أفلاطون – حياته – مؤلفاته – فلسفته
وُلد أفلاطون بأثينا، وقال بعضهم بأجينا عام ٤٢٨، وكان جَدُّه لأمه من أولاد صولون، وجَدُّه لأبيه من نسل كودروس آخِر ملوك أثينا، وبدأ يتلقى العلم على سقراط عام ٤٠٨.
وبعد أن مات أستاذه آواه إيقليدس بميجاره، ثم سافر بعد ذلك سفرة طويلة حَمَلته إلى سيرين؛ حيث درس الرياضيات على تيودور المطماطيقي، ثم قصد مصر فآسيا الصغرى، وسافر في الأربعين من عمره إلى إيطاليا، فتعرَّف إلى أتباع فيثاغورس، ثم ذهب إلى صقلية وسرقصة، وتقرَّب إلى ديون صهر دنيس العاتية، ولكن حرية فكْره لم تُرضِ دنيس فباعه عبدًا رقيقًا، وشراه صديق له وردَّه إلى أثينا، ففتح مدرسة للفلسفة في حدائق أكاديموس (أكاديمية). وبعد أن مات دنيس العتيق بقليل عاد أفلاطون إلى سرقصة طمعًا بمودة دنيس الصغير؛ لأنه كان في وطنه وحيدًا مرتابًا في أمره بلا تأثير؛ لذا هاجر ظنًّا منه أنه يلقى بصقلية مجالًا للعمل؛ لأنه كان يريد صُنْع الخير، وكان ذا ثقة بنفسه، وخُيِّل له أنه سيعيد إلى سرقصة مجدَها إذا حقَّق فيها مبادئه السياسية، وقد استقبله دنيس استقبالًا حسنًا، ثم ما لبث أن ملَّ أفكار الإصلاح التي شرحها له أفلاطون، وبعد قليل نُفي ديون صديق أفلاطون، واضطُرَّ أفلاطون للفرار. ثم سافر عام ٣٦١ مرة ثالثة إلى صقلية، وأراد أن يوفِّق بين ديون المنفي، ودنيس الصغير، ولكنه لم ينجح في مسعاه، وكان في خطر الموت لولا تداخل أرخيتاس دي تارنت أحد أتباع فيثاغورس، فعاد أفلاطون من سفرته، وقد انقشعت عنه غيوم الخيالات والآمال في البشر، فتفرَّغ إلى الحكمة، وذهب إلى الفلسفة بكليته، ومات عام ٣٤٧.
(١) محاورات أفلاطون
توجد باسم أفلاطون خمس وثلاثون محاورة، بعضها مشكوك في صدْق نسبته إليه، والبعض ترجح نسبته، وبعض كتب ورسائل سابعها أحقُّها بالنسبة إليه، ويمكن ترتيب محاورات أفلاطون بحسب ترقيه الفكري؛ فقد كان في أول الأمر تحت تأثير سقراط، فاشتغل بمسائل الآداب، وكتب خلال تلك الفترة أتريفون ومينون، واحتجاج سقراط على أهل أثينا وكريتون وبروتاغوراس وجورجياس.
وفي الفترة الثانية بدأ يكوِّن تعليمه، وكذلك أخذ يكتب محاورات نصيبها من النظريات الفكرية أكثر من نصيب الأولى، وهي تيتونس والسفسطي وفيلبوس وبارميد وكراتيل ومدبِّر المدينة.
وفي الفترة الثالثة تمكَّن من أفكاره تمام التمكُّن، وأخذ يكتب النوع الثالث من محاوراته، وهي التي جمعت بين دقة المنطق وجمال الشعر، وهي المائدة وفيدون وتيماوس والنواميس والجمهورية أو السياسة المدنية.
(٢) نظرية المعرفة – درجاتها الأربع – المنطق الصاعد – التذكُّر – المنطق الهابط – التقسيم
اشتغل أفلاطون قبل كل شيء بالعلم، وغاية العلم في نظره — أي الشيء المدرَك — هو الوجود بعينه؛ أما المنطق وما وراء الطبيعة فلا يمكن فصلهما. والمعرفة هي العمل، ومَن يعرف الخير يفعله، ولا توجد إلا فضيلة واحدة وهي الحكمة، ومنطق الأفعال لا ينفصل عن منطق الأفكار؛ فتعليم أفلاطون كله قائم على نظرية المعرفة.
