دفعت الصور البارزة للغرائز الأساسية والرغبات الخبيثة ونتائجها القاتلة في «الجاذبية
المميتة» — وعدد من الأفلام المقلدة التي سارت في رَكبه — دفعت النقاد إلى أن ينسبوا
لفيلم
«الجاذبية المميتة» أنه أسَّس جنسًا سينمائيًّا جديدًا يوصف بشكل مناسب باسم «الإثارة
الشهوانية».
وفي تعليق يتوافق مع منطق النشاط الجنسي الذي يؤسس الإثارة الشهوانية، وصفه دوجلاس كيسي
٢ بأنه شكل «يتداخل فيه الرغبة والموت» (٢٠٠١م: ٤٤). وتلاحظ ليندا روث وليم
٣ أيضًا مستشهدةً بدور «الجاذبية المميتة»: «بعد نجاح «الجاذبية المميتة» أصبحت كلمة
«مميتة» مرادفة للجنس الفني ولم تعد كناية عن «المصير» (حتمية القدر) بل كناية عن الجنس
المميت»(٢٠٠٥م: ٩). إلا أنه رغم التأكيدات العديدة بأن «الجاذبية المميتة» يخلط بشكل
مؤثر بين
الصور الجنسية والإثارة وبالتالي يكون النص الأصلي
ur-text
بالنسبة للإثارة الشهوانية، ويشير الاسم جزئيًّا فقط إلى دمج الأجناس السينمائية، وهو
دمج يوصف
أحيانًا بالسينما السوداء الجديدة،
٤ والميلودراما، وسينما الرعب. ونضع في الاعتبار أن تمركز الفيلم حول بطل سلبي تغويه
وتسيطر عليه امرأة شقراء غامضة في موقع في مدينة يومئ بوضوح إلى السينما السوداء؛ ومن
ناحية أخرى،
يستدعي الميلودراما تركيزُ الفيلم على الأسرة، مصدرًا أساسيًّا للصراع والتوتر، وتفضيله
للفضاء
الداخلي. ولأن «الجاذبية المميتة» ينتقي من بين أكثر الأجناس السينمائية شيوعًا وأكثرها
نجاحًا،
فإن الفيلم يتوافق مع رأي كرستين جليدهل
٥ ويجسده، وهو رأي أكاديمي في السينما يرى أن كل الأفلام تساهم «في أجناس فنية من نوع
أو آخر، وعادةً عدة أجناس مرة واحدة» (١٩٩٩م: ١٤٧).
الميلودراما والموسيقى والنوافذ
ترتكز الميلودراما السينمائية على استراتيجية التعبير البصري المتصاعد؛ تنحرف الحالات
العاطفية المتطرفة عبر الخصائص المسرحية والوضع والملابس ومكان التصوير ليتم التعبير
عن المشاعر
التي لا تستطيع الشخصيات التعبير عنها، أو لن تستطيع التعبير عنها. وكثيرًا ما تؤدي هذه
الحساسية
الميلودرامية إلى إعداد للمشهد
٧ لا يكون واقعيًّا بالتأكيد أو جليًّا بطريقة ما، وتعرف الأعمال الميلودرامية
النموذجية بموسيقاها الطنانة، وألوانها البراقة، ومواقفها المعبرة. ومع أن لفيلم «الجاذبية
المميتة» بشكل يقبل المناقشة مظهرًا مقتضبًا غير مبالغٍ فيه، إلا أنه كثيرًا ما يسقط
المشاعر على
أشياء جامدة (خاصة التليفونات والمياه) وهي بدورها تعبر عن حالات متطرفة من العاطفة واليأس.
وكما
يكتب جيفري نويل سميث:
٨
ما يميز الميلودراما، بمعناها الأصلي ومعناها الحديث، الطريقة التي يتم بها التعبير عن
الإفراط في المشاعر. المشاعر المكبوتة التي لا يمكن أن تتكيف عمليًّا … يتم التعبير
عنها
تقليديًّا بالموسيقى، وفي حالة الفيلم، بعناصر معينة في إعداد المشهد. أي إن الموسيقى
وإعداد
المشهد لا تُصعِّد عاطفيةَ عنصرِ فعلٍ بل تحل مكانه إلى حدٍّ ما.
(١٩٩١م: ٢٧٢)
التليفون، كما أوضحنا من قبل، هو العنصر الأساسي في إعداد المشهد في «الجاذبية المميتة»،
وهو
مستودع لكل مشاعر دان المكثفة والمضغوطة، وهي مشاعر تتراوح من الإحساس بالذنب إلى الخوف
من
الفضيحة إلى الانزعاج من إصرار ألكس. يعبِّر الرنين المزعج الملحُّ عن مأزق دان، المحبط
جدًّا،
وهو إحساس لا يستطيع أن يفضي به إلى أسرته. لا يعبر دان بالكلام عن يأسه إلا مع أصدقائه
أو
البوليس؛ حيث يدل استخدامه للمصطلحات المقنَّعة والتعبيرات الملطِّفة والنبرات المنخفضة
على خوفه
من الفضيحة. ويعبِّر التليفون، في الوقت نفسه، عن الطاقة العنيفة التي تتمتع بها ألكس،
وشكواها من
أن لا أحد يسمعها، وإلحاحها على أن تُسمَع. التليفون، بالنسبة لها، بديل للكلام؛ لأنه
حتى حين لا
تقول ألكس شيئًا في هذه المكالمات فإن الاقتحامات العنيفة لهذه المكالمات تديم إرادة
ألكس
وتفرضها. بهذه الطريقة، ويرتبط استخدام ألكس للتليفون مع رأي ج. ب. تيلوت
٩ بأن التليفون يمثل الرغبة ويحبطها في الوقت ذاته؛ يكتب: «يجسد التليفون بشكل خاص
الرغبة وقيودها، الدافع إلى الاستحواذ أو التملك أو التحكم في الآخرين وفي أشياء أخرى،
والإحساس
بما استحوذنا عليه أو تملكناه بالفعل أو تحكمنا فيه بالطبيعة المتأصلة في الرغبة» (١٩٨٩م:
٥١).
وربما يكون التليفون، في الحقيقة، أفضل مؤشر في الفيلم للشوق المحرَّم الذي تشعر به ألكس.
وهو
بذلك يعبر عن هذا الإحساس بحدة أكبر مما تعبر هي نفسُها.
تحوِّل الأعمال الميلودرامية العاطفة المفرطة، بشكل متميز، إلى موسيقى، تحل بدورها
محل رغبة
الشخصية. بينما يصور «الجاذبية المميتة» درجة معتدلة نسبيًّا، يؤكد اعتماد الفيلم في
مشهدين
أساسيين على أوبرا بوتشيني «مدام بترفلاي» على صلاته بالميلودراما. في تتابع لقطات المشهد
الذي
تطبخ فيه ألكس مكرونة لعشاء دان يكتشف الاثنان أنهما يحبان بوتشيني. يتحدث دان بحماس
عن خبرته في
الذهاب إلى الأوبرا مع أبيه، الذي طمأنه، وهو في الخامسة، حين انتابه الرعب باكتشاف أن
بترفلاي
ستموت بعد قليل. وكما يعترف دان، كانت هذه واحدة من المرات القليلة التي شعر فيها دان
بحب والده
له. وتعترف ألكس بانجذاب مماثل إلى «مدام بترفلاي»، وتقول إنها تفضلها. ويتضمن ذلك، برغم
عدم
البوح به، إيحاءً بأن وجود دان في شقة ألكس يمثل حالة مشابهة بالنسبة لها؛ ربما تكون
واحدة من
المرات القليلة التي شعرت فيها بأنها محبوبة. مقلِّدة بطلة «مدام بترفلاي»، المحكوم عليه
بالهلاك،
وهي امرأة يابانية تنتحر بعد إغواء حبيبها لها، الجندي الأمريكي، بعد الحرب العالمية
الثانية،
وحملها منه وهجره لها، تقطع ألكس رسغَيها في الليلة نفسها، في توسل يائس لإقناع دان بأن
لا يهجرها.
تعبِّر المأساة المؤثرة في الأوبرا، وقد نُقِلت في لحن رنان مُفعَم بالأسى، عن صدمة ألكس
أيضًا،
وتقدِّم جسرًا بين ألكس وبترفلاي، قرينتها بمعنى الكلمة.
يشي تعبير بوتشيني عن المرأة التي تعاني دائمًا بتصور ألكس لعلاقتها الغرامية، وهو
إحساس
يُنقَل ببراعة خلال تتابع لقطات المشهد الذي يحدث بعد أن تدعو ألكس دان لحضور عرض لأوبرا
«مدام
بترفلاي» في دار أوبرا متروبوليتان. يرفض دان العرض بأدب، وفيما يفترض الجمهور أنها ليلة
العرض،
تنتقل الكاميرا بين ألكس مسترخية على أرضية شقتها، تستمع إلى بوتشيني، والشخص الذي تتعلق
به
يستمتع في سعادة في أمسية تعج بزوجته وأفضل الأصدقاء. وتبقى التذكرتان اللتان لم تستخدما
بجوار
الاستريو في شقة ألكس، والمشهد يدوي بصخب «مدام بترفلاي»، رابطًا التتابعين عبر جسر الصوت.
وهكذا
ينجح دوي الأوبرا في جعل ألكس، مغروسة على الأرضية في قميص أبيض تشعل النور وتطفئه بدون
تركيز،
شاهدًا (إلا أنه بعيد) على ابتعاد دان كثيرًا، إنها وحيدة وقلقة على عكس دان الذي يشارك،
دون
مراعاة لمشاعرها، في ليلة من البهجة العائلية. مرتبطة برغبات ألكس ودوافعها، تحل الأوبرا
محل
صوتها وتعبر بشكل مؤثر عن مشاعر اليأس والهجر التي تعاني منها.
ولأن مشاهد من قبيل هذا المشهد تمنح ألكس صوتًا مجازيًّا، فربما تقدم افتتاحية مدهشة
للمشاهدين لفهم ذاتية ألكس في الفيلم. بينما كرر مبدعو «الجاذبية المميتة» الإعلان عن
إحساسهم
بأنهم أرادوا أن يرى المشاهدون ألكس شخصية جديرة بالتعاطف، إلا أن الفيلم لم يفصح عن
ذلك، وفضَّل
بدلًا من ذلك أن يعزز اندماج المشاهدين مع دان، الذي يظهر عاجزًا ضحيةً لحنقها (غير المبرر
إلى
حدٍّ بعيد.)
