أبو نواس الإباحي
النرجسية
كان أبو نواس إذن «شخصية نموذجية».
ولكنها ليست هي الشخصية التي شاع بها ذكره بين الأميين وأشباه الأميين، وبين طائفة من خاصة المطلعين على الأدب الفصيح، وهي الشخصية التي تقوم على الحيلة والجواب السريع والقدرة على الخلاص القريب من المآزق والمحرجات.
فما هي حقيقة الشخصية النواسية التي أشاعت ذكره في أيام حياته، وقبل أن تتحول بها الشهرة من دلالة إلى دلالة؟
أيسر ما يقال في كلمة واحدة أنه «إباحي».
وقد كان حقًّا إباحيًّا غاليًا في الإباحة، إذا كان المقصود بالإباحة أنه كان يستحل المحرمات، ويخالف الدين والعرف والطبيعة.
ولكن الإباحي قد يخفي رذائله وموبقاته، وقد يداري الناس ويتسم بينهم بسمة الصلاح والتقوى، ولعل الأكثرين من الإباحيين في عصر أبي نواس خاصة كانوا على هذه السنة؛ لأنه كان باتفاق واصفيه عصر شكوك واختلاط ونفاق.
وأيسر ما يقال بعد ذلك أنه «إباحي متهتك» يظهر أمره، ولا يتكلف لإخفائه.
وذلك كذلك وصف صحيح، فمن قال عن أبي نواس: إنه «إباحي متهتك» فقد وصفه بما كان عليه؛ لأنه كان يقارف المنكرات ويعلنها ولا يحفل بمداراتها، وهذا يكفي للصدق في وصفه على حقيقته، ولكنه لا يغني شيئًا إذا كان المقام مقام دراسة نفسية، إذ المرء قد يستبيح الرذائل ويتهتك في البطالة، ويتمادى في تهتكه غادية التمادي لعلَّتين متناقضتين ترجع كل منهما إلى خلال نفسية بعيدة من خلال الأخرى في بواطنها وظواهرها.
فقد يتهتك المرء؛ لأنه هينٌ على نفسه يعلم أنه هين على الناس، مسلِّم بحقارته، شاعر بقلة الجدوى من التستر والمداراة، وأنه يهبط من المهانة إلى حضيضها، فلا ينفعه أن يحتجب ولا يضره أن يتكشف ويتبذل، ومثله في هذا مثل الوضيع الساقط الذي لا يبالي أن يخرج للناس في مباذله، إذ ليس له زي غير زي المباذل، ولسان حاله كلما أحاطت به نظرات الاحتقار قول القائل:
بل لعل النظرات لا تحفل به وتتخطاه لهوان شأنه، فلا تقف عنده محتقرة أو غير محتقرة.
هذه حالة من حالات التهتك أو المجون، وهو كلمة واحدة في اللغة العربية تعبر عن الإباحة المتهتكة.
أما الحالة الأخرى فهي نقيض هذه الحالة في باطنها وظاهرها؛ لأن صاحبها يتحدى بها الناس عامدًا أن يسخر منهم، ويكشف رياءهم، وقد يهون عليه شأن الرياء والصراحة، فلا يعلن رذائله كراهة للرياء وحبًّا للصراحة؛ بل يعلنها لأنه يريد أنه «يقرر شخصيته» ويشعر الناس بوجوده، ويستخف بما يسترونه ويعلنونه، فلا هو مكترث لهم متسترين ولا مكترث لهم معلنين.
حالتان نقيضتان: حالة من ينسى «شخصيته»، ولا يراها أهلًا للذكر مشهورًا أو غير مشهور، وحالة من يقرر «شخصيته» ويتعمد الجهر بالمخالفة؛ لأن الجهر هو سبيله إلى هذا التقرير.
فأيَّةُ الحالتين هي حالة أبي نواس؟
ليست هي الحالة الأولى على التحقيق؛ لأن ما روي عنه وما روي من كلامه يعربان عن رغبة في التهتك والمجاهرة به، ولا يقفان عند حد الجرأة، وقلة التكلف للمدارة.
ولا نستقصي هنا كلامه في هذه الأغراض، فإن لهذا الاستقصاء مواضعه عند نقده وتحليله، ولكننا نجتزئ بأبيات في جملة أغراضه تشير بغير عناء إلى هذا المعنى.
فهو الذي يقول في الجهر بمعاقرة الخمر بيته المشهور:
وهو الذي يقول في العشق:
وهو الذي يقول في مقارفة اللذات عامة:
وهو الذي سمَّى السمعة السيئة جاهًا يحتفظ به، ولا يفرط فيه حين نصح أبو العتاهية بالتوبة، فقال ساخرًا منه:
ومهما يكن من تبذله فلم تكن مسألة التبذل عنده علمًا بهوانه ورضاءً بهذا الهوان، ويأسًا من دفعه بالصيانة والمداراة، إذ كان معروفًا عنه أنه كان يتعمد أن يلقى ذوي الوجاهة والرئاسة بالتيه والكبرياء، وكان يذكر ذلك في شعره، فيقول في غير موضع:
وإنما كانت مسألة التبذل عنده مسألة ظهور متعمد، واستخفافًا برأي الناس؛ لأنه يريد أن يلقي في روعهم أنهم أهون لديه من أن يتستر لهم، وأن ينزل عن لذة من لذاته لمرضاتهم، وأنهم من هوانهم عليه يتحداهم، ويطلب مذمتهم ويؤثرها على ثنائهم.