قال هيراقليط إن الموجودات تسيل، وإن معنى الميلاد هو الموت؛ فمن المستحيل على العقل في تلك الحركة الدائمة أن يحيط بمعجزة أو ظاهرة من ظواهر الطبيعة؛ لأنه لا يوشك أن يحيط بها حتى تفر؛ قد يكون هذا حقًّا فيما يشمل ظواهر الحياة؛ أي الحياة الحسية، ولكن هل يصبح كل علم مستحيلًا، وكل معرفة حلمًا؟ كلا، إن كل ما يمكن أن نوافق عليه السفسطائي هو القول بعدم العلم بالموجودات الحسية، ومَن يتعلق بالحواس لا يمكن له إلا الحصول على ظن؛ أي عادة انتظار حدوث ظاهرة بعد أخرى. والظن يشمل نوعين من المعرفة: الإيمان، وهو يقع على المحسوسات الظاهرة؛ فتُعرف به الأشجار والأحجار والحيوانات والأشخاص. الثاني هو التخمين، وهو يقع على صور الأشياء المحسوسة. والظن حكمٌ غير مسبوق بالتأمل، والذي يعوِّل عليه يكون علمه محدودًا به، ولكنه لا يرى، ومثله كمثل المنجِّمين الذين يقولون بالغيب ولا يعلمون عما يقولون شيئًا. وقد يفيد الظن من وجهة عملية، ولكنه غير موثوق به، وهو في تحوُّل مستمر؛ لأن موضوعه هو ما يولد وما يهلك.
ولكن فوق العالَم الحسي يوجد العالم الفكري، وفوق ما يمر يوجد ما يبقى، وفوق الظواهرِ الأصولُ الثابتةُ التي لا تتحول والحقائقُ الأزلية؛ فالعالَم العقلي هو موضوع العلم الحقيقي، والعلم الحقيقي يشمل نوعين من المعرفة: الأولى قوة التعليل أو الفكر، وهي تبتدئ بمعنى وتنظر في سائر نتائجه، وغايتها الانتقال انتقالًا منطقيًّا من معنًى إلى معنًى بدون اهتمام بقيمة المعنى الأول، وهذه القوة تُعِدُّ وتحقق الذكاء الخالص أو البصيرة الذي هو فعل بسيط مباشر، والمشاهدة الفعلية تصل إلى المبادئ والقواعد، وتستعين بالفروض التي تقدِّمها قوة الفكر والفهم للوصول إلى المعاني الفعلية، وغايتها القاعدة العليا، والمبدأ الأول المستغنَى بذاته غير المحتاج للفروض.
فتعليم أفلاطون يشمل أمرين هما غاية المعرفة: الأول العالَم الحسي، والثاني العالَم المعقول؛ الأول يُدرك بالظن، والثاني يُدرك بالعِلم، وكلٌّ من الظن والعلم له نوعان من المعرفة.
وعمل الإنسان هو أن ينتقل من المنتقل إلى الثابت، ومن الظواهر إلى الكائنات، ومن الظن إلى العلم، وهذا مشكل يظهر أنه مستحيل الحل ما دمنا في عالم الحس، ولا نحيط فيما حولنا إلا بالظواهر، وكيف ونحن مساجين في الزمان نستطيع الارتفاع إلى الأزل؟
على أن طريقة أفلاطون في الوصول عن طريق المعلومات العادية من الظاهر إلى الكائن طريقةٌ معقولة، وليست طريقة صوفية، ولكنها لا تتم لنا إلا بانتقال بطيء منطقي. وبين الظواهر والحقائق المعقولة عدة وسائط ترشدنا من الواحدة إلى الأخرى، ولكن بين المحسوسات والمعقولات هُوَّة لا يمكن أن يملأها المنطق. وملاحظة الظواهر يمكن أن تعلِّمنا قوانين الظاهر، ولكن لا يمكنها أن تعطينا الوجود المعقول.
يقول أفلاطون إن المعنى غير مستنتَج، إنما هو مُشاهَد، وعمليات المنطق الانتقالية لا عمل لها إلا إعداد الإدراك الذي يكشف لنا عن المعنى؛ ولكن كيف يمكننا، ونحن مغموسون في الظاهر، إدراك الحقائق الأزلية؟ قال سقراط من قبلُ إن العلم لا يأتي من الخارج، وإن الإنسان يجد حقيقة ذاته من ذاته وفي نفسه، وإن الأستاذ لا يستطيع إلا توليد الحقائق التي تحملها نفس تلميذه بواسطة الأسئلة الدقيقة. وأفلاطون يفسِّر الميوطيقي (التوليد) بالتذكُّر، فيقول: إن النفس عاشت قديمًا في السماء بقرب الأرباب متفرِّغةً إلى التأمُّل في الأرواح؛ فالعالَم العقلي هو بيئتها، ولكن في القوانين السائدة أن النفوس التي تغيب عنها الأرواح تفقد أجنحتها، وتسقط في جثة أرضية؛ فالحياة الأرضية هي سقطة، وانحطاط. وذكرى الوطن السماوي غامضة فينا، ولكنها غير ميتة؛ فعندما نرى في الأرض في نظام الطبيعة صورةَ النظام العقلي الذي سبق للنفس التأمُّل فيه تتبدد الظلمات، ونجد حالًا في نفوسنا الأفكار التي كانت حية كامنة ولم تَمُت.