١٠ إلا أن الاعتماد على الاستراتيجيات الميلودرامية له تأثير المفارقة، فهي تجهز
المشاهدين على الأقل لمشاركة ألكس مؤقَّتًا في وجهة نظرها؛ حيث يعتبرون ألكس ضحية لرغباتها
المحرمة. تصور الأعمال الميلودرامية أوضاعًا ترتبط فيها الرغبة بموضوع يستحيل الوصول
إليه، ومن
طرق قراءة هذا الجنس الفني ملاحظة أن «الميلودراما تقف في صف تصوير الافتقار إلى القوة
الاجتماعية
والتأثير اللذين يمثلان الوضع الثقافي للنساء» (دوين
Doane، ١٩٩١م: ٢٨٦). بينما تؤكد دوين على أن الأمهات هن اللائي يعانين عادةً في رغباتهن، في
صمت وسرية، إلا أن ألكس تحتلُّ أيضًا هذا الوضع، خاصة وهي تنظر من نافذة المنزل الريفي
لأسرة
جاليجر بعد عودة دان إلى البيت في الليلة التي تصب فيها الحمض على سيارته. بينما يُفترَض
أن
المشاهدين قضوا الدقائق العشر السابقة مروَّعين من عملية التدمير القاسية التي اقترفتها
ألكس
ومُعتدًى عليهم شفهيًّا بالاتهامات المتضمنة في تبجُّحها المسجَّل على شريط، يتحول الفيلم
فجأة من هذه
المهمة التي تقوم بها ألكس، مخرِّبةً بلا قلب، لفترة طويلة تكفي لتصديق مصداقية ألمها.
يتأكد صدق
المشاعر بحقيقة أن تتابع لقطات تنتهي بمشاهدتها عبر النافذة، ودان يُحضِر الأرنب الذي
طال انتظاره
إلى البيت لابنته التي تتشوق إليه. تحدق ألكس، وهي تقف في الخارج، إلى ثلاثي أسرة جاليجر،
الذين
يشكلون سلسلة عاطفية متكاملة، وتبرز الموسيقى التصويرية الموسيقى الكئيبة الرهيبة التي
هي لازمتها
المعتادة. في مواجهة شبح سعادة الأسرة، تتقيأ ألكس وسط الشجيرات الكثيفة. تتحول اللحظة،
فيما يشبه
إلى حدٍّ بعيد المشهد الذي تجلس فيه ألكس وحيدة في البيت مع تذكرتَي الأوبرا اللتين لم
تُستخدَما،
إلى تعليق متعاطف على غير المعتاد على آمالها المحبَطة، إلى إيحاء بأن ألكس، وقد صارت
حاملًا،
تعتل حين تدرك أنه لا موضع لها في تناغم حياة أسرة دان.
كما يبدو على وجه ألكس وهي تنظر من النافذة، يربطها حنينها الصامت بخط طويل من نساء
السينما
اللائي يقفن ويتطلعن إلى ما يقع على الجانب الآخر من الزجاج. تتضمن اللحظات الميلودرامية
النموذجية في هذا المسار: المشهد الأخير الساحر في «ستيلا دالاس» (١٩٣٧م)،
١١ حيث تقف البطلة التي تحمل الاسم نفسه في الخارج في المطر، تشاهد ابنتها وهي تتزوج؛
واللقطات المكررة لكاري سكوت، الأرملة الوحيدة في «السماء تسمح بذلك كله»
١٢ (١٩٥٥م)، تتطلع إلى جيرانها من داخل المنزل الذي صار موضع عزلتها؛ المشهد الذي لفظ فيه
«تقليد الحياة»
١٣ (١٩٣٥م) دليله وهي تتأمل ابنتها من خلف زجاج متجر أطباق، وبيولا تمرُّ داخلَه؛ لأنها
بيضاء الأبعاد لدرجة الاختفاء الذي تشعر به ليزا الصغيرة في «رسالة من امرأة مجهولة»
١٤ (١٩٤٨م)، حين تقف خلف باب زجاجي وتحدق في ستيفان، الذي تحبه طوال حياتها من طرف واحد؛
ولقطة يد فرنسيسكا، ربة بيت من إيوا
١٥ تمسك بباب شاحنة زوجها وهي تنظر من الزجاج الأمامي، بينما روبرت، حبيبها ورفيق روحها،
يبتعد إلى الأبد في «جسور ماديسون»
١٦ (١٩٩٥م). في كل لحظة من هذه اللحظات تقع عين البطلة المشتاقة على الشخص الذي تُكِنُّ
له
مشاعر طيبة، وتعرض في الوقت نفسه استحالة إشباع رغبة البطلة. بينما تتوق كل من هؤلاء
النسوة
بطريقة ما إلى الحياة على الجانب الآخر من تلك النافذة، سواء كانت رغبة في الحرية أم
حياة عائلية
أكثر استقرارًا، في كل حالة يعتبر الزجاج حاجزًا يوضح حالة البطلة، ويمنعها في الوقت
ذاته من دخول
الإطار الذي تراه. كما يحدث في أفراح الطبقة العليا؛ حيث لا تكون امرأة تلقائية وفجة
مثل ستيلا
دالاس مناسبة، لا تقدم حياة بيت دان أي مجال لألكس، المرأة العاملة المحتقَرة، التي يُبرَّر
عجزها
عن المشاركة في سيناريو عائليٍّ دافئ بافتقارها المقابل للحياة العائلية. من الواضح أن
عدم
الملاءمة لدور الزوجة والأم، يرتكز على استبعاد ألكس من المشهد؛ لأن امرأة أخرى تشغل
بالفعل هذا
الفضاء بالمعنى الرمزي والحرفي.
١٧
بدعوة المشاهدين إلى التعاطف مع ألكس، يمكن أن يقال إن الفيلم يخلق توازنًا بين «مختلف
وجهات
النظر، بحيث يكون المشاهد في وضع يجعله يرى المواقف المتقابلة في إطار نظري معين ويقيمها؛
إطارٍ
ينتج عن النظام كله، ومن ثَم لا يمكن أن يتوصل إليه الأبطال أنفسهم» (إلسيسير، ١٩٩١م:
٨٨).
١٨ يعبر المشهد في النافذة عن فكرة إلسيسير عن مواءمة الميلودراما بين آراء متعددة،
وربما متباعدة، بمعنى أن ألكس، في هذه اللحظة القصيرة على أية حال، تصور بشكل إنساني
على غير
المعتاد. وهو من المشاهد القليلة التي يدعم فيها الفيلم وجهة نظرها، ومن ثَم يفتح الباب
لاحتمالية
قراءة بديلة لبعض تصرفاتها الأخرى الأكثر هوسًا. لا تصبح تصرفات ألكس مدمرة مع رغبة في
الانتقام
إلا بعد أن يرفض دان أخبار حملها، ويرفضها في الحقيقة. ومن ثم ربما نرى هذه الأفعال العنيفة
استجابات لخيبة الأمل نتيجة رغباتها المرفوضة تمامًا. كما يكتب جيمس كُنْلون
١٩ عن ألكس: «تدميرها السيارة وطبخها الأرنب اعتداءان على مفهوم الأسرة التي يستبعدها من
الانضواء تحته؛ خطفها إلين ومحاولتها قتل بيث محاولتان يائستان لتنضوي تحته» (١٩٩٦م:
٤٠٩). تفتح
الخطابات الميلودرامية عن الاحتواء والإقصاء طريقة لقراءة الأعمال الانتقامية التي تقترفها
ألكس
للمطالبة بما كان محرَّمًا عليها وسيبقى محرَّمًا.
ويسمح أيضًا فحص «الجاذبية المميتة» بعدسة الميلودراما بقراءة لدان تنتبه إلى أمنياته
وتخيلاته المعوقة. بينما يمكن أن يكون بيت دان مميزًا، كما ذكرنا في الفصل الأول، كبيت
يمتلئ
بفوضى مريحة، تعبيرًا عن رخاء لثراء الذي يستمتع به هناك، يرى إلسيسير أن الأعمال الميلودرامية
تعرض «إحساسًا حادًّا رُهاب الأماكن المغلقة claustrophobia في
الديكور ومكان التصوير» وبدوره «يتحول إلى طاقة مزعجة ومكبوتة تتبدى من وقت لآخر في أفعال
الأبطال
وسلوكهم» (١٩٩١م: ٧٦). بينما يعرض بيت دان حياة سهلة ترتبط عادة بالطبقة العليا في الثقافة
الأمريكية، ينبثق فضاؤه الصغير أحيانًا كفضاء خانق وممل ويحمل طابعًا أنثويًّا، وهي ملاحظة
تعبر
عنها حرفيًّا حقيقة أن الملابس الداخلية لبيث تتناثر في كل أرجاء الحمام في التتابع الافتتاحي.
يسخر الفيلم أيضًا بلطف من الشخصيات بملاحظة أن للتلقائية فضاءً ضئيلًا في سياق حياة
العائلة؛ حين
تنطق بيث بدون تفكير كلمة «خرا» في حالة إحباط حين تأخذ إلين أحمر شفاهها، وإلين ترحب
بوصول
جليستها تغمغم «خرا، خرا، خرا» وهي تقترب من الباب.
يبدو أن الممارسة السلوكية المهذبة تدل على علاقة دان وبيث، لدرجة أن دان يعامل معاملة
الأطفال بديناميكيات الزواج نفسها. أول ما تنطق به بيث في الفيلم: «من الأفضل أن تذهب،
يا طفلي،
سنتأخر.» (بينما إلين أيضًا تجلس في الغرفة تشاهد «لا يمكن أن تفعل ذلك في التليفزيون»،
٢٠ وربما توحي كلمة «طفلي» بأن بيث توجه الكلام إلى ابنتها، لكن إلين لن تذهب على أية
حال.) في الحقيقة، يدل كل ظهور لبيث حتى تغادر لقضاء عطلة نهاية الأسبوع على أنها حيزبون
دمثة
تضيق الخناق على دان، تقول لدان: «لنذهبْ» إلى حفلة الكتاب، قاطعة محادثته مع ألكس، وتشير
أيضًا
إلى الكلب، عندما عادا إلى البيت، وتتساءل: «ألم تنسَ شيئًا؟» يذعن دان على مضضٍ ليجد،
بمجرد أن
ينهي المهمة، أن رغباته الجنسية الواضحة محاصرة بوجود ابنته في سريره؛ وتكون استجابة
بيث لترضية
دان: «لليلة واحدة فقط يا عسل.» أيضًا، حين تنصرف بيث مع إلين في الصباح لقضاء عطلة نهاية
الأسبوع، تطلب من دان بحزم مشيرة إلى الكلب: «لن تنسى أن تمشيه، أليس كذلك؟» (وهو ما
يفعله في
الحقيقة.) بينما كل هذه التعليقات مجرد تذكير، إلا أنها تدل على الطرق التي يُحاصَر بها
دان
«للقيام بالأعمال المنزلية»، وهي مسئوليات تعيق بدورها نزعاته. (تبهجه ألكس بدقة لهذا
السبب؛ بعد
استدعاء بيث له في حفلة الكتاب، تعلق ألكس: «الأفضل أن تذهب بسرعة».)