والواقع أن الإغاظة والظهور هما بيت القصيد، وأن صاحب المزاج قد يهمه أن يغيظ جمهرة الناس بالمخالفة، وإن كانت مخالفة إلى التقوى والصلاح؛ لأن «الظهور» وإثارة الشعور هما الهوى الغالب عليه.
ولو كانت الإباحية النواسية مقصورة على ما اشتهر به أبو نواس من إدمان السكر، وإيثار الذكران على الإناث، لما فسرتْها ولا فسرتْ شيئًا منها هذه الظاهرة النفسية الواضحة؛ ظاهرة التحدي بالإباحية المتهتكة، فإن صاحب الإباحية المقصورة على إدمان السكر، وإيثار الذكران على الإناث قد يخجل منها، ويسترها ويجتهد اجتهاده للخلاص منها، وقد ينتهي به الأمر إلى التهتك الذي وصفناه في الحالة الأولى، وهي حالة المهانة والاستكانة إليها.
وإنما تفسر آفات أبي نواس جميعًا ظاهرة نفسية أخرى هي «النرجسية»، التي جعلناها عنوانًا لهذا الفصل، وفيها تفسير لآفته الكبرى وتفسير للآفات الصغرى التي تتفرع على جوانبها.
هذه «النرجسية» شذوذ دقيق يؤدي إلى ضروب شتى من الشذوذ في غرائز الجنس وبواعث الأخلاق، ويلتبس الأمر من أجل هذا بين النرجسية، وتلك الضروب المختلفة من الشذوذات الجنسية، وهي مخالفة لها في دخيلها، مناقضة لبعضها في ميولها ونزعاتها، فقد تميل بصاحبها إلى العلاقة الطبيعية بين الذكر والأنثى، أو تميل إلى علاقة شاذة بين شخصين من جنس واحد، كما كان يحدث أحيانًا من أبي نواس في غزله بالمذكر تارة وغزله بالمؤنث تارة أخرى، وفي الجمع أحيانًا بين ما يزعمه عشقًا لأكثر من فتاة واحدة، وما يزعمه عشقًا لأكثر من فتى واحد، ولا أصل للعشيقين في نهاية المطاف غير النرجسية في قرارها العميق.
ما هي النرجسية؟
وقبل أن نشرح هذه النرجسية كما يفهمها المحللون النفسيون نذكر نشأة اللفظ والاصطلاح؛ لأنها ذات صلة قوية بالمعاني التي أوحت إلى المحللين النفسيين أن يطلقوا الكلمة على مدلولها بين الآفات الجنسية على الخصوص.
كان اليونانيون الأقدمون يطلقون اسم نرجس على فتى من فتيان الأساطير بارع الحسن ساحر الشمائل، يفتن من يراه ويشقي بجماله وتيهه قلوب العذارى الخفرات، فلا يلتفت إليهن ولا يستجيب لضراعتهن، ولم يزل كذلك حتى ضجت السماء بدعاء عاشقاته وصلواتهن إلى الأرباب أن يصرفوهن عنه أو يصرفوه عنهن، واستجابت «نمسسي» ربة القصاص والجزاء إلى هذا الدعاء، فقضت عليه أن يهيم بحب نفسه ويلقى منها الشقاء الذي تلقاه منه عاشقاته، قال رواة الأساطير: «فما هو إلا أن ذهب يشرب من ينبوع صاف حتى لمح بصورته في مائه، فوقف عندها يعجب من جمالها، وأذهلته الفتنة عن شأنه فلم يبرح مكانه مطرقًا إلى الماء؛ ليتملى تلك الصورة ويرتوي من النظر إليها، فلا يزيده النظر إلا لهفة وشوقًا، ولا تزيده اللهفة إلا هزالًا حتى فني، وذهبت عرائس الماء تطلب رفاته فلم تجد في مكانه غير نرجسة مطرقة ترنو إلى الماء، ولا ترفع بصرها إلى السماء، فالنرجس أبدًا مطرق مفتوح العين لا يشبع من النظر إلى خياله على حوافي الجداول والغدران».
وتروى الأسطورة على رواية أخرى، فيقول الرواة: إنه لما لمح طلعته في الماء حسب أنها عروس الينبوع، فألقى بنفسه فيه يحاول أن يمسكها، فغرق ولم يعثر الباحثون عنه على جثمانه، ولكنهم وجدوا في الينبوع نرجسة على مثاله، فغرسوها على حافته، وكانت أبًا للزهر الذي يعرف باسمه ويتطبع في عشقه لصورته بطباع أبيه.
ومن غلوهم في عشق «نرجس» لنفسه يزعمون أن حملة الأرواح في نهر الموت، الذي يفصل بين الدنيا والآخرة عجبوا له حين رأوه مطرقًا إلى النهر، ولم يزل منهم العجب حتى نظروا حيث ينظر، وعلموا أنه برح الدنيا ولم يبرح مفتونًا بخياله كما كان وهو بقيد الحياة.
قالوا: إن هيرا زوجة زيوس أبي الآلهة والأرباب خرجت كعادتها تتجسس على خليلات زوجها، وتتعقب الحور اللائي يسعدن بقربه من ورائها، فلما كانت في بعض الطريق لقيتها عروس الصدى، فشغلتها عن سعيها بثرثرتها وفضولها وحلاوة أحاديثها التي تحكي بها مناجاة ضميرها، فلما غابت عنها نظرت حولها، فإذا بالحور والعرائس الآلهات قد تغفلنها وهي مشغولة مع عروس الصدى، فغضبت على تلك العروس الثرثارة، وقضت عليها أن تعيى بابتداء الكلام، فلا تقدر على النطق إلا ترديدًا لما يلقى إليها.
