الشعر والشيطان
الشيطان
للشيطان تاريخ قديم مع الشعر، وموقع متغلغل في الدراسات النفسية، وأولها دراسة الدخائل المرضية.
فنحن نعلم من أدب الجاهلية قصة أولئك الشياطين الذين يصحبون الشعراء، ويوسوسون لهم بدقائق المعاني وخفايا الأفكار التي لا ينفذ إليها الناس بغير معونة الجن، ونعلم من شعر النابغة أن الجن هي التي بنت لسليمان بن داود هياكل بعلبك كما قال:
ولكن الشيطان هنا شيطان فني أو أستاذ فنان لا شأن له بوساوس الضمائر ووساوس الأخلاق، وكل شأنه أن يصنع ما يعجز الإنس عن صنعه لدقته أو ضخامته وفخامته، وقد كان أرباب الفصاحة كما قال أبو العلاء:
هذا الشيطان «الفني» لا يعني أصحاب الدراسات النفسية، ولا مدخل له في الوساوس المرضية، إنما يعنيهم الشيطان «الأخلاقي» الذي يرمزون به لحالة من حالات الضمائر على سواء أو على عوج؛ لأنهم يرمزون به أبدًا لقيمة وجدانية تتشخص في ضمير الإنسان على نحو من الأنحاء.
وملتون وكردوتشي مسيحيان، ولكن النقاد يقولون: إن الشيطان في شعرهما أقرب إلى صورة برومثيوس من الصورة التي مثلها العهد القديم لإبليس الرجيم.
وعلماء النفس يستنبطون من صورة برومثيوس والنسخ المنقولة عنها أن التمرد عريق في طبيعة الإنسان.
وهناك عدا الشيطان الذي يرمز إلى التمرد والكبرياء شيطان يرمز إلى السحر، والمعرفة الباطنية وهو مفستوفليس بطل رواية فوست من نظم جيتي شاعر الألمان.
واسم مفستوفليس على الأرجح منحوت من ثلاث كلمات يونانية بمعنى الذي لا يحب النور؛ لأنه يتعلم المعرفة ويعلمها كأنها ضرب من التجسس في الظلام على الأسرار الإلهية، فهو يلتمسها في السحر والطلاسم، ويجعلها ألغازًا يتولى حلها لمن يشاء.
وهذا الشيطان كما صوره جيتي والشعراء من قبله، يصنع إكسير الحياة ليطيل به العمر، ويرد به الشباب إلى الشيوخ ويساوم به على الضمائر والأرواح، فمن باعه الحياة الأبدية أخذ بديلًا منها المتعة والقوة والسيطرة بالمعرفة في حياته الأرضية.
وعند النفسيين أن هذا الشيطان متمرد متكبر كذلك الشيطان، ولكنه يتمرد بعقله من حيث يتمرد ذلك الشيطان بنفسه، وسلاحه المعرفة من حيث يتسلح زميله القديم بالشجاعة الحربية.
فالتمرد خلة مشتركة بين شيطان ملتون وكردوتشي وشيطان جيتي، وقد فضل جيتي شيطان المعرفة؛ لأنه كان في عصر النهضة العلمية ببلاده، وفضل الشاعر الإنجليزي والشاعر الإيطالي شيطان الغضب والتحدي؛ لأنهما كانا يغضبان ويتحديان، ويمثلان ثورة الأمتين على سلطان الملوك وسلطان الكهان.
وتزاد على هاتين «الشخصيتين» الشيطانيتين صورة أخرى من قريحة شاعر شرقي، يتخيلها في بعض أحلامه ويرينا فيها الشيطان فاتنًا وسيمًا يكذب بملاحته أقاويل أبناء آدم عن دمامته وقبحه؛ لأنهم مطرودون موتورون!
ذلك الشاعر الشرقي هو (السعدي) صاحب البستان والجلّستان، وأكثرهما مترجم إلى اللغة العربية.
فمن قصائده تلك القصيدة التي يتحدث فيها عن حلم رآه كما زعم أو كما تخيل، فيقول:
•••
وهذه صورة للشيطان لا نستغربها من مصورها، فقد كانت للسعدي طبيعة يمتزج فيها التصوف بالحكمة العملية، وقد طاف الرجل أقطار المشرق وجاس خلال فارس والعراق والهند، وعاش بين الوشايات وقصور الأمراء والوزراء، ورأى أناسًا بعد أن سمع عنهم وسمع عن أناس بعد أن رآهم، فخرج من سياحاته وتجاربه، وهو يعلم ما وراء الثناء وما وراء المذمة، وشعاره في الحياة «ألا تصدق كل ما يقال»، ولا شك في أنه لم يصور الشيطان على تلك الصورة التي تخيلها أو حلم بها إلا بعد أن رأى الشياطين من الإنس في أجمل صورة، وقاس الأمر بعقله فخطر له أن الشيطان خادع محتال، وأنه يخدع الناس ويستهويهم بوجه يقابلونه بالنفور والإعراض.