كما توحي تنبيهات بيث، تتفاقم المهام المرتبطة بهذا الوجود المفعم ﺑ «رُهاب» الأماكن
المغلقة
طالما تم إهمالها؛ وكما لو كانت تأكيدًا لهذه النقطة، تبرز عودة دان إلى البيت في عطلة
نهاية
الأسبوع التي أقام فيها علاقته الغرامية لقطات مصاحبة لكلبه الوحيد. ويكون على دان أيضًا
أن ينكش
سريره ليبدو مظهره وكأنه نام فيه، ويقدم الاسباجتي، التي لم يأكلها، طعامًا للكلب ليغطِّي
حقيقة
أنه لم يأكل في البيت طوال عطلة نهاية الأسبوع. تُلقِي ردود أفعال دان، محكومة بالمحيط
الذي يعيش
فيه، الضوء على حقيقة أن حياته العائلية تعزز هويات — أي حياة زوج مخلص وأب بشعور بالواجب
يأكل
الطعام الذي أعدته له زوجته وينام في سريره — تفتقر إلى المرونة.
يتوافق فن التصوير السينمائي في الفيلم مع هذا الإحساس بالتضييق؛ فكثيرًا ما تزحف
الكاميرا
خلال الدهاليز الضيقة في شقة منهاتن، مؤكدة على ضيق مساحاتها الداخلية. وفي مرات عديدة،
تصور
لقطات طويلة لدان في المدخل، تصور الطرف البعيد للدهليز، معبرة عن رحلته من العام إلى
الخاص
وبالعكس. يشيد بروز الشخصية في المدخل توترًا بين العام والخاص، وتميل الأعمال الميلودرامية
إلى
اعتبار المداخل شفرة لفضاء يتعلق بعتبة المشاعر؛ حيث إنها، وهي في ذلك مثل النوافذ، تفصل
المحيط
الاجتماعي عن المحيط العائلي. يحدد عبور العتبة حيز صراع دان ليتخلى عن مسئولياته العائلية
أو
يستمر فيها، وتتضمن مجرد العودة إلى البيت عودة إلى الهويات العائلية والقواعد والمسئوليات
التي
تستوجبها. (في المقابل، تكاد بيث تختفي غالبًا بصرامة داخل البيت، والمرة الوحيدة التي
يراها
المشاهدون تدخل أو تخرج من المحيط العائلي حين تندفع إلى بيت العائلة بعد خطف إلين.)
يوضح
الانتباه إلى العتبة بين العام والخاص كيف تؤسس البِنَى العائلية، أو يُفترَض أن تؤسس،
الرغبة؛ حيث
تُغلَّف الطبيعةُ الأكثر عمومية للعلاقة الغرامية بين دان وألكس في اللحظات التي قضياها
في نادي الصلصة،
٢١ وخاصة في مشهد المصعد الشهير حين تلحس ألكس عضو دان بين الأدوار.
قراءة الفيلم باعتباره ميلودراما يقدم فيه الفضاء الداخلي توافقًا واضحًا مع إحساس
دان
بالتضييق تصبغ أيضًا علاقته الغرامية بأساس عقلاني يفتقر إليه الفيلم بدون ذلك. وربما
نتساءل،
كمشاهدين، عن صدق عبارة دان بأنه محظوظ؛ لأنه سعيد جدًّا في زواجه. كما تستفسر ألكس:
«إذن ماذا
تفعل هنا؟» إذا كان دان راضيًا جدًّا عن علاقته، لماذا يخون؟ ومن ناحية أخرى، يفترض طرح
مثل هذا
السؤال أن الرغبة تخضع لمنطق ربما لا تخضع له؛ حيث إن تشريع الجنس المسموح به في الزواج
لا يمنع
الانجذاب والاستثارة من المغرِيات الأخرى. إلا أن قراءة المحيط العائلي لدان كما يفعل
شخص يعاني
ضمنًا من رُهاب الأماكن المغلقة، يسمح باحتمال بأن تكون مفاتيح دافع دان كامنة في تقلبات
الحياة
الأسرية. إذا كانت الدوافع السيكولوجية المستترة لعدم التوافق العائلي تعبيرًا صريحًا
مرفوضًا
نتيجة الخوف من تداعي نموذج «الأسرة السعيدة»، يمكن أن تُعتبَر العلاقة الغرامية عودة
عرَضية
للمكبوت، بحيث تفشي الرغبات الشهوانية التي تتطلب القمع تحت مظلة الزواج الأحادي.
إلا أن هذا التمرد يدوم فترة قصيرة؛ حيث لا تقوم ثورة دان، التافهة، ضد هذه البِنَى
إلا بتذكيره
بقيمة هذه الهويات وبمدى عدم استقرارها، وبمدى رغبته في الالتزام بها حقًّا. توجد في
الحقيقة، بعد
محاولة انتحار ألكس مباشرة، لقطةٌ لدان ينظر إلى الخارج من نافذة شقتها إلى شارع المدينة.
وحيث
يُجبَر دان على بقاء الليلة مرة أخرى، يمثل تحديقه بوضوح رغبة في الخروج من شقة ألكس؛
هذا المشهد
على النقيض مباشرة من تطلع ألكس في شوق وهي تحدق في حياته. ويوحي المشهد أيضًا بأن العلاقة
الغرامية ضيقت عليه الخناق أكثر مما ضيقته عليه أسرته في أي وقت، بعد أن تعلن ألكس عن
حملها، يبرز
الفيلم لقطةً أصبحت مألوفة للكاميرا وهي تتحرك في فضاء ضيق. إلا أن الكاميرا، هذه المرة،
تزحف
خلال تكدس مكتبة القانون في مكتب دان؛ حيث يعترف همْسًا بورطته لأقرب أصدقائه. بينما
تعبر اللقطة
مرة أخرى عن إحساس دان بالوقوع في المصيدة، لا يكون الصائد بوضوح أسرته بل ألكس، المتطفلة
على
الأسرة البريئة التي اعتبرها أمرًا مُسلَّمًا به. ثمة تأكيد آخر لكل ما يضع دان في خطر،
يضمه مشهد
تالٍ وهو يدمع حين يشاهد ابنته تمثل مشهدًا مقترحًا يعتمد على قصيدة لونجفيلو «مغازلة
مايلز ستاندش»،
٢٢ والأسرة تزور والدَي بيث. معانقًا ابنته، يقول لها دان الذي تقترب منه الكاميرا:
«أحبك كثيرًا.»
يبقى دان، إضافة إلى وقوعه الواضح في المصيدة وأسفه، مشلولًا إلى حدٍّ بعيد خلال
القصة: ألكس
هي المحرضة على العلاقة الغرامية والمعتدية، وهي التي تطارد دان أيضًا في أعقابها. ويؤكد
نزولُ
دان إلى وضع المتفرج السلبي حتى في حياته الخاصة وضعَه باعتباره «ذكرًا غير مؤثر» في
السجل
الميلودرامي، وعجزه المفرط: يفرك إصبع قدمه في المشهد الأول، وتصل قطعة من الجبن إلى
أنفه وهو
يأكل في لقاء عمل، ويكافح مع مظلة عنيدة أثناء تدفق المطر، ويفشل في لفت انتباه النادل
في المطعم
وهو يتناول طعام العشاء مع ألكس، ويتعثر وهو يأخذها إلى غرفة النوم ليمارس الحب معها،
ولا يستطيع
أن يرقص، ويتمايل بشكل غير منتظم. إضافة إلى ذلك، تفوقه ألكس براعة حين تتبع نوبته القلبية
المفتعلة بفبركة قصة عن أن والدها مات بهذه الطريقة، وترفضها فجأةً باعتبارها زائفة حتى
لو تبين
فيما بعد أنها حقيقية. بينما هذه في الأساس تفاهة عارضة، إلا أن دان عرضة لزلات أكثر
خطورة من
قبيل أنه يفشل في حماية أسرته من الاقتحامات المتكررة التي تقوم بها ألكس، ولا يغلق بيته
في ويستشيستر
٢٣ إلا بعد أن تكون ألكس بداخله فعليًّا، أي أنه يغلق عليها عمليًّا في الداخل، لا في
الخارج. وكما يكتب مرسير وشينجلر،
٢٤ وهما يعيدان صياغة ما كتبه نويل سميث: «ما يلفت الانتباه في شخصيات الميلودراما العجز
عن القيام بحل مشاكلهم»، وهو رأي يناسب وصف دان (٢٠٠٤م: ٢٢).
وتوحي قراءة نهاية الفيلم من خلال الميلودراما بقراءة أخرى لما يُفترَض أنها موافقة
محافظة في
الفيلم على القوة الراسخة لقيم الأسرة. يغلق الفيلم على صورة في إطار لأسرة جاليجر، تبرز
بيث ودان
وإلين مبتسمين، مجمدة في لحظة، تؤخذ الصورة لتدل على العودة إلى الوضع السويِّ، إلى ميثاق
القوة
الباقية للأسرة. إلا أنه بقراءة الأحداث السابقة بالعودة إلى الصورة، يمكن أن نقول إن
الصورة
تحتوي في داخلها تدمير ما حققه نموذج الأسرة السعيدة. كما يكتب جيمس كنلون: «لا يشحب
العنف في
المشهد السابق من وجداننا، وهكذا نرى، كما في إفشاء مزدوج، أيقونة العائلة والدماء تسيل
تضحية من
أجلها. إنها صورة مروعة جدًّا» (١٩٩٦م: ٤١١). تشهد هذه الصورة، بدل أن تعتبر نهاية سحرية،
على
الأسرة مكانًا للكبت والعنف وتتضمن أن ما تم العمل من أجله مؤقتًا لن يتم تدميره.
تتضمن أيضًا قراءة الصورة بهذه الطريقة أن الفيلم يوظف «نهاية سعيدة زائفة»، التفاف
يعبر عن
إذعان الفيلم لتقاليد هوليود، وفي الوقت نفسه يتسم الحل الذي يقدمه بالسذاجة. كما تلاحظ
سارة هاروود،
٢٥ الصورة قديمة، من الواضح أنها التقطت قبل علاقة دان. تكتب: «لكي «تصلح» القصة هذه
الأسرة عليها أن تعتمد على استدعاء لحظة سابقة، تثبت الوقت كما تثبت الدمار. لنصدق عودة
الأسرة
إلى سابق عهدها، علينا أن نصدق أن الساعة يمكن أن تعود إلى الوراء، أن الزمن يمكن أن
يتوقف،
ويُعكَس» (١٩٩٧م: ١). بينما يمكن للميلودراما أن تقدم ما يعرف بالنهاية السعيدة، تعترف
هذه النهاية
بأنها تحقيق رغبة وليست حقيقة يمكن التسليم بها؛ لأنها تتحدى منطق الزمن. كما قال أستاذ
الميلودراما دوجلاس سيرك: «أنتم لا تصدقون النهاية السعيدة ولا يفترض حقًّا أن … إنكم
تشعرون
بأنها مستحيلة، حتى لو جاءت في مشهد بسيط وقصير ومكشوف جدًّا يكون التحول السعيد مطلوبًا
بعده.