ثم هامت عروس الصدى بنرجس وهو على دأبه من الهيام بنفسه؛ وأبلاها الحب لأنها عجزت عن مفاتحته بغرامها، وكادت تيأس لولا أنها ظفرت به يومًا ينادي أحد رفاقه، ويصيح به من بعيد: ألا أحد في هذا المكان؟
فسنحت لها الفرصة وأجابته قائلة في شوق وحنين: أحد في هذا المكان.
قال: هلم.
قالت: هلم.
فأعرض محنقًا وهو يقول: «لا، لا، لست أعني هذا، سأموت ولا يكون لك سلطان عليَّ».
فلما مضى في سبيله غير ملتفت إليها عافت نفسها، ولاذت بالكهوف والمغاور فلا يحسها السامع بعد ذلك إلا في كهف أو مغارة، ومن هنا كانت علاقة الصدى بمن يحب نفسه، ويروقه أن يستمع إلى كلامه معادًا إليه.
وكل هذه الأقاويل عن النرجس والصدى والخدر والسبات لاحقة بما تنطوي عليه آفة «النرجسية» من الغرائز، أو من الميول والأحاسيس، فهي آفة متصلة بالغيبوبة والنشوة والهيام، وحب المصاب بها لملامحه وكلامه؛ ولهذا وقع عليها اختيار المحللين النفسيين، فلم يجدوا اصطلاحًا أوفق منها لأعراض تلك الظاهرة النفسية، مع عراقة الاصطلاح في اللغة اليونانية التي يختارونها لابتداع الأسماء الجديدة في العلوم، كما فعلوا بأسماء السيارات الفلكية أو العناصر والعقاقير التي تكشف حديثًا، وأوفقها عندهم ما اشتهر في أساطير.
الاشتهاء الذاتي والتوثين الذاتي
فالاشتهاء الذاتي يغلب على الحالات الجسدية التي تقترن باختلال وظائف الجنس في صاحبها، ويبلغ من اختلاف هذه الوظائف أن المصاب به يمنى إذا أطال النظر إلى بدنه عاريًا في المرآة وما إليها، وأنه يشتهي بدنه كأنه بدن إنسان غريب عنه، ولكنها شهوة يبالغ فيها المريض؛ لأن الإعجاب بالأبدان الغريبة لا يستغرق شعور المرء كما يستغرق الاشتهاء الذاتي صاحبه، ويغريه على الدوام بتأمل جسده ومعاودة النظر إليه، ويحدث أحيانًا ألا يكون النظر استحسانًا محضًا، بل أسفًا لبعض النقص، واجتهادًا في تحسينه والمغالطة فيه.
والتوثين الذاتي يغلب على الحالات العاطفية والفكرية، فيتخذ المصاب به من نفسه وثنًا يعبده ويعزله ويدﻟﻠﻪ، ويشوب هذا التوثين حب كحب المرء لمعشوقه، فهو لا يخلو من اختلال وظائف الجسد، ولكنه لا يبلغ بها مبلغ الحالة الأولى.
وتلازم الاشتهاء الذاتي والتوثين الذاتي معًا لوازم متفاوتة في درجة الالتصاق بالآفة وتوابعها.
لازمة التلبيس والتشخيص
فلازمة التلبيس والتشخيص لا غنى عنها في هذا الضرب من الشذوذ الجنسي، وهو عشق الإنسان لذاته من الناحية الشهوانية، فالشاذ في حب جنسه أو حب الجنس الآخر يجد طلبته ويقضي مأربه، أما الذي يشتهي بدنه فليس في وسعه أن يقضي مأربه منه بغير الاحتيال لذلك بالتلبيس والتشخيص، فهو يلبس شخصيته شخصًا آخر يتوهم أنه هو ذاته أو يحل محل ذاته، كما يفعل جالد عميرة حين يضع أمامه صورة، أو يتخيل في ذهنه عشيقة يتوهم أنه يواقعها، يحدث للمصاب بالاشتهاء الذاتي أن يختار شخصًا آخر يحله محل نفسه في أوصافه البدنية أو الخيالية، ويتعلق به وهو في الواقع متعلق بذاته.
ولازمة العرض تشمل الإظهار بجميع درجاته، فإذا أمعن في الجسدية والشواغل الحسية شوهد المصاب به، وهو يكشف عورته، ويعرض أعضاءه ويتعرى من ثيابه أو يلبس الثياب التي تشبه العري، ولا تستر ما وراءها.
ولكن الأكثر الأعم في لازمة العرض أنها لا تمعن هذا الإمعان إلا في حالة الجنون، وما يقاربه، وإنها تتحول إلى إظهار ولفت الأنظار على أساليب لا تحصى، وقد ينتهي بها التناقض أحيانًا إلى إعلان التقوى والظهور بين الناس بآثار التعذيب والتمريغ، وسمات العبادة، وإذلال النفس بتشويه الجسد وتلويثه.
ومن لم ينته التناقض به هذا المنتهى يشاهد عارضًا نفسه بالأزياء الغريبة والألوان الصارخة، ماضيًا في كل عمل من أعماله العامة على سنة الاشتهار بالمخالفة، على القول الشائع: «خالف تعرف».
