الأفلاطونية المستحدثة
لما تغلَّبت مقدونيا على بلاد الإغريق، وفازت القوة الغشوم ببطشها المادي على مبادئ الذكاء والعدل والعلم الصحيح، ولما استولت دولة الرومان بجيوشها الجرارة على ممالك العالم، خَفَت صوت الفلسفة، وانطفأ مصباح العقل تحت تأثير العاصفة، وذهبت من النفوس عاطفة الشجاعة المعنوية، والتفاني في سبيل الحق والعدل، واتجهت النفوس بعد استضعافها نحو العقائد الدينية التي من شأنها تعزية العاجز، وتعويده على الصبر والاستسلام. ولا يخفى أن تلك العقائد تجلب خلفها طائفة من الأوهام والخرافات، وتغري الشعوب بالعيش الرخيم في ظلال الجهل والكسل، والتوفُّر على الراحة، والنفور من بذل كل مجهود عقلي غايته رفع الغشاوة عن البصائر، كلُّ هذا يجلبه الاستسلام للعقائد بغير فحص، ولا تمحيص، وأشد من هذا في نظر الفلاسفة اعتقادُ العامة في الخلود الإنساني، ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن القول بخلود النفس ليس رأيًا دينيًّا، وإنما هو رأي ابتدعه أفلاطون، وصاغه في قالب بلاغته، وكان استفاده من المصريين والفيثاغوريين. وإن الأمم الجاهلة الضعيفة التي تفقد أملها في هذه الدنيا، وتبحث عن النور فلا تجده في عقولها التي خيَّمت عليها الأوهام، تبحث عن عزاء خيالي فتلتمسه في فكرة الخلود. هذه هي الحال المعنوية التي بعثت فلسفة أفلاطون من مرقدها؛ لأنها فلسفة دينية بشكلها وموضوعها، وفيها كل ما تحتاج إليه النفس المتدينة من عقيدة التناسخ إلى عقيدة الخلود بما في ذلك مذهب التصوُّف، وفكرة الثواب والعقاب في عالم غير العالم الأرضي.
وكان أفلاطون ذاته شبه فيثاغوري، فلما بُعثت فلسفته كان من نهضتها نصيبُ لفلسفة فيثاغورس، فنفضت عن أردانها غبارَ النسيان، ونشرت على العقول شِباكًا عتيقة، ولكنها قوية من الاعتقاد بالتقمُّص وسر الأعداد والتنجم (ولا يزال كثيرون من الشرقيين يعتقدون في سر الأعداد، ويستعملونها في السحر والرقى كما تدل على ذلك مقدمة ابن خلدون، وكتُب التنجيم، وتخوت الرمل، وحساب الجُمَّل، وهي أثر من الفلسفة الفيثاغورية انتحلها بعض المشعوذين، وتبعهم بعض الجهال من أبناء بلادنا).
لما طارد المقدونيون والرومان الفلاسفةَ من أروبا لجئوا إلى الإسكندرية وهي إذ ذاك عاصمة يونانية في مصر، ومدرستها المشهورة باسمها قد أُطلقت عَلمًا على مبادئ كثيرة من الفلسفة والأدب، ومكتبتها الجليلة كانت حافلة بكل أنواع الكتب، وهي التي احترقت بفعل قنابر (لا يُقال قنابل) يوليوس قيصر لدى حصاره الإسكندرية في عهد كلوبطره، هي تلك المكتبة التي أشاع بعض المتعصبين أن العرب بقيادة عمرو بن العاص أحرقوها بأمر من عمر بن الخطاب، وأصل هذه الإشاعة نبذة كتبها عبد اللطيف البغدادي، وكان رجلًا عصبيًّا، ضعيف التحرِّي، قليل العقل، وقد سمَّاه أهل عصره بالتيس الملتحي، كان هو أوَّل مَن نشر تلك التُّهمة المكذوبة، ونقلها عنه بعض المؤرخين الذين أعماهم سوء النية عن الحقيقة، ولكن جميع المؤرخين العقلاء من الإفرنج كذَّبوه في هذه الدعوى، ومنهم جيبون المؤرِّخ الإنجليزي الشهير؛ فقد أثبت أن الذي أحرق هذه المكتبة قنابر ومقذوفات يوليوس قيصر، وأن العرب لما فتحوا مصر كانت هذه المكتبة في عالم العدم منذ أكثر من ستة قرون.
في مدينة الإسكندرية ظهر مذهب الأفلاطونية المستحدَثة على يد بلوتينوس ٢٠٥–٢٧٠ب.م.، وهو الذي يسميه الشهرستاني بالشيخ اليوناني، وفي هذه النقطة خلاف لم يُحقَّق.
وكان بلوتينوس مصريًّا، وكان متشددًا في المعتقدات الروحانية لدرجة أنه كان يخجل من كون روحه محاطًا بجسد؛ لأجل هذا لم يقبل أن يدون عن تاريخه المادي شيئًا؛ ولهذا لا نعرف عن تاريخ حياته الأرضية قليلًا ولا كثيرًا، ولكن الذي يعلمه معاصروه أنه درس جميع المذاهب الفلسفية التي كانت معروفة لعهده، وأنه تلقَّى دروسًا في الحكمة على أمونيوس ساكاس الأفلاطوني الذي كان يعلِّم في الإسكندرية، وقد دام تلقيه عليه ١١ سنة. ولما مات أستاذه سافر مع الرومان إلى بلاد الفرس مدفوعًا برغبة الوقوف على الحكمة الشرقية، ولكن الرومان فشلوا في حملتهم على الفرس، فعاد أدراجه إلى روما، وهناك أخذ يلقي دروسًا عامة، فاحتفى به الرومان، ومجَّدوه، وكانت أخلاقه الفاضلة القويمة تعادل علمه، وكان الناس في روما يحتكمون إليه، ويَكِلون إليه الوصاية المختارة على أولادهم القصر، ومات في السادسة بعد الستين من عمره وهو يقول: «إني أحاول مزج الجزء الإلهي الذي في نفسي بالقوة الإلهية السائدة على العالم.»