يبدو كل شيء على ما يرام، لكنكم تعرفون أنه ليس كذلك» (هليداي
Halliday، ١٩٧٢م: ١٣٢). مقروءة بهذه المصطلحات، لا تضمن بحال من الأحوال الصورة الأخيرة للأسرة
التي التأم شملها من جديد، معزولة في إطار، لا تضمن وحدة وظيفية سعيدة. وباستخدام مصطلحات
إلسيسير، تعتبر الصورة «مزجًا سينمائيًّا متناغمًا» مع القصة التي تُروَى، وتعليقًا ساخرًا
على
عجز الأسرة عن إعادة تأهيل نفسها بعد انتهاك بمثابة كارثة. ومن المحتمل أكثر بكثير من
السعادة
الأسرية الهائلة التي تنعم بها أسرة جاليجر أن يبدو تتابع الأحداث على النحو التالي:
بعد موت
ألكس، تستاء بيث من دان وتفقد الثقة فيه، وتصاب إلين بهلع نفسي إلى الأبد، ويفقد دان
سمعته ومصدر
رزقه ضمنيًّا. يضم الإطار صورة سريالية وفي النهاية لا يمكن دعمها، صورة ربما تكون ساخرة
لا واقعية.
٢٦
الوحوش والميدوزا وسينما الرعب٢٧
يفتح وصف «الجاذبية المميتة» بأنه فيلم «رعب» سبلًا مماثلة للتفكير في الكبت والعمى
المتعمَّد، الضروريَّين للحفاظ على نموذج الأسرة السعيدة، وخاصة حين يتعلق الأمر بوصف
ألكس بأنها
«الوحش» الكلاسيكي الذي يهدد الأسرة ويجب استئصاله نتيجة لذلك. كما تلاحظ جوديث وليمسون
Judith Williamson: «الجاذبية المميتة أساسًا فيلم رعب على أرض ميلودراما اليوبي؛
٢٨ تصبح بنيته كلها واضحة دون تفكير بمجرد أن تدرك أن الدور الذي لعبه الشيء/الفقاعة/البقة
لعبته امرأة بيضاء غير متزوجة»
(١٩٩٣م: ٦٦). ومن اللافت أن الفيلم يتحول إلى فيلم رعب في
نصفه الثاني، حين تتحول ألكس إلى مهاجِمة يبدو إيقافُها مستحيلًا. كما كتب ديفيد أنسن
في متابعة
في «نيوزويك»، فقط بعد اكتشاف حمل ألكس يكون من الظاهر أنها تنجرف إلى الحافة، بحيث «تتحول
حالة
الشخصية الغريبة التي تثير التعاطف في البداية إلى وحش سينمائي مكتمل يخرج من «كابوس
في شارع
مديسون
Nightmare on Madison Avenue»» (١٩٨٧م: ٧٦).
٢٩ وبشكل مماثل تلاحظ بولين كيل
Pauline Kael الناقدة
في صحيفة «نيويورك» أنه بمجرد أن تبدأ ألكس التصرف كما لو أن لها الحق في أن تشارك المحامي
حياته «تصبح المجنونة المرعبة في أفلام الرعب» (١٩٨٧م: ١٠٦).
تذعن ألكس، باعتبارها وحش الفيلم، لمبادئ الخسَّة، أي البنية الجسدية والسيكولوجية
التي
تصفها بربارا كريد
٣٠ بأنها أساسية لجنس الهلع. تركز أفلام الرعب على الوحوش الذين يستمدون هوياتهم
الوحشية بعبور غير متعمد للحواجز التي ينبغي أن تبقى منفصلة، على سبيل المثال، الحاجز
بين
الإنساني وغير الإنساني، أو الحي والميت. وطبقًا لرأي كريد، يزخر جنس الهلع بصور الخسة؛
أي
المواد التي تعبر الحواجز وتثير الرعب والاشمئزاز نتيجة لهذا العبور. وتتضمن: الجثة والدماء
والقيء والعرق واللعاب والمخاط ونفاية الجسد والدموع واللحم المتحلل. وفي الوقت ذاته،
يحدد هذا
العبور غير الطبيعي أو غير المرغوب فيه ما يعتبر وحشيًّا؛ كما توضح كريد، في كل أفلام
الرعب،
بصرف النظر عن الحواجز التي يتم عبورها: «لا تتغير وظيفة الوحشي: تحدث مواجهة بين النظام
الرمزي
وما يهدد استقراره» (١٩٩٣م: ٤٠). قضية فيلم الرعب استئصال الخسيس أو تأكيد الاستقرار
مرة أخرى
بالتخلص من الوحشي، بالرغم من أن الخسيس لا يُهزَم أبدًا هزيمة كاملة، ومن ثَم لا يُستأصَل
أبدًا
بشكل مُرْضٍ. (وكما يوضح أصحاب نظريات الرعب، ترجع هذه العودة إلى حقيقة أن الوحوش المرعبة
نادرًا ما تبقى ميتة.) تنطبق مفاهيم مماثلة على «الجاذبية المميتة»، وتعزز، خاصةً، ارتباطًا
بين
ألكس وعبور حواجز لا يكون عبورها مرغوبًا فيه؛ لأنها تسبب تلوثًا ربما لا يمكن إزالته
بشكل كامل
أبدًا. إن كل كينونة ألكس، كما تبين في الفصل السابق، خسيسة بطريقة ما؛ لأنها تقتحم بيت
جاليجر،
ومكان عمل دان، وحياته الخاصة جدًّا، بشخصها أحيانًا وبالتليفون أحيانًا. وهكذا إذا كان
هدف
الرعب هو التخلص من الخسيس، لإعادة النقاء والطُّهر إلى سابق العهد بطرد ذلك الذي يفرض
بشكل
قريب جدًّا مواجهة مع الشخص، فإن ألكس بدون شك شخصية خسيسة. وبينما لا تتدفق المواد الخسيسة
بدون مراجعة في «الجاذبية المميتة» كما يحدث في النسخ الأكثر إثارة من أفلام الرعب، إلا
أن ألكس
رغم ذلك تريق الدماء وتتقيأ على حياة أسرة جاليجر حرفيًّا ورمزيًّا. تستدعي أظافرها الطويلة
الحمراء، خاصةً، لون الدم الباهت، وتلطخ وجه دان بالدم أثناء محاولة الانتحار، وتتقيأ
في فناء
بيتهم، وتريق الدماء على أرضية حمامهم النقية، وتخرج أحشاؤها عبر أرضية حمامهم الأبيض.
باهتمام
الفيلم بمحو طقسي للخسيس والقذر يطلب من المشاهدين المشاركة في اعتبار ألكس، بدمائها
وقيئها
المتطفلين، ضيفة غير مرغوبة بدقة.
٣١
يدل شعر ألكس البري المجعد على وحشيتها، وهو مظهر يقودنا إلى مقارنتها بميدوزا، التي
من
المشهور أن رأسها كان يتكون من ثعابين ملتفة وكانت نظرتها تحول الرجال إلى حجارة. وتوحي
مقدمة
رءوس الحيات السامة بامرأة لا تعرف الخوف ويهاجم جمالها الرجال بشكل خطير. يعمق الفيلم
بوعي
التأثير المميت لنظرة الميدوزا في أول ظهور لألكس في الفيلم، حين يراها جيمي (ستوارت
بانكين)
٣٢ صديق دان عبر المطعم وهي تلتفت إليه بنظرة حادة غاضبة. فيعلق جيمي قائلًا لدان:
«إذا كان للنظرات أن تقتل.» وكما تذكرنا سارة هاروود، تنظر ألكس طوال هذا المشهد تقريبًا:
برغم
أننا نرى ألكس في البداية من وجهة نظر دان، إلا أنها تركز على نظرته وتردها (١٩٩٧م: ١٢١).
وبالمثل، حين يجلس دان بجوار ألكس، تنظر إليه في البداية؛ وبعد أن تستدعيه بيث، تتابع
الكاميرا
تحديق ألكس وهي تشاهد دان يغادر الحفلة. إلا أن دان، على عكس جيمي، لا يتحول مباشرة إلى
حجر حين
يواجه نظرة ألكس، من ناحية؛ لأنها تنظر إليه برغبة وليس بحقدٍ. وكما يسخر دوجلاس كيزي،
إن دان
«يجدها مرغوبة؛ لأنها راغبة بحيوية؛ ومن الواضح أن أقفال ميدوزاه تجمده وتحوله إلى شيء
آخر غير
الحجر» (٢٠٠١م: ٥٣). وبرغم أن دان يتحمل المواجهة الحرفية معها، إلا أن إغواء الميدوزا
لا يزال
يمارس وجوده، بمعنى أن حياة دان تتفكك تمامًا في أعقاب العلاقة بينهما. وتثبت هذه الديناميكية
أن دان تحوَّلَ إلى حجر وشُلَّ بسطوة الرعب الذي سببته ألكس.
٣٣
تشبِّه أيضًا تفسيراتُ التحليل النفسي لقوة الميدوزا شكلها بشكل الأعضاء التناسلية
للأنثى،
وتبين كريد كيف تستدعي هذه الخبرة قلق الخصاء.
٣٤ وكما تشرح كريد، توضح مناقشة فرويد للميدوزا أن مفهوم الأنثوي الوحشي «كما يتشكل في
الأيدولوجيا الأبوية المتمركزة حول القضيب وبواسطتها، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمشكلة الاختلاف
الجنسي والخصاء» (١٩٩٦م: ٣٦). وربما يدل ربط الفيلم بين ألكس والسكاكين على قلق الخصاء
الذي
تناقشه كريد؛ حيث تهاجم ألكس دان بسكين في شقتها، السكين نفسها التي تحضرها بعد ذلك إلى
بيت
أسرة جاليجر. وتشارك اندفاعات ألكس للخصاء أيضًا في الحصار المتواصل لتأنيث دان، تتحدث
في
شريطها الذَّمِّي بتبجح ضد ذكورته، واصفة إياه بأنه «شاذ»، وتتهمه حتى بأنه لا يحب النساء.
وبهذه الطريقة، تشكك ألكس في ذكورة دان وتهددها، كما لو كانت تشير إلى أنه مخصي بالفعل
بشكل
ينطوي على مفارقة، إلا أنها تحاول بكل جهدها أن تحافظ على أي رجولة لا يزال يحتفظ بها.
ويتجلى الخوف من الاختلاف الجنسي أيضًا في الاشمئزاز الذي يعبِّر به دان عن القدرات
التناسلية لألكس، وهي إمكانية يدل عليها حملها المفاجئ. تلاحظ كريد أن أفلام الرعب كثيرًا
ما
تكشف عن مخاوف لا شعورية لدى الرجال من الأدوار التناسلية للنساء، وهو إحساس يدعمه الفيلم
بتصوير أمومة ألكس ضمنيًّا بأنها وحشية؛ لأنها ظهرت فجأة لدان (والمشاهدين)، ولأن ألكس
ترفض
توسل دان للقيام بعملية إجهاض.
