فإن الأمر قد أزف. فقال: يشبه أن يكون كذلك؛ لأني قد رأيت في منامي قبل أن تدخل عليَّ ما يدل على ذلك.
(ك) يوم إعدامه
فلما كان ذلك اليوم الذي عزموا فيه على قتله بكرنا كالعادة، فلما جاء قيِّم السجن فرآنا فتح الباب، وجاء القضاة الأحد عشر، فدخلوا ونحن مقيمون على الباب، فلبثوا مليًّا فخرجوا من عنده، وقد قطعوا حديده، ثم جاءنا السجان، فقال: ادخلوا، فدخلنا وهو على سرير كان يكون عليه، فسلَّمنا وقعدنا، فلما استقرَّ بنا المجلس نزل عن السرير، ونزل معنا أسفل منه، وكشف عن ساقيه فمسحهما وحكَّهما.
(ل) أقواله قبل موته
ثم قال ما أعجب فعل السياسة الإلهية! كيف قرنت الأضداد بعضها ببعض؟! فإنه لا يكون لذةٌ إلا وتبعها ألم، ولا ألم إلا وتبعته لذة؛ فإنه قد عرض لنا بعد الألم الذي كنا نجده من ثقل الحديد في موضعه لذة. وكان هذا القول سببًا للقول في الأفعال النفسانية. ثم اطرد القول بينهم في النفس حتى أتى على جميع ما سُئل عنه من أمرها بالقول المتقن المستقصي، ووافى ذلك منه على مثل الحال التي كان يُعهد عليها في حال سروره من البهج والمزح في بعض المواضع، وكلنا نتعجب منه أشد التعجب من صرامة نفسه، وشدة استهانته بالنازلة التي قد نهكتنا له لفراقه، وبلغت منا، وشغلتنا كل الشغل، ولم يشغله عن تقصِّي الحق في موضعه، ولم يزل شيء من أخلاقه وأحوال نفسه التي كان عليها في زمن أمنه الموت، وقال له سيماس في بعض ما يقول له، وأمسك بعض الإمساك عن السؤال، إن التقصي في السؤال عليك مع هذه الحال لثقل علينا شديد، وسماجة فاحشة، وإن الإمساك عن التقصي في البحث لحسرة علينا غدًا عظيمة لما نعدم في الأرض من وجود الفاتح لما نريد. فقال له: يا سيماس، لا تدعنَّ التقصي لشيءٍ أردتَه؛ فإن تقصِّيك لذلك هو الذي أُسرُّ به، وليس بين هذه الحال عندي وبين الحال الأخرى فرقٌ في الحرص على تقصِّي الحق.
(م) أقواله قبل موته
ثم قال: إنَّا وإن كنَّا نعدم أصحابًا ورفقاء أشرافًا محمودين فاضلين، فإنا أيضًا إذ كنا معتقدين متيقنين بالأقاويل التي لم تزل تُسمع منا، فإنا نصير إلى إخوان أُخر فاضلين، أشراف محمودين، منهم أسلاؤس وأيارس وأرقيليس وجميع مَن سلف من ذوي الفضائل النفسانية. وعدَّد أقوامًا غير مَن ذكرنا. فلما تصرَّم القول في النفس، وبلغوا من سؤالهم الغرض الذي أرادوا سألوه عن هيئة العالَم، وما عنده من الخبر في ذلك.
(ن) رأيه في الأرض
فقال: أما ما اعتقدناه وبينَّاه فهو أن الأرض كُرية، وأن الأفلاك محيطة بها، ومحيط بعضها ببعض، الأعظم بالذي يليه في العِظَم، وأن لها من الحركات ما قد جرت العادة بالقول به، وسمعتموه منَّا كثيرًا، فأما ما وصف أناس آخرون فإنهم وصفوا شيئًا كثيرًا. ثم قصَّ قصصًا طويلة في ذلك مما ذكره الشعراء اليونانيون القائلون في الأشياء الإلهية كهوميروس وأرفاؤس وأسيدوس وأبيدقليس.
(س) خُطبة الموت
فلما فرغ من ذلك، قال: أما الآن فأظنه قد حضرت الساعة التي ينبغي أن نستحم فيها فلا نكلِّف النساء إحمام الموتى في صيوان الحكم؛ فإن الأرماماني — يعني السياسة — قد دعتنا، ونحن ماضون إلى زاوس.
