أسرار الغدد
الجنس والنفس
أشرنا قبل ختام الفصل السابق إلى فعل الغدد في التفرقة بين الأمزجة، وإلى آثارها المرجوة في علاج أمراض النفس والجسد مع تقدم العلم بأسرار كل منها على حدة، أو على التعاون بينها وبين الغدد الأخرى.
وكل ما عرفه العلماء حتى اليوم من الأسرار لا يعدو أن يكون مقدمة وجيزة من كتاب ضخم متعدد الأجزاء والأبواب، ولكنه على قلته يبدو كالخوارق التي لا تقبل التصديق لولا أنه محسوس مؤيد بالتجربة المتكررة، وسينجلي من أسراره مع الزمن ما يعلم المنكرين المتهجمين كثيرًا من الأناة والروية قبل التهجم والإنكار. فإن الذين استغربوا أسرار الروح بالأمس، فأنكروها لغرابتها ليحارون اليوم بين تلك الغرابة وبين الغرابة التي تحيط بكل غدة من هذه الغدد في عملها المفرد وعملها المرتبط بغيرها، إن أغرب الغرائب ليدخل في حكم المألوف إذا قيس إلى هذه الغرائب، وهي كما أسلفنا لما تجاوز مقدمة الكتاب.
هذه الغدد تعمل معًا كالفرقة الموسيقية التي يعطي كل منها اللحن الذي يناسبه، ويناسب آلات الفرقة بأجمعها.
بل هي في تجاربها أدق من ذلك وأعجب؛ لأن الآلة الموسيقية إذا اختلت في أداء لحنها لم تصلحه لها آلة أخرى، أما هذه الغدد فكل اختلال فيها تتصدى لإصلاحه غدة أخرى بعينها، وإذا اختلت غدتان في وقت واحد تعاونت الغدد الأخرى على تعويض عملهما، وبادرت كل واحدة منها إلى أداء مهمة لم تكن تؤديها قبل ذلك، ولا يقع الاختلاط بين هذه المهام المتقابلة، أو المتناقضة في بعض الأحوال، إلا إذا كان الفساد قد عم البنية جميعها فلا يرجى لها صلاح.
والمعروف من عملها حتى اليوم في توجيه الجنس، وتحويل الأحوال النفسية يهول العلماء بما يرونه اليوم، وما ينتظرون غدًا أن يروه، ويحسب بعضه من الحقائق المقررة ويحسب بعضه الأكبر من الفروض والتأويلات، بل من الظنون والتخمينات، وهذه هي المرحلة الخطرة في طريق هذا العلم الجديد. لأنها توجب الحذر والانتباه، وقد يفوت الأوان إذا توغل الباحثون مندفعين وهم لا يحذرون ولا يتنبهون.
لقد مضت القرون الأولى ودراسة «الجنس» مهملة، أو مسكوت عنها باتفاق العلماء والجهلاء على السواء، وقد توطئوا جميعًا على السكوت؛ لأنهم لم يفلتوا بعد من أسر الطوطمية وتحريماتها، ولا من وهم المتوهمين أن العلاقة الجنسية دنس معيب، أو أنها وصمة مخجلة لمن يتحدث بها ولمن يسمعها ولمن يعنى بها ولو للعلم والعلاج.
ثم اندفع العصر الحديث من الحظر إلى الثرثرة بالجنس في الدراسات وغير الدراسات، وأوشك الخطر من الإفراط في القول أن يضارع الخطر من الإفراط في السكوت أو يزيد عليه.
وهذه كما أسلفنا مرحلة الحذر والانتباه، يواجهها الباحث كما يواجهها القارئ والسامع، وبخاصة حين نذكر أن كثيرًا من البحث في هذه المرحلة ضرب من الظن والتخمين.
ووسيلتنا نحن في الحذر والانتباه، أن نقسم أقوال الباحثين النفسيين في مسائل الجنس إلى قسمين: ملاحظات، وتعليلات أو تخريجات.
