الفيلسوف الأعظم أرسطوطاليس
وُلد أرسطو في بلدة ستاجيريا (أسطاغير) في مقدونيا في سنة ٣٨٤ قبل المسيح، وكان أبوه نيكوماكوس عالمًا طبيعيًّا، وكان طبيبًا لأمينتاس الثاني ملك مقدونيا، وقد تعرَّف أرسطو صغيرًا بفيليب ابن أمينتاس في بلاط أبيه فتصادقا، ولما مات والداه وهو فتى تولَّى شأنه بروكسينوس، وبعث به في السابعة عشرة من عمره إلى أثينا ليتعلم على أفلاطون الذي كان قد جاوز حد الستين فلم يجده؛ لأن أفلاطون كان في صقلية في إحدى الرحلات التي سبق الكلام عليها؛ فبقي أرسطو في انتظاره ثلاث سنين قضاها في التعلُّم والدرس والاستعداد لتلقي الحكمة؛ فلما عاد أفلاطون والتقى بتلميذه كان أرسطو في العشرين من عمره، وأفلاطون في الخامسة والستين، وبقي أرسطو يتعلَّم على أفلاطون سبع عشرة سنة؛ فإن أفلاطون مات في الثانية والثمانين من عمره، وكان أرسطو أنبغ تلاميذ أفلاطون، وكان يسميه عقل المدرسة، ويسمي بيته بيت القارئ، وقيل عن حب أرسطو في الدرس إنه كان خشيةَ النعاس ليلًا يقبض بيده على كرة من نحاس، ويضع تحتها طستًا من نحاس، فإذا أخذته سِنَةٌ من النوم سقطت الكرة على الطست فنبهته فيعود إلى عمله، وقد بقي أرسطو في أثينا إلى أن مات أفلاطون في ٣٤٧ق.م.، وقيل إنه مات وهو يكتب.
وكان أرسطو أثناء هذه المدة يزور وطنه، ويلقى الملك فيليب، وقد حفظ لنا التاريخ الكتاب الذي بعث به فيليب إلى أرسطو يذكر فيه مولد ولده إسكندر، ولما مات أفلاطون كان إسكندر في التاسعة من عمره، ومما يجدر بالذكر أن أرسطو أخذ يدرس البلاغة في أثينا في حياة أستاذه، ولما مات أفلاطون ترك أرسطو أثينا، وكان قد تزوَّج من بيثياس، وهي ابنةٌ متبناة لأحد تلاميذه هرمياس، وكان يحب زوجته التي ماتت في عنفوان شبابها، وأوصى بأن يُدفن رُفَاتها إلى جانب رفاته. ولما بلغ الثانية والأربعين من عمره دعاه فيليب إلى تعليم ولده إسكندر وهو في الرابعة عشرة من عمره، فقَبِل الدعوة، وسافر إلى بلاط فيليب حيث قُوبل بالإجلال والإكرام، وقد شُيدت لذلك مدرسة خاصة، وانضم إلى الإسكندر أولاد النبلاء، فصارت كمدرسة الأنجال التي أُنشئت في مصر في القرن التاسع عشر، فأحب الإسكندر معلِّمه حبًّا جمًّا، وتعلَّم عليه أربع سنين، ولما بلغ إسكندر الثامنة عشرة عيَّنه أبوه خليفةَ ملكه أثناء غيبته في حملة على بيتنيا، واستمر أرسطو في بلاط فيليب إلى أن صار إسكندر مَلكًا، وقد أقام أرسطو في مقدونيا سبع سنين، ثم تركها في التاسعة والأربعين من عمره، وعاد إلى أثينا، فوجد مدرسة أفلاطون يديرها ابن أخته الذي قلبها «مهندسخانة»، فعينت حكومة أثينا لأرسطو مدرسة الليسيوم بجوار هيكل أبولون.
ولما مات إسكندر انقلب أهل أثينا على أرسطو بتهمتَي الإلحاد وصداقته لأهل مقدونيا، وحاولوا قتله، فانسحب في ٣٢٢ق.م وهو في الثانية والستين من عمره (وهو السن الذي سافر فيه أفلاطون من أثينا) إلى شالسيس بأيوبيا، وكان له بها أقارب وثروة ونفوذ، وهذا لم يمنع أهل أثينا من الحكم عليه بالإعدام غيابيًّا، وقد مات فعلًا في السنة التالية بمرض العلماء، وهو ضعف المعدة في الثالثة والستين من عمره.
قبل أن يظهر أرسطو بثلاثة أو أربعة قرون نشأت الفلسفة اليونانية على شواطئ آسيا الصغرى كما أسلفنا في أول هذه النبذة؛ أي في وطن الشاعر هوميروس ناظم الإلياذة، وكان الفضل في ظهورها لطاليس دي ميليه أو الملطي وفيثاغورس دي ساموس وزينوفان دي كولوفون.
وأول مَن أطلق على الحكمة اسم الفلسفة فيثاغورس؛ فهو يُدعى بحق أبا الفلسفة وواضع اسمها.