البصيرة أو الذكاء الخالص (المدرك) يُعِدُّه الفكرُ المنتقل، وهذا الفكر المنتقل يتبع قاعدة مطروحة كفرض (الواحد – المتعدد الوجود – العدم) إلى آخرِ نتائجه، وكذلك العقل المدرك يتبعه العقل المنتقل الذي يمعن النظر في المعنى لينيره، ويكشف عن علاقاتها بغيرها، وأسلوبه أن يضع أصلًا يفترضه، ويستنتج منه نتائجها إلى آخرها، واكتشاف علاقات الأفكار ببعضها البعض أهم أعمال المتكلم. وبعد أن يعبِّر عن وحدة المعنى بالتعريف ينبغي بالتقسيم تبيين أجزائها؛ فحياة الفكر هي في الانتقال من وحدة المبدأ إلى تعدُّد النتائج، ومن وحدة النوع إلى تعدُّد الأجناس، وفي تبيين علاقات الأفكار ببعضها البعض؛ فالوحدة المطلقة التي قال بها بارمنيد هي السكوت والموت. والتعدُّد المطلق الذي قال به تلاميذ هيراقليط هو الفوضى والاضطراب، وفي الحالين يستحيل الفكر والقول، والحكم يقتضي الجمع بين الأنواع. لا ريب في أن المعنى لا يستطيع أن يصير مناقضًا لذاته، ولكن هذا لا يُقصد به أن صفتين؛ أي نوعين مختلفين متناقضين، لا يمكنهما أن يتحدا في موضوع واحد، بحيث يصير هذا الشيء الواحد في حينٍ واحدٍ متشابهًا وغير متشابه، واحدًا ومتعددًا، ولا مانع من أن جوهرًا يكتسب من علاقته بالجواهر معنًى أو صفات أخرى، ما دامت هذه الصفات الأخرى لا تلاشي الجوهر الذاتي؛ فإذا كان الإنسان إنسانًا فما الذي يمنعه أن يكون في الوقت نفسه خيرًا؟ إن اكتشاف العلاقات التي تربط المعاني، وتتبع المشاركة المتبادلة بين الجواهر هذا هو العلم بعينه.
(٣) الكلام وما وراء الطبيعة – المعاني – علاقتها ببعضها وبالعالم الحسي
المنطق وما وراء الطبيعة لا ينفك أحدهما عن الآخر، وأفلاطون يعتقد أن هذين العِلمين غير متعددَيْن، بل هما علم واحد؛ والأمر الحقيقي المعقول هو أنهما ممتزجان، والحركة المنطقية التي ترفعنا إلى المعاني تمكِّننا من إدراك الوجود الحقيقي. والفكرة في نظر أفلاطون ليست هي الفكرة العامة؛ وذلك لأنهما لا تتكونان بعمليات متشابهة، ولأجل التعميم ينبغي مقارنة عدة أفراد فيُجرَّد كلٌّ من صفاته الشخصية، ثم يُعبَّر عن صورتها العقلية بعبارة واحدة؛ فالتعميم هو فكرة انتقالية، والفكرة في نظر أفلاطون تُعطى لنا بإدراكٍ مباشر تُعِدُّه العمليات المنطقية، ولا يمكن لها أن تحل محله. وفي المحل الثاني الفكرة العامة تعبِّر عن وسط، فلا تستطيع أن تتجاوز الحقيقة؛ لأنها مستنبَطة منها، وأضيق منها؛ أما الصفة المميزة للفكرة في نظر أفلاطون فهي الكمال والنقاء المطلق بدون اختلاط، بخلاف الأشخاص المتعددة المتغيرة؛ فإن الصفات فيها لا تكون صافية وكاملة، والمساواة الحقيقية هي التي لا تقبل غير المساواة، والوحدة الحقيقية لا تقبل التعدُّد، والتعميم يقودنا من تَجرِبة إلى تَجرِبة إلى معنى الكائن غير المحدد، وهو أفقر وأفرغ المعاني. والأمر على عكس ذلك فيما يتعلَّق بالكلام؛ فإنه يصل بنا إلى أصدق أنواع الحقيقة، وإلى الكائن الذي هو مبدأ سائر الوجود، وإلى الخير الأعلى الذي يشمل في ثروته سائر أنواع الكمالات. ثم إن الفكرة العامة هي إدراك أي فعل من أفعال العقل لا وجود له خارج العقل. أما أفلاطون فيقول: إن المعنى موجود حقيقي، موجود في ذاته لا في شيء لا يكون هو إلا صفة له، ووجود المعنى على هذه الصورة هو وجود أزلي لا يتحول؛ فالظواهر تمضي وهو باقٍ، ويوجد على الدوام شيء يجعل في حيز الممكنات وجود الإنسان الذي يُولد ويموت، وهذه الحقيقة التي يمكن فهْمها، والتي كمالها سببُ سائر الكمالات التي يظهرها الإنسان، هي فكرة الإنسان، بل هي الإنسانية بذاتها.