٣٥ بينما من المعروف أن أفلام الرعب تعاقب النشاط الجنسي غير المشروع، فإن المراهقين
الذين يُقبَض عليهم وهم يمارسون الجنس غير المشروع يُرجَّح قتلهم في تلك اللحظة، على
سبيل المثال:
يتحمل دان المواجهة الجنسية، ويتأخر عقابه ليس إلا. وفي عَقْدٍ تشكلت فيه تلك الأعراف
الجنسية
بالهلع من الإيدز، يكون عقاب دان لتورطه في ممارسة جنسية غير آمنة حتميًّا بصورة مماثلة،
ويتجلى
في حقيقة أن ألكس يُسمَح لها بأن تصبح أمًّا وحشية، أو تهدد بأن تكون كذلك، وتنبع وحشيتها
جزئيًّا
من اليأس الذي تقترب به من هذا الاحتمال. تقول ألكس لدان: إنها في السادسة والثلاثين
وربما تكون
فرصتها الأخيرة في الإنجاب؛ وتكتب كريد، رابطة بين جنون ألكس ودوافعها القهرية للأمومة:
«الأنثى
المصابة بالذهان في «الجاذبية المميتة»، وقد حقق نجاحًا هائلًا، تتبدى مجنونة في النهاية
لاحتياجها الشَّرِه؛ لأن يكون لها طفل وزوج» (١٩٩٣م: ١٣٩).
بينما تذعن هذه النظريات عن الوحشية لما قد يعتبر الآن قراءة أنثوية نموذجية لفيلم
«الجاذبية المميتة»؛ لأنها توضح التحيُّز الثقافي الذي يتبنى فكرة أن المرأة غير المتزوجة
التي
تجاوزت الثلاثين تكون يائسة وخسيسة، تسمح نظريات أخرى عن الرعب على العكس بأن تُعتبَر
قوة
للتحرر النفسي. تعتمد نظرية روبين وود،
٣٦ وهي نظرية مهمة عن الرعب، على سبيل المثال، على ملاحظة أن المجتمعات الحديثة تتميز
«بكبت فائض»؛ ويوضح أنه إذا ضمن كبت أساسي إنسانيتنا بدفع الناس إلى التحكم الذاتي، وعرض
الأفكار، والتواصل مع الآخرين، فإن الكبت الفائض «يجعلنا رأسماليين بطريركيين برجوازيين
نميل
للجنس الآخر في ظل الزواج الأحادي» (١٩٨٦م: ٧١). وبالتالي، يتم التبرؤ من الطاقة الجنسية
الزائدة
التي لا يمكن أن تسير في مجرى الزواج الأحادي، ويتم إسقاطها على الآخر؛ حيث «تُكذَّب،
أو
تُرفَض، أو تُباد إن أمكن» (١٩٨٦م: ٧٣). وفي قراءة من هذا القبيل، لا يمكن أن تُكبَت
الطاقة
الجنسية والإبداع، أو يُستأصَلا تمامًا؛ وبدلًا من ذلك يعودان في صورة الوحش، أو الآخر،
الذي يهدد
«الحالة الطبيعية.» ويمهِّد هذا التنظيرُ بشكل مبتكر الطريقَ إلى قراءةٍ للوحش أكثر تعاطفًا،
وبالتالي إلى مزيد من القراءات الوحشية للطبيعي؛ حيث إنها تحول فجأةً الطبيعي إلى مَن
يسقطون
الرغبات والدوافع غير المرغوبة على الآخر؛ إلى ألكس في هذه الحالة. تبدو ألكس، مقروءة
طبقًا
لهذه النظرية عن الرعب، كارثةَ الكبت الفائض، القوة التي تكفل وضع دان بوصفه رأسماليًّا
بطريركيًّا برجوازيًّا يميل للجنس الآخر في ظل الزواج الأحادي. وهكذا توجد ألكس بوصفها
نتاجًا
أو فنتازيا لهْو دان،
٣٧ ومن تلبي رغبته في هروب رمزي من نظام اجتماعي يقمع الجنس.
٣٨
تبرر حقيقةُ ضرورةِ إنكارِ الرغبة المفرطة وصفَ الفيلم لألكس (وخاصة نشاطها الجنسي)
بأنها،
باستخدام كلمات وود: «منحرفة ووحشية ومفرطة» (١٩٨٦م: ٩١). يتوجه هذا النشاط الجنسي ضد
النشاط
الجنسي الزوجي الدمث الذي يبدو أن دان وبيث يستمتعان به، إلا أن انحراف المواجهة الجنسية
بين
دان وألكس وإفراطها، طبقًا لنموذج وود، هما نتيجة منطقية للكبت الفائض. يمثل الهجوم على
الحرية
الجنسية لدان حالة ضرورية للزواج الأحادي، إلا أن العلاقة الغرامية التي تبدو غير قابلة
للتفسير
تؤكد وجود الرغبات التي تفلت من الاحتواء في سرير الزوجية وتثبت حقيقة أن الزواج الأحادي
يتأسس
على الكبت. وفي الوقت ذاته يتعرض مَن يثيرون العواطف، مثل ألكس، لخطر التدني إلى وضع
الآخر
الوحشي؛ حيث يطلقون العنان لكل المحاولات الثقافية التي يصعب كبتُها. يحل استئصال ألكس
مشكلة
رغبات دان غير الزوجية، حتى برغم أنها قد تكون العامل المساعد (لكن من الصعب أن تكون
المصدر الوحيد) لرغباته الخائنة.
إذا كانت ألكس كارثة الكبت الفائض، فإن وحشيتها تُعتبَر اتهامًا لدان وحياته البرجوازية
لا
اتهامًا لعواطفها التي لا يمكن كبحُها. بصورة أشمل، ربما يقال إن الفيلم يلقي الضوء على
الطبيعة
المنحرفة لثقافة تربط بقوة التقدم الاجتماعي والمواطنة وحالة وظيفية صحية بالتعهدات الشخصية
في
الزواج والزواج الأحادي. وفي هذا النموذج يبدو المجتمع البرجوازي الذي يحيا فيه دان أكثر
انحرافًا من الاندفاعات الشهوانية لألكس؛ حيث تستجيب ميولها لرغبته في تحرُّرٍ طائش يرتبط
باللذة. يرى الناقد جيمس كُنْلون، الذي يعتبر ألكس مجرد قوة تحرُّر، أن علينا أن نمتدح
ألكس لا أن
نذمها؛ لأنها تجسِّد العاطفة المفتقدة بشكل يبعث على اليأس من حياة دان. وكما يصف، بينما
تبدو
الحياة المنزلية لدان مزدهرة، إلا أنها فاترة أيضًا؛ في المقابل: «مع ألكس لا يوجد خلع
ملابس
بصورة عرَضية، لا يوجد تطبيق دقيق للملابس، لا توجد أولوية عملية عما يجب عمله قبل الآخر.
هناك
فقط إلحاح تام لعاطفة، لجسد يتوق بشدة لأقرب طريق لجسد» (١٩٩٦م: ٤٠٥). وبالتالي، يصور
كنلون رفض
دان لألكس بمصطلحات وود، مبرهنًا على أنه «لا يكره ألكس، بل عاطفته، وهي ما يريد لها
أن تموت
بهذا العنف» (١٩٩٦م: ٤١٠). قراءة كنلون لألكس كعودة لعاطفة دان المكبوتة بمثابة تعويض
لألكس؛ حيث
ينسب إليها قوة منشطة. ولأن دان الأضحوكة أضعف من أن يراها بهذه الصورة، فإنه يستبعد
رؤية أكثر
ما يحتاج إليه ومن ثَم أكثر ما يخشاه.
في إعادة التقويم بهذه الطريقة، تظهر ألكس كبشَ فداءٍ لرغبات دان المضادة للمجتمع،
ويكمل
فحصُها الكبتَ واستئصالَ أعمق رغباته. يمكن لقراءة تصحيحية مماثلة لوحشية ألكس أن تصبح
ممكنة
باعتبارها، كما تعتبرها ديبورا جيرمن،
٣٩ إسقاطًا ليس لِهُوَ id دان، بل لِهُوَ بيث. ومثل كريد، تعتمد جيرمن أيضًا على خطاب الخسة،
لكنها تعتبر هذا العبور للحدود محرِّرًا أكثر منه مروِّعًا؛ لأن المرأة الوحشية «تعبر
حدودًا
تضطر نساء أخريات الحفاظ عليها» وتجسد تخيلاتهن عن الهروب من موضعهن إلى الرمزي (١٩٩٦م:
٢٥٥).
وتجتاز ألكس في الحقيقة، على النقيض من بيث المحاصرة بالفضاء العائلي، العام والخاص،
والأماكن
المدنية والريفية. ونتيجة لذلك، تؤمن جيرمن بأنه: «إذا اعتبر المرء الأنثى السيكوباثية
مذلة
الزوجة/الضحية، يكون من الممكن اعتبار هذه المرأة الوحشية تجسيدًا لورطة الأنثى، واستكشافًا
واستمتاعًا مؤقتًا بالأدوار والسلوكيات المتصارعة» (١٩٩٦م: ٢٥٥). وبتعبير جيرمن، تتميز
ألكس
بأنها امرأة لا تعرف الحظر الجنسي، امرأة تأتي وتذهب كما تحب. مع أن الكثير من النقاد
ألقوا
الضوء على الطرق التي تفتقر بها ألكس للتحكم في نفسها، تبرهن جيرمن على أن شخصية بيث
تبدو أكثر
صعوبة؛ لأن حياتها «بطرق عديدة خاوية مثل حياة ألكس» (١٩٩٦م: ٢٥٦). ومن ثَم فإن اعتبار
ألكس مذلة
الزوجة/الضحية تسمح برؤية ألكس متناغمة مع قدرتها على التنقل، وبمراجعة للوصف العام لحياة
بيث
باعتبارها رعوية. كما تقترح هذه القراءة، يثير تحرر ألكس الجنسي الحسد ولا يثير الانحراف،
لكن
لأنه لا دان ولا بيث (الشخصان البرجوازيان) يستطيعان قراءة تحررها بهذه الطريقة، فإنهما
يبيدانها بصورة منظمة.