فأما الملاحظات فالكثير منها مقبول مقصور على الوقائع والمشاهدات، وأما التعليلات فالكثير منها تخمين يجوز عليه ما يجوز على كل تخمين، ولا استثناء في هذا الحكم لمذهب أحد من المتخصصين أو غير المتخصصين، فما اتفقت مدارس التحليل النفسي على أساس واحد من أسس البواعث النفسية الكبرى، فما الظن بغير الأسس من الفروع والتشاعيب؟
وإذا سألنا هذه المدارس عن الدافع الأكبر في النفس الإنسانية فماذا نسمع؟ أهو الجنس؟ أهو تغليب الشخصية؟ أهو الغريزة الاجتماعية؟ أهو الدوافع الواعية؟ أهو الدوافع غير الواعية؟ وهل هي موروثة أو مكسوبة؟ وهل هي قابلة للتعديل قبل الولادة أو بعد الولادة؟
وأولى الأقطاب النفسيين بالحذر من تعليلاته وتعميماته هو رائدهم الأول سيجموند فرويد، وإنما كان الأولى بالمحاذرة؛ لأنه الرائد الأول وفيه إلى جانب فضائل الرواد كل عيوب الارتياد، ومنها الاقتحام.
فالفضل الذي يشكر عليه فرويد لا نزاع فيه بين مؤيديه ومخالفيه، فقد دخل بالتحليل النفسي في دور جديد لم يسبق إليه، ولكنه وثب منه إلى تعليلات وتعميمات لا تستند إلى الوقائع والمعلومات، وقد تبطلها وتفندها جميع الوقائع والمعلومات، كدعواه الأخيرة عن إرادة الموت في الإنسان، وأنها إرادة كإرادة الحياة.
ولكن فرويد زاد على الصدمة العصبية التي يعرفها المريض أنه بحث عن صدمات الوعي الباطن، والصدمات التي لا يعيها أحد، فكان على بر الأمان وهو يتتبع الأعراض المرضية في كل مريض على انفراد، ولكنه لم يلبث أن وثب من حجرة الاستشارة إلى العالم بأسره، وإلى النوع الإنساني من أبعد نشأته، بل إلى الكيان الحيواني ومن ورائه الكيان المادي الذي يخبط فيه فلاسفة ما وراء الطبيعة، ولا يحسبونه في علم التجربة والمشاهدة، ولا يستخرجون منه علاج الأبدان والأخلاق.
وحسبك حذرًا من تعليلاته وتعميماته أنها تجعل الشذوذ أساس الحياة الإنسانية، فكل إنسان مصاب بعقدة الأب أو عقدة «أوديب» المكبوتة، وكل إنسان عرضة من جراء هذه العقدة للقلق في بيئته النفسية وعلاقاته الخارجية، وليست العقائد والشعائر والعبادات والفنون إلا تعبيرًا عن هذا القلق، أو دفاعًا عن النفس أمام طغيانه في داخلها وخارجها.
وعقدة أوديب هذه ما هي؟ وفي أي عصر كان الإنسان الهمجي براء من كبتها؟
هل شوهدت حالة من حالات الجماعات الإنسانية كانت سابقة لهذا الكبت المزعوم؟ هل توجد الآن حالة كهذه بين الجماعات الهمجية، التي تقاس عليها الجماعات البدائية في الأزمنة السحيقة؟ وإن كان هذا التطور مغرقًا في القدم فكيف عرفناه؟ هل وجد بين جماعات الحيوانات مثال لهذه النوازع يتأتى لنا أن نشاهد ما يقاس عليه؟
من المحقق أن كل ما شوهد ويشاهد من أطوار الجماعات الإنسانية، أو الحيوانية لا يسمح بهذه الوثبة الطويلة العريضة في التعليل والتعميم.
على أن الوثبة الطويلة العريضة لم تقف عند أطوار الإنسان الأول أو الحيوان الأعجم، بل جاوزتها بعيدًا جدًّا إلى ما وراءها، فاستخرجت من أطوار المادة «غير العضوية» ما يسميه فرويد غريزة الموت، ويكاد يحصر فيه كل دفعة لا تحتويها الغرائز الجنسية.