وإذا تكلمنا عن سقراط العظيم الذي لخَّصنا مبادئه وآراءه فلا يمكن فصله عن تلميذه وحبيبه أفلاطون؛ فأحدهما مكمل للآخر، وسقراط إن لم يكن والدًا لأفلاطون فقد كان والد روحه، وموجد فكره؛ ولذا نجد في مؤلفات أفلاطون كل آراء سقراط وتعاليمه مشروحة وموضحة، ولا يخلو كتاب من كتب أفلاطون، حتى ولا محاورة صغيرة من محاوراته، من ذكر سقراط، والذي يقرأ مؤلفات أفلاطون يظن أنها كلها لمؤلِّف واحد، والحقيقة أن بعضها أفكار أفلاطون على لسان سقراط، وبعضها أفكار سقراط سبكها أفلاطون في أسلوب جميل عذب، آية في البلاغة والإبداع.
أما أرسطو أو أرسطوطاليس كما يسميه العرب، فهو الفيلسوف اليوناني بحق؛ لأنه مكمل أعمال أسلافه من الحكماء، وقد ارتبط بالفلاسفة القدماء عن طريق أفلاطون أستاذه، فكأنه تلقَّى فلسفة سقراط بعد أن مرَّت بعقل أفلاطون الروحاني الفكر، السامي الخيال، الشعري الحكمة.
إن الفلسفة اليونانية تمتاز بأمور كثيرة، منها أن خدمتها أعظم العقول التي عرفها التاريخ مثل عقول هيراقليط وأناكساجور وسقراط وأرسطوطاليس، ومنها أنها لنشأتها في أمَّةٍ بغير عقيدة لم تكن خاضعة لأنظمة دينية أو لسلطة خفية تعمل على خنقها من وراء ستار، مثل ما وقع في أروبا في القرون الوسطى، ولابن رشد.
ولم يكن الفلاسفة اليونان في حاجة إلى النفاق والرياء للتوفيق بين الحكمة والدين كما هو شأن الحكماء في البيئات المتدينة؛ فإن الفيلسوف الصادق إذا نشأ في وسط متدين يكون حتمًا بين نارين؛ فإما يقول ما تمليه عليه حكمته وعلمه، وفيهما ما لا يتفق مع العقائد الدينية تمام الاتفاق. وإما يسعى في التوفيق بين الفلسفة والدين، وفي هذا ما فيه من الخروج على الحكمة والدين معًا، وإغضاب أهل الدين وأهل الحكمة معًا كما كانت حال جاليليه الذي ألقوه من حالق لقوله بدوران الأرض، وابن رشد الذي بصقوا في وجهه لحرية فكره.
أما الفلسفة اليونانية فكانت حرة طليقة، ولم تكن خاضعة لأي مؤثر خارجي، ولم يكن الفلاسفة اليونانيون مرغمين على قبول آراء أو معتقدات لم تمحصها عقولهم.
لقد شاءت الأقدار أن تنشأ الفلسفة اليونانية بعيدة عن عراك الدين والعقل؛ فليس في آرائهم نضال بين الفكر الحر الطليق والتقاليد الموضوعة المصطنعة، وشاءت الأقدار للفكر اليوناني أن يحلِّق في سماء الحكمة بغير قيد ولا شرط؛ لأنهُ لم يكن لدى الأمم اليونانية كتبٌ مقدسة تنصُّ على أمور معينة، وتحدِّد أصل الخلق، وتشرح تاريخ الإنسان والطبيعة على طريقة معينة.
قضت الفلسفة اليونانية اثني عشر قرنًا متمتعة بالعقل الإنساني، وقضى العقل هذا الحين من الدهر متمتعًا بالحرية، ولم يجرؤ أحد على إلحاق الأذى بالعقل بتقييده، ولم يجرؤ أحد على إرغام العقل على القول بآراءٍ لا يؤمن بها.
ولكن بعد اثني عشر قرنًا من الحرية العقلية جرؤ جوستنيان الروماني على مصادرة مدارس أثينا مهْد الحكمة، ومصدر النور للإنسانية باسم الدين، ولعمري إن الحكمة بريئة من العداء والدين كذلك بريء من الاضطهاد، وإن لكل منهما طريقًا يسلكها، ودربًا يسير عليه، ولكن القائمين بالاثنين معًا هم الذين فقدوا ميزان الاعتدال، فخلطوا بينهما باسم التوفيق، وألحقوا الأذى بهما باسم الحق، وما كانوا يعملون إلا باطلًا.
أرسطوطاليس أعمق فلاسفة اليونان وأبعدهم غورًا. قال شيشرون إن طالب حكمة أرسطو محتاج إلى بذل مجهود عقلي عظيم ليستطيع إدراك خفاياها، ولا غرابة إذا رأينا فلاسفة العرب أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد يقضون أعمارهم في تفهُّم تلك الحكمة الأرسطية وتفهيمها، على أن أعمارهم وجهودهم لم تذهب سدًى؛ فقد صاروا بفضل هذا الفهْم والتفهيم فلاسفة مع أنهم لم يعملوا أكثر من أنهم شرحوا بعض كتب أرسطو شروحًا وجيزة ومتوسطة ومسهبة، وأخطأ بعضهم إذ حاول التوفيق بين الدين والفلسفة، ولست أدري لماذا كان ميل حكماء العرب للتوفيق شديدًا، وقد حداهم مرارًا إلى الوقوع في الخطأ؛ فقد ألَّف الفارابي رسالة في التوفيق بين الحكيمين أرسطو وأفلاطون، مع أنه لم يقل أحد من الذين درسوا كتبهما ومبادئهما بالتوفيق بينهما إلا الفارابي، وكأننا به قد عزَّ عليه وجود خلاف بين التلميذ وأستاذه، فأبى أن يودِّع العالَم دون أن يعقد بينهما معاهدة صلح دائم، ولكن هذا الحكيم الجليل نسي أن في التوفيق بينهما إضرارًا بالفلسفة؛ لأن أفلاطون كان شاعرًا ومفكرًا أكثر منه فيلسوفًا، أما أرسطو فكان فيلسوفًا عالمًا بعيدًا عن الشعر والخيال؛ لأجل هذا قال شيشرون بصعوبة الوقوف على أفكاره بدون بذل جهد عظيم.