أما الارتداد فهو يعتري الشواذ على أطوار منوعة، وإنما يعتري النرجسيين من تلبيس ذواتهم بغيرهم، أو خلع ذواتهم على شخص آخر يلتمسون المشابهة بينهم وبينه، ولكنهم لا يظفرون في كل حين بشخص تام الشبه بهم في كل صفة وصبغة، فإذا اتفق لأحدهم أنه رأى شخصًا يشبهه في الملامح والقوام ويخالفه في القوة، فالذي يحدث في هذه الحالة أنه ينتحل صفة القوة لنفسه كأنه ارتدها إليه من الشخص الذي تلبس بملامح ذاته، وتتفاوت درجات الارتداد بتفاوت المصاب في درجات المرض، فمن المصابين من ينتحل صفة ليست له ولكنها قابلة للادعاء، كالقوة والمهارة والمهابة، ومنهم من ينتحل صفة ليست له ولكنها لا تقبل الادعاء، كالطول واللون الأبيض أو الأحمر، فيكون قصيرًا ويروض نفسه على اعتقاد الطول، أو أسمر ويروض نفسه على ادعاء البياض والشقرة، بل قد يدعي الوصفين المتناقضين إذا تناول بالتلبيس والتشخيص مثالين مختلفين، وهذه الحالة عرضة للأعاجيب في أوهامها وأخيلتها، فقد تفضي بصاحبها إلى مجاراة الطبيعة والشذوذ في وقت واحد، فيخلع ذاته على امرأة مشتهاة، فهو من هنا طبيعي في حبه للجنس الآخر، ثم يتشبه بالنساء؛ لأنه أعاد إليه بالارتداد خصلة من خصال تلك المرأة لا توجد في الرجال، فهو من هنا شاذ عن السواء يحس إحساس المرأة نحو الرجل الذي تعشقه وتتصباه.
•••
هذه اللوازم على أبي نواس في خلائقه الأولية وخلائقه التبعية، وتفسر جميع أحواله حيث لا يفسرها ضرب آخر من ضروب الشذوذ في المسائل الجنسية.
فالشذوذ الذي يميل بصاحبه إلى عشق أبناء جنسه، والعزوف عن الجنس الآخر آفة لا تنطبق على أبي نواس؛ لأنه يغازل الجواري كما يغازل الغلمان، وكلامه كثير في استحسان الفتاة؛ لأنها كالغلام واستحسان الغلام؛ لأنه كالفتاة:
ويقول في غلام:
ويقول في أخت وأخ:
وقد كان هذا التلبيس يبدو في غزل أبي نواس صراحًا مكشوفًا حين يختار لهواه غلامًا ألثغ كأبي نواس، وإن كانت لثغة هذا بالراء ولثغة ذاك بالسين، فيقول:
أو يختار غلامًا لا يحسن النطق بالراء تكسيرًا لها كما يقول:
أو يختار «ظبيًا» يعجبه منه ما يصنعه فوه بالراء:
وتعجبه البحة التي كانت إحدى خواصه الصوتية، فلا ينساها وهو يقول في وصف غلام:
وكان هذا التلبيس يبدو كذلك مكشوفًا على نحو آخر حين يقول في جارية تتشبه بالكتاب:
ويذكر مثال الحسن في الجنسين إذا تكلم عن حسناء كما يقول فيمن عرضوها عليه؛ ليتزوجها:
ومما أشار إليه في مجونه، ولا حاجة إلى إيراده، أنه كان يخاطب معشوقيه من الغلمان فيقول لهم: إنه كان معشوقًا مثلهم، ويحكي لهم كيف يتشبهون به مع عاشقيه، وفي نسيبه بالنساء تدليل لنفسه يومئ إلى أنوثة كامنة في طبعه كما يقول لإحداهن:
وفيه استغاثة تحكي استغاثة المرأة بأخواتها:
فهو في طبيعة النرجسية يسهل عليه أن يلبس ذاته لكلا الجنسين، وأن يكون شاذًّا في حالة ومساوقًا للفطرة في حالة، وما كان على الفطرة في الحالتين!
ومما هو خليق بأن يتأنى عنده الدارسون للنرجسية ولوازمها أن «جنان» كانت أحب معشوقاته إليه، وأنها كما جاء في كتاب ابن منظور عن أخبار أبي نواس كانت تحب النساء وتميل إليهن، فربما كان هذا الكلف الخاص بهذه الفتاة؛ لأن لازمة التشخيص والتلبيس تتحقق بها على نحو لا يتحقق بغيرها، إذ كانت لها السمات النفسية والبدنية التي تتراءى فيها ميول الجنسين.
وخليق بالدارسين كذلك أن يلتفتوا إلى سر هيامه بالجارية «حسن»، واستيحائه من اسمها معنى التوحيد بينه وبينها، كما قال متغزلًا بها متشفعًا لديها بهذه الحرمة:
فليس أقرب من مسارب الشعور الجنسي من الانتقال بتداعي الخواطر بين هذا التشبيه، والتقريب وبين عادة التشخيص والتلبيس.
فهو في طبيعة النرجسية يسهل عليه كما قدمنا أن يلبس ذاته لكلا الجنسين، وأن يكون شاذًّا في حالة ومساوقًا للفطرة في حالة، وما كان على الفطرة في الحالتين.
