الجاحدون واللادينيون
عقيدة أبي نواس
ينقسم الناس إلى مؤمنين وجاحدين، أو كافرين.
وهذا تقسيم شائع في اصطلاح المباحث الدينية، ولكن النفسيين يهمهم الاستعداد النفسي، وارتباطه بتركيب البنية، وبواطن السريرة، فهم يقسمون الناس على حسب هذا الاستعداد إلى قسمين آخرين وهما الدينيون واللادينيون.
وهنالك فارق أصيل بين الجاحدين واللادينيين: فالجاحد قد ينكر دينًا لم تطمئن سريرته إلى عقائده وشعائره، ويظل متفتح القلب للإيمان بدين آخر، وقد ينكر الأديان التي يعرفها جميعًا، ويجاهد في إنكارها بحماسة تشبه حماسة المؤمن المستبسل في جهاده، ولعله ينكر الأديان التي يعرفها تشوقًا إلى دين يسمو عليها، ويرتفع لديه إلى المثل الأعلى الذي يحلم به ويتمناه.
فإن لم يكن منكرًا للدين على نحو من هذه الأنحاء، فهو مهتم بالدين على أية حال، وليس مكان الدين من باطنه خواء لا يتسع لإيمان ولا إنكار، ولا مناقشة ولا انتظار.
أما اللادينيون فهم مخالفون للجاحدين في هذه الخلة، إذ هم لا يحفلون بالدين ولا ينشطون لقبوله ولا لإنكاره، ولا يشغلون عقولهم به لمحة عين كأنهم ولدوا قبل وجود الأديان فلم يسمعوا بها، ولم يشعروا قط بخاطر من خواطرها، فهم غرباء منقطعون عن هذا الشاغل القوي من شواغل الوجدان.
إن الجاحد قد يكون عدوًّا أو مهادنًا أو على الحيدة بين معسكرين، أما اللاديني فليس هو بعدو ولا مهادن ولا محايد، ومجمل القول فيه: أنه غريب عن الميدان.
وذلك كما تقدم فارق أصيل بين الجاحدين واللادينيين: فمن أي الفريقين كان الشاعر أبو نواس؟
لم يكن عن يقين من اللادينيين؛ لأنه لم ينقطع قط عن اللهج بالأديان، وإن كان ليلهج بها لهجًا لا يطيب للمتدينين الصالحين.
وليقل من شاء ما شاء في زندقته ومجونه وعصيانه ولغو لسانه، فإنه بعد كل ما يقال من هذا القبيل بعيدٌ جدًّا أن يحسب من اللادينيين، الذين صغر مكان الدين من نفوسهم، فلم يشغلهم منه شاغلٌ ولم يكن فيه ولا في أهله ما يهمهم على وجه من الوجوه.
وإذا صرفنا النظر عن نوع اشتغاله بشأن الدين، فليس بين شعراء العربية من عناه هذا الشأن كما عناه؛ إذ هو لم يذكر قط مجلسًا من مجالس لهوه، ولا معرضًا من معارض غزله إلا أشار معه إلى جوه الديني أو علاقته الدينية، بغير داعية من دواعي الموضوع أو المقام.
ولو ذهبنا نستقصي هذه الإشارات لأوشكنا أن ننقل ديوان غزله ومجونه، ولكننا نجترئ بما يكفي للدلالة على هذه النزعة العجيبة في قريحته ووجدانه.
منها في موعد:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
ومنها في الغزل:
ومنها في الغزل أيضًا:
ولا نهاية لهذا المعنى إلا باستنفاد خمرياته وغزلياته، فهو لا يني في قصائده هذه «يتحرش» بالدين والعبادة، وينم تحرشه هذا على العاطفة التي ينم عليها التحرش عادة، وهي عاطفة ليست من العداء وليست من الازدراء، ولكنها شغلان يشوبه العبث واهتمام لا يقوى على الجد، ولا على الترك والنسيان، وفهمه ميسور إذا قسناه على كل تحرش من قبيله في العواطف الإنسانية، فالتحرش قبل كل شيء اهتمام.
مغالاة بقيمة اللذة
وهذا الاهتمام بذكر الحرمات في شعر أبي نواس إنما هو مغالاة بقيمة لذته، وتقريبه بين الشعور بها والشعور بالقداسة، فليس هو في وعيه الخفي حطًّا من قيمة الحرمات، بل رفع لقيمة اللذات واعتزاز بمقاربتها لمكان الصون من العبادة والتقوى.