فهذا الشيطان الذي صوره لرمنتوف هو لرمنتوف بعينه مزيدًا عليه ما يتمناه ولا يناله لأنه إنسان، فإن الشيطان يتشكل بما شاء من الأشكال ويظهر للعيان أو يتوارى كما يشاء، وقد يتوارى عن قوم ويبدو لغيرهم وهم في مجلس واحد.
وهذا الشيطان مسكين معرض للغواية باختياره، فهو يحب فتاة من الإنس ويتراءى لها متجملًا في أبهج حلله، فتهواه وتكاد أن تجفو خطيبها من أجله، ثم يغار الشيطان من ذلك الخطيب فيقتله، وينقل جثته إلى الفتاة لتوقن من وفاته وتنساه، فتنقلب الآية وتحزن عليه حزنًا يحجب عن عينيها محاسن الحياة، فتأوي إلى الدير وتنذر الرهبانية مدى الحياة. ويجن جنون الشيطان فيلاحقها ويتصدى له الملك الحارس عند باب الدير وتصطرع قوة الشر وقوة الخير، فينهزم الملك وينتصر الشيطان، وينفذ إلى حجرة الفتاة فيملك الجسد وتصعد الروح إلى السماء.
ولم يتصرف لرمنتوف كثيرًا في نقل هذه الصورة من ذات نفسه، ولم يبتعد بالحادثة كلها عن المكان الذي أقام فيه وهو يكتب القصة، فقد أجراها في بلاد القوقاز حيث كان يقيم منفيًّا مغضوبًا عليه.
هذه نماذج من الشياطين، بين نموذج الشيطان المتكبر المتمرد ونموذج الشيطان الوسيم القسيم، ونموذج الشيطان الساحر الساخر، ونموذج الشيطان الخادع المخدوع.
ولعه بالشيطان
وقد كان أبو نواس كثير اللهج بذكر الشيطان، كثير التعويل عليه في غواياته ومغامراته، فأي هذه الشياطين هو شيطانه «المختار؟» وأي أثر لشخصية أبي نواس ذلك الشيطان؟
إن شيطان أبي نواس هو الشيطان الذي يريده أبو نواس، أو هو الشيطان الذي يلزم أبا نواس.
ففيه كل خلة من الخلال بالقدر الذي ينتفع به أبو نواس، فيه التيه والخبث والعلم والحلية والظرف على حسب الطلبة الموقوتة والحاجة العارضة، وكأنه لم يخلق إلا لأبي نواس خاصة، ولا عمل له إلا أن يرضي أبا نواس ولو خالف مهمة حياته، وهي الإغراء بالمعاصي.
فمن مهمة إبليس أن يغري الناس بشرب الخمر ما استطاع، ولكنه مطالب عند أبي نواس بأن يكف عنها عذاله، ومن يترفع عن مشابهتهم إياه في تعاطيها:
وإبليس في صورته عند أبي نواس تياه خَبيث:
وهو في صورته عنده عليم فقيه يستنبئه فيفتيه:
إلى أشباه هذه الفتاوى الإبليسية.
وهو عنده ظريف يعينه على فساده:
ولكنه في كل أولئك إبليس خاص بأبي نواس، يخدمه على الطلب ويؤثره بالخدمة ويذلل له من يعصيه:
وكأنما خلق إبليس لأبي نواس على تفضيل «المزاج النرجسي»، الذي يتذلل ويتأبى، ولا يملك إلا أن يجاريه في دلاله وتأبيه.
وليستحضر القارئ صورة طفل مدلل يسوم أبويه ما يرضيه وما يغضبه، ففي أية صورة يتمثله؟
إنه إذا شاء أن يهدد أبويه أنذرهم لا يأكلن الطعام، ولا يشربن الدواء ولا يدخلن الحمام حتى يرى ما يشتهيه بين يديه، وإنه ليسوق الحران أحيانًا، فيرفض كل شيء ويلوي وجهه عن كل سلوى.