ففي طوية الإنسان — على رأي فرويد — دوافع ضارة به تهيئ له طريق الموت من حيث لا يشعر ولا يريد، ومرجع هذه الدوافع حنين المادة في كيانه إلى حالتها الأولى قبل الحياة!
هذا ضرب من التعليلات التي تنقض الحس والعلم والمشاهدة، ولا يعززها اللفظ في عبارة فرويد نفسها إذا أراد أن نفهم من اللفظ أصدق معانيه.
فهل فارقت المادة في الجسم الحي شيئًا من خصائصها «غير العضوية» حتى يقال: إنها تحن إلى معاودته، وإن حنينها إلى معاودته هو الذي يسمى بغريزة الموت. هل فارقت قانون الجاذبية؟ هل فارقت قوانين اللون والإضاءة؟ هل فارقت قانونًا واحدًا من قوانين الطاقة، سواء نظرنا إلى الطاقة الحيوية كلنها طاقة مادية أو طاقة روحانية؟
الواقع أن المادة تحافظ على خصائصها هذه مع قوة الحياة كما تحافظ عليها مع كل قوة، وينبغي أن يقال إذن: إن غريزة الموت تعم الكون كله ما دامت للمادة هذه المقاومة، أو هذا القصور الذاتي مع كل طاقة، فمن أين جاءت الطاقة التي لا تحتويها المادة؟ وإلى أين ننتهي إذا نحن ذهبنا نتخبط في هذه التعليلات والتعميمات.
إننا لا نستطيع في هذا العصر أن نصف المادة حتى «بالقصور الذاتي» الذي يعزلها عن الطاقة. ولا نستطيع أن نقول: إنها ذات طاقة تريد ما لا تريده الحياة، ولو كان معنى الإرادة المقصود أنها تطيع قانونًا لا فكاك لها من طاعته، فلا نستطيع أن نفهم غريزة الموت على أي معنى من معاني فرويد ومدرسته، وكل معنى نفهمه قد يصدق على المادة التي تحيط بالجسم الحي والمادة التي تكمن فيه.
أقل ما يقال عن هذه التعليلات والتعميمات أنها لم تثبت حتى يسوغ لنا أن نثبت ما يقوم عليها، وغاية ما تنتهي إليه أنها خواطر موحية تومئ إلى مواضع البحث والمناقشة، وتتفرق إلى كل مفترق حتى يختار منها الناقد ما هو أحرى بالاتباع.
فمن أراد أن ينظر فيها على أمان فلينظر إليها كأنها ضرب من الحدس لا يزال يتردد بين الافتراض والاحتمال؛ وليأخذ به على حسب اقترابه من المعرفة العلمية في تجارب الغدد، وتطور الوظائف الجنسية.
ونسميها المعرفة العلمية عمدًا للتمييز بينها وبين العلم المقرر، إذ لم تبلغ المعرفة بالغدد وتطور الجنس مرتبة العلم المقرر الذي تتفق عليه جميع المذاهب، وتتساوى تجاربه في كل حالة، وليس من السهل أن يرتقي إلى هذه المرتبة في مدى هذه السنوات القصار؛ لأنه متعلق بحياة الحيوان والإنسان، ولا يسهل ضبط الملاحظات على نمط واحد في جميع الأحياء.
ومن المعرفة العلمية العامة أن الغدد الصماء وثيقة العلاقة بتكوين الجسم، وتكوين وظائفه الجنسية على الخصوص، وهي الغدة النخامية والغدة الصنوبرية في الدماغ، والغدتان الدرقيتان والشبيهتان بالدرقيتين في الرقبة، والغدتان السعتريتان في أعلى الصدر، والغدتان الكظريتان فوق الكليتين، والخصيتان في الرجل والمبيضان في المرأة.