كتب أرسطو في ما وراء الطبيعة، ولكنه لم ينجز البحث، وقضى نحبه قبل تمامه. ولا يمكن القول بأن ما تركه أرسطو يُعَد كتابًا، إنما هو نُبَذ ومتفرقات وخواطر بدون ارتباط ظاهر بينها، ولكن المسائل التي يكتشفها العبقري، ويسعى في حلها لا تموت بموته، بل تحيى، خذ لذلك مَثَل المواضيع الجليلة التي عالج الفيلسوف بحثها؛ فقد نظر في تعريف الفلسفة، وفي نظرية الأعداد التي جعلها فيثاغورس أساسًا لفلسفته الشهيرة باسمه، وقد حاول أرسطو أن يهدم آراء فيثاغورس، وتكلَّم في نظرية «المعنى»، وحاول فيها هدم آراء أستاذه أفلاطون، وفاز بغايته؛ لأجل هذا استغربنا كثيرًا رسالة الفارابي في التوفيق بين الحكيمين، مع أن أرسطو جعل معظم همه موجهًا لتصحيح آراء أستاذه ونقدها، ونقض ما كان منها مخالفًا لطريقة فكره، ونظر أرسطو في فلسفة السفسطائيين، أهل التمويه والمغالطة، وعلى رأسهم بروتاجوراس الذي أسلفنا الكلام عليه في بابه، وهم القائلون بعدم استطاعة الإنسان الوصول إلى الحقيقة، وفنَّد آراءهم بكل ما وصل إليه جهده من البحث.
وبعد أن فرغ أرسطو من تعريفِ الفلسفة، ودحضِ آراء أسلافه وتصحيحِ مبادئهم، أخذ في شرح آرائه الذاتية؛ فتكلَّم عن مبدأ التناقض، ومبدأ المادة، ونظرية الأسباب الأربعة، ونظرية النظام العام، ثم تكلَّم عن العدل الإلهي (تيوديقي).
فأي عقل إنساني قبل أرسطو أو بعده (بقطع النظر عن الحكماء الذين استعانوا بالعلوم الحديثة أمثال أوجست كومت) بلغ هذا الشأو في التفكير، وألمَّ هذا الإلمام بحكمة الإنسان وعلومه؟ وأي سلف من أسلافه أحاط بالفلسفة إحاطته بها، وعرف طبيعتها، وعيَّن مجالها؟ ونحن لا نفضِّل عليه أحدًا قديمًا ولا حديثًا.
إن أرسطو تناول الفلسفة بحذق وطمأنينة لم يذق لذتهما ديكارت، ولا مَن جاء بعده حتى، ولا فلاسفة القرن العشرين، أمثال ويليام جيمس بأمريكا وبرجسون بفرنسا، ويظهر من درس كتبه التي بلغتنا أن أرسطو كان متعلقًا بالحقيقة الراهنة، ومنصرفًا إلى درسها وتحديدها وتقديرها بقدر ما كان أستاذه أفلاطون متعلقًا بالمثل الأعلى، ومنصرفًا إلى تمييزه وتمجيده وتطبيقه على مطالب الحياة المادية والحياة الأدبية.
وبعبارة أخرى كان أفلاطون (أيدياليست)، وكان أرسطو (رياليست)، كان أفلاطون مشتغلًا بالنظريات وأرسطو مهتمًّا بالعمل والتطبيق، وهذا ظاهر من مؤلفات كلٍّ منهم؛ ولذا قال أحد مؤرخي الفلسفة اليونانية إن كل إنسان يُولد إما أفلاطونيًّا أو أرسطويًّا؛ إشارةً إلى التباين بين مبدأيهما. وسيرى القارئ أثناء هذه النبذة الوجيزة أن وصول أرسطو إلى ما وصل إليه كان أمرًا طبيعيًّا وترتيبًا محتمًا في تاريخ الفكر الإنساني لا بد من الوصول إليه. كان أفلاطون حكيمًا شعريًّا، وقد وصف في بعض محاوراته شخصية الفيلسوف الحقيقي التي تنطبق على المثل الأعلى في نظره، فشاءت الأقدار أن يكون هو أستاذ ذلك الفيلسوف وموجده؛ لأن الفيلسوف في نظر أفلاطون هو الذي يأخذ الأشياء كما هي؛ أي على حقيقتها ويفحصها بحالة وجودها التي هي عليه. وكان أرسطو كذلك؛ أي كان أرسطو فيلسوف الحقائق، وهو بلا ريب أول حكيم استفاد بالحقائق العلمية، واتبع التنظيم والتقسيم والترتيب في مؤلفاته، وسار على القواعد الملائمة للفلسفة الصحية التي هي عِلم العلوم وأم المباحث، والثمرة الناضجة لغرس العقل البشري أرسطو لا يفكِّر في شيء بغير تنظيم وترتيب؛ أي إنه السابق إلى وضع «طرق البحث الفلسفي»، وأول راسم لخطة الدرس العلمي.