لازمة العرض
وتنطبق عليه لازمة العرض كما تنطبق عليه لازمة التلبيس والتشخيص، ولعل لازمة العرض فيه؛ لأنها من شأنها أن تتلمس وسائل الإظهار.
فلم ينظم شعرًا في الخمريات أو الغزل أو المجون، إلا تبين منه أن الجهر بالمحرمات أدنى إلى هواه من المتعة بالمحرمات:
وتكبر المتعة في حسه وفي وصفه بمقدار المخالفة لا بمقدار المتعة والتذاذها، فلا يتساوى شراء الخمر والفسوق بمال حلال وشراؤهما بمال حرام:
أو كما قال — فيما نسب إليه — إن الخمر لا تشرب إلا بثمن خنزير مسروق من زانية وكأنما ينعت محبوبه الذي يقول فيه:
ومن اللغو أن يبحث الباحث جدًّا عن مذهب أبي نواس في الزندقة، فليس له في الزندقة مذهب غير «العرض الإظهار». وقد روي عنه أنه انصرف من بعض المواخير سكران، فمر بمسجد قد حضرت فيه الصلاة فدخل فقام في الصف الأول، فقرأ الإمام: «قل يا أيها الكافرون» قال أبو نواس: لبيك! فلما قضيت الصلاة لببوه وساقوه للحساب. فأي مذهب من مذاهب الزندقة يسول لصاحبه هذا المجون، إنما هي آفة العبث بالمخالفة ولا شيء سواها يغريه بهذا السخف الذميم.
ومن اللغو كذلك أن يقال كما قال بعض المستشرقين: إنه يكره الإشارة إلى الطلول في مطالع القصائد ولعًا منه بالتجديد، ونفورًا من القديم.
فما كان ينعي على الشعراء بكاء الطلول إلا لينعي من وراء ذلك معيشة البادية على أهلها أجمعين، وبهذه النزعة كان يكثر من التعريض بالعرب العدنانيين، والفخر بالعرب القحطانيين، ولم يكن له نسب ثابت في هؤلاء ولا هؤلاء، وقد كان من شعراء عصره من لهم نسب ثابت في اليمن أو نسب ثابت في الحجاز، فلم يجعلوا هذا النسب هِجِّيرَاهُمْ كما جعله أبو نواس، وإنما أغراه بالخبط في هذا المعرض الشائك أنه كان مسعر النار في عصره، وكانت النفوس تستثار به حيث لا تستثار بغيره، فقد أطاح النزاع بين القبائل بالدولة الأموية، وأطاح هذا النزاع بالخليفة الأمين في دولة العباسيين، وخيفت العصبيات يومئذ أشد ما تخاف في حقبة من الحقب، ومن هنا كان أمر الخلفاء له بذكر الطلول كما قال:
ولم يكن هذا الأمر تأييدًا منهم لمذهب من مذاهب الأدب على سواه، ولكنه كان اتقاء للشغب وإبعادًا لباب الخصومات والعصبيات، ولو لم تكن المسألة مسألة عرض وإظهار عند صاحبنا لما عناه رأي الأقدمين ولا رأي المحدثين، فقد كان ينحو في الطرد والغزل والمدح والهجاء منحى الشعر القديم، ويلهج بمحاكاته على نمط لم يؤثر عن أحد من نظرائه ومعاصريه.
ومن تغلغل هذه اللازمة في خليقته — لازمة العرض والإظهار، والتحدي بالمخالفة — أنه جعل الصلاح تهديدًا لإبليس في قصيدته التي يقول منها:
إلى آخر القصيدة.
قال رزين الكاتب عن سبب نظمه لهذه القصيدة: «اجتمعنا يومًا وأبو نواس وعلي بن الخليل في سوق الكرخ، وكنا نجتمع ونتناشد الأشعار ونتذاكر الأخبار ونتحدث بها، فقال أبو نواس: أدبر من كان في نفسي وكان أسرع الخلق إلى طاعتي، فما أدري ما أحتال له؟ فقال علي بن الخليل يمازحه: يا أبا علي! سل شيخك وأستاذك يعطفه عليك، فقال أبو نواس: من تعني؟ فقال: من أنت في طاعته ليلك ونهارك، يعني إبليس! فإن لم يقض لك هذه الحاجة فما ينبغي لك أن تسأله مسألة ولا أن تقر عينه بمعصية، فقال: هو أسدُّ لرأيه من أن يخل بي أو يخذلني. وانقضى مجلسنا ذلك، فلما كان بعد أيام اجتمعنا في ذلك الموضع وأخذنا في أحاديثنا، فضحك أبو نواس. فقلنا له: ما أضحكك؟ قال: ذكرت قول علي بن الخليل يومئذ: سل شيخك يعطفه عليك. حينئذ قد سألته يا أبا الحسن فقضى الحاجة، وما مضت والله ثالثة حتى أتاني من غير أن أبعث إليه ومن غير أن أستزيره، فعاتبني واسترضاني، وكان الغضب مني والتجني، وأحسب الشيخ — يعني إبليس — كان يتسمع علينا في وقت كلامنا».