أليس هذا هو أبا نواس بعينه حين يهدد إبليس وينذره:
أليس هذا هو أبا نواس بعينه وهو يزعم التوبة، ويتجنى على إبليس فيأبى كل ما يبذله له من شهوة ومتاع:
وينم أبو نواس على أخفى الخفايا بين جوانحه حين يعجب من تيه إبليس على آدم ثم خدمته لشهوات أبنائه، أو بعبارة أخرى لشهوة ابنه أبي نواس خاصة:
أو على الأصح أنه قد صار قوادًا «خصوصيًّا» لأبي نواس:
فمن هنا ننتهي إلى عقدة العقد في طوية الشاعر، وقد أسلفنا أن مثله لا يتعرض كثيرًا للعقد النفسية؛ لأنه يبوح برذائله ولا يكتم أقبحها وأفضحها، فلا سبيل للعقد النفسية إلى طويته من قِبَل هذه الرذائل، ولكن مشكلة النسب المدخول هي العقدة التي غلبته، فكانت من دوافعه إلى إدمان الخمر ومن بواعث الاحتيال عليها بالحيل الملتوية التي يصطنعها «مركب النقص» في أمثال هذه المشكلة.
فبماذا يفخر الفاخرون بالآباء من الآدميين قاطبة أكثر من أنهم أبناء آدم؟ ومع هذا يتيه إبليس على آدم، ولا يتيه على ابنه «أبي نواس» خاصة حين يخدمه، ويكاد يفرغ لخدمته قبل سواه.
بل مع هذا يأبى إبليس أن يسجد لآدم، ولا يأبى أن يسجد للحسن بن هانئ! كما جاء في حديث والبة: «ترى غلامك الحسن بن هانئ؟ قلت: ما شأنه؟ قال: إن له لشأنًا، فوالله لأغوينَّ به أمة محمد، ثم أرضى حتى ألقي محبته في قلوب المرائين من أمته وقلوب العاشقين لحلاوة شعره، قال والبة: فعلمت أنه إبليس، قلت: فما عندك؟ قال: عصيت ربي في سجدة فأهلكني، ولو أمرني أن أسجد لهذا ألف سجدة لسجدت».
ورواية القصة على هذا النسق أليق رواياتها بسياقها، وسواء كان والبة قد أوحاها إلى غلامه، أو كان غلامه قد أوحاها إليه، فقد رسخت في ذهن الغلام وأعجبته وارتفعت به هواجس أحلامه وأمانيه إلى الغاية القصوى من الفخر بالآباء، وهل بعد آدم غاية يرتفع إليها أبناء آدم وحواء؟
الشيطان ومذهب فرويد
ويدعونا الكلام عن الشيطان وعقدة الأدب، أو النسب إلى استطراد في مذهب «فرويد» حول هذا الموضوع، يدور على قصة مصور من أبناء القرن السابع عشر، فقد أباه وحالف الشيطان ودفعته إلى هذه المحالفة الشيطانية تلك العقدة النفسية التي يسميها فرويد بعقدة أوديب، ويقول في شرحها: إنها عقدة تتولد من حب الطفل لأمه وغيرته عليها من أبيه، ويكاد فرويد يزج بهذه العقدة في تعليل التاريخ الإنساني من أوله غير قانع باستخدامها في تعليل المسائل الفردية، والأزمات الوجدانية التي تعتري هذا وذاك من حين إلى حين.
وعقدة أوديب في رأينا لا تؤخذ جملة ولا ترفض جملة. إذ ليست كل غيرة على الأب غيرة جنسية، وبخاصة حين تكون الأم هي كل شيء في حياة الطفل الرضيع، فيغار عليها غيرة على حظوته وغيرة على طعامه وغيرة على سلامته، وغيرة على كل شيء يحسه ويدركه، وقد رأينا كلابًا تغار من كل شيء يعنى به صاحبها، ومن كل أحد يدﻟﻠﻪ أمامها، ولا تختلف هذه الغيرة باختلاف الذكورة والأنوثة، ولا باختلاف الحياة والجماد، وإذا كان الجنس يفسر كل شيء على رأي فرويد، فهو لا يفسر شيئًا على الإطلاق، ولا يميز لنا بين دافع ودافع من دوافع الحياة.