إن كثيرين من الآخذين من الأمور بظاهرها يجرءون على تفضيل أرسطو على أفلاطون كما يفضلون أفلاطون على سقراط، وهذا حمق منهم وخرق؛ لأنه لولا سقراط ما كان أفلاطون الفيلسوف؛ فقد كان أفلاطون مندفعًا بفطرته إلى الشعر، فربما صار سياسيًّا عظيمًا، أو شاعرًا عبقريًّا، أو مؤلفًا تمثيليًّا؛ لأن مواهبه العظمى كانت تؤدي به إلى إحدى هذه السبل الثلاث، ولكن تعليم سقراط وعشرته ومثاله هي التي شكَّلت تلك المواهب، وحوَّلتها نحو الحكمة، وأنتجت ثماره الناضجة، وإن كان سقراط نجح في توليد أحد تلاميذه بالطريقة التي شرحناها في عرض الكلام عليه، فقد نجح في توليد أفلاطون، كذلك لولا أفلاطون الذي علَّم أرسطو أكثر من عشرين عامًا لقضى أرسطو عمره في الأبحاث الطبيعية، أو في دراسة كتب الفلسفة والأدب؛ لأن مواهبه كانت تؤهله إلى ذلك، ولكن احتكاكه بعقل أفلاطون العظيم فتح أمامه أبواب الفكر العليا، وأرشده إلى طريقته التي جعلته صاحب العقل الأول.
وكان أفلاطون يسميه عقل المدرسة، ويسمي بيته «بيت القارئ»، وفي الوصف الأول مدح، وفي الثاني قدْح؛ لأن أفلاطون كما أسلفنا لم يكن يجعل شأنًا كبيرًا للكتب، ولعلها خصلة كسبها من سقراط الذي لم يدوِّن سطرًا. لما صار أرسطو أستاذًا للإسكندر المقدوني كان موضع الإكرام والإجلال، ولكن لدى موت الإسكندر تألَّب عليه المتعصبون من أبناء وطنه، واتهموه بالإلحاد، وحاولوا الحكم عليه بالقتل، فلم يجد بدًّا من الفرار، ففرَّ من أثينا، وقد علل فراره تعليلًا حسنًا؛ إذ قال أشفقت على أهل أثينا أن يقترفوا جريمة ثانية على الفلسفة؛ مشيرًا بذلك إلى ما وقع لسقراط. والحقيقة أن موت سقراط كان ضروريًّا لختام حياته الجميلة ليكون رمزًا دائمًا في تاريخ البشر على جهل الجمهور، وغباوة الأغلبية، ودليلًا على شجاعة الحكماء وقوة روح البذل والتضحية.
وقد لاحظ القارئ في الصحف السابقة أن أهل أثينا لم يتركوا حكيمًا يفر من أيديهم بغير عقاب، أو دون أن يحاولوا ذلك على الأقل؛ فكان هذا شأنهم مع أناكساجور لولا الصداقة التي كانت بينه وبين بركليس، وفعلوا ذلك في فيثاغورس، وأحرقوه ومَن معه، وقتلوا سقراط، وحاولوا ذلك مع أفلاطون لولا فراره، وحاولوا ذلك مع أرسطو، والناس تظن بحسن نيتها أن المدينة التي ينشأ فيها مثل هؤلاء الفلاسفة لا بد أن تقدِّرهم وتُجِلَّهم وتعبدهم وتضعهم موضع الآلهة، ولكن الحقيقة على العكس؛ لأن الطبيعة الإنسانية هي هي في كل زمان ومكان، وكل عبقري أو نابغ يكون في الحقيقة غريبًا في وطنه، ووحيدًا بين أبناء عصره؛ لأنه يسبقهم بفكره مراحل وأجيالًا. والذي يجعلنا نتخيل عدل أهل أثينا وكمال أدبهم إنما هو وجود هؤلاء الفلاسفة فيها، ولكن فكرة العدل وكمال الأدب جاءت إلى أذهاننا من آثار هؤلاء الحكماء، وشخصيتهم العظيمة، ومؤلفاتهم الممتعة، وأخبارهم الطلية، فعممناها بطريق القياس على جميع أهل البلد، وجميع أهل العصر. والحقيقة أن أهل أثينا في عهد سقراط أو أفلاطون أو أرسطو لم يكونوا إلا جماعة من الجهلاء السخفاء المتعصبين المبغضين للعظماء المحبين للانتقام، وإننا نستهجن الآن إحراق فيثاغورس، وقتل سقراط، ومحاولة اغتيال أفلاطون وأرسطو، وهذا الاستهجان ليس إلا غشًّا وخداعًا منا لأنفسنا ولغيرنا؛ لأننا إذا رأينا الآن بين ظهرانينا نابغًا أو ممتازًا، فلا نلبث أن نكرهه ونحتقره، ثم نضايقه لنخمد أنفاسه، وإذا استطعنا قتله، فإننا لا نتردد؛ وإلا فكيف نفسِّر تعذيب العظماء والحكماء في القرون الوسطى والقرون الحديثة، واضطهاد رجال مثل جاليليه وميشيل سيرفيه، ونبي عظيم مثل السيد المسيح عليه التحية، إذا كانت الإنسانية حقيقة طيبة القلب، طاهرة الطبيعة، وأنها قد ندمت حقيقةً على ما فرط منها في حق الحكماء الأقدمين الذين ذهبوا ضحية أفكارهم.