إن الأفكار تكون جملةً أو تعددًا، ولكن الوحدة هي قانون العقل الذي لا يقف إلا عند المعقول الأعلى؛ أي فكرة الفكر، وعند المبدأ الذي يجمع بين سائر الكمالات.
يقول أفلاطون: إن سائر الكائنات المعقولة تستمد من الخير وجودها وجوهرها، وفي أواخر حدود العالم المعقول توجد فكرة الخير التي تُدرَك بصعوبة، ولكن متى أُدركتْ يستنتج مدركُها أنها سببُ كل جميل، وكل خير؛ فإذا كانت فكرة الخير هي عِلة سائر الأشياء الجميلة الخيرة، فهي إذًا المبدأ الذي يضم سائر الفكر وأنواع الكمالات.
فلفظ الكلام هو قاعدة أو مبدأ الوجود، والمعنى هو الخير، هو هذا الشيء المستغني الذي لا يفرض شيئًا آخر، بل هو الله.
وإن إله أفلاطون وإن كان فكرة فإنه في عُرْفه حي وحقيقي؛ يقول أفلاطون: هل يمكن أن يقنعونا بسهولة بأن الحركة والحياة والنفس والمعنى لا تلائم الوجود المطلق، وأن الكائن لا يعيش، ولا يفكر، وأنه باقٍ بلا حركة، وبلا نصيب في الذكاء العظيم المقدَّس.
ويعطي أفلاطون دليلًا على وجود الإله، وهو دليل المحرِّك الأول؛ أي بالعلة الفعالة، فيقول: كيف يُظن أن ما يحرِّكه الغير يكون هو مبدأ التحوُّل والحركة؟ والله هو مبدأ الحركة في العالم، ولكن الذي يثبت وجود الخير الأعلى هو وجود الخير في الطبيعة وجودًا ظاهرًا. والدليل الثاني هو بواسطة العلل النهائية إذا كان من الحقيقي أن الحركات والثورات في السماء وفي سائر الأجرام السماوية تشبه حركة الذكاء، وتشبه عملياته وتعليلاته، فينبغي أن نستنتج أن روحًا مملوءًا بالخير يحكم هذا الكون، وأنه يقوده كما يريد.
ولكن لماذا خلق الله العِلم؟ الجواب أن الله خير، والخير لا يبخل بخيرٍ ما؛ لذا خلق العالم على أحسن حال؛ ولذا جعله على شكله، وهذا الإله الخالق هو في الوقت نفسه عناية. ثم يقول أفلاطون بمبادئ المستبشرين، ويُنكِر الشرَّ المطلق، والعالم هو أفضل العوالم الممكنة الخلق، ويكفي أن نرد ما يبدو لنا كأنه بغير نظام في مكانه لنفهم سببه وعلَّته، والذي يعتني بالأشياء كلها قد وضعها بحيث تؤدي إلى خير المجموع وحفظهِ، وكل جزء لا يلقى ولا يفعل إلا ما يلائمه؛ فأنت أيها الزائل الضئيل مهما كان صغرك فإنك — لا شك — داخل ضمن النظام العام، وتضيف إليه بدون انقطاع؛ فإذا ضجرت فهذا من جهلك أن الخير الخاص بك لا يعود عليك وعلى المجموع حسبما تقتضيه قوانين الوجود العام.
