المقدمة
برهن الخليط المميز الذي يتكون منه فيلم «الجاذبية المميتة»، منذ بداية عرضه على
نطاق واسع في
١٩٨٧م، وهو خليط من النشاط الجنسي sexuality والإثارة والخوف
والقيم العائلية، برهن على أنه موضوع مربح، حتى لو أثار الجدل في حوليات السينما الأمريكية.
حقق
الفيلم ما يربو على ١٥٦ مليون دولار من الأرباح داخل الولايات المتحدة، ورُشِّح لِسِت
جوائز أوسكار،
وبشكل غير منطقي حقق شباك التذاكر في الأسبوع الثاني أموالًا أكثر مما حقق في الأسبوع
الأول، وهي
شبه حقيقة تؤكد حماس المشاهدين الذين دعمَت حملةُ كلامهم المتداول النجاحَ الهائل للفيلم.
عُرِض
الفيلم في دور العرض الأمريكية لتسعة وثلاثين أسبوعًا بشكل يثير الدهشة، ورافقت الكثيرَ
من
الحفلات صرخاتُ الجماهير الغاضبة: «اقتل العاهرة!» وقد حظي الفيلم بالتقدير تعبيرًا عن
ردع مؤثر
بشدة للخيانة الزوجية، وربما اعتُبِرت تذكرة السينما بديلًا اقتصاديًّا لسنوات من العلاج
الأُسرِي المكلِّف. وقد أشبَع الفيلم أيضًا اهتمامات الشهوانيين: المشاهد الجنسية في
«الجاذبية
المميتة» عنيفة وحيوية، وقد صور الفيلم رغبةً مَرِحةً تقريبًا في السخرية من الاحتشام
والكبت لصالح
الحسي والجريء. ولا يحتاج المرء لتأكيد هذه الروح الجماعية إلا إلى النظر إلى أكثر صور
الفيلم
لفتًا للانتباه في لحظة خلدت للأبد بمصطلح «غلاية الأرنب».
كان لعرض فيلم «الجاذبية المميتة» لرجل يقع في علاقة غرامية عارضة، يتبين فيما بعد
أن لها
نتائج خطيرة؛ صدًى عميقٌ أيضًا في لحظته التاريخية، وبسرعة اعتُبِر «الجاذبية المميتة»
فيلمًا
عصريًّا؛ لأنه عالج بمهارة المخاوف الثقافية المتعلقة بالنساء العاملات والنشاط الجنسي
والوظيفة
والخيانة الزوجية. وقد رأى كثيرون، في وقت من الأوقات حين كانت «القيم العائلية» تحظى
باهتمام
وطني، أن علاقة دان جاليجر (مايكل دوجلاس)،
١ وهي علاقة جاءت بشكل غير متعمد على ما يبدو، تصور النتائج الخطيرة للنشاط الجنسي
المحظور، وشملت الاحتمالات في حالة دان حدوث حمل غير مرغوب، والاغتراب عن أسرته، والمخاطر
التي
تعرضت لها حياته وحياة من يحبهم. واعتبرت هذه النتائج تلميحًا، أيضًا، للأوبئة الثقافية
الأخرى
المرتبطة بالموضوع، ومن أبرزها أزمة الإيدز التي تتفاقم بسرعة. باختصار، إذا كان الخطاب
السياسي
الاجتماعي في فترة حكم ريجان
٢ وصم الخيانة الزوجية بصفات امتدت إلى أبعد بكثير مما هو منزلي، فقد وُصِف فعل دان
الأناني بأنه تهديد لمؤسسة الأسرة ككل، للأساس الراسخ الذي يُعتقَد أن الأمة ترتكز عليه.
وكان
من الصعب في الحقيقة تجاهل حكاية أخلاق الأسرة.
