غزل المؤنث والمذكر
الحب والغزل
قال أبو نواس في جنان:
وقال في عريب:
وقال:
وقال في دنانير:
وقال في حسن:
وقال في عنان:
وقال في جنان:
وقال فيها:
وقال في منية:
وقال مورِّيًا أو مصرحًا:
وقال من غزل المذكر:
وقال منه:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال موريًا أو مصرحًا:
وقال كذلك:
هذه أمثلة متفرقة من غزل أبي نواس في المؤنث والمذكر، جمعناها بين جدها وهزلها، ومبالغتها واعتدالها، وجيدها ورديئها، وعرضناها معًا ليقابل بينها من يشاء كما قابلنا بينها، فهي على ما نرى سواء في لبابها وقشورها، لا يجزم الناقد برجحان غزل المؤنث منها على غزل المذكر، ولا برجحان غزل المذكر منها على غزل المؤنث، وإذا اتفق تفضيل قطعة من هذا الغزل على قطعة من ذلك الغزل، فكما يتفق تفضيل القطعة على الأخرى في الغزل الواحد، أو كما يتفق التفاضل بين كلام الشاعر في بعض أغراضه أو في جميع أغراضه، فلا يكون الشاعر مجيدًا في كل ما يقول ولو قصر النظم على بابه الذي فرغ له، ولم يستحسن له قول في غيره.
وتتشابه الصفات والملامح التي يهواها الشاعر في معشوقاته ومعشوقيه، ويهوى المعشوقة أحيانًا؛ لأنها «مذكرة مؤنثة» ويهوى المعشوق أحيانًا؛ لأنه «متفتر وفيه تأنيث»، فكما يكون من محببات الأنثى إليه أنها تشبه الغلام في بعض أوصافه، كذلك يكون من محببات الأنثى إليه أنها تشبه الأنثى في بعض الأوصاف.
إنما جزم بعض النقاد برجحان غزله في المذكر على غزله في المؤنث؛ لأنهم ساقوا أنفسهم اضطرارًا إلى هذا الترجيح، وفرضوا فرضهم الأول بغير فهم لحقيقته، ثم ألزموا أنفسهم نتائجه عن اعتساف لا دليل عليه.
فرضوا أن الشذوذ الجنسي شيء واحد يستلزم أن يكون الشاذ منحرفًا إلى هوى أبناء جنسه، ثم وجدوا أبا نواس يتغزل بالجواري كما يتغزل بالغلمان، ووجب أن يعللوا هذه الغرابة فعللوها بالصدق في أحد الغزلين والكذب في الغزل الآخر، ولكنهم إذا رجعوا إلى الحقيقة لم يجدوا علامة من علامات الصدق عندهم ينفرد بها غزل المذكر أو غزل المؤنث، سواء نظروا إلى التعبير عن الشعور، أو نظروا إلى الإجادة الفنية، وهذا على فرض أن الإجادة الفنية شرط من شروط الشعور الطبيعي في أهل الفنون وفي سائر الناس.
وتصحيح هذا الخطأ إنما يكون بالرجوع إلى العلل النفسية، كما شرحتها الدراسات الأخيرة، فأصل الخطأ سوء فهم الشذوذ الجنسي الذي انطوت عليه طبيعة أبي نواس، فلم يكن شذوذه يستلزم الشغف بأبناء جنسه دون غيرهم، ولم يكن جنسه هو سويًّا غير مشترك حتى يظن أنه يميل إلى جنس واحد، وإنما كانت له طبيعة جنسية تشتبه بكلا الجنسين، وتتشكل بهذا الشكل مرة وبذلك الشكل مرة أخرى، على حسب غوايات الطبيعة النرجسية، ومن ثم حبه الفتى؛ لأنه كالفتاة وحبه الفتاة لأنها كالفتى، ونظرته إلى الرجولة بعين المرأة في بعض الأحايين.
وإذا اعتبرنا رجحان الغزل بما ينم عليه من حرارة الشعور، فربما توافقت الآراء على أن غزله في جنان أنم على حرارة الشعور من سائر غزله، فإن لم تتوافق الآراء على ذلك فلا نعرف قصيدة في غزل المذكر يحسبها النقاد راجحة بحرارة الشعور على سائر القصائد الغزلية.