وليس من غرضنا في هذا السياق أن نتوسع في شرحها وبسط وظائفها، وإنما نكتفي بالمعلومات الحديثة عن كل منها فيما يتعلق بالوظائف الجنسية، والأطوار العاطفية أو النفسية.
فقد كان المنظور قبل هذه الكشوف أن الخصيتين والمبيضين هي الغدد الجنسية دون غيرها في جسم الرجل والمرأة.
فتبين بعد مراقبة الإنسان وإجراء التجارب الكثيرة على الحيوان أن الغدة النخامية ذات أكثر كبير في تكوين خصائص الحي، ومنها خصائص الرجولة والأنوثة.
الجنس
وتتعاون الغدة الدرقية والغدة السعترية على إنماء الجسم إلى سن المراهقة، ولكن الغدة الدرقية موكلة بنمو التطور، والغدة السعترية موكلة بنمو الحجم والبدانة، فإذا حقنت الشفدع (فرخ الضفدع) بإفراز الغدة الدرقية تطورت، وتحولت إلى ضفدع وهي على حجمها.
ويفهم من هذا أن النمو مرتبط بالغدد جميعها، ولا يرتبط بالغدد الجنسية أو التناسلية وحدها.
ولا بد من استمرار الغدة الدرقية في أداء وظيفتها قبل المراهقة، وبعد البلوغ وتمام النضج في الجنسين، أما الغدتان السعترية والصنوبرية، فتنموان إلى سن المراهقة، ثم تسلمان الجسم إلى عمل الغدة التناسلية التي تبدأ في تلك السن وظيفتها المولدة.
أما إذا اعتراه الخلل بعد الولادة فقد تتميز فيه صفات الجنس، وتصاحبها سرعة المراهقة، فتظهر ملامح الذكورة أو الأنوثة في الخامسة أو السادسة.
وقد تصاب الغدة بعد سن المراهقة، فينبت الشعر على جسم المرأة ويغلظ صوتها، وتشتد عضلاتها.
ويشاهد على وجه التقريب أن العواطف والأحاسيس ترتبط بأعمال الغدة الكظرية، وأن أعمال الدماغ ترتبط بالغدة الدرقية، وأن تكوين العضل يرتبط بالغدة النخامية.
ويذكر للفيلسوف ديكارت على سبيل الإعجاب ببداهته الفلسفية أنه أدرك شأن هذه الغدة قبل ثلاثة قرون، وخطر له أنها مركز القوة الروحية، وعزز هذا الخاطر عنده أنه رآها الغدة المفردة دون غيرها بين غدد الجسم كله، ويعترض عليه المحدثون بانفراد الغدة النخامية، فيرد عليهم أنصاره مشيرين إلى انقسام الغدة النخامية كأنها غدتان!
ودلت مراقبة التوالد في الكائنات الحية على أن هذه الغدد تبدأ في الظهور مع انقسام الجنسين، ولا تتميز خصائصها كل التميز في أنواع الأحياء التي تميزت فيها الذكورة والأنوثة.
وهنا ينبغي أن نذكر أن الأحياء توالدت قبل أن يكون فيها جنسان متميزان.
ويتم التوالد في أحياء أرقى منها بالنتوء، أو الأزهار تشبيهًا له بنتوء الكم من فرع الشجرة، فإذا أدرك الحيوان سن الولادة شوهد على ظاهره نتوء يكبر حتى ينفصل ويستقبل بكيانه، ويجري السؤال على هذا النمو في الأحياء التي تتعدد خلاياها، ومنها بعض ديدان الماء والطحالب.
التوالد
فتتوالد من الحيوان جرثومة قابلة للنمو بغير تلقيح، وهي نفسها قد تلقح فيختلف النتاج، كما يحدث في جراثيم النحل الذي تنمو خلاياه غير الملقحة، فتصبح ذكورًا وتنمو خلاياه الملقحة فتصبح إناثًا، ولا يبقى النوع بغير هاتين الطريقتين.