ومن ضعف مذهب فرويد في هذه النقطة أنه يفترض حينًا أن الطفل الذكر يغار من أبيه على أمه، ويفترض حينًا آخر أنه يغار من أمه على أبيه، ويحب أن يستأثر بالأب استئثارًا جنسيًّا كاستئثار الزوجة بالزوج، ثم لا ينجح أقل نجاح في التفرقة البيولوجية «الحيوية»، أو النفسية بين الطفل الذي يغار من أبيه على أمه، والطفل الذي يغار من أمه على أبيه.
فعقدة أوديب قابلة للتفسير بتخريجات كثيرة غير العاطفة الجنسية، وهي في القصة التي نسرد خلاصتها صالحة للمقارنة بين بطلها وبين أبي نواس؛ لأنها تشتمل على عقدة الأب ومحالفة الشيطان، وبطلها فنان يتعاطى الخمر، ويكثر منها أحيانًا فتتجسم أمامه الرؤى والأشباح.
تناول فرويد موضوع هذه القصة في تقرير مفصل كتبه سنة ١٩٢٣، وبناه على وثيقة مأخوذة من دار المحفوظات الإمبراطورية بمدينة فيينا فحواها أن المصور «كريستوف هايتزمان» من أهالي بافاريا عاهد الشيطان، وكتب معه عقدًا موقعًا بالمداد الأسود، ثم عقدًا موقعًا بالدم على أن يبيعه روحه ويسعد بمعونته، وحدث ذات يوم (٢٩ أغسطس سنة ١٦٧٧) أن هذا المصور كان يصلي في الكنيسة، فسقط مصروعًا وجيء به إلى الأسقف، فاعترف له بتلك المعاهدة وتوسل إليه أن يسأل السيدة العذراء أن تعتقه من أوهاق الرجيم، وتسترد منه الوثيقة التي تسلط بها عليه، ثم رأى المصور بعد فترة قضاها في التوبة والتكفير أن الشيطان جاءه بوثيقة الدم، وحفظ عنده وثيقة المداد الأسود، فشفى من داء الصرع برهة ثم عاودته النوبات، وتمثلت له في خلالها الأطياف المقدسة من عليين، ووقع في روعه أنها لا ترضى عنه ما بقيت في حوزة الرجيم تلك الوثيقة السوداء.
ويستدل من الأوراق المحفوظة على سر هذه المعاهدة، وهو حالة اليأس والهبوط التي استولت على الفتى بعد فقد أبيه فحرمته لذة الإقبال على العيش، ثم حرمته فوق ذلك قدرته على إتقان فنه، فاضطربت موارد رزقه وغامت على عقله غيمة الخوف والتشاؤم، وظهر له الشيطان في إبان هذه الأزمة. فساومه على روحه، وأطمعه في رد كل ما فقده من بشاشة العيش وبراعة الفن، فانقاد له، ولكنه رفض ما عرضه عليه الشيطان من العلم بطلاسم السحر، والمتعة بالمسرات والأموال، ولم يطلب منه إلا طلبة واحدة، وهي أن يكون ابن جسده وأن يندمج فيه روحًا وبدنًا بعد تسع سنين، وأن يحل في خلال هذه السنوات التسع محل أبيه.
وللقصة حواش متفرعة لخصها فرويد في رسالته، وعلق عليها فكان موفقًا في جوهر تعليقاته.
والقصة في جملتها تغري بالمقارنة بين هذا المصور وأبي نواس، فكلاهما فنان وكلاهما يعاقر الخمر وكلاهما يحالف الشيطان على نهجه.
والإغراء بالمقارنة يأتي من أوجه الشبه، ومن أوجه الاختلاف بين «الشخصيتين».
فأبو نواس لا يشعر بالكبت فلم يصبه الخبل، ولا يثقل عليه نهي أبيه عن مزاولة فنه، فلم يعجز عن قرض الشعر في حياة أبيه ولا بعد موته.
ولو كان أبو نواس يعاقد الشيطان سرًّا لاختبله الوسواس، الذي اختبل المصور وأوقع في روعه أنه هنالك ما بقي في يد الشيطان ذلك العقد الموقع بالمداد الأسود، وذلك العقد الموقع بالدم، ولكن أبا نواس كان يحالف الشيطان ويجهر بمحالفته، وكان يلعنه ويحسب أن اللعنة هي التحية المحببة إليه، فسلم من الخبل بالعلانية، وإن لم يسلم من كل عقدة نفسية تتعلق بالنسب كما سنرى في بيان العقدة التي ألجأته إلى إدمان السكر، والهيام بالخمر هيام المتهوس المفتون.