وأما أنتم فتنصرفون إلى أهاليكم، ثم نهض ودخل بيتًا يستحم فيه، فأطال اللبث فيه، ونحن نتذاكر ما نزل بنا من فقده، وإنا نعدم أبًا شفيقًا، ونبقى بعده كاليتامى، ثم خرج إلينا وقد استحم؛ فجلس ودعا بولده ونسائه، فأُتي بهم، وكان له ابنان صغيران وابن كبير فودَّعهم، وأوصاهم بالذي أراد، وأمر بصرفهم. فقال له قريطون: ما الذي تأمرنا به أن نفعله في ولدك وأهلك وغير ذلك من أمرك؟
(ع) وصيته بنفسه
فقال: لست آمركم بشيءٍ جديد، بل هو الذي لم أزل آمركم به من الاجتهاد في إصلاح أنفسكم؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك سررتموني، وسررتم كلَّ مَن هو مني بسبيل. فقال له أقريطون: فما الذي تأمرنا به أن نعمل إذا متَّ؟ فضحك، ثم التفت إلى جماعتنا، فقال: إن قريطون لا يصدِّق بجميع ما سمع مني، ولا أن الذي يخطب ويخاطبه منذ اليوم هو سقراط، ولا يظن أن الذي يُفعل ذلك به ليس إلا جسد سقراط، وأنا أظن الآن أنني سأفِرُّ منكم بعد ساعة، فإن وجدتني يا قريطون افعل بي ما تشاء.
جلاد فيلسوف
فأقبل خادم الأحد عشر قاضيًا فوقف بين يدي سقراط، فقال له: يا سقراط إنك حري مع ما أرى وما عرفته منك قديمًا ألا تسخط عليَّ عندما آمرك به من أخذ الدواء اللازم باضطرار؛ لأنك تعلم أني لست عِلة موتك، وأن علة موتك قضاءُ الأحد عشر، وأني مأمور بذلك، مضطر إليه، وأنك أفضل من جميع مَن صار إلى هذا الموضع، فاشرب الدواء بطيبة نفس، واصبر على الاضطرار اللازم؛ ثم ذرفت عيناه وانصرف عن الموضع الذي كان واقفًا فيه بين يدي سقراط. فقال سقراط: تفعل ذلك. ثم التفت إلينا، فقال: ما أهيأ هذا الرجل! قد كان يدخل إليَّ كثيرًا، فَأَراه فاضلًا في مذهبه. ثم التفت إلى أقريطون، فقال له: مُر الرجلَ أن يأتي بشربة موتي إن كان قد سحَقَها، وإن كان لم يسحقها فليجد سحْقها، وليأتِ بها. فقال أقريطون: الشمس بعدُ على الجدار، وعليك من النهار بقية. فقال له سقراط: قُل للرجل حتى يأتي بالشربة. فدعا أقريطون غلامًا له فأفضى إليه بشيءٍ، فخرج الغلام مسرعًا، فلم يلبث أن دخل ومعه الرجل، وفي يده الشربة.
تجلُّده وصبره لدى الموت
فنظر إليه كما ينظر الثور الفحل إلى ما يهابه، ثم مدَّ يده لتناولها منه، والتفت إليه، وقال له: يمكن أن تُخفف من هذه الشربة شربةً لإنسان آخَر. فقال: إنما يُدقُّ منها ما يكفي الرجل الواحد. فقال له: أنت عالم بما ينبغي أن يُعمل إذا شربت، فَأْمُر بذلك. قال: ليس هو إلا أن تتردد بعد شربها، فإذا وجدتَ ثقلًا في رجليك استلقيتَ. فشربها؛ فلما رأيناه قد شربها رهقنا من البكاء والأسف ما لم نملك معه أنفسنا، وعلت أصواتنا بالبكاء، فأقبل علينا يلومنا ويعظنا، ثم قال: إنما صرفنا النساء لئلا يكون مثل هذا، فأما الآن فقد كان منكم أعظم. فأما أنا فسترت وجهي، وكنتُ أبكي بكاءً شديدًا على نفسي؛ إذ عدمت صديقًا مثله. ثم سكتنا استحياءً منه، وأخذ في التردُّد هنيهة، ثم قال للرجل: قد ثقلت رجلاي. فأمره بالاستلقاء، وجعل يمس قدميه، ثم غمزها، فقال له: هل تحس غمزي؟ قال: لا. ثم غمزه غمزًا شديدًا، فقال له: هل تحس غمزي؟ قال: لا. ثم غمز ساقيه، وجعل يسأله ساعة بعد ساعة هل تحس؛ فيقول لا. ورأيناه يجمد أولًا فأولًا، ويشتد بردُه حتى انتهى إلى حَقْوَيه، ثم غمزه فلم يحس بذلك، فكشف عنه، وقال لنا: إذا انتهى هذا البرد إلى قلبه قُضي عليه. ثم قال سقراط لقريطون: لسقلابيوس عندنا ديكٌ، فأعطوه إياه، وعجِّلوه. فقال له قريطون: نفعل ذلك، وإن كنتَ تريد شيئًا آخَر فقُل. فلم يُجِبه وشخص ببصره. فأطبق أقريطون عينيه وشدَّ لَحْيَيه.