هذه هي القصة كما رواها رزين الكاتب لا يعنينا صحت روايته أو لم تصح، فإن القصيدة لأبي نواس لا تروى لأحد غيره، ولولا دخيلة طبع مطوية على آفتها ولوازمها لقد كان اقتراح علي بن الخليل خليقًا أن يوحي إلى أبي نواس أن يتوجه بالطلب إلى إبليس على غير ذلك الأسلوب، ولكنه جرى على دأبه فصنع مع إبليس ما يصنعه مع الناس، فهو يتحدى الناس بالمعصية والفسوق ويتحدى إبليس بالإصلاح والعفاف، وهي إذن خلة واحدة ذات صبغتين!
وتتمثل هذه الشهوة «النرجسية» شهوة المخالفة والمغايظة في قصيدة أخرى صور فيها إبليس بصورة المتوسل إليه بغواياته؛ ليختار منها ما يحلو له وهو يأباها غواية بعد غواية، ولا يزيد على أن يقول له: «لا» من قبيل المكايدة والمعاندة لا من قبيل الزهد والعفاف.
قال:
ولا يخطئ القارئ في هذه الإبليسيات التي تروى لأبي نواس أو تروى عنه، ما تحتويه من خبيئة التعلل بالوجاهة والامتياز والظهور بين الأقران، فمما رواه والبة بن الحباب أستاذ أبي نواس أنه «كان نائمًا، وأبو نواس غلام نائم إذ أتاه آت في منامه، فقال: أتدري من هذا النائم إلى جانبك؟ قال: لا. قال: هذا أشعر منك وأشعر من الجن والإنس، أما والله لأفتنن بشعره الثقلين ولأغرن به أهل المشرق والمغرب، قال: فعلمت أنه إبليس فقلت له: فما عندك؟ قال: عصيت ربي في سجدة فأهلكني، ولو أمرني أن أسجد لهذا ألف سجدة لسجدت».
ومن رضاء أبي نواس أن يسجد إبليس له ولا يسجد لآدم، أما والبة فحسبه أن يقول: غلامي أبو نواس!
وقد كان من منافع إبليس في مجون أبي نواس أن يكفل له وجاهة التمييز بالخمرة التي هو كفء لها دون عذَّاله، فهو يخصه بهذا ويصرف عذَّاله عنها.
وما كل من يشرب الخمر نظيرًا لأبي نواس:
وكثيرًا ما تبدو شهوة الوجاهة والظهور في ولع أبي نواس بشرب الخمر كائنًا ما كان نوعها، فهي فضلًا عما تخيله لشاربها من العظمة والسلطان ليست مما يرتقي إلى «كفاءته» كل شارب وطالب، وأبو نواس حين يشربها أجدر بشربها من أمم وآحاد، وعلى لسانها يقول:
ولم يكن عرضًا أنه كان يدعي لها جلالة الشأن على الملوك، ويعيد هذا المعنى كقوله:
وكقوله:
أو قوله:
وكذلك ترديد ذكر التاج عند ذكر سقاتها كما يقول:
أو كما يقول:
فإن الخمر أداة حب للتدليل الذي يكمن في أعماق «النرجسية»، وحب أبي نواس لها حب للتدليل الذي لا تستغني عنه طبيعة الافتتان بالذات أو توثين الذات، ومن هذا التدليل هذا الترنم بالتاج والملك والامتياز بمقام للشرب لا يكافئه كل مقام، وما كان هذا الشعور خبيئة عميقة في نفس الشاعر «النرجسي» وحسب، بل كان على طرف لسانه، وكان أحيانًا يلحى السكر في سبيل أحلامه، وهو لا يلتفت إلى مغزى ما يقول حيث قال:
فها هنا حلم مستقل عن حلم الخمر، ولكنه لا ينفك عن لازمة «النرجسي» المدلل لنفسه، ويكاد ينسى صاحبه — وهو من الساخرين — أنه عرضة للسخرية التي لا سخرية بعدها حين يتخيله القارئ نديمًا لخليفة لا يقبل منادمته بغير شرط، بل يشترط فيه «السواء». ثم يشرئب إلى عزةٍ أكبر من هذه العزة، فيزين له الحلم أنه قاطع سبيل مخيف؛ ليجمع الغنائم وينفق خمسها في سبيل الله، ويحرمه على الولاة ذوي البطنة الذين يأكلون الطيبات. ولا يغلط فيقول: ويشربون المحرمات. فمثل هذا الغلط من أبي نواس غير معقول حتى في الأحلام!
ونحسب أن الفارق قد اتضح من هذه الأمثال بين أنواع التفكير والإباحة، ولا سيما إباحة «الشخصية العاتية»، وإباحة «الشخصية النرجسية».
فالعاتي الذي يستبيح المحرمات يبطل التحريم والتحليل ولا يعرفهما، كما قال أبو الطيب في وصف الأسد:
ويود لو فرض على الناس حرامه وحلاله شريعة يأخذهم بها، وينزلها منزلة الشريعة التي درجوا عليها، أما الشخصية النرجسية فلا يلوح من عملها وقولها: أنها تريد إبطال المحرمات، بل يلوح من كل أعمالها وأقوالها أنها على نقيض ذلك؛ تريد أن تستبقي شيئًا محرمًا لتستبيحه، وأمرًا ملزمًا لتنعم بعصيانه، وشأنها شأن الطفل المدلل الذي يعطي هواه، ويقيس هواه ودلاله بمقياس التجني والحرمان، والولع بما يمتنع والإعراض عما يبذل ويسهل مناله، أو يستباح.
والتدليل هنا هو قوام توثين النفس والشعور بهذا التوثين من الآخرين، وغاية الهوى هنا في الطفل المدلل أنه يكلف أهله ما لا يوجد، ويأبى ما هو موجود وميسور.