وقد قام تلميذه برفيري (فرفريوس صاحب مقدمة إيساغو لكتب أرسطو المنطقية) بتنظيم كتبه في ستة أجزاء، وفي كل جزء منها تسع مقالات اسمها أنياد، وقد ترك برفيري ما يدل على تاريخ تدوين هذه المقالات، ويستدل من تاريخ تدوينها أن بلوتينوس بدأ في تدوين مذهبه لما بلغ الخمسين من عمره، وأن مذهبه كان إذ ذاك قد كمل في ذهنه، ولم يعوزه إلا الكتابة فكتبه. وخلاصة مذهبه مزيج من أفلاطون وأرسطو والرواقيين، وغايته في فلسفته دحض الفلسفة المادية التي وضع أساسها الفلاسفة المرتابون (سبتيك) وأبيقور وخريسبوس، ورأيه في الشخصية الإنسانية أنها روحانية، ولما حاول نقض فلسفة أبيقور انتقدها من حيث عجز صاحبها عن تعليل وجود العقل المدبِّر الذي يحرِّك الذرات.
وبلوتينوس يتفق مع أبيقور في القول بأن الإنسان مخيرٌ، وكلاهما يخالف رأي الرواقيين في أنه مسيَّر، وقال بلوتينوس إن اختيار النفس نتيجة طبيعتها الروحانية. فلما أن قضى بولتينوس وطره بانتقاده على المرتابين والرواقيين والأبيقوريين أخذ في تأسيس فلسفته، فقرَّر أنه يتفق مع أرسطو في رأيه في المادة بصفة كونها «قدرة ممكنة»، ثم اتجه إلى فلسفة أفلاطون الأصلية، واستعار منها فكرة «الواحد الذي يدل على التعدُّد، والذي لا يوجد بغيره مع أنه مستقل عنه، وسابق له، ومرتفع عن سائر الوحدات التي يتكون منها التعدد».
وجعل بلوتينوس هذه الفكرة مفتاح فلسفته ودرَّة تاجها. وكان بلوتينوس ميالًا بفطرته إلى البحث الفكري البحت، فنتج عن قدرته الفلسفية، وعن اختياره لفكرة أفلاطون التي تخلَّى عنها هذا الأخير، أنه صار أوَّل واضع لأساس التصوف في الغرب بعد أفلاطون الذي ابتدع الفكرة!
ثم يقول بلوتينوس إن جميع الأرواح واحدة (وهذه نظرية وحدة النفوس التي قال بها الفارابي وابن باجه وابن رشد).
ثم يقول بلوتينوس إن «نوس» هو العقل المدبِّر، وإن «الواحد» الأفلاطوني «والأرواح المتحدة» المتعددة تكاد تكون ثالوثًا مقدَّسًا، أوجد أفلاطون فِكْرته قبل الثالوث المقدَّس المعروف، ولكن البحث في تحقيق هذه النظرية ليس من اختصاصنا في هذه الرسالة. ويقول بلوتينوس إن الإنسان مكوَّن من روح عليا وهي العنصر الروحاني الذي سبق الكلام عليه، ومن روح سفلى وهي التي تُدنِي الإنسان من عالم المادة. ويقول إن الروح هي التي أوجدت المادة، ويقول بلوتينوس إن النفس الإنسانية بالرغم من كونها محاطةً بالمادة تتصل بالعالم الأعلى في حياتها الأرضية، وتتحد «بالواحد»، وقد بلغ هو هذه الدرجة من الاتصال والاختلاط عدة مرات، ولكن تلميذه بروفير لم يتمتع بهذا الاختلاط الروحاني إلا مرة واحدة، ومن هذا القبيل «انجذاب» الصوفيين والأولياء الذين يقولون إنهم صعدوا إلى السماء الأولى أو الثانية أو الثالثة كما قال سيدنا بولس الرسول، وهذه هي حالة «الأجزتاز» الجميل الذي لا يناله إلا السعداء، وهي حالة التجرُّد من الجسم، والارتقاء بالروح إلى أسمى درجات الوجود الروحاني، ومعنى القول أن الروح «تسري» بالإنسان إلى السماء، والعلم الحديث يفسِّر هذه الحالة بأنها نوع من الغيبوبة المغنطيسية (راجع ص١٤٨ من تاريخ الفلسفة القديمة، تأليف و. بن، طبع لندن ١٩١٢).
وقد استمرت هذه الفلسفة ذائعة لمدة ٢٥٠ عامًا بعد موت مؤسسها، وخَلَفه بروكلوس (٤١٢–٤٨٥ب.م)، ومن آثارها نشر فضل أفلاطون ومناصرته، وتقديم مذهبه على مذهب أرسطو.
وفي سنة ٥٢٩ أمر الإمبراطور جوستنيان (معناه العادل!) الروماني بإغلاق مدارس أثينا ومصادرة أوقافها التي أسَّسها ماركو أوريليوس، وبذلك قطع هذا الحاكم الروماني الغشوم لسان الفلسفة، وأَخَفَت صوتها، وقد ذكرنا اسمه هنا لنستنزل عليه لعنة كل ذي عقل؛ لأنه من الأفراد الذين حاولوا خنق الفكر الإنساني، والتضييق عليه باسم الدين تارة، وباسم السياسة طورًا، ولكن الفكر الإنساني كالنور الأزلي الأبدي، ويأبى الفكر أن يُطفأ نوره!