نقول إن أفلاطون كان يسمِّي أرسطو القارئ؛ لأنه كان كثير الانكباب على الدرس، كبير الثقة في الكتب، وكان لا يعوِّل على ما يسمع من أفواه الناس؛ لأن عقله كان يقوده دائمًا إلى ضرورة التحليل والتمحيص، وهذا يتفق مع مباحث الكتب، ولا يتفق مع الأقوال المحكية، ويظهر أن أفلاطون في أواخر أيامه استفاد كثيرًا من آراء تلميذه الذي نضج، ولكن أرسطو كان قد شعر بضرورة الانشقاق عليه، فلما مات أفلاطون خلفه في إدارة مدرسته ابن أخته، وكان صبيًّا من أتباع فيثاغورس في الفكر، فقلب أكاديمية أفلاطون إلى «مهندسخانة» تعلِّم الرياضيات على طريقة فيثاغورس التي حاول أرسطو تفنيدها في مؤلفاته. قلنا إنه لولا تعليم أفلاطون ما كان أرسطو فيلسوفًا؛ لأن أرسطو استفاد طريقة التقسيم والتنسيق العلمي من أستاذه، ولكنه يخالفه في طريقة التفكير ونتائجه؛ فإن أفلاطون يقول بواجب الوجود، ويجعله مصدر الخير، ومدبِّر الكون والعلة الأولى، ولكن أرسطو ينكره وينكر إدارته للعالم، ويقول إن الكون يسير من تلقاء نفسه، وبغير عناية عليا. كان هم أفلاطون منصرفًا إلى الأدبيات والإدارة المدنية، وتهذيب النفس عن طريق الموعظة الحسنة، ولكن أرسطو يعتبر الكون والطبيعة والحياة الإنسانية شيئًا واحدًا، وكتلة لا تتجزأ إلا من حيث كونها مؤلفة من دائرتين؛ الأولى عليا، وهي عالَم الأجرام والأرواح السماوية، والثانية سفلى، وهي عالم الأجسام والمادة؛ فأفلاطون اختص بدرْسِ الإنسان بصفته فردًا، وبصفته جزءًا من الجماعة، أما أرسطو فقد درسه بصفته جزءًا من الكون، وهو الذي أطلق عليه اسم العالَم الأصغر الذي أخذه عنه كتَّاب العرب.
يقول أرسطو: إن العالَم حقيقي، ولكنه غير محكم التنظيم، وإن للمصادفات في إدارته نصيبًا. تكلَّمنا في أول بحثنا عن أرسطو في كتابه فيما وراء الطبيعة الذي لم ينجزه، وقلنا إن الجزء الذي وصل إلينا يدلنا على عِظم قدْر الكتاب كله، وقد اتبع أرسطو في وضعه طريقة التقسيم والتنسيق التي كانت سائرة في كل مؤلفاته بحيث إن الذي يقرأها فكأنه يقرأ فهرستًا مطولًا، والشاغل الأكبر لذهنه في كتاب ما وراء المادة هو تقسيم الكون إلى دوائر عليا، ودوائر سفلى، وقد ظن بعضهم أنه تنبأ بنظرية النشوء والترقي التي أصبح لها أعظم شأن في العلوم والفلسفة، والحقيقة أن هذا يُعَد مبالغة، وإن كان بعض الفلاسفة السابقين قد اكتشفوا هذا المبدأ، وقالوا به وقد ذكرناهم، ولكن أرسطو لم يقل به؛ لأنه كان يعتقد بأن الحيوانات وُجدت منذ الأزل على صورتها الحالية، وكذلك كان يقول بأن الأعضاء تؤدي الوظائف التي خُلقت لها، وهذان الرأيان يخالفان كل المخالفة نظرية التطور، وكان أرسطو ماهرًا في التشريح، وقليل العلم بوظائف الأعضاء، ولا يخفى أنه نشأ في أسرة طبية؛ فحذقُه في التشريح موروث، أما تقصيره في الفيزيولوجيا فكان بالنظر لحالة العلم في عصره.
وقد ختم نظامه في ما وراء الطبيعة بإنكار الخالق، ولم ينكر الخالق عمدًا، ولكن جاء الإنكار كنتيجة منطقية لنظامه الفلسفي، ومما يدهشنا أنه قال في ما وراء الطبيعة بوجود العلل النهائية، فكيف يوفِّق بين إنكار الخالق وبين القول بالعلل النهائية؛ لأنه لا يخفى بالطبع أن العلل النهائية لا تكون إلا حيث يكون الخالق الذي جعل كل شيء لحكمة، فإذا اختفت هذه الحكمة، وهي علة الخلق فلا حاجة حينئذٍ إلى وجود الخالق موجد الأسباب والعلل.
أما رأيه في المادة فهو يقول إنها موجودة أزلية، وتقابلها القوة الكامنة، وإنهما أصل كافة المخلوقات.