وتلك هي الإباحية النرجسية التي تقترن بتوثين النفس وتدليها، ولا نموذج لها في الأدب العربي أوفى لعوارضها ولوازمها من أبي نواس.
لازمة الارتداد
أما «الارتداد» وهو اللازمة الثالثة التي ذكرناها من لوازم النرجسية، فهو الذي يعرف أحيانًا باسم الصفات الثانوية، وليس من طبيعته أن يظهر قبل المراهقة، وربما تأخر إلى ما بعد المراهقة بسنوات إلى أن توجد النوازع الجنسية، التي لا تتأتى الاستجابة لها حين يكتفي النرجسي بتوثين نفسه.
ويسمى الارتداد بالصفات الثانوية؛ لأنه لا يبلغ مبلغ التشخيص والعرض في ملازمة النرجسية؛ ولأنه يأتي مرجوعًا في شخص واحد، ويأتي لهذا على ثلاث درجات:
أولاها: توثين النفس.
وثانيتها: خلع الشخصية على إنسان آخر، ومن المتعذر أن يكون هذا الإنسان نسخة مكررة من الشخصية النرجسية كما تهواها، ففيها لا بد شيء من الاختلاف بالتحسين أو بالتقصير.
وثالثة الدرجات: أن تعود الشخصية النرجسية، فتستعير الملامح المختلفة، وتتلبس بها وتحسبها من ملامحها وصفاتها، وبخاصة إذا رأت أنها ناقصة فيها.
ولا حاجة إلى استقصاء شواهد «الارتداد» في شعر أبي نواس، فكل ما وصف به أكفاء المنادمة والظرف، وجعلهم من أقرانه لا يخلو من هذا الارتداد، وكان قريبًا في تداعي الخواطر — أو تداعي الهواجس — أن يرى أنه يشبه «حسنًا» اسمًا ورسمًا إذ كان مفتونًا بطول قامتها وهو غير طويل:
ويخطر على البال أن أكثر الصفات المرتدة إنما كانت من صفات المخلوع محمد الأمين، ومن حبه إياه أنه كان صديق الخمر، وأنه كان ينهاه عنها لينفي عن سمعته قالة السوء.
بل قيل — وما هو بالخاطر البعيد — إن شغفه بالأمين إنما كان شغف عاشق لا شغف تابع بمتبوع، فما كان أبو نواس بالذي يبقى على ولائه بعد خلع الخليفة تشيعًا لرأي أو تعصبًا لمذهب، وتقول طائفة من الرواة: إن أبيات الشاعر الدالية التي يقول منها:
إنما نظمها في الأمين، وأنه كان يشرب معه يومًا، فنشط الأمين للسباحة فلبس ثياب ملَّاح، ولبس غلامه كوثر مثل لباسه، ووقعا في البركة، ونظر أبو نواس إلى بدن الأمين فرأى ما لم ير مثله، فلما كان من غد جاء الحسين بن المنذر مسلمًا عليه، قال الحسين: فسألته عن خبره مع محمد فقال: ويلك! رأيت الفتنة، وأنشد هذا الشعر فقلت له: ويحك اتق الله في رأيك، فإنه إن بلغه قتلك.
ولعل أبو نواس لم يحفظ للأمين من ذكراه ما هو أدنى إلى طبعه من معاقرته الخمر، ومن مجونه وملاحته:
فإذا كانت لازمة «الارتداد النرجسي» بحاجة إلى مورد يستعير منه الشاعر ما ليس عنده من الزينة الشخصية، فليس أحرى من الأمين أن يكون هذا المورد الرفيع، مع ما تقدم من ولع الشاعر بترديد الزهو بسمات الملوك وزينة التاج والإكليل.
•••
وخلاصة القول في النرجسية: إن أبا نواس كان من الشواذ في تكوينه الجنسي ودوافعه النفسية، ولكن شذوذه غير الشذوذ الذي اشتهر به، وهو إيثاره الذكران على الإناث، ولا بد من التفرقة بين الشذوذين؛ لأن النرجسية تفسر أطوار أبي نواس جميعًا، والشذوذ الآخر لا يفسرها، وهذا عدا ضرورة التفرقة بين الشذوذين للكشف عن بواطن السريرة، وفهم الأخلاق الخاصة والأخلاق الاجتماعية.
والنرجسية تفسر الولع بالمجاهرة الإباحية، ولكن الشذوذ الآخر لا يفسرها؛ لأنه قلما يغري صاحبه بالمجاهرة وكثيرًا ما يوحي إليه التخفي والاستتار، وإذا تبذل فإنما يتبذل لاعتقاده أنه أهون من أن يلفت الأنظار وأهون من أن يبالي الإهانة؛ لا لأنه يعمل على لفت الأنظار والاستهانة بالملام.
وقد تكون التفرقة هامة للعلاج النفسي لا محالة يوم تنكشف خصائص الغدد، ومفرزاتها وعلاقتها بالأطوار الجنسية والنفسية، فقد يصبح تعديل هذه المفرزات بالعلاج الجسدي ميسورًا، كما يصبح ضروريًّا لتقويم الأبدان والأفكار.