السينما السوداء الجديدة والمرأة المميتة
بينما يتكرر وصف ألكس بالوحش، إلا أنها تستدعي التماهي بوصفها المرأة المميتة الكلاسيكية،
٤٠ شخصية أيقونية
iconic في السينما السوداء. وفي فيلم
نموذجي من أفلام السينما السوداء، يمارس إغواء الجانب المظلم تأثيرًا قويًّا على البطل،
إغراء
يتجسد بالمرأة الجنسية المميتة المثيرة التي تغويه باقتراف جريمة لمصلحتها. يرحب «الجاذبية
المميتة» بالسينما السوداء، ويقلد غالبًا قوسها السردي بدقة: يستسلم دان، الذكر الضعيف
السلبي،
لإغواء ألكس المرأة المميتة. ويدرك تمامًا، مجرَّمًا بهذا الارتباط، خاصة بعد أن خضع
لها،
دوافعها الأنانية وطبيعتها الشيطانية. وبرغم أنه يعرف أنه يُفضِّل الاستقرار الذي تقدمه
«الفتاة
الطيبة»، زوجته، إلا أن تبعية جريمته تطوقه وتهدد بإفساد حياته. ويعود هذا لالتقاء الظروف
ومتطلبات جنس السينما السوداء، يصف جيمس نرمور
٤١ «الجاذبية المميتة» بأنه واحد من أنجح فيلمين في السينما السوداء من الناحية
الاقتصادية على الإطلاق، والفيلم الآخر هو «الغريزة الأساسية»،
٤٢ وهو أيضًا بطولة مايكل دوجلاس (١٩٩٨م: ٢٦٤).
إن ارتباط الفيلم بصيغة السينما السوداء مبدأ تردد صداه فيما كتبه جيمس دَمِيكو
Damico عن السينما السوداء، قبل عرض «الجاذبية المميتة» بعقدٍ
من الزمن؛ برهن دميكو على أن «النموذج السردي» للسينما السوداء ينص على أن رجلًا «يقابل
امرأة
غير بريئة … ينجذب إليها جنسيًّا وبشكل مميت» (مقتبسة في كروتنك
Krutnick، ١٩٩١م:
١٣٧). يؤسس وجود «الجاذبية المميتة»، ونتائجها التي تعرض لها دان، المسارَ
السردي للفيلم (لدرجة أن تعير الفيلم اسمه) ولهذا يصنف كثيرون «الجاذبية المميتة» بوصفه
من
أفلام السينما السوداء الجديدة، وهو مصطلح يستخدم عادة للإشارة إلى مجموعة أفلام تقلد
بوعي
الأساليب والنغمات والتداعيات التي كانت رائجة في نسخ أربعينيات القرن العشرين. ويبرز
الفيلم،
كما هو الحال في كلاسيكيات السينما السوداء، رغبات دان غير البريئة أيضًا في إعداد المشهد،
ويبرز مواضع المدينة كأماكن تزدهر فيها الجريمة ومذهب اللذة،
٤٣ وهي تداعيات تتبلور في موضع وسط المدينة في حي السلخانة؛ حيث تقيم ألكس. في ١٩٨٧م،
كان هذا الجزء من منهاتن متدنيًّا ثقافيًّا، ويظهر الفيلم الحي جحيمًا ليليًّا يتميز
بارتباطات
صناعية تطغى على الارتباطات العائلية. تغطي شرائح اللحم الشوارع، ويحمل العمال الذبائح
في
الهواء الطلق، تشتعل الحرائق في علب النفايات المهجورة، والدخان يتطاير حول رءوس مَن
يتنقلون
أثناء الليل. وتعبر الدلالة المشئومة عن شهوانية الرغبة وغرائز الجسد، ويرتبط ذلك كله
بألكس.
٤٤ (في المقابل، يسكن دان على ما يبدو في أقصى الشرق أو الجانب الغربي، وهو موضع يدل
على الثراء. حين تنتقل الأسرة إلى ويستشيستر، يحيط العشب الأخضر والأوراق المتساقطة بأبيض
أسرة
جاليجر، في بيت على طراز بيوت المستعمرات. ويرتبط هذا الوضع النقي بدوره ببيث، «الفتاة
الطيبة»،
التي تتميز بصفات كثيرة تجعلها ملائمة للحياة العائلية.)
ومن اللافت أن دان يستسلم لألكس ولرغباته الملحة خارج إطار الزواج في حي السلخانة،
ويحدث
أكثر مشهدين تعبيرًا عن الحب في الفيلم؛ حيث يتحد الاثنان جنسيًّا قرب حوض المطبخ وفي
مصعد
الشحن، في موضعين منعزلين. يستضيف، بشكل مناسب، الوضع المدني المشبع بالبخار في حي السلخانة
«جريمة» الاثنين، إذا جاز التعبير، ويبرز دان وألكس الزنا الذي يقترفانه بمصطلحات شرعية
تمامًا.
يتناولان، قبل بدء العلاقة الغرامية، العشاء معًا في مطعم عام، وأثناء ذلك تدخن ألكس
(علامة
أخرى بارزة على المرأة المميتة) ويتطرق الحديث في النهاية إلى مسألة إن كان ما يفعلانه
صائبًا.
تتهم ألكس دان بأنه «مع فتاة غريبة، يكون ولدًا داعرًا». يردُّ دان على الملاحظة بأن
تناولهما
للعشاء معًا ليس جريمة، وترد ألكس: «ليس بعد.» لكن ماذا يحوِّل ذلك إلى جريمة؟ إذا كانت
السينما
السوداء تهتم بالجرائم الحقيقية (كثيرًا ما تكون جريمة قتل مخططة) فإن خطيئة دان، المرتبطة
بالزواج تبدو صبيانية بالمقارنة. إن اعتبار الزنا جريمة تشبه القتل يتطلب معرفة الحد
الذي ألحت
به أمريكا في عهد ريجان على الإخلاص للعائلة، وعلى فضائل المنزل والبيت. وبينما يُفترَض
أن دان
يعتنق هذه القيم، ويراعيها بشعور بالواجب ويدعم زوجته وابنته، فإنه يشير مرتين في الفيلم
مباشرة
إلى حقيقة أنه لا «يعمل بقانون الأسرة»، ويأتي أحد هذين التعليقين أثناء تناول العشاء
أول مرة
مع ألكس. وهكذا قد يقرأ المرء فعل دان بأنه تعبير عن رفضه الرمزي للاحتياجات المتزمتة
للإخلاص،
كما تتمثل في حقيقة أنه، برغم أنه يُفترَض عمومًا أنه يجسِّد القانون (إنه محامٍ رغم
كل شيء)،
إلا أنه يدنِّس بإرادته عمدًا هذه البنى التي تمثل الإخلاص، ضمن قوانين أخرى.
إلا أن وظيفة دان تمنحه منزلة «رجل عادي»، وهو لقب يرتبط بقوة بصيغة الجنس الفني
في السينما
السوداء. تلاحظ وليمز أن دوجلاس شيء ما من التجسيد المعاصر لفريد ماك موري في «الأمان
المزدوج» (١٩٤٤م)،
٤٥ وهو موظف تأمين تورط في مؤامرة قتل من قبل (٢٠٠٥م: ١٧٩). إلا أن ولتر نيف ودان
جاليجر لا يندمان لأنهما تورَّطا مع نساء مشاكسات، وتؤكد السرعة التي يقرر بها دان الانغماس
في
علاقة غرامية أن الرجل العادي فيه أيضًا جانب شرير، يشبه بطل السينما السوداء الكلاسيكية،
الذي
لا يحتاج إلى قناعة ليقتل زوج امرأة أخرى، أو ليأخذ وضعًا مبهمًا، أو يتورط في صفقة مشبوهة.
من
الصعب أن يكبت دافعه للانتهاك بعمق شديد؛ وبتعبير مختلف، إذا كان الجنس الفني يؤكد على
الرغبات
الكامنة لدى الأبطال، التي لم تتجلَّ بعد، يعرف دان نفسه بدقة بأنه ذلك الحاضن.
٤٦ وكل ما يحدث له ليخون زواجًا يُفترَض أنه مثالي هو ثغرة من زوجته، وعاصفة ممطرة،
وعشاء بدون ترتيب. هكذا يؤكد سلوك دان تنظير فرانك كروتنك بأن المرأة المميتة «تقدم للبطل
فرصة
للانتهاك، وليست ببساطة سبب الانتهاك الذي يقترفه» (١٩٩١م: ١٤٢). باختصار، لا يجعل التناقض
الخلقي لدان علاقته الغرامية ممكنة فقط، لكن ربما يجعلها حتمية.
ولا يشعر دان بالذنب نتيجة طيشه إلا بعد أن يظهر أن للعلاقة الغرامية نتائج وخيمة.
تزعج
القصة المشاهدين بالإيحاء بأن هذه العلاقة الغرامية لا تحتاج إلى النزول إلى هذا المستنقع
من
العنف والاتهام المضاد، وقد استمرت ألكس ببساطة في الصفقة من ناحيتها. وربما يمثل هذا
الافتقار
إلى اليقين، فيما يتعلق بمصير دان، الابتعاد الأكثر بروزًا في الفيلم عن صيغة السينما
السوداء؛
حيث تبدأ السينما السوداء عادة بعد انتهاء الفعل (تتكشف القصة عن طريق الفلاش باك والمعلق
على
الحكاية)؛ وهكذا يخيم إثم البطل والاشتراك في الجريمة على القصة كشاهد صامت، كاشفًا الحكاية
التالية بإحساس بالهلاك الوشيك. وفي المقابل، تبدأ قصة دان بدون ثقل أي من هذا الاتهام
المضاد،
وربما بوعد بالسهولة التي تمت بها العلاقة ونُسيت، لم تتحول ألكس إلى منتقمة.
٤٧
تظهر حقيقة ألكس «فورست»
٤٨ — وهنا ربما نلاحظ ارتباطات تلقيبها بالبري — قادت أو على الأقل اصطحبت دان إلى الجانب
المظلم في اللغة البصرية في الفيلم أيضًا،
خاصة في توزيع الإضاءة التي تبرز الاثنين في رقاد ما بعد المضاجعة. تمر الكاميرا على
إناء قهوة
يغلي على الموقد، وتركز على مروحة سقف، وهي موتيفة أخرى أساسية من موتيفات السينما السوداء.
المروحة التي تجعل الضوء يسقط على وجهَي الاثنين وتبعده عن وجهَيهما، كما لو أنها تربط
إغواء
العلاقة الغرامية مع تناوب الظلمة والإضاءة، وتسجل بدورها الانقسام بين حياة العائلة
(«النقية»
والمضيئة) والعلاقة الغرامية خارج إطار الزواج («الفاسقة» المظلمة.)
٤٩ ويميز هذا المشهد أيضا استثمار الفيلم في أسلوب السينما السوداء؛ لأن السينما
السوداء والكثير من أفلام السينما السوداء الجديدة صُوِّرت بالأبيض والأسود؛ فهي تعكس
تعليقًا
اجتماعيًّا من خلال التناوب البصري للنور والظلمة. وكما استكشفنا في الفصل السابق، تفتقر
الشخصيات في هذا الوسط إلى شرفة خلقية ثابتة، ويترددون في جهودهم لمقاومة الإغواء، وهو
واقع
يتبدل على لوحة الأبيض والأسود التي تنظم ملابس الفيلم ودواخله وإضاءته. ويستدعي تناوب
الظلمة
والنور تيمات السينما السوداء — الخداع والجشع والشبق — عبر ما تلجأ إليه من أجل أساليبها
البصرية.
وإذا كان دان يلخص بطل السينما السوداء، المتناقض خلقيًّا، فإن ألكس تمثل، بلا شك،
المرأة
المميتة، شخصية تغري البطل بدخول العالم الأسود، مظهرها الأنثوي قناع للقسوة والطموح
الذكري.