كذلك يحدث تضخم البروستاتة في الشيخوخة لنقص إفراز هرمون الذكر، أي: الأندروجين، وزيادة إفراز هرمون الأنثى، أي: الأستروجين.
ويشاهد على الأغلب أن أثر الأندروجين في عموم الجسم أقوى من أثره في جهاز التناسل مباشرة، فإذا نقص نقصت في الرجل صفات الذكورة الثانوية، وإن لم يضعف جهازه التناسلي، فتغلب عليه بعض أطوار الأنوثة، ولا تتعطل قدرته على التوليد.
ومن هذه المشاهدات المتكررة يجنح ذوو التجارب إلى القول بأن غياب أطوار الرجولة يبرز أطوار الأنوثة ولا يحدث عكس ذلك، أي: أن غياب أطوار الأنوثة لا يعطي الرجل صفات جنسه النفسية أو الجسدية.
وأيًّا كان مقطع الرأي في هذه التجارب، فالثابت من أطوار الصبغيات والناسلات أن أنوثة الجنين مطردة، حيث يغيب الصبغي الذي ينفرد الذكر بإفرازه، وإنه حيث يوجد هذا الصبغي يكون الجنين ذكرًا على الدوام.
فمن عجائب الخلقة أن الخلايا المولدة التي تصل إلى رحم المرأة تبلغ نحو مائتي مليون خلية، كل خلية منها تحتوي على أربعة وعشرين صبغيًّا، وكلها متشابهة إلا بعض صبغيات الذكر؛ فإن الصبغي الرابع والعشرين منها يشتمل على خلية واحدة ذات جزئين مختلفين، ولا يأتي هذا الاختلاف إلا على النسبة التي يتعادل بها عدد الذكور، وعدد الإناث في النوع الإنساني بوجه التقريب.
وكثيرًا ما يرث الولد استعدادًا تحول البيئة دون ظهوره، ولكنه لا يكسب في البيئة خلقًا لم يكن على استعداد له بتكوينه.
ولكن العلماء يتابعون البحث على هذه الخطوط الواسعة؛ أملًا في الوصول إلى تعيين عمل الصبغيات جميعًا في نقل الأخلاق والخلال الموروثة، وهو بحث عويص محفوف بالمجازفات والصعوبات، ندرك شيئًا من صعوباته كلما أحضرنا في خلدنا دقة الناسلة التي تعد بمئات الملايين في إفراز الغدة الواحدة، وتحمل فيها ما ظهر، وما خفي من خلائق الآباء والأجداد من طرفي الأبوة والأمومة إلى أجيال لا ندرك أولها في القدم، ولا نهايتها في المستقبل، ومن المجازفة الشديدة أن يتصدى أحد — بالغًا ما بلغ علمه — لمحاولة التعديل في مثل هذه الناسلة الدقيقة حتى يمحو منها خلقًا، أو يسويه من عوج إلى اعتدال.
الفوارق بين الجنسين
وبعد فهذه عجالة توخينا الإلمام فيها بما هو ضروري من المعارف العلمية من أعمال الغدد، وتطور الوظائف الجنسية، فما هي النتيجة التي تنتهي إليها؟
وإذا كانت هذه الخصائص لا تتوافر جميعها في بنية واحدة، فهذا شأن جميع الخصائص في كل تراكيب الأحياء أو الجماد، فلا يوجد إنسانان ولا شجرتان ولا حجران على مثال واحد، ولا يلزم من عموم المادة الكربونية مثلًا أن الفحم والماس، والسكر أشباه لا فوارق بينها في جميع المزايا والقيم والأغراض.
وللنوع الإنساني ولا شك خصال عامة يشترك فيها الجنسان، ولكن التطور الجنسي لم يتقدم هذا التقدم ليتشابه الجنسان في النهاية، وإنما تقدم الجنس لتظهر بينهما الفوارق اللازمة، ويبقى كل منهما بعد ذلك إنسانًا فيما عدا هذه الفوارق اللازمة؛ لأنها لا تخرج الذكر من إنسانيته، ولا تخرج الأنثى من إنسانيتها، ولن يكون النوع الذي ينتميان إليه نوعًا واحدًا إذا اختلفا في كل شيء.