أبو نواس وأوسكار وايلد
واعتقادنا في مثل هذه الدراسات أن المقارنة أفضل وسائل التمييز فيها، وأن أفضل المقارنات ما كان بين المتباعدين في البيئة والزمان، فإن التشابه بين أبناء البيئة الواحدة والزمن الواحد لا يميز الأضداد، ولكننا إذا قارنا بين اثنين تفرقهما البيئة والزمان، ثم رأينا علامات التشابه بينهما واضحة، فهذا هو الدليل القاطع على فعل العلة التي يشتركان فيها.
وقد أسلفنا أن الشاعر العصري أوسكار وايلد كبير الشبه بأبي نواس في لوازم النرجسية، وهما مختلفان بعدها في كل شيء، في الزمن والموطن واللغة والدين والطبقة الاجتماعية، ولكنهما على هذا يتماثلان في كل لازمة من لوازم النرجسية، ويختلفان فيكون اختلافهما أدل على وحدة المزاج.
ففي أوسكار وايلد نلقى الملامح الأنثوية، وخصل الشعر والصوت الذي تمازجه الرخامة.
وليس الزهو المتبرج كل ما هنالك، بل هو الزهو الذي يصدم ويغضب كما قال صديقه أندريه جيد الأديب الفرنسي المعروف في ذكرياته عنه، وكان يتكلم بلغة عصره — لغة الثورة الفرنسية وأعقابها — فيقول: إن المستبدين ثلاثة: «مستبد يطغى على الجسد، ومستبد يطغى على النفس، ومستبد يطغى عليهما معًا، أما الأول فيسمونه الأمير، وأما الثاني فيسمونه الحبر والكاهن، وأما الثالث فيسمونه الرأي العام».
وكانت لذته الكبرى أن يتحدى الرأي العام ويثيره، ويتغنى بفضائل الرذيلة أو الخطيئة، ويكتب وهو يدافع عن الشاعر الفرنسي بودلير — زميله في النرجسية: «إن ما يسمى الخطيئة عنصر جوهري من عناصر التقدم تأسن الدنيا بغيره، أو تشيخ أو تنصل من كل لون، فهي بما تنطوي عليه من التطلع تزيد تجارب النوع الإنساني، وهي بتوكيدها المزايا الفردية تنجينا من إرهاق القوالب المطردة».
وقال: «إن الطيبة على المثال الذي تفهمه السوقة سهلة بينة، فكل ما تتطلبه مقدار من الذعر، ونقص في الفكر المتخيل ومعيار دارج من معايير كرامة المساتير».
أما الخطيئة العظمى عنده فهي البلادة، وعلامات الحضارة عنده اثنتان: الثقافة والفساد.
وذهب إلى أمريكا وعاد منها ينعي على قوم غاية البطولة في عرفهم أن يكون الرجل على غرار واشنطون لا يحسن أن يخلق لك كذبة واحدة.
وذهب إلى بلدة من بلاد إفريقيا الشمالية التي يغشاها طلاب الفراغ، وخرج منها وهو يقول لأندريه جيد: «غاية مناي أن أكون قد نجحت في إفساد هذه القرية».
وكتب ونظم وتحدث وعمل ليبشر بمذهب واحد يتكرر في صيغ مختلفة، وهو أن الفن والعلم منعزلان، وينبغي أن ينعزلا في مقاييس الأخلاق.
ومما يستوقف النظر غرام أوسكار وايلد بقصة نرجس في الأساطير الإغريقية، قبل أن يشتق منها النفسيون اصطلاحهم على عادات تلك الآفة الجنسية أو النفسية، فمن أحاديثه عن أندريه جيد أنه قال له ذات يوم بغير تمهيد: إنك تصغي بعينيك؛ ولهذا أقص عليك القصة التالية:
«لما مات نرجس أصبحت بركته كأسًا من الدمع المر بعد أن كانت من الماء الزلال، وأقبلت عليها الأزهار باكية عسى أن تغني لها وتغريها، فقلن لها حين رأين هذا. لا عجب أن تحزني حزنك على نرجس، فما كان أجمله وأحلاه.
فأجابت البركة: أو كان نرجس جميلًا حلوًا كما تصفنه!
قالت الأزهار: ومن ذا الذي يعرف جماله إن لم تعرفيه؟ لقد كان يمر بنا ولا ينظر إلينا، ولكنه ينحني عليك ويدمن النظر إليك، وفي مرآة مائك الجميل كان يستجلي بعينيه جماله هو في تلك المرآة.
وعادت البركة تقول: ولكنني أحببت نرجس إذ كان ينحني على حافتي وينظر إليَّ؛ لأنني كنت أنظر إلى عينيه فأرى جمالي متجليًا في تينك العينين».
•••
وما كان وايلد إلا ناظرًا في أعماق سريرته حين لمح بواطن النرجسية، فلم يلمحها في نرجس وحده، بل لمحها في البركة معه، فإذا هي النرجسية متقابلة بمرآتين.
هذه هي النسخة العصرية من أبي نواس، وتمامها أن أوسكار وايلد كان يتصل بالجنسين، وكان متزوجًا وله ولدان.
وأتم من ذلك في المشابهة أن أوسكار وايلد لم يكن يدمن الخمر كما يدمنها أبو نواس، وهذا على دين التحدي بالإباحية هو المعقول، فإن تحريم الخمر لم يبلغ في مجتمع وايلد تلك الشدة التي بلغها في مجتمع أبي نواس، فلا إثارة في إعلان حبها هنا كالإثارة التي يتعمدها أبو نواس في إعلان حبها هناك.