دخل أبو نواس السجن لاتهامه بالزندقة، وطال حبسه حتى زار السجن خال الوزير الفضل بن الربيع يتفقد السجناء، ويتحرى أسباب سجنهم، فسأل أبا نواس: أزنديق أنت؟ قال: معاذ الله! قال: لعلك ممن يعبد الكبش؟ قال: أنا آكل الكبش بصوفه، قال: فلعلك ممن يعبد الشمس؟ قال: إني أترك القعود فيها بغضًا لها، فكيف أعبدها؟ قال: أفتذبح الديك؟ قال: ذبحت ألف ديك؛ لأن ديكًا مرة نقرني فحلفت لا آخذ ديكًا إلا ذبحته. فسأله: ألك ذنب غير هذا؟ قال: لا والله! اتهموني أنني أشرب شراب أهل الجنة وأنام خلف الناس. قال — وكانت فيه غفلة: فأنا أيضًا أفعل هذا فلماذا حبست؟ ثم خرج إلى الفضل فقال: ما تحسنون جوار النعم، تحبسون من لا ذنب له!
ولم يكذب الخبيث في جواب واحد، فما كانت له نحلة من هذه النِّحل، ولم يعتقد شيئًا من عقائد الزنادقة في عصره عن جد ودراية، ولكن الذين حبسوه على هذا لم يظلموه، ولم يعتقلوه لغير جريرة، فإنه لم يدع تهمة تلحقه بالزنادقة إلا تعرض لها وأورد نفسه كل مواردها، وأعلن من كلامه وفعاله ما يثبتها ويستغني عن الشهود والبينة عليها.
على أن المحتسبين الموكلين بالزنادقة والمفسدين لا يعوزهم الشهود ممن كانوا يحبون الوقيعة بالشاعر لسيئاته وحسناته على السواء، فلم يكن أكثر من حساده بين أنداده كما قال محمد بن عمر: «ولم يكن شاعر في عصر أبي نواس إلا وهو يحسده لميل الناس إليه، وشهوتهم لمعاشرته وبعد صبته وظرف لسانه»، وأشد من حساده سعيًا إلى الوقيعة به من كان يهجوهم، أو يرتفع عليهم أو يسخر منهم، وهم غير قليلين.
وأكثر منهم عددًا من كانوا يشهدونه ويسمعونه، وهو يجهر بالعصيان والدعوة إليه، ويقول في بعض غزله:
أو يقول في بعض مجونه يخاطب الفيلسوف إبراهيم النظام:
أو يقول:
ومن لم يسمع شعره فربما سمع نوادره وشهد مساخره، وقد دخل المسجد مرة وهو على أقبح السكر وسمع الإمام يقرأ: «قل يا أيها الكافرون» فصاح به من ورائه: لبيك. وشرب في يوم مطير فوضع قدحه تحت السماء، فوقع فيه المطر وقال لمن حوله: «أنتم تزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم تراني أشرب الساعة من الملائكة»، ثم شرب ما في القدح.
ولعله كان يتحدث هنا وهناك بمذهب الثنوية، ويروي كلامهم في الظلمة والنور، ويهرف بما يعرف وما لا يعرف من هذه الأمور.
وقد مضى أبو نواس ومتهموه والشهود عليه، ومضى عصره كله وبقي من أخباره أنه كان يتزندق؛ لأنه كان يتفلسف، وأنه اطلع على علم النجوم، وعلوم الأوائل من الهند والروم، فزاغ عن اليقين، ومرق من الدين، إذ كانت كلها علومًا منقولة عن الكفرة والملحدين.
أما أن أبا نواس سمع شيئًا من تلك العلوم، وألم بطرف من آراء القوم، فذلك مفهوم من أقوال نذكر منها:
وهو من قول أهل الهند أن مدارات الأفلاك يحيط بها مدار واحد، وإن الأفلاك الصغار تدور وتعود إلى المدار، ولكن المدار الأكبر إذا انتهى من دائرته توقف كما كان قبل الحركة، فتكون القيامة ويعود الكون سيرته الأولى دواليك، وربما كان من ذلك قوله:
وربما سمع كلام في الطبائع على مذهب الأقدمين كما يؤخذ من قوله:
أو سمع أسماء الكواكب باليونانية وطوالعها التي نقلها اليونان عن العراق قديمًا، فتحدث بها كأنها من المستحدثات:
والمشتري وزاويش «زيوس» شيء واحد، وبهرام أو المريخ سيار يقال عنه في الأساطير: إنه إله الحرب، والعقرب برج من البروج المتوهمة في الفلك، والمنجمون المخرفون يزعمون المزاعم عن مقارنات السيارات والبروج، ودلالتها على الوفر والرخاء أو على الحرب والقحط. ومن سمع الحذلقة بهذه الأراجيف في نظم الشاعر خيل إليه أنها هي المعميات التي قادته إلى زندقته ومروقه، ولا شأن لهذا بذلك إلا أن يكون شأن السعود والنحوس، التي هذر بها المنجمون — في وادي النهرين على الخصوص — من قبل التاريخ.