وقد اشتغل فلاسفة العرب بشرح فلسفة أرسطو، وشرحها ابن رشد ثلاثة شروح؛ وجيز، ووسط، ومسهب، ولكن شروحه مبهمة غامضة، وأسلوبه معقد، ولكن القارئ لا يلبث أن يتعوَّد الألفاظ والتعبيرات فيستفيد بها، وأقوال أرسطو التي نقلها ابن رشد خصوصًا فيما وراء الطبيعة، وهي القسم الرابع من كتبه هي التي أدت بالتنكيل بابن رشد في بلده قرطبة؛ فصلبوه وبصقوا في وجهه، وإن هذا في نظري أعظم من القتل، وقد عنى الإفرنج بنقل ما وراء الطبيعة لأرسطو عناية تامة، ولكنه لم يُنقل برُمَّته إلى اللغة العربية، ولا فائدة في نظرنا للنهضة التي لا تبدأ بنقل مؤلفات اليونان إلى اللغة العربية ودرسها وتمحيصها.
وأهم من الميتافيزيقى (ما وراء الطبيعة) في مؤلفات أرسطو مؤلفاته «الإنسانية»، وكان هذا الوصف يُطلق لتمييزها عن الطبيعيات، وهي مؤلفاته في علم النفس والمنطق والشعر والبلاغة والأخلاق والسياسة المدنية، وبعبارة أخرى هي المؤلفات المستمدَّة مباشرة من روح أفلاطون، وإن كانت تخالفها في النتائج.
ويقول أرسطو إن العقل هو أسمى قوى الإنسان، ولا يوجد في العقل شيء خارج عن الحواس؛ لأنه وصل إليه بطريقها، ويقول بأن العقل يهلك مع الجسم عند الموت؛ فلا سبيل إذًا للقول بالخلود والبعث، وما يتبعهما من عقاب وثواب، وهي تلك العقائد الجميلة أو النظريات الأدبية التي قال بها أفلاطون نقلًا عن المصريين القدماء، ونقلتها عنه بعض الأديان، ولسنا هنا في مجال تأييد أرسطو أو دحض آرائه، ولكننا في مجال فهْم فلسفته وشرحها؛ لأن عمل الشارح غير عمل الناقد، وربما بحثنا في أهمية هذه الآراء على حدة.
أما كتاب أرسطو في المنطق فهو أهم كتبه، وقد شرح ابن رشد نظرية أجناس الموجودات، وهي البحث في الهوية والجوهر والعَرَض والكمية والكيفية والإضافة والذات والشيء والواحد والتام والناقص والكل والجزء والجميع والناقص، وقد استفاد بهذا التقسيم الفيلسوف كانط في تأليفه «نقد العقل القائم بذاته»، ولكن أرسطو في الواقع لم يهتم إلا بهوية الشيء. ولم يقصِّر العرب في نقل منطق أرسطو لحاجتهم إليه بصفته أداةً للتفاهم والإقناع في المجادلات الفقهية، ولا نبالغ إذا قلنا إن عِلم الكلام مأخوذ معظمه من فلسفة أرسطو، أما كتابه في البلاغة أو الفصاحة، فقاصر على فصاحة الخطباء، وقال إن غاية الخطابة تنبيه الانفعالات الرديئة أو المغايرة للعقل، وقد دعاه هذا التعريف إلى الكلام على الأهواء، وعلى تقسيم الناس إلى طبقات وأنواع؛ لتبيين قوة التأثير في كل طبقة منها، ويظهر أنه هو لم يكن يتأثر بفعل الخطابة؛ فقد سمع أعظم خطيب في عصره، وربما كان أعظم خطيب في كل عصر، وهو ديموستين، ولم تهتز له أوتار قلبه، ولم يذكره إلا مرة أو مرتين عَرَضًا.
وكتابه في الأخلاق «إيطيقا» هو أحسن كتبه شرحًا وإفصاحًا عن الغاية، ويقول فيه إن السعادة غاية الإنسان، وهو لا يختلف في شيء عن مذهب النفعيين في الفلسفة الحديثة، أمثال ستيوارت ميل وسبنسر، ولا غرابة في ذلك؛ فهو في اعتبارنا أبو الفلسفة المادية، وإن أسمى ما يرمي إليه الإنسان هو تحقيق إنسانيته الذاتية، وهذا أمر لا بد فيه من العقل. وقال إن الإنسان كائن اجتماعي بفطرته، وأكثر ميلًا للاجتماع من النحل والنمل، وإنه هو العالم الأصغر، وتكلَّم عن الأهواء وضرورة الاعتدال فيها لتكوين الخلق الفردي، وهو يناقض سقراط وأفلاطون؛ إذ قالا بأن الفضيلة علم، وهو يقول إنها عملٌ وتعوُّد على الأخلاق الفاضلة، وأن الوعظ والإرشاد والثناء على العدل لا يجعل السامع عادلًا، ولكن تدريبه على العدل بالفعل يؤدي به إلى اكتساب تلك الفضيلة، ولكن إذا وافقنا أرسطو على بعض آرائه فإننا لا نوافقه على هذا؛ لأن سقراط وأرسطو كانا مصلحَيْن، والإصلاح يتحتَّم فيه شرح طريقته بالنظريات، ولولا نظريات سقراط وأفلاطون ما كانت طريقة أرسطو العملية.