(٤) الأخلاق السياسية
إن النظريات وتطبيقها مرتبطة ببعضها ارتباطًا تامًّا في نظر أفلاطون؛ فإنكار الحقيقة هو إنكار الخير، فإذا لم يكن سوى الظواهر والخوارق فليس هناك إذًا إلا شعور حسي، فيكون السرور نهاية الإنسان. وقد واصل أفلاطون تفنيد آراء السفسطائيين الذي بدأ به سقراط، وهو يمهِّد السبيل لتعليمه في الأخلاق والمعرفة والوجود بنقض الأغلاط التي شوَّشت العقل، وكان تراسيماك وكاليكليس من تلاميذ السفسطائيين يقولون بأنه لا توجد قوانين طبيعية، وإنما توجد نظامات اجتماعية، وأن الرجل الماهر القوي يمكِّنه أن يتحرر من سائر القيود، وينطلق في طريق شهواته؛ فحاربهم أفلاطون، وقال بوجود قانون للأخلاق غير معتمِد على رغبات المقننين، ويمكن للعقل أن يكتشفه بالتعمُّق، وينبغي أن تتجه أنظارنا نحو فكرة الخير، وأن نوفِّق بين الخير وبين أعمالنا؛ لأن فكرة الخير هي الله ذاته، وفضيلة الإنسان هي في كونه يشبه الله، ومشابهة الله تكون بإدخال الانسجام في سائر عناصر الطبيعة الإنسانية، وبهذا يحدث تقليد النظام المعقول الذي يكشفه لنا علم الكلام؛ فينبغي إذًا أن نعرف الإنسان لنعرف كيف ينبغي أن يكون.
النفس مكوَّنة من ثلاثة أجزاء؛ الشهوة، وهي تشمل سائر الرغبات، وسائر الانفعالات الدنيئة، ثم شهوة الغضب التي تؤدي إلى الشجاعة، وهي قاعدة بين الحس والفكر، ثم العقل. ولكل جزء من النفس جزء في الجسم يقابله؛ فالشهوة مكانها في أسفل البطن، والشجاعة في الصدر، والعقل في الرأس. ويشبِّه أفلاطون النفس بعجلة يسحبها جوادان؛ الواحد أسود جموح مستعِد على الدوام للثورة، والثاني أبيض كريم يهدي رفيقه إذا حسنت قيادته، ولكنه يجمح معه إذا لم تُحسِن قيادته يدٌ قوية يقظة؛ فالجواد الأسود العاصي هو الشهوة، والأبيض الكريم هو الشجاعة، والقائد هو العقل، فينبغي للعقل أن ينتفع بالشجاعة، ويستعين بها على الشهوة. يقول أفلاطون: إن لكل جزء من النفس فضيلةً تقابله؛ فالفضيلة المقابلة للشهوة هي الاعتدال، ووظيفتها هي رد الشهوات إلى حد الاعتدال، والفرار من الإفراط، وتجهيز النفس بفصلها من الجسم لفهْم الحق. وفضيلة شهوة الغضب هي الشجاعة، ووظيفتها التمييز بين ما يُخشى وما لا يُخشى، وهي تُولد عند تحويل شهوتها، وهي خادمة العقل ضد الانفعالات التي تُقلِق الذكاء. والاعتدال والشجاعة هما شرطا الحكمة، والحكمة هي فضيلة العقل، ولأجل الارتفاع لدرجة الحقيقة ينبغي الخلاص من أوهام احترام الذات، ومن العواطف غير المنظمة التي يولِّدها فساد الجسم. والعدل هو الفضيلة التي تُولَد من امتلاك الفضائل الأخرى؛ فهو الانسجام الداخلي واتفاق النفس وذاتها؛ أي عندما يقوم كل جزء من النفس بوظيفته؛ فتطيع الشهواتُ الشجاعةَ، وتطيع الشجاعةُ العقلَ، حينئذٍ يُولد العدلُ.