وقد أثار «الجاذبية المميتة» اهتمامًا بما اعتُبِر تشبُّعًا بسياسات النوع
gender؛ ويعود الفضل في ذلك لتوقيته ومعالجة ألِكس فورست (جلن كلوز)،
٣ امرأة عاملة ترفض التخلي عن دان بعد أن قضيا معًا عطلة نهاية أسبوع، وقد اعتُبِر
الفيلم على نطاق واسع تعليقًا على فشل الموجة الثانية من الحركة الأنثوية
feminist. وبالتالي، حقق تميُّزًا ملتبسًا باعتباره من المنتجات الثقافية الأولى التي اعتبرت
على نطاق واسع جزءًا من «رد الفعل المناهض» للأنثوية. وأثار تأكيد الفيلم على الأخطار
غير المتوقعة لتحرر الأنثى ضغينة هائلة، وخاصة بين أنصار الأنثوية الذين وجدوا
فيه صورًا مهينة للنساء. وتبرهن إحدى النوادر على أنها ذات مغزًى: بعد عرض الفيلم بوقت
قصير، وصفت
الناقدة آمي توبين، وهي كاتبة في «صوت القرية»، محادثة بينها وبين لورا مولفي
٤ التي ربما يُعتَبر مقالُها «المتعة البصرية والسينما الروائية» مقالًا يحمل بذور نظرية
السينما الأنثوية. وتوبين المحبَطة تحاول أن تشرح لمولفي السبب الذي جعلها تشعر ببشاعة
شديدة وهي
تشاهد «الجاذبية المميتة»، قالت مولفي لتوبين، ولم تكن تعرف أن أدريان لان مخرج الفيلم،
إن الفيلم
الوحيد الذي جعلها تشعر بذلك الشعور السيئ كان «تسعة أسابيع ونصف
٥» وهو عمل آخر من أعمال أدريان. تشرح توبين: «إن إحساس المرأة بنفسها في عالم لان
دلالة على قيمتها في أعين الرجال» (١٩٨٧م: ٩٠). وتؤكد قدرة «الجاذبية المميتة» على اختراق
نفسية
حتى أمهر المشاهدات، التأثير الذي يتجاوز نصَّ الفيلم؛ باختصار، رحب المشاهدون بفيلم
«الجاذبية
المميتة» وهم يدركون أن الأبعاد المهمة للنوع والنشاط الجنسي كانت مهدَّدة بالضياع على
الملأ.
تحول الحديث أكثر، والجدل حول الفيلم يصل إلى قمته، إلى موضوع عداء امرأة عاملة مهووسة
في
«الجاذبية المميتة» لأسرة صغيرة يسود بينها الوئام، وابتهاج الأسرة بالنصر، مع أن الانتصار
القاتل
أكد بدوره على أهمية القيم «التقليدية». ولا تمثل ألِكس مطارِدةً مصابةً بالذهان فقط،
لكنها تمثل
أيضًا — بشكل نموذجي تمامًا — «امرأة يائسة» أعاق طموحُها المهني نجاحها في الزواج، وتركها
تحسد متع
الزواج التي توجد في المحيط العائلي. وبهذه الطريقة وضع الفيلم ماضي النزعة الأنثوية
feminism ومستقبلها في بؤرة اهتمام الأمة، ويعود الفضل في ذلك
خاصة إلى حقيقة أنه أكد على الزواج والإنجاب والوظيفة باعتبارها مسائل تخص كل النساء.
ومع أن
النتائج الراسخة لهذه المناقشة لم تكن واضحة تمامًا في أواخر الثمانينيات، إلا أن الفيلم
كشف عن
قدرة خارقة على اختراق النساء، وبشكل أوسع، على تشخيص الاستثمارات الثقافية المتنافسة
في مفهوم
«العمل» ومفهوم «الأسرة». وقد أثبتت هذه الفروق أنها كاشفة؛ حيث صار هذا التقسيم، في
السنوات
التالية لعرض الفيلم، نموذجيًّا إلى حدٍّ بعيد في عصر ما بعد الأنثوية.
٦
يستمر الصعود الهائل لشعبية الفيلم في ١٩٨٧م حتى يكفل، في الحقيقة، وضعه المميز في
المشهد
الطبيعي لماضي ثقافة وسائل الإعلام الأمريكية وحاضرها. وينسب إلى الفيلم، ضمن إنجازات
أخرى، أنه
بدأ جنسًا فنيًّا جديدًا في السينما، يعرف باسم «الإثارة الشهوانية»،
٧ وقد أطلق عليه هذا الاسم؛ لأنه يهتم بالجنس والعنف بالقدر نفسه، كما يقدم أيضًا
الفرصة والتفسير لينصهرا معًا بوضوح. وكثيرًا ما يُستشهَد بفيلم «الجاذبية المميتة» كنصٍّ
أصلي،
ويُشار إليه، ويُحاكَى بطُرقٍ أخرى، وقد دخل مصطلح «غلاية الأرنب» المعجم الشعبي للدلالة
على ولع
ألِكس بوسائل مبتكرة للانتقام، ووصف موجز للنساء اللائي يرغبن في اللجوء إلى أساليب سادية
للإعلان
عن وجودهن لأحبابهن الحاليين أو السابقين. بينما يشار إلى صورة غلاية الأرنب في الثقافة
العامة
بصورة تثير الغثيان، واعتُبِرت دائمًا ردًّا على اتخاذ قرارات رومانسية بائسة، وخاصةً،
تحذيرًا
للرجال من مصادقة امرأة حادة، خشية أن تُعمِي الجاذبية والإثارة الجنسية المرءَ عن قدراتها
الشريرة. ويواصل «الجاذبية المميتة» الصمود كحكاية تحذيرية بامتياز، حكاية يبقى تأثيرها
الرهيب
على ليبيدو الذكر أسطوريًّا. في «الأرق في سياتل» (١٩٩٣م) يقول سام بلدوين (توم هانكز)
لابنه:
٨ «حسنًا رأيتُه وقد أفزعني بصورة رهيبة. أفزع الجميع في أمريكا بصورة رهيبة!» كما لو
كان الاحتفال في ديسمبر ٢٠٠٧م بمرور عشرين عامًا على عرض «الجاذبية المميتة» يؤكد على
هذه العبارة،
فقد احتفل ببث مباشر من الأسوشيتد بريس واقتُبِست مقولة جلن كلوز: «ضرب ذلك الفيلم على
عصب بالغ
الهشاشة. كره أنصار الأنثوية الفيلم وكان ذلك بمثابة صدمة لي … لكن ألِكس تُعتَبر بطلة
الآن. وما زال
الرجال يأتون إليَّ ويقولون: «أفزعْتِني بصورة رهيبة.» ويقولون أحيانًا: «أنقذْتِ زواجي.»»