ويتبدى بدقة وضع ألكس المغرية برنين اسمها الأول «ألكس» الذي له إيقاع ذكري، وبحقيقة
أنها تؤسس
مشاهد الإغراء. وألكس هي التي تقول لدان على العشاء: «انجذب كل منا إلى الآخر في الحفلة
بجلاء»، وهو سطر يشير إلى الطبيعة الصريحة التي تعلن بها عن رغبتها ورغبة دان. ويرتكز
أيضًا وصف
ألكس بأنها امرأة مميتة تحمل خصائص الذكر على اختلافها عن بيث الأنثى واضحة الأنوثة،
امرأة تجلس
في البيت وتمثل دور القرين/المضاد لألكس. إن البطل، كما يبرهن فرانك كروتنك، «تجذبه امرأة
تقف
ضد التقاليد (وهو ما يتم الإيحاء به بشكل خاص بوجود فتاة طيبة ومخلصة وتقليدية أكثر،
لا ينبذها
البطل ولا يفقدها). وهكذا يرتبط الخطر الحقيقي بالمرأة المميتة مما يجعلها مرغوبة من
قبل البطل»
(١٩٩١م: ١٤١). إن اختلاف ألكس عن بيث وتشابهها معها في الوقت ذاته هو سر فتنتها، وأيضًا
ولعها
بالتظاهر والخطر. بينما وثَّقنا بالفعل الطرق التي يتجلى بها الجنس مع ألكس باعتباره
انغماسًا
بدل أن يكون مسئولية، فإن طائفة المرأة المميتة تعرِّفها نزعاتها الجنسية بأنها بلا مبادئ
وبلا
أخلاق. تستخدم المرأة المميتة الكلاسيكية الجنس وسيلةً لغاية، وهنا أيضًا يُعتبَر الجنس
فعلًا
أنانيًّا. وبينما يوضع النشاط الجنسي الرقيق لبيث بجلاء في خدمة الأسرة، لا يوضع النشاط
الجنسي
لألكس في خدمة الأسرة، مما يعرِّفها مرة أخرى بأنها المرأة المميتة الكلاسيكية التي توظف
الجنس
لتؤمِّن شيئًا لنفسها، رفقة ذكر في هذه الحالة.
يفترض تقمُّص ألكس للمرأة المميتة، مع ذلك مسألة، إن كانت عاملًا تلقائيًّا تطارد
رغباتها
بعناد، أم أنها قد تُعتبَر، كما عبر نقاد الأنثوية، إسقاطًا لمخاوف الذكر. ظهرت السينما
السوداء
أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة، وهو الوقت الذي دخلت فيه النساء مجال العمل
بأعداد
غير مسبوقة؛ وفي أعقاب حركة الموجة الأنثوية الثانية، شهدت الثمانينيات ارتفاعًا مماثلًا
في
توظيف الأنثى. وكانت بطلة السينما السوداء الكلاسيكية امرأة منقادة لا تجد طموحاتها غالبًا
مخرجًا اجتماعيًّا قانونيًّا للتعبير عنها. ويدل وضع ألكس كامرأة عاملة شيطانية أيضًا
على إعلان
المخاوف واستمرارها، المخاوف المحيطة بالنساء اللائي يفضلن احتياجاتهن الخاصة ورغباتهن
على
احتياجات الرجال أو الأطفال ورغباتهم. إذا كانت السينما السوداء تستجيب عادةً للقلق الاقتصادي
بتلفيق رابطة بين اقتصاديات غير مستقرة وغير ثابتة ونساء فاسدات يتصرفن كالذكور وينتزعن
وظائف
من حق الرجال، فقد كانت طريقة للانغماس في ذلك الاشتباه من خلال قصص تشوه هؤلاء النساء،
ومن ثم
تلومهن على علل اجتماعية. وتؤكد السينما السوداء، كمخططات أيديولوجية، على أن النساء
القويات
ينلن التوبيخ اللائي يستحققنه، وبالتالي تقدم حكاية تحذيرية للنساء الأخريات اللائي ربما
يجدن
ميولهن تسير في اتجاهات تشبه اتجاهات المرأة المميتة. ومن الضروري أن نعرف أن تقمص ألكس
كامرأة
مميتة يرتبط ارتباطًا لا ينفصم عن وضعها كامرأة مهنية غير متزوجة، من حيث إن هذه الهوية
كبش
فداء للإحباط الذي تتحمله. ويوحي الفيلم، في الحقيقة، بأن ألكس تُحرَم بصورة مزدوجة
بالاقتصاديات المهنية التي تركتها بدون أبناء وبمفردها في السادسة والثلاثين من عمرها،
كما
يُفترَض أنها علَّمتها أن العنف والعدوانية طريقان طبيعيان لعلاج ذلك الوضع.
٥٠
وبينما نبحث في الفصل التالي المخاوف من دخول المرأة إلى مجال العمل، والتنافس الضمني
الذي
يفرضنه على الرجال، تبرهن قراءات التحليل النفسي للمرأة المميتة على أننا، بدل أن نتناولها
كشخصية مستقلة، ربما نعتبر ظهورها شاهدًا على الشكوك الدفينة للبطل الذكر. تبرهن جوان
كوبيك،
٥١ على سبيل المثال، على أن بطل السينما السوداء، ليؤمِّن نفسه ضد أخطار النشاط
الجنسي، يعامل المرأة المميتة باعتبارها قرينه، ويتنازل لها عن المتعة التي لا يستطيع
الحفاظ
عليها (١٩٩٣م: ١٩٣). ويضع هذا الخط من الاستنتاج المرأة المميتة في الوضع ذاته تقريبًا،
وضع
«الوحش» المرعب؛ لأن ألكس في الإطارين التفسيريين تظهر ضحية للدوافع الجنسية المرفوضة
لدان.
ويعتبر الفحص التالي لشقة ألكس وعقابها محاولتين من دان لإبطال ما فعل. لنتأمل: يقتحم
دان شقة
ألكس؛ ليبحث عن دليل على أنها تكذب بشأن حملها، أو ليعثر على وسيلة ليبرئ نفسه من عبء
الأبوة
لطفل غير شرعي. بينما الدافع لفحص أحوال المرأة المميتة وعقابها حركة كلاسيكية في السينما
السوداء، ينصب الفحص والعقاب هنا على جريمة اقترفها دان. في عملية المطاردة هذه لا يعثر
دان،
مما يثير الدهشة، على ما يجرِّم ألكس؛ يبدو اختبار الحمل الذي أجرته صحيحًا، ويؤكِّد
سجل
القصاصات مصداقية قصتها عن النوبة القلبية المفاجئة التي تعرض لها والدها، مع أنها حاولت
أن
تسخر من هذه الحكاية وكأنها زائفة. وإذا كان لفحص دان أن يؤكد شيئًا فقد أكد شرعية ما
أخبرته به
ألكس أو حاولت أن تخبره به، أصيبت بصدمة نتيجة النوبة القلبية التي تعرض لها والدها،
وهي في
الحقيقة حامل.
يبدو أيضًا أن محاولات دان للانتقام تعتبر محاولات للثأر من نفسه، وجهودا لاستعادة
السيطرة
المفقودة، التي تدعم رأي إليزابيث كوي
Cowie بأن العقوبة
العنيفة التي تُمارس ضد المرأة المميتة تحمل شاهدًا على محاولة الرجل عقاب موضوع الرغبة
الذي
أفقده رجولته (١٩٩٣م: ١٢٥). يهاجم دان ألكس مرتين، في الأولى عقابًا على ادعائها أنها
مشترية
للبيت لتجد ذريعة لدخول بيته، وفي الثانية يعاملها بوحشية في صمت؛ لأنها اختطفت إلين
بدون وجه
حق. وبرغم أننا قد نرى أن ألكس «تستحق» العقاب الذي ينفذه — تلاحظ شريس هُلْملوند
٥٢ أن هاتين الهجمتين كثيرًا ما اعتبرتا مبرَّرتين، وتفترض أن الأبطال الذكور الذين
ينتمون للطبقة الوسطى لا يعاقبون غالبًا حتى حين يهاجمون النساء الأضعف جسديًّا، بمعنًى
ما، ما
يأمل دان تحقيقه ليس واضحًا (١٩٩٤م: ١٤١-١٤٢). يريد على ما يبدو أن يرعب ألكس لتستسلم،
ليقنعها
بأن تتركه وشأنه.
٥٣ وترجع صعوبة قراءة مشهد الهجوم على أنه انتصار للذكورة إلى أنه لا يزال يشير إلى
دان باعتباره يفتقر إلى القدرة على كبح نفسه. وهو يوجه غضبه ضد ألكس، يبدو خوفه وقلقه
أوضح من
خوفها وقلقها؛ يطاردها في أرجاء الشقة، ويستسلم حين تسنح له فرصة حقيقية لقتلها. في المقابل،
حين تهاجمه ألكس بسكين، تبدو مصممة على قتله، ولا تفعل ذلك فقط إلا لأنه انتزع السكين
منها. هنا
يندفع البطل السلبي في استجابة مخجلة لدوافعه الجنسية، لكنه يجد نفسه بشكل مذهل عاجزًا
عن
التغلب على خصائه الرمزي. مرة أخرى، يمكن أن نضع شلل دان في هذا المشهد مقابل حقيقة أن
ألكس
أكثر قدرة على غزو البيت منه. تنتهي اقتحامات دان بلا طائل، وفي المقابل تحقق اختراقات
ألكس
هدفها الضمني؛ تنجح في خداع بيث لتعطيها رقم التليفون غير الموجود في الدليل، وتقتل الأرنب،
وتكاد تقتل بيث.
كما يؤكد الكثير من نجاحات ألكس، تتمثل خطورة المرأة المميتة بطرق ما في هدوئها المستمر،
الذي يظهر في تقابل مباشر مع خوف دان وخجله. بينما المرأة المميتة الدقيقة التي لا ترتكب
أية
أخطاء ليست باردة، تفوق سيطرة ألكس على الموقف سيطرة دان في كل مرة تقريبًا — تدفع العلاقة
الغرامية، وتظهر في مكتبه، وتتسلل إلى بيته عدة مرات. هكذا يكشف وجود المرأة المميتة
بصورة غير
متعمدة تذبذب قوة الذكر؛ بينما تتصرف ألكس من نفسها، تأتي حركات دان باستمرار دفاعية
ورد فعل.
ومع أن المشاهدين يُشجَّعون على اعتبار أن ألكس هي التي أثارت رغبة دان وتستحق الاستئصال،
إلا
أن الفيلم يشير، في مفارقة، إلى قلق روح الذكر.
الإغواء والخطورة في الإثارة الشهوانية
بينما تخضع خطوط الحكاية وأنواع الشخصيات البارزة في «الجاذبية المميتة» بطرق عديدة
للسينما
السوداء الكلاسيكية، فإن زواج الجنس البارز في «الجاذبية المميتة» والخطر الوشيك يضعانه
ضمن فئة
«الإثارة الشهوانية».