وكثيرًا ما يُدخِلون إلى فكرة الفضيلة عنصرين آخرين هما: الحرية والعادة؛ فالحرية تبتكر الفضيلة؛ أي تبدأ بممارستها، والعادة تمكِّننا من الفضيلة. وأفلاطون يحتقر الفضيلة التي لا ترتكز إلا على العادة؛ لأنها غير محقَّقة كالظن، وهي توافق النمل أو النحل، ولا تلائم الإنسان. والفضيلة غير تابعة لحريتنا، إنما هي عِلم، ومَن يعرف الخير يفعله؛ فكون الإنسان فاضلًا يرجع إلى امتلاك عِلم الخير. ويعترف أفلاطون بأنه يمكن للإنسان أن يكوِّن رأيًا دقيقًا عما ينبغي فعله، ومع ذلك لا يفعله؛ ولذا يوجد الخلاف بين النظرية والعمل، وإذا فسد العمل فلا بد من كون النظرية فاسدة. وكلُّ مَن يفهم الخير حقَّ الفهْم فهو لا شك خيِّر. إن أشقى الناس حظًّا، وأجدرهم بالإشفاق هو الظالم الذي يتمتع بدون عقاب بثمار جرائمه. المريض لا يرفض الألم الذي يشفيه، بل يلتمسه، ويطلب النار والحديد، والظلم أشد الآلام، ولا يشفي النفس منه إلا العقاب؛ فلا ينبغي للظالم أن يستر داءه، كلٌّ ينبغي له أن يقدِّم نفسه للقاضي كما يقدِّم المريض ذاته للطبيب. إن التكفير عن السيئات باحتمال العقاب هو أفضل الأشياء بعد براءة الذيل؛ أي إن أفضل الناس بعد البريء يكون الجاني الذي احتمل العقاب.
وهذا يدل على اعتقاد أفلاطون بحياة مستقبَلة، وقد ذكر في فيدون سائر الأدلة التي استعملها مَن جاءوا بعده في إثبات خلود النفس؛ فقال: إن الموت هو انحلال العناصر المكوِّنة للبدن، وإن النفس لا تنحلُّ؛ لأنها نقية بسيطة، ولو قالوا إن النفس ليست سوى انسجام البدن، يقول: إننا ما رأينا الانسجام يجاهد ضد الأداة التي أخرجته، على أننا كثيرًا ما رأينا النفس تجاهد ضد البدن لتخلص من كثير من شهواته.
ثم إن غاية العقل البشري هي المعقولات والخالدات؛ فلها إذًا ميل، وارتباط بالله. والنفس تشبه ما هو مقدس وخالد ومعقول وبسيط ومتحد بذاته؛ فإذا كانت هكذا وطبيعتها كما ذكرت، فإذا خرجت من البدن بدون أن تسحب معها منه شيئًا تحوَّلت نحو ما لا علاقة له بالمادة مثلها، فإذا بلغت هذه الغاية ملكت السعادة الحقيقية. وأخيرًا ينبغي مكافأة الأخيار، ومعاقبة الأشرار. ولا يمكن فصل الأخلاق عن السياسة؛ فواجب الحكومة تكوين وطنيِّين فضلاء؛ إن الحكومة لم تُوجد لأجل الفرد، والفرد ليس إلا عنصرًا من عناصر الحكومة، فينبغي أن يخضع لها. وفي المدينة كما في الكون يسود قانون واحد، وهو بذل الفرد في سبيل المجموع، والجمهورية الكمالية هي شخص شركي، ووحدة حية، أعضاؤها الأفراد. ويوجد للحكومة نظام أخلاقي، وحال نفسية كما للأفراد، ولا يخالفانهما. وكما أن للنفس ثلاثة أجزاء كذلك في المدينة ثلاثة أصناف من الناس؛ الأول صنف العمال الذين يشتغلون ليُشبِعوا الشهوات، ثم فريق المحاربين، وعملهم حماية المدينة من الخارج والداخل، ثم فريق الحكماء، وهم أصحاب حق الحكومة. وهذه الأصناف تشبه الشهوات والإرادة والعقل، ولكل صنفٍ من أهل البلد فضيلةٌ؛ فللعمال فضيلة الاعتدال التي تبقيهم في حالهم، فلا يحاولون الخروج منها، وللمحاربين فضيلة الشجاعة، وللقضاة فضيلة الحكمة، وإذا أطاع كل فريق الفريقَ الذي هو أعلى منه، والمعترَف له بالسيادة ينتج الانسجام، والانسجام يُخرِج فضيلة العدل. ولأجل أن يأتي أفلاطون على عواطف حُب الذات ليجعل المدينة كائنًا واحدًا ضحَّى أفلاطون بكل ما يقوي في الفرد عاطفةَ الفردية، ويعطيه حياةً مستقلة داخل حياة الحكومة.