وقد وجدت حالات من الشذوذ الجنسي لا شأن لها بالخصائص الموروثة، ومرجعها كلها إلى العوارض الاجتماعية، أي العوارض التي تطرأ بعد الولادة.
فالذين راقبوا الشذوذ الجنسي في الحيوانات وجدوا أنه يعرض للقردة والكلاب، وبعض الطيور كالحمام، ولكنه لا يعرض لها إلا في غيبة الإناث وحين يتربى الذكور من هذه الحيوانات في مكان واحد تنعزل فيه، ولا تظل على شذوذها بعد اختلاطها بإناثها.
وهذه هي العوارض التي يتخذها بعضهم شاهدًا على النزعة الفطرية في الشذوذ الجنسي؛ لأن الحيوانات والهمج يباشرونه كأنما كانت استقامة الفطرة وقفًا على الحيوان والهمج المتخلفين عن المدنية.
وقد درست في عواصم المدينة أحوال الشواذ المحترفين، فلم يوجد بمعظمهم شذوذ في تكوين البنية، ودلت دراستهم وفحصهم على أنهم يحترفون البغاء طمعًا في الكسب، ولا ينقادون للغواية بدافع فطري من النزوة الجنسية.
وتفعل البواعث النفسية فعلها في حالات شتى من الشذوذ الجنسي، الذي لا يقبل التعليل بغيرها ولا يتأتى خلوه منها، إذ لا يخفى أن الصلة بين الرجل والمرأة لا تقوم على الوظيفة التناسلية بمفردها، بل تسبقها في المجتمعات المتحضرة ومجتمعات البداوة أحيانًا أشواق نفسية، ومطالب اجتماعية، فيجوز أن يكون الرجل سليم البنية، ولكنه لا يروق المرأة ولا يثير شعورها أو يستولي على عواطفها، ويجوز أنه يشعر بذلك فيحجم عن طلب المرأة هربًا من المهانة وألم الخيبة، ويجوز أن يحس من نفسه ضعفًا فيتجنب الصلة التي تخجله أمام شريكته، ويجوز أن ينفر من امرأة واحدة ذات شأن عنده، أو ينفر من امرأة واحدة أضرته واحتقرها أو احتقرته، فيسحب احتقاره على جميع بنات جنسها، ويجوز أمثال ذلك كثير من علل الشذوذ الجنسي الذي ينفر صاحبه من المرأة، ولا يمكن أن يخلو من البواعث النفسية.
فإذا قيل مثلًا: إن الناشئ الذي نقصت وظائف الرجولة عنده يتشبه بالنساء وينقاد لشهوات الرجال، أو قيل: إن الناشئة التي جارت فيها هرمونات الذكورة على هرمونات الأنوثة تتشبه بالرجال، وتتعشق بنات جنسها، فكيف يمكن أن نعلل بعلة الهرمونات حالة الناشئ الذي لا يحب المرأة، ولا يميل بعاطفته الجنسية إلى غير أبناء جنسه؟ إن زيادة الهرمونات المذكورة خليقة أن تصرفه إلى الإفراط في حب الإناث، وإن نقصها خليق أن يلحقه بالمتأنثين: أما الرغبة التي تقيد الرجل بأبناء جنسه، فليس لها تعليل معقول من قبل الهرمونات، ولا بد من الرجوع بها إلى الحالات النفسية والعادات العارضة، سواء نشأت من ظروف المجتمع، أو من البيئة المنزلية في نطاقها المحدود.
إحدى هذه الحالات حالة فتى كان يحب أمه حب العبادة، ثم ماتت فوقع في صندوقها على رزمة من الأوراق قرأها، فوجد أنها رسائل غرامية، وعلم منها أن أمه كانت تخون أباه وتخون عشاقها، وأنهم كانوا يتبذلون في الكتابة إليها عن أفانين الرذيلة التي كانوا يقترفونها معها، ويستعيدون ذكراها.