٥٤ وكما تبرهن لندا روث وليمز، تتميز الإثارة الشهوانية عن السوداوية بحقيقة أن
الإثارة الشهوانية تعتبر «الجنس جريمة» وتفضل الجنس أو تقدمه على السرد (٢٠٠٥م: ٣٦).
ويرتبط هذا
التعريف بإصرار «الجاذبية المميتة» على تصوير اللذة الجسدية القوية؛ ويؤكد وضعه كفيلم
من أفلام
الإثارة الشهوانية حقيقة أنه يوجد أيضًا على قمة السينما السوداء والبُرْنو. وربما يبدو
هذا
الانتساب أبرز ما يكون في «مشهد المصعد» المتأجج؛ حيث تأخذ ألكس دان بالقوة إلى المصعد
وتغلق
بعنف الحواجز الثقيلة خلفهما. وبمجرد دخول الاثنين يظهران خلف أعمدة الحاجز، التي تبدو
مثل
قضبان السجن. وتُستدعَى هذه الصور للوقوع في الشِّبَاك، كما هو الحال بالنسبة للتركيز
على
المصابيح العارية، إضاءة شديدة من السقف، واللقطات الدرامية من فوق الرأس، تستدعي السينما
السوداء بشكل متعمد؛ في الوقت ذاته، يميِّزُ عرضُ ثدي ألكس عاريًا واستمتاعها الشفهي
المشهدَ كمشهد
من مشاهد البرنو.
كما يعرض مشهد المصعد، في الإثارة الشهوانية تكون مواضع الإثارة في الجنس، أو في
تحفيز
الجنس للإثارة؛ وكما يبرهن ديفيد أندروز،
٥٥ في الإثارة الشهوانية «الجنس خطير» (٢٠٠٦م: ٥٩). مما يؤكد ذلك أن مشهد المصعد يحتوي
على التهديد بالفضيحة: توقف ألكس متعمدة المصعد المفتوح بين الأدوار، ويتطلع دان دون
حراك ورجل
يسير فوق الممر. النظرة على حدود وجه دان على حافة العذاب، يجفل دان بين اللذة والألم؛
حيث إن
الاثنين على وشك أن يُفتضَح أمرهما بفظاعة. ويبدو هذا الزواجُ بين الجنس والخطر موتيفةَ
التيمة
الرئيسية في الإثارة الشهوانية. بالإضافة إلى أنه، بينما يكون الجنس هو الجريمة، فإنه
ينذر
بتدنيس أكبر؛ حيث ينتهي التعبير الجنسي البارز، أو يهدد بالانتهاء بالقتل، قتل المرأة
المميتة
في هذه الحالة. إلا أن الفيلم، في هذا، يبعد إلى حدٍّ ما عن صيغة الجنس الفني. ويلاحظ
تشارلز ديري
٥٦ وهو يكتب عما يدعوه «إثارة العواطف القاتلة» أن من المعتاد أن يقتل «المحبون
الزناة، بصورة آثمة وبدماء باردة، الرفيق سيئ الحظ؛ وفي «الجاذبية المميتة» يقتل الزوجان
معًا،
وببشاعة، الزانية الدخيلة» (٢٠٠١م: ١٠٢). وقلب هذه الصيغة مهم بشكل خاص في ضوء السياق
التاريخي
للفيلم؛ حيث لا يستطيع الفيلم إعادة لم شمل الأسرة الصغيرة إلا إذا بقي الزوجان على قيد
الحياة.
وهكذا يُعتبَر موت ألكس استعادةً لعالم مفضَّلٍ تنتصر فيه الأسرة.
أكثر من أي مصطلح جنس فني آخر هنا، يعتبر وصف الإثارة الشهوانية أفضل الأوصاف بالنسبة
للطبيعة المجسدة لفيلم «الجاذبية المميتة». تذكرنا ليندا روث وليمز بأن الشهوانية والإثارة
مصطلحا استجابة، وأن الإثارة الشهوانية ينبغي أن تثير مشاهديها من خلال «التشويق السردي
والانهماك، ومن خلال الأداء الجنسي»؛ وتضيف: تَعِد أفلامُ الإثارة الشهوانية بأن «يستثار»
المشاهدون «من الشهوة كما يستثارون من الجريمة» (٢٠٠٦م: ٥٩). ويرى ديفيد أندروز أيضًا
— ملقيًا
الضوء على توقعات المشاهدين ومكافأتهم كسمة أساسية للجنس الفني — أن «الجنس الفني يعد
بعرض
مزدوج: الفعل الجنسي والتشويق العنيف» (٢٠٠٦م: ٥٩). وبينما يعتمد المشهدان الجنسيان البارزان
في
«الجاذبية المميتة» على وعد المثيرات الشهوانية بالتركيز المتكرر على الجسد العاري، يُلتمَس
توقع المشاهدين أيضًا في المشاهد التالية المثيرة أو المشوقة أو المفزعة. وهذه البنية
المؤسِّسة، بانغماس الفيلم مبكِّرًا في اهتمامات شبقية بعرض مشهدَيه الجنسيَّين البارزين
في نصف
الساعة الأولى ثم يتحول إلى التشويق والعنف، تورط المشاهدين في الفعل الجنسي، وتُعدهم
للخطر
العميق المماثل بعد ذلك؛ وكما يكتب أندروز، العرض الجنسي «بمثابة استهلال لنمط أوسع من
الغضب
يتصاعد إلى عنف» (٢٠٠٦م: ٦٤).
يستخدم الفيلم التفاعلات الشديدة التي يقتضيها الجنس لإعداد المشاهدين لاستجابات
جسدية
شديدة بصورة مماثلة للهلع أو الخوف، استجابات تدفعها ألكس مرة أخرى. بينما ألكس هي المصدر
الأوَّلى للاهتمام الشهواني (والموضوع الواضح الأساسي لمشاهد الجنس)، تتحول فجأة إلى
العامل
الأول في الفيلم لإيقاع الألم. تعمل الإثارة الشهوانية في الأساس طبقًا لمنطق جسدي؛ حيث
تنبثق
منهجيتها الرئيسية في العمل وفهم الأحداث من دافعها إلى اللذة أو الألم، ويتأسس الجنس
الفني حول
الإيحاء بأن الاثنين لا يمكن التمييز بينهما بوضوح. يحمل مشهد القاطرة السريعة، خاصةً،
في ذاته،
إشارة بهذا الشأن، ويتنقل بين بهجة إلين وألكس في القاطرة السريعة ومتابعة بيث وهي تقود
السيارة
في حالة هلع. ومن اللافت أن هذا المشهد يمكن أن يُعتبَر تحديثًا في «سينما الجاذبية
cinema of attractions»، وهو مصطلح يستخدم للإشارة إلى
الطريقة التي كانت بها السينما وسيطًا يسعى أساسًا إلى صدم المشاهدين وإثارتهم. إن وضع
القاطرة
السريعة يُعتبَر الملازم البصرى لخبرة حركة الفيلم، وقد برهنت ليندا وليمز على أن تشابه
القاطرة
السريعة مناسب؛ لأن الإثارة في الخبرتين تنتج من خبرة غير مسبوقة في عدم الإدراك وعدم
الاستقرار
والهلع (٢٠٠٠م: ٣٥٨). ومن ثم يقدم ركوب القاطرة السريعة شيئًا لا يرتبط فقط بما تشعر
به ألكس
وإلين وبيث، بل يرتبط باستجابة المشاهدين أيضًا. من الصعب، على سبيل المثال، تحديد إن
كانت ألكس
وإلين تصرخان هلعًا أم لذةً، والمشهد يوحي بالاثنين؛ لأن هذا المزيج هو بدقة السبب الذي
يجعل
القاطرة السريعة خبرة لها كل هذه الشعبية. ويدعو هذا المفهوم للقاطرة السريعة في مشاهدة
الفيلم
المشاهدين للاستمتاع بالإحساس بالتهديد وعدم القدرة على السيطرة.
يؤسس تزامن اللذة والهلع عددًا من المشاهد التالية في الفيلم، ولذةً أخرى فريدة في
الإثارة
الشهوانية هي الهجوم المدهش الذي ليس مدهشًا برمته. بينما كان ظهور ألكس في المرآة خلف
بيث
صادمًا، كما هو الحال بالنسبة للحظة التي تنهض فيها ألكس غير ميتة من قبرها المائي، إلا
أن
المشاهدين قد تدربوا عند هذه اللحظة على أن يربطوا ظهور ألكس بالصدمة والخوف، وأن يأخذوا
على
محمل الجد تصميمها على التخريب. وبالمثل، مع أن أفراد أسرة جاليجر يظهرون مستكينين في
بيتهم
العائلي أثناء المقدمة لهجوم ألكس، لا يثق المشاهدون في هذا الإحساس بالأمان؛ بدلًا من
ذلك، تنص
صيغة الإثارة على أن هناك هجومًا وشيكًا، والشيء الوحيد المتروك للصدفة كيف يحدث أو متى
يحدث.
ويؤكد الاقتراب من الموت بالنسبة لدان وألكس وبيث طوال الوقت تقريبًا الخطورة التي يحرض
عليها
الفعل الجنسي، ونتناول الطبيعة الخاصة لهذا الخطر على نطاق أوسع في الفصل الرابع. إلا
أن بداية
الفيلم باللذة وانتهاءه بالهلع يؤكدان صلته بجنس فني تنبثق فيه الإثارة من الطبيعة المجاورة
للذة والألم.
أكد نقاد مختلفون على اعتبار «الجاذبية المميتة» نصًّا أصليًّا بالنسبة للإثارة الشهوانية،
ويلاحظ كثير منهم تأثير الفيلم على العروض التالية التي تعتبر النشاط الجنسي المحظور
مميتًا.
وللاستمتاع بهذا الوضع كنص تدشيني جدير بالمحاكاة، رغم ذلك، كان على «الجاذبية المميتة»
أن يرسخ
فتنته التجارية. ومن اللافت أن الشعبية الجارفة للفيلم اعتمدت جزئيًّا على حملة شفهية
حظيت
بنجاح غير مسبوق. إلا أن كثيرًا من الحماس لا يجب أن يعتبر ببساطة نتيجة أن الفيلم هجن
الأجناس
الفنية بصورة فعالة، أو استعار من صور بارزة معروفة. لقد وضع الفيلم بوضوح إصبعه على
نبض
السياسة الأمريكية والاهتمامات الاجتماعية، وهي بصيرة جعلته أيضًا شمعة منيرة للخلاف
حول وضع
النزعة الأنثوية، والنساء العاملات، وتخويل الصلاحيات للذكور. ويضع الفصل التالي الفيلم
في سياق
لحظته التاريخية مع تفسير المدخل الاستقطابي للفيلم في حروب الثقافة الأمريكية.