أما كتابه في السياسة المدنية فهو أثمن كتبه وأنفعها لأهل هذا الزمان، وقال إن أفضل الحكومات هي حكومة الفضلاء، وهو يفضِّل الأرستوقراطية على غيرها، وينصح بجعل العمال والصناع والزرَّاع في درجة منحطة، وأن يُسخَّروا لخدمة الطبقات العليا. ويقول بأن الحكم يُقسَّم بين هيئتين: الأولى مكونة من الشباب، والثانية من الشيوخ (على هيئة مجلس النواب ومجلس السناتو أو الأعيان أو اللوردات لوقتنا هذا)، ونصح للطبقات العليا بعدم الاختلاط بالدنيا، وعدم المجاملة أو العطف بينهما، وقد رأينا في روما إلى أية النتائج أدى تطبيق هذه النظرية في عراك دائم بين الأشراف والشعب.
ونحن نخالف أرسطو في هذا الرأي وننقضه ونقول إنه يؤدي إلى أسوأ النتائج، وإنه لا يوجد نظام أفضل من العدل والمساواة في حكومة الأمم، وقد حاول أن يضع نظامًا للمثل الأعلى في السياسة المدنية، فألَّف جزءًا من كتاب قلَّد فيه أفلاطون في جمهوريته، ولم يتمه، ولا قيمة لآرائه في هذا الكتاب على الإطلاق.
وكتب في الشعر والفنون كتابه الشهير باسم «بوطيقا»، فقال إن العالم قطعة فنية، وإن أرقى الفنون تأليف التراجيديا، وإن الكون «تراجيديا رديئة الوضع»، وإن نجاح التراجيديا يرجع إلى «الحيلة» أو «اللغز» المترتبة عليه بقية الأجزاء، وإن عاملي الشفقة والخوف هما أهم عوامل الانفعال في التأليف الفني.
وهذا آخر كتبه.
- كتاب المقولات (أو قاطيغورياس أو كاتيجوري): قد نقله من اليونانية إلى العربية حنين بن إسحق، واستنقله أبو زكريا يحيى بن عدي، وممن فسَّره من فلاسفة العرب الفارابي، وأبو بشر متى، والكندي، وإسحق بن حنين، وأحمد بن الطيب، والرازي.
- باريرمينياس (أو باري ميلياس أو العبارة): نقله القس حنين إلى السرياني، وإسحق إلى العربي، وتولَّى تفسيره يحيى النحوي وأبو بشر متى والفارابي، واختصره الكندي وحنين وإسحق وابن المقفع.
- أنولوطيقا الأول (أو القياس): نقله إلى العربي ثياذورس، ونقَّحه حنين، وفسَّر بعضه يحيى النحوي وأبو بشر متى، وفسَّره كله الكندي.
- أنولوطيقا الثاني (البرهان): نقله متى عن إسحق إلى العربية، وشرحه متى والفارابي والكندي.
- طوبيقا (الجدل): نقله إلى العربية يحيى بن عدي والدمشقي وإبراهيم بن عبد الله، وشرحه يحيى بن عدي في ألف ورقة، وفسَّره الفارابي واختصره.
- سوفسطيقا (المغالطة أو الحكمة المموهة): نقله ابن ناعمة وأبو بشر متى ويحيى بن عدي، وفسَّره الكندي وقويوي.
- ريطوريقا (الخطابة): نقله إلى العربي إسحق، وفسَّره الفارابي في مائة ورقة، ووُجدت منه نسخة بخط أحمد بن الطيب السرخسي.
- بوطيقا (الشِّعر): نقله إلى العربي أبو بشر متى ويحيى بن عدي، واختصره الكندي.
- كتاب السماع الطبيعي (أو سماع الكيان): نقله إلى العربي يحيى بن عدي وعبد المسيح بن ناعمة، وفسَّره أبو أحمد بن كرنيب وثابت بن قرة وأبو فرج بن جعفر.
- كتاب السماء والعالم: نقله إلى العربية أبو بشر متى ويحيى بن عدي، وكان في زمنه يُسمى رأس
متكلمي الفرقة الفلسفية.
وشرحه كثيرون، منهم يحيى وأبو زيد البلخي.
وشرحه أبو هاشم الجبائي وردَّ عليه بكتاب طويل سماه «التصفُّح»، ولكن انتقاد أبي هاشم لآراء أرسطو إنما جاء بمقدار ما تخيل له فهمه؛ لأنه لم يكن عالمًا بالقواعد المنطقية.
ونُقلت غير هذا كتبٌ كثيرة، وشُرحت مثل كتاب الكون والفساد، وكتاب الآثار العلوية، وكتاب الحس والمحسوس، وكتاب الحيوان والإلهيات والخلقيات.
وأهم مَن اشتغل بترجمة أرسطو وشرحه من علماء العرب هم مَن ذكرنا، ويُضاف إليهم ابن سينا وابن رشد، وبالجملة فأعظمهم قدرًا الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد ويحيى بن عدي.
(١) ما كتبه العرب عن أرسطو
قال المسعودي أبو الحسن علي بن الحسين بن علي: إن معنى اسم أرسطو كامل الفضيلة، ومعنى اسم أبيه قاهر الخصوم، وكان أبوه فيثاغوري المذهب.
وأرسطو أول مَن خلَّص صناعة البرهان من سائر الصناعات المنطقية، وصوَّرها بالأشكال الثلاثة، وجعلها آلة للعلوم النظرية.