وإحدى هذه الحالات حالة فتى أصابه المرض من امرأة يهواها، وغيرها حالة فتى أذلته فتاة، وصدمته في كبريائه فجعل يتمثلها في كل فرد من بنات جنسها، وأشباه ذلك حالات تحصى بالمئات.
فمثل هذه التعميمات، في الحق تهجم لا مسوغ له من العلم ولا من أدبه، ولسنا نقصد بهذا أن الشواذ مجردون من الملامح والخصائص التي قد تدل عليهم، ولكننا نقصد أنها قد توجد فيهم وفي غيرهم، وقد تميز الشواذ حين تفترن بدلالات كثيرة تلصق بهم مجتمعةً ولا تميزهم متفرقة، وسنضرب المثل على ذلك بهذه المياسم المتعددة حين تجتمع في شخصية «أبي نواس».
وينبغي أن نثوب إلى قسطاس مفهوم لا يعتسف التفرقة بين العلامة الجسدية، وهي عرض من أعراض الشذوذ الجنسي، وبين هذه العلامة بعينها، وهي لا تدل على مرض من أمراض النفس، ولا تتعدى موضعها من البنية.
فالنفسانيون متفقون على أن العاهات النفسية إنما هي توقف في النمو، أو احتباس له يعوق المصاب عن أن يستوفي نمو العاطفة أو الفكر أو الحاسة الاجتماعية أو وظائف البنية، وتقترن بهذه العاهات أحيانًا علامة محسوسة أو عادة جسدية نابية، إلا أن هذه العلامات قد تكون موضوعية، فلا تدل على نقص مستتر، كعثرات النطق مثلًا، فإنها قد تدل على احتباس القوى الناطقة عند دور الطفولة، فيظل الرجل طفلًا تلازمه عيوب النطق الناقص إلى سن الشيخوخة، وقد تطرأ بعد تمام النمو فيلثغ الرجل في الخمسين أو الستين إذا سقطت ثناياه، ويتمتم أو يرت لسانه إذا اصطدم واختل جهازه الصوتي دون مساس بعاطفته وشعوره.
كذلك الطفل اليتيم أو الطفل الذي افترق أبواه، وتربى مهملًا أو مدللًا في حضانة أم جاهلة لاهية، فهو عرضة للشذوذ الجنسي إذا كان ضعيف المزاج في بيئة مغرية، شبيهًا بالنساء في سماته وملامحه، ولكنه قد يندفع إلى السطو والإجرام إذا كان قوي المزاج متغلبًا على أقرانه، وقد يسلم من الشذوذ والإجرام معًا وهو ضعيف المزاج مشابه للنساء إذا نشأ في بيئة بعيدة عن مغريات الرذيلة والجريمة، أو كانت الرذيلة والجريمة في بيئته مما ينفر الطفل، ويثير سخطه واشمئزازه.
فالعلامات الجسدية وحدها لا تكفي لتمييز الشواذ، والدلالة على عاهات الأخلاق والطباع، ولا بد معها من قرائن عدة تتناول البيئة في نطاقها المحدود، وفي نطاق المجتمع الكبير، وتأتي دلالتها حتمية قاطعة متى ثبت المرض، وتجمعت أعراضه الأخرى. أما قبل ذلك فهي دلالة ناقصة تسقط من كل تقدير صحيح.
•••
وسنرى عند تطبيق هذه العلامات على أبي نواس نماذج من الأعراض، التي لا تدل على شيء حين تنفرد، ولا تنقض دلالتها حين تجتمع؛ فإن أعراض البنية والتربية البيتية ونشأة المجتمع، وأحداث العصر قد اجتمعت في حالته الخاصة دون سائر الحالات التي وجد فيها شعراء عصره، فجعلته تلك «الشخصية النموذجية» التي تكاد لا تتكرر في جيل.