(هارتفورد كورانت، ٢٠٠٧م،
D2).
٩ تستشهد كلوز، متعمدة أو غير متعمدة، بفيلم «الأرق في سياتل»، مقدمة بالفعل قاعة مليئة
بالمرايا تؤكد وضع ألِكس كشخصية تتأرجح بين الحقيقة والصور القصصية. هكذا تعيش ألِكس
فورست
نموذجًا طيفيًّا في كل من العالمَين الحقيقي والمتخيَّل، وهما عالمان يؤثِّر كلٌّ منهما
في الآخر
بالتبادل. توضح أيضًا صورة ألِكس التي يمكن أن تظل تدفع الرجال نتيجة الخجل إلى الإخلاص،
مدى توغل
«الجاذبية المميتة» في وعي الأمة نصيرًا لنجاح الأسرة واستقرارها، وكثيرًا ما يقدِّم
الفيلم
مؤشرًا ثقافيًّا يقيس المشاهدون في الماضي والحاضر علاقاتهم على طيفه. وحتى اليوم تعبر
مواقع
المعجبين على الإنترنت بشكل جديد عن استحقاق دان للَّوم، وتقدم تبريرات لردود أفعال ألِكس،
وتتنازع بشأن مسائل الإخلاص الجنسي.
يسعى هذا الكتاب إلى الاعتراف بهذا التاريخ المعقَّد، باحثًا عما يجعل «الجاذبية المميتة»
عنصرًا ثابتًا، ويبقى عنصرًا ثابتًا، في مشهد السينما الأمريكية. ينتقل الكتاب من تحليل
الخصائص
الشكلية للفيلم والموتيفات الرئيسية (الفصل الأول)، إلى مكانته كجنس فني هجين (الفصل
الثاني)،
ويصل إلى الاهتمامات الثقافية في فصوله الثلاثة الأخيرة. يتناول الكتاب، بصور مختلفة،
المناظرة
الأنثوية التي أحاطت بالفيلم في الثمانينيات (الفصل الثالث)، وقضايا النشاط الجنسي والزنا
(الفصل
الرابع)، والتأثير المستمر للفيلم على ما بعد الأنثوية (الفصل الخامس)، ويعرض الاهتمام
بفيلم
«الجاذبية المميتة» كفيلم نجح إقحامه في المناظرات الاجتماعية السائدة في وقته في صياغة
المصطلحات
التي فُهِمت بها القضايا الثقافية، وخاصة الأنثوية، لسنوات منذ ذلك الوقت. وربما يعود
ذلك إلى أن
«الجاذبية المميتة» يدفع الثقافة الأمريكية إلى مواجهة بعض أعمق الأسئلة في الحياة الحديثة،
يطلب
من المشاهدين تأمل ما يشكِّل عملًا غير خلقي، وإعادة النظر في المسئوليات والالتزامات
التي يدينون
بها لأسرهم، وتقدير الاحتياجات المتصارعة للأمان والمغامرة أحيانًا، وفحص الكيفية التي
يتم بها
تخيُّل العلاقات بين النشاط الجنسي والألفة والمشاركة، وتعزيز هذه العلاقات بعد ذلك.
يؤكد وضع
«الجاذبية المميتة» بوصفه غلاية أرانب أنه سوف يرتبط دائمًا بعمل مهووس من أعمال الانتقام
والعقاب، إلا أن هذا الكتاب يسعى للتقليل من هذه السمة لصالح فحص التعليق الأكثر تعقيدًا
الذي
أحدثه الفيلم حول النشاط الجنسي والأخلاق والزواج والمسئولية الناتجة عن العلاقة بينها.
ويفحص
الكتاب اللحظات الفريدة من الهلع أو اللذة التي اشتهر بها الفيلم، ويقدِّرها، يفضل مع
ذلك مناقشة
الفيلم كموضوع ثقافي، موضوع تدخَّل باستمرار في الاعتبارات التي نُسيِّر بها حيواتنا.