وذكر له القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي المتوفَّى سنة ٤٦٣ هجرية الكتب الآتية: المناظر – الخطوط – الحِيَل – سمع الكيان – السماء والعالم – الحيوان – النبات – النفس – الحس والمحسوس – الصحة والسقم – الشباب والهرم – ما بعد الطبيعة – أوذيميا – سوفسطيقا – السلوجسموس. ولا حاجة بنا إلى القول بأن هذا خلط لا معنى له، ولا يحتاج إلى تفنيد، ولكن ذكرناه؛ لأن القاضي صاعد من أكبر الثقات في تاريخ الفلسفة عند العرب، وادَّعى القفطي المتوفَّى ٦٤٦ هجرية في أخبار العلماء بأن أرسطو خلف أفلاطون في التعليم في مدرستين، وهذا غير صحيح؛ فإنه لم يخلفه حتى ولا في مدرسة واحدة، ثم أخذ القفطي ينسخ أقوال صاعد الأندلسي بغير تمييز، ويضيف عليها مثلها، ثم روى عن محمد بن إسحق النديم أن سبب اهتمام المأمون بكتب اليونان رؤيا رأى فيها أرسطو وهو أبيض مشرب بالحمرة، واسع الجبين، مقرون الحاجبين، حسن الشمائل (ولا ينقص إلا أن يقول سكري المبسم!) وأن المأمون سأله … إلى آخر ما جاء به في هذه الخرافة. وذكر ابن إسحق المذكور أن معنى أرسطوطاليس محب الحكمة! وأن أرسطو لم ينظر في الفلسفة إلا بعد أن جاوز الثلاثين من عمره! ثم سرد الكاتب العربي وصية أرسطو بشأن أولاده، وذكروا سنَّه عند موته «٦٧ عامًا، والله أعلم».
وأن مؤلفاته هي قاطغورياس (المقولات)، وباريميلياس (العبارة)، وأنولوطيقا (التحليل)، وأبوديقطيقا (البرهان)، وطوبيقا (الجدل)، وسوفسطيقا (المغالطون أو الحكماء المموهون)، وريطوريقا (الخطابة)، وبوطيقا (الشعر).
ونحن لا نريد الغضَّ من قدْر هؤلاء الكتاب، ولكن الذي يدهشنا منهم إلقاء القول على عواهنه، وعدم التحقيق من معنى الاسم، أو السن، أو تاريخ الميلاد والوفاة؛ فإن كانت هذه حالهم في بسائط الأمور، فكيف حالهم في جليلها؟!
ولم ينجُ أرسطو من التكفير في نظر بعض كتَّاب العرب؛ فقد قال الوزير جمال الدين في كتابه أخبار الحكماء: إن أرسطو رأى كلام أفلاطون وسقراط مدخول الحجج، متزلزل القواعد غير محكم البينة في الرد والمنع، فهذَّبه، ورتَّبه، وحقَّقه، ونمَّقه، وأسقط ما ضعف منه، غير أنه لم يكن مستندًا إلى كتاب منزَّل، ولا إلى قول نبي مرسَل فضلَّ الطريق … وإن الفارابي وابن سينا وافقاه على شيء من أصوله، فكفرا بكفره، وإن أقدامهما زلَّت كما زلَّت قدم أرسطو، وقد كفر الثلاثة بقولهم في ثلاث مسائل خالفوا فيها كافة الإسلاميين، وهي أن الأجساد لا تُحشر، وأن المُثاب والمُعاقَب هي الأرواح المجردة، والعقوبات روحانية لا جسمانية، والثانية في صفة الله عز وجل بأنه يعلم الكليات دون الجزئيات، وقولهم بأزلية العالَم وقِدَمه.
والذي يدهشنا بعد ما تقدَّم من ذِكر الفروق المهولة بين أرسطو وشيخه، وهي فروق سحيقة لا يُملأ فراغها، ولا يُسبَر غورها، أن حكيمًا عظيمًا، وفيلسوفًا جليلًا اشتهر بالوقوف على آراء الحكيمين ونقلهما وتفسيرهما، وهو أبو نصر الفارابي الذي يسميه كتَّاب العرب المعلِّم الثاني بعد أرسطوطاليس المعلِّم الأول، قد تعرَّض إلى عمل من أبعد الأعمال عن الحكمة، وأقلها نفعًا، وأقصاها عن العقل، ألا وهو التوفيق بين الفلسفتين الروحانية والمادية.
وكتب في ذلك رسالة أسماها «الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس» قال في مقدمتها: «إن الذي دعاه إلى تأليفها أنه رأى أكثر أهل زمانه قد تنازعوا في حدوث العالم وقِدَمه، وادعوا أن بين الحكيمَيْن المقدَّمين المبرزَيْن اختلافًا في إثبات المبدِع الأول، وفي وجود الأسباب، وفي أمر النفس والعقل، وفي المجازاة على الأفعال خيرها وشرها، وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية.»
نقول إن أهل زمان الفارابي قد صدق نظرهم في مشاهدة هذه الاختلافات؛ فإنها حقيقية، وغريب أنهم يرونها، وهو حكيم ولا يراها، ولكن عزَّ عليه أن يكون الأستاذان مبدعي الفلسفة ومنشئيها، وألا يكونا على وفاق تام.