والمدار في غزل أبي نواس جميعه على الصورة التي يشخص بها نفسه في ذات معشوقه أو معشوقته على دأب النرجسيين، وقد مر بنا أنه كان يعجبه ممن يتغزل به أن يلثغ بالراء وأن يتشبه بالأدباء، وأن يقتدي به يوم كان معشوقًا في صباه، ولم تفارقه هذه الخليقة النرجسية حتى بعد أن كبر واكتهل، فكان يقول في معشوق ملتحٍ:
وبديه أن النظر في غزل أبي نواس لا محل فيه للكلام على وفاء العشاق بالمعنى، الذي عرفه قراء الأدب العربي من أخبار العذريين، بل لا محل فيه حتى للتجمل الذي كان يناسب سمت الشعراء الغزليين من أمثال ابن أبي ربيعة، فقد كانت بيئة أبي نواس بعيدة عن بساطة البداوة، وبعيدة عن تجمل ذوي البيوتات من الفتيات والعقائل، وكانت بيئته على الأكثر بين الجواري والقيان وبين المتعرضين لشعراء المجون من الغلمان، وقد زاد عدد معشوقاته المذكورات في ديوانه على عشر، منهن جنان ودر ودنانير ونبات وحسن ومنى ومنية وسمجة وعنان ومكنون وعريب وقاتل، عدا اللاتي تغزل بهن ولم يذكر أسماءهن، وكان يبث لوعته لعنان في إبان مناجاته لجنان، فيقول:
وتغزل بمثل هذا العدد أو أكثر من المعشوقين، فلم يحرص على ظاهر الوفاء فضلًا عن مضمره ومكنونه، ولم يكن عرف البيئة يتطلب منه هذا المظهر في غزله بالمؤنث أو غزله بالمذكر، فما كان الغزل في عرفهم إلا تسلية وتزجية فراغ وشغلانًا بثرثرة المجالس، ووشايات المجتمع ومناوشات الأندية التي يجتمع فيها الشاربون، وطلاب السماع والمسمعات أو المسمعون من القيان والمغنيين.
ذلك كان ديدن العصر بجملته. أما الزيادة من أبي نواس على عرف عصره، فهي زيادة الطبيعة الموكلة بالعرض والتشخيص، وهي زيادة الطبيعة النرجسية التي تجعل العاطفة نحو غيره كالمنقولة أو العارية المستردة؛ لأن النرجسي كما تقدم يتمثل نفسه في غيره، ولا يحب ذلك الغير إلا بمقدار الدور الذي يحكيه أو الزي الذي لا يلبث أن يخلعه، وبخاصة حين يكون النرجسي كأبي نواس «مشترك الجنس» قادرًا على تمثل شخصه في الإناث والذكور، وعلى تمثل نفسه محبوبًا للرجال والنساء.
ويبدو لنا أن شعره الذي يعلن فيه زهده في المرأة إنما كان من إعراض المرأة عنه لا من إعراضه هو عن المرأة، وأنه كان يشتهي المرأة فلا يستهويها فيداري خيبته معها، ويوهم الناس أنه يتركها باختياره، ولا يتركها على الكره منه.
وكان يعجب الناس أن يتحدثوا بعجائبه وشذوذ طبعه، فيجمع المتكلمون عنه على رفض الزواج، ولم يصدقوا كل الصدق على ما يظهر من قوله يخاطب ابنة له:
وقوله عمن تركها في بيته:
ولا بد من الرجوع بشيء من مبالغات أبي نواس في الولع بالغلمان إلى البدعة التي نشأت في زمانه ولم تكن لها سابقة في الأدب العربي قبله، فلم يسمع عن شاعر من الجاهليين والمخضرمين أنه نظم الشعر غزلًا بالمذكر، ولم يكن غزل ابن مناذر قبيل أبي نواس بقليل على هذا التهتك والمجون، الذي فشا حوالي منتصف القرن الثاني وقبل نهايته، ففي هذه الفترة كان غزل المذكر بدعة يلهج بها من لم يكن من أهل الفسوق والمجانة، ومن أخبار ابن منظور التي رواها عن أبي نواس أنه عشق فتى يسمى جمالًا الدارمي، وكان لا يشرب الخمر ولا يغشى معارض الشبهات، وقد تغزل بخمسين غلامًا ولما يجاوز العشرين. وفي هذا الفتى يقول أبو نواس:
وما كان من شيم أبي نواس — وهو المطبوع على العلانية والتحدي — أن يشهد البدعة، ولا يتمادى فيها حتى يسبق مبتدعيها، فالإفراط في غزل المذكر لا يحسب كله على أبي نواس، ولا يتخذ كله دليلًا على نوازعه وأهوائه، ويصدق عليه في هذه الخلة ما يصدق على الشيطان في أمثال الغربيين، فليس هو من السواد الحالك بحيث يرسمه الرسامون!
ثم تنحسر الشهرة عن زياداتها وتثوب الطبيعة إلى حدودها، فتبدي لنا الحسن بن هانئ في تلك الحدود على حقيقة شذوذه الجنسي، الذي يفسر غزله بالمؤنث وغزله بالمذكر، ويفسر تأنثه في صباه ويفسر مبالغته ودعواه، وذلك هو شذوذ الطبيعة النرجسية التي مكنتها فيه بيئته من أهله وعصره ومعاشريه.