الإنسانية والتقدم
وإن في هذا الأمر لعبرة كبرى؛ فإن بعضنا يظن أن الحقائق العلمية التي تظهر في جيل من الأجيال تصبح ملكًا عامًّا شائعًا للإنسانية فتتلقفها الأجيال المتتالية، ويتوارثها الناس بالتعليم والتلقين فلا تضيع، بل تصبح جزءًا من الثروة العقلية التي تنمو بالإنتاج والاقتصاد والتوافر.
وكان هذا الأمر واجبًا، بل يدهشنا عدم ظهوره ظهور الشمس، ويذعرنا عدم انقطاع العلماء لتحقيقه؛ لأن إهماله يزيد الجهل تخييمًا على العقول؛ إن مصيبة الإنسانية ليست في عجزها عن إدراك الحقيقة، ولكنها في طمس معالم الحقيقة كلما ظهرت، ودفنها تحت أكوام مكدسة من تراب الجهل، إن كثيرًا من الحقائق التي نكتشفها اليوم ونظن أنها حديثة، وأن لنا الفضل في إظهارها من عالم الخفاء إلى نور الظهور كانت معلومة لدى الأقدمين، وثابتة لديهم ثبوت الشمس في رابعة النهار، ولكن الجهل الإنساني طمس آثارها، وأخفى معالمها، وجعل نارها رمادًا، ونورها ظلامًا؛ خُذ لذلك مَثَليْن واضحَيْن: الأول مثل اليونان؛ فقد بلغت بحكمتها وتدبيرها وعقول أبنائها وعلومهم وأنظمتها الاجتماعية والسياسية، ومظاهر حياتها الأدبية والفنية، مبلغًا جعلها معلِّمة العالم، ومرشدة الأمم، ويمكن القول بغير مبالغة، إن ما وصل إليه أرسطو وأفلاطون وسقراط وأبيقور وزينوفون وسوفوكليس وفيدياس وبركليس وصولون وديموستين لم يصل إليه إنسان بعدهم في سائر فروع الحياة العقلية التي نبغوا فيها، فقل لي: أين آثار هؤلاء؟ وأين علومهم؟ وأين حكمتهم؟ وأين فنونهم؟ وأين ثمرة جهودهم التي جعلتهم آلهة يسيرون على الأرض، إن لدينا من كل ذلك نتفًا ذات قيمة في ذاتها، ولكنها تافهة بالنسبة لمجموع ثمرات عقولهم التي لو جُمعت ونُظمت ودُرست على حقيقتها لكانت كافية لتنوير الإنسانية، وتقدمها إلى آخر الدهر، ودليلي على ذلك أن هؤلاء الحكماء الأوائل لا يزالون، ولن يزالوا المصدر الأول لكل مَن يريد أن يستقي الحكمة من منبعها، ولا يزال كلُّ مَن يجهل آثارهم لا يُعَد داخلًا في زمرة العلماء أو المتأدبين.
المَثَل الثاني مصر، وهي أشهر من أن تُذكر؛ فقد بلغت علومها وفنونها وآدابها منذ أربعين أو خمسين قرنًا مبلغًا لا تزال آثاره ظاهرة للعيان في آثارها ونقوشها وصحفها، وإذا حق لنا أن نذكر حكماء اليونان، وننسب إليهم الفضل في إخراج الإنسانية من غيابة الجهل، وإرشادها نحو المثل الأعلى في العلوم والفنون والآداب فيكفينا في التدليل على قدْر مصر أن هياكلها المقدسة كانت مدارس لفلاسفة اليونان أمثال مَن ذكرنا، وفيثاغورس نفسه أقام عدة سنين يتلقى العلم على الكهنة في معابد ثيبة وهليوبوليس، فأين هذا كله الآن؟ وهل نرى في مصر، وقد زاد خصبها، وزكا زرعها، وفاض نيلها، وتضاعف عدد سكانها، جزءًا من مليون من علوم مصر العظيمة التي فنيت؟ هل أشرق في سماء مصر شعاع واحد من تلك الأشعة التي انبعثت في فجر المدنية، فأضاءت اليونان أولًا، والعالم كله ثانيًا؟
أليس من أعظم الجرائم أن تترك الإنسانية تائهةً ضالة في مهامه الجهالة؟ أليس من العبث كل ما يحاوله العلماء في سبيل البحث عن الحقيقة إذا كان كل ما وصل إليه أسلافهم قد ضاع، واختفت آثاره، وإذا ذُكر في كتاب على رأس قلم باحث جديد إنما يُذكر من قبيل خطرات الأفكار أو غرائب الأقوال أو فكاهات تروِّح عن النفس وتقطع الوقت وتقتل الزمن؟