(٧) الفلاسفة السابقون لأفلاطون من تلاميذ سقراط ويُسمَّون مجازًا أنصاف سقراط
(٧-١) أريستيب مؤسِّس مذهب برقة الفلسفي (سيرانيك)
وُلد في سيرين عام ٤٣٥، وعاش أمدًا في بلاط دينيس عاتية سرقصة، وقد قابل بالبلاط أفلاطون، ولكن لم ينل أفلاطون رضى الملك لما كان عليه من الحرية وكرامة النفس مثلما نالها أريستيب بتذلُّلـهِ وخنوعه. ومبدأ أريستيب أن الإنسان لا يعلم إلا ما تشعر به الحواس، وأن ما يسبِّب شعورنا هو خارج عنا، كما أننا لا نعرف كُنه ما يشعر به غيرنا من الناس، وأنه ليس هناك فكر، ولا حكم، ولا علم.
كان سقراط يرى أن الفضيلة شرطُ السعادة، وأن العلم شرطُ الفضيلة، وأن السعادة ليست بعيدة عنا؛ لأنها في السرور الحالي الوقتي؛ أي في حركة الشعور الحاضر، فلا نهتمنَّ بالمستقبل؛ لأنه ليس لنا، وليس شيء أفضل من السرور، وليست الفضيلة إلا في التماس السرور. والحرية الحقيقية كائنة في تحرير الشخص من رغباته.
ومن تلاميذه أفيمير الذي قال بأن الأرباب ما كانوا سوى رجال ممتازين، وقد مجَّدهم الناس بعد موتهم. ومن تلاميذه هجسياس قال بأن اللذة غاية الحياة، ولكنها ليست تابعة لإرادتنا، ولكن الألم يحيط بنا، ويصيبنا بأشكال مختلفة؛ فأفضل الأشياء للإنسان أن يموت. وكان هجسياس هذا يعيش في الإسكندرية لعهد البطالسة، وقد سمَّوه خطيب الردى.
(٧-٢) مدرسة السينيك (مذهب المستخِفِّين بزخرف الدنيا)
رئيسها أنتيستين وُلد في أثينا عام ٤٤٤ق.م.، أثَّرت فيه بساطة سقراط، وتواضعه، واستغناؤه عن سائر الأشياء الفائضة، وكان قَبلَ أن يتلقى عن سقراط تلميذًا لجورجياس، وكان منطقه سفسطائيًّا؛ فأنكر الفكر العام، وسائر الحقائق العلمية، ويقول بأن الفضيلة هي الخير الأعلى، وكل ما عداها لا شيء، وأنه لا ينبغي الفرار من العمل والألم، إنما ينبغي بالعكس أن يُبحث عنهما، وكان هيرقل نموذج الفضيلة.
وكان أنتستين يلتقي بتلاميذه بمكان اسمه سينوسارج، ومن هذه الكلمة كان أول اسمهم (سينك)، وتُنسب تلك التسمية أيضًا إلى لفظ الكلب في اليونانية، وكان يقول إن أعقلَ الرجال هو أقلهم رغبات، وأقدرهم على احتقار الطيبات التي يحبها غيره، والحرية هي الخلاص من الشهوات، وإن مَن يملك الفضيلة لا يفقدها بعد ذلك، وإن الحكيم يكتفي بذاته؛ لأنه يملك كل شيء. وقد أدى هذا التفريط في العناية بالأشياء إلى تشويه مبدأ أتباع أنتستين، وصار عَلمًا على ديوجين الكلبي أعظم المستَخِفِّين بالدنيا.
(٧-٣) مذهب الميجاريك
أما إيقليد دي ميجار فقد آوى تلاميذ سقراط وأتباعه بعد موته، واشتهر بالمنطق، وتعليمه الفلسفي مزيج من تعليم سقراط وبرمنيد، وقد تكلَّم عنه وفنَّد آراءه أفلاطون في محاورته (السفسطائي)، وكان يقول: ليس في العالم إلا الخير، توحَّد في الجوهر، وتعدَّد في الأشكال (الأعراض)؛ فالواحد هو الخير، والعناية هي الخير، والله هو الخير، والعقل هو الخير، وما ليس خيرًا فليس له وجود مطلقًا، وهو يُنكِر التعدُّد والصيرورة، ويقول بأن العالم ليس فيه إلا ما نراه من الظواهر، وأن الآراء باطلة، وتعلُّمها لا يؤدي بالقائلين به أن يسيروا بعيدًا.