ولعله سمع كلامًا في الصفة والموصوف من قبيل قوله في حسن:
إلى نظائر من هذه الأقاويل يستطيع المتلقف أن يجمعها في بضعة أيام، وهو يجلس إلى المتفيقهين بها ممن تعمقوا فيها أو تخطفوها لمامًا، ثم لا يقال عنه: إنه عرف ما يناقض الدين أو يبيح المحظورات، ويغري المرء بركوب رأسه في الموبقات.
ولقد كان إبراهيم النظَّام من أعلم أهل زمانه بهذا الذي يسمونه علوم الأوائل، وكان أبو نواس يحضر عليه، فينهاه عن التبذل ويذكره الوعيد ويقول له: إن من ترقب وعد الله فعليه أن يحذر وعيده، فلا يرعوي عن لغوه ومجونه حتى يئس منه، فطرده من مجلسه فنظم فيه قصيدته التي اشتهرت بالإبراهيمية ومطلعها:
وفيها يسخر منه:
فالذين اتهموا أبا نواس لم يظلموه، ولم تعوزهم البينات على دعوته للفساد، ولعلهم قد ظلموا الفلسفة وعلوم الأوائل، فظنوها مدرجة المطلعين عليها إلى الزندقة ومذاهبها، ولا زندقة هنا ولا مذهب ولا شيء غير المجون وحب الظهور، وعند أبي نواس منه — كما أسلفنا — أسباب لم تكن عند أحد معاصريه! ولكنه لم يكن يعيبه من نفسه كما كان يعيبه من غيره على حد قوله في إبان اللاحقي، إذ كان يتظرف بادعاء الزندقة:
أبو نواس ماجن
والمُجَّان في عرف تلك البيئة هم الظرفاء، والمجون هو الظرف على اعتقادها وفي طليعتها أبو نواس، نصح له الأمير أبو العباس محمد أن يتوب عن المجون، فقال له: أما المجون فما كل أحد يقدر أن يمجن، وإنما المجون ظرف. ولست أبعد فيه عن حد الأدب أو أتجاوز مقداره، أما المعاصي فإني أثق فيها بعفو الله — عز وجل — وقوله تعالى، فوالله لو أن السندي يقول ما قاله الله — عز وجل — لوثقت به، فكيف يقول رب العالمين وهو يقول: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ ۚ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا.
والعصبة المجان الذين أراد أبان اللاحقي أن يتشبه بهم هم طائفة من زملاء أبي نواس، كحماد عجرد ووالبة بن الحباب ومطيع بن إياس وقاسم بن زنقط وعيسى بن غصين وعبيد العاشقين، الذي لقب بذلك لجمعه عاشقًا ومملوكه وعاشقًا وجاريته، وغيرهم ممن يكبرونه في السن أو يقاربونه، ولكنه كان أشهرهم بمنحاهم في المجون؛ لأن دواعيه إليه أكثر وشعره فيه أسْير، فهل يحل من هذه الطائفة محل «الشخصية النموذجية» التي تقدم الكلام عليها، معظمهم مثله من الموالي الذين فتحت لهم ثقافة العصر أبواب المعرفة، وكلهم من الذين ابتلوا بمركبات النقص على اختلافها، وليس فيهم من تسلطت عليه جميعًا كما تسلطت عليه.
فلا زندقة عند صاحبنا ولا فلسفة، وكل ما عنده ولع بالظهور، وضعف عن مقاومة الغواية والفجور.
وبغير «دراسات نفسية» أو تحليلات عويصة في البواطن الخفية أيمكن أن يكون إنسانًا كأبي نواس منكرًا للدين كله مواجهًا الظلام المجهول بذلك الإنكار؟
ليست المعضلة في هذا السؤال معضلة الصلاح والبصيرة الروحانية، وليس فقدان الصلاح والبصيرة الروحية هو كل ما يلزم للإنكار والإصرار عليه، فقد يكون المرء مجردًا من صلاح الدين والخلق، مقفر الوجدان من البصيرة الروحانية. ثم لا يقوى على مواجهة الموت الأبدي والظلام السرمدي على يقين وإصرار، ولا بد له في هذا الموقف من صرامة واقتحام يواجه بهما تلك المخافة، التي لا مخافة مثلها في الحياة ولا