إن كثيرين من المفكرين ينسبون إلى الإنسانية غريزة البقاء على حالة واحدة، ويقولون إن الإنسان ميالٌ بفطرته للمحافظة على كل قديم، لا لأنه صحيح أو موافق للحقيقة، إنما للتعوُّد. إن الإنسانية أسيرة العادة، وهي كذلك شديدة الكسل؛ فهي تعوَّدت أن تدرك الأشياء على حال معينة، ولا تريد التغيير في طريقة التفكير، وتعتقد في صحة أشياء معينة؛ لأنها تلقنت الاعتقاد بصحتها، فلا تريد أن تنزع عن عقلها هذا الاعتقاد حتى ولو ثبت أنه فاسد، وأنه قائم على ضلال قديم، حتى ولو قامت البراهين العلمية والعقلية على صحة غيره من الآراء، وأصبحت تلك الآراء ملكًا مشاعًا لكل الناس يمكن الوصول إليها بسهولة، فإنك تجدهم يُعرضون عن الجديد الصحيح من العلم الموافق للعقل، ويتشبثون بالقديم الباطل من العقائد المخالف للعقل؛ لأن الإنسانية مِكسال تريد أن تجلس لتستقبل شمس الصباح دون أن تعرف كنه الحرارة، تريد أن تنظر بخمول إلى الكواكب، ولا تريد أن تعرف ما وراءها، تريد أن تُمتِّع نظرها بالمخلوقات دون أن تُعكِّر صفوها لحظة في التفكير في أصلها، ومَنشئها، ومصيرها، وموردها، الإنسانية أسيرة العادة وحليفة الكسل، وهي فوق ذلك محبة للتقهقر، ميالة للرجوع إلى حالها الأولى حال الحيوانية والتوحُّش دون أن تبذل جهدًا في السير إلى الإمام، الإنسانية أبيقورية المذهب.
وإذا خرج من أحشاء تلك المِكسال ربة الخمول أسيرة العادة، وحليفة كل قديم، مولودٌ جديدٌ، وحاول النظر إلى النور أو التنفس، فإنها فورًا بما لها عليه من حقوق الأمومة، وبما اكتسبته من الغلظة وحب الأذى حتى في تأديب أطفالها، تبادر إلى ضربه وتعذيبه، وكَمِّ فمه وحجب عينيه، فلا يشم إلا نتنها وعفونتها، ولا يرى إلا سواد ليلها وظلام عقلها؛ فإن تشدَّد في المقاومة، وكان طفلًا نجيبًا شجاعًا نابغًا، تحاول إخفات صوته باللين والملاطفة، فإن لم يذعن فإنها لا تتردد بعد ذلك لحظة واحدة في القضاء عليه؛ إنها تضحي به على هيكل العادة والكسل والبهيمية فتوعز إلى أبنائها الذين ثبتت طبيعتها في أفئدتهم بقتله؛ فتارة يُسجن حتى يموت، وطورًا يُلقى به من حالق، وطورًا يُصلب ومرة يُحرق، وبعد أن تَزهق روحه ويصير جسده ترابًا تعود الأم فتأخذها الشفقة على ولدها، وتقول: وا حر قلباه على ولدي! كان ذكيًّا، وكان حاضره ينبئ بمستقبل سعيد، فتأمر بتمجيد ذكره وإقامة الأنصاب على شكله، وتأمر بجمع آثاره ولَمِّ شعث أفكاره، وتقيم له مأتمًا فخمًا، فيظن الرائي أن ولدها لو عاد إليها لأحلته محل الإنسان من العين، ولكن إذا وصل إلى علمها أثناء تمجيد ذكر ذلك الذي بذلته وقتلته أن أخًا له حاله كحاله، فإنها لا تتردد لحظة في القضاء عليه لتعود بعد حين فتخلِّد ذكره، وهكذا تستمر تلك العجوز المِكسال الماكرة الذميمة الخَلْق والخُلُق تقتل النجباء، وتستبقي الجهلاء والسخفاء؛ لأنها لا يطيب لها العيش إلا في ظلال الجهل والكذب والخداع، ولا تحب النور؛ لأنها من بنات الظلام.