وأراضي الجمهورية مُلكٌ مشاع لسائر السكان، وليس هناك حق المُلك ولا الأسرة، والأملاك والنساء شائعة؛ والأطفال هم أبناء المدينة، وينشئون معًا، وحيث أن لا أسرة تصير الجمهورية أسرةً كبرى، ولكل وطني حق الأبوة على سائر الأطفال عندما يبلغون سنًّا معلومًا؛ هذا ما شرحه أفلاطون في جمهوريته، ولكنه في القوانين خفَّف وطأة تلك الآراء، ورضي بعدم إشاعة النساء والمُلك، وقَبِل وضعَ قوانينَ مكتوبة، ولكن الحكومة تحتفظ بسائر قواها، ولها حق ضمان طاعة القوانين الأدبية، وسيادة الفضيلة، واستعمال القوة في ذلك إن فشلت في استعمال الترغيب باللين؛ وليس للفرد حق سوى القيام بواجباته، واستعمال فضيلته في تقوية المدينة التي هو أحد عناصرها، وأداة من أدوات وجودها، وقد ينشأ عن خلط الآداب بالسياسة نوعٌ من الظلم الفلسفي، وهو استبداد يبذل الخير الحقيقي الحر في سبيل خير ظاهر.
•••
ويُرى مما تقدَّم أن أفلاطون كان شريف النَّسب من وجهتين؛ فكان حفيد مَلِك ومشترع، ولولا بغضه للديموقراطية ولولا التقاؤه بسقراط لكان من رجال السياسة أمثال بيركليس. وإن عنده تنتهي الحكمة المحكية، وتبدأ الحكمة المكتوبة؛ فإنه رأى شيخه سقراط يستهين بالكتب، ولكنه لم يستهِن بها، ودوَّن خمسًا وثلاثين محاورة ضمَّنها خلاصة آرائه، وآراء شيخه، وله الفضل الأعظم في تعليم أرسطو وتهذيبه، وإرشاد خطواته الأولى في الفلسفة، وقد تعاشرا عشرين عامًا على ما كان بينهما من التباين العظيم في الفكر والخطط، ولكن أدب الحكمة وكرامة النَّسب كفَتْهما الشِّقاق، وعندنا أن فلسفة أفلاطون المدنية والأدبية مستمدَّة مما استفاده من مصر؛ فقد رأى فيها نظامًا ثابتًا منذ عشرة آلاف سنة بفضل تقسيم الأمة إلى طبقات معينة، واستئثار الطبقات العالية بالمُلك، وتذليل الطبقات النازلة للخدمة والصناعات؛ كذلك ساح في إيطاليا، وتأثَّر بآراء أتباع فيثاغورس وبارمنيد وإمبيدوكل، ولكنه لم يخضع لأحدٍ منهم؛ لأن أثر سقراط كان في نفسه أقوى، ولما ألقى عصى التَّسيار، وعاد إلى وطنه، وشرع في التعليم أخذ يطبِّق الهندسة على السياسة، وفي هذا أثر من فيثاغورس. وكان أفلاطون أول الفلاسفة النفعيين، وقال بأن اللذة والألم هما اللذان يحركان الإنسان في كل سبيل، وهو موجد التصوف في أوروبا بكتاباته، وكان يعتقد أن حب الفلسفة كحب النساء قوة، وقال بالبعث بعد الموت والثواب والعقاب؛ ولا شك عندنا في أن هذه الآراء استأذنت عليه من سياحته في مصر. أما نظامه المدني في الجمهورية فمستمد من حياة مصر وأسبرطة، ومن آراء أناكساجور، وله كلمة عالية وهي قوله: لن تصلح الدنيا حتى تصير ملوكها فلاسفة أو فلاسفتها ملوكًا، وقد تحققت رغبته فصار إسكندر تلميذُ تلميذه ملِكًا فيلسوفًا، ولكن الدنيا لم تصلح. وجاء بعده الرواقي ماركوس أوريليوس الروماني، ولكن الدنيا لم تصلح، وجاء المأمون العباسي، ولكن الدنيا لم تصلح! لأتباع أفلاطون الحق أن يردوا علينا بأن هؤلاء ملوك صاروا فلاسفة، ولم يصلحوا ولا يظهر فساد رأي أفلاطون إلا إذا رأينا فلاسفة تولوا المُلك، ولم يصلحوا، وهيهات أن يتحقق هذا الحلم!
وكان ينتقد نظام الحكومة في أثينا، ويطعن في الديموقراطية، ويأمر بعقاب الملحدين، ويأمر بالاعتقاد بوجود الله، وكان قليل الثقة بالكتب، وفي أواخر أيامه عدَّل نظريته في المثل الأعلى تحت تأثير تلميذه أرسطو، ولو أن أفلاطون استطاع عقاب الملحدين بقانون نظامي لكان أول ضحايا هذا القانون تلميذه الأعظم أرسطوطاليس.
(٥) ما كتبه العرب عن أفلاطون
وهذه طريقة الشعر اليوناني، وكان عمره إذ ذاك عشرين سنة، وسمع من سقراط بعد ذلك، ولازمه مدة خمسين سنة حتى بلغ في الأمور العقلية إلى منزلة فيثاغورس، وفي سياسة المدينة الفاضلة إلى مرتبة سقراط، وشهد له بذلك أهل العلم في زمانه.
ثم سار إلى صقلية دفعة ثالثة، وسببه أن ذيون نسيب الجبار قام عليه، وتغلَّب على أكثر البلاد، وكاد أن يستولي، وعلم أفلاطون بذلك فسار مصلحًا بين الجبار ذيونوسيوس ونسيبه ذيون؛ لعلمه بمحبة ذيون له، وقبوله من قوله. وكان أفلاطون يرى أن إصلاح المدن من الفساد الداخل عليها من المتكلمين لازم له من طريق الحكمة والسياسة المدنية، ويريد بذلك إيصال الراحة إلى الرعية، فلما وصل إلى صقلية أصلح بين الرجلين، ونزل كل واحد منهما منزلته، ووعظهما فاتعظا، وعاد إلى بلاده. وقد كان أهل بلاده أتينس على سيرة وسياسة لا يرضاها أفلاطون، فقيل له لِمَ لَمْ تغيِّرها، فقال هذه سياسة قديمة قد مرَّت عليها الدهور، ونَقْلُهم عنها فيه عناءٌ شديد، وربما أدى إلى قيل وقال أحتاج أن أستعين فيه على قومي بغيرهم فيكون ذلك سبب هلاكهم بوساطتي فلا أفعل. ثم جسَّهم فثاروا، فسكَّنهم وثبَّتهم وتركهم على ما هم عليه، وانبسط عذره عند مَن قال له ما قال، ولازم مدرسته، وارتزق من مغل البساتين وتزوَّج امرأتين؛ إحداهما يُقال لها الستانيا من بلاد أرقاديا، والأخرى أقسوثيا من بلاد فليوس، وكانت نفسه في التعليم مباركة، تخرَّج عليه جماعة علماء اشتهروا من بعده؛ فمنهم أسبوسبوس من أهل أثينا، وهو ابن أخت أفلاطون، وأقسنوقراطيس من أهل خلقيدونا، وأرسطوطاليس من أهل أسطاغيره، وبرقلوس من أهل نيطس، واستياؤس من بارنتوس، وأرختس من أهل طارلطيني، وزيون من سوراقوسا، وأمقلاس من أهل اصطنادس، وأرسطوس وقورسقس من أهل أسكبسيس وطيمالاؤس من أهل قوزيقوس، وأؤن من لمساقوس ومناديموس من أهل أراثرس، وأراقيلدس من آبوس، وتياثالس وقالبوس من أتنيس، وديماطريوس من أنتفيبوليس، وغير هؤلاء كثير. وكان أفلاطون إذا حضره أصحابه للتعلُّم قام على رجليه، وألقى عليهم الدروس من العلم، وهو يمشي حول البساتين التي وقفها عليه ذيون فيأخذون عنه ما يلقيه عليهم وهم على تلك الحالة، فسُموا المشائين بذلك (هذا خطأ وقع فيه القفطي كغيره).
ولما استكمل إحدى وثمانين سنة من عمره مات ودُفن بالبساتين في أقاذاميا، وتبع جنازته كلُّ من كان بأثينا، والذي خلفه من التركة البساتين المذكورة، وخلف مملوكَيْن وقدحًا وجامًا وقرطًا من ذهب كان يلبسه وهو غلام، وهو لباس أشراف يونان في ذلك الزمان. وأما ما صار إليه من ذيونوسيوس جبار صقلية ومن غيره من الأصدقاء فإنه أنفقه في تزويج بنات أخته، وفي الإحسان إلى الأصدقاء؛ لأنه كان من أهل الرياضة والإيثار يعلِّم غيره السياسة، فكيف لا يستعملها، ولما قُبر كُتب على قبره بالرومي ما تفسيره بالعربية: «ها هنا موضع رَجل وهو أرسطوقليس الإلهي، وقد تقدم الناس وعلاهم بالعفة وأخلاق العدل؛ فمن كان يمدح الحكمة أكثر من سائر جميع الأشياء فإنه يمدح هذا جدًّا؛ لأن فيه أكثر الحكمة، وليس في ذلك حسد.» هذا من الجهة الواحدة على القبر، ومن الجهة الأخرى: «أما الأرض فإنها تغطي جسد أفلاطون هذا، وأما نفسه فإنها في مرتبة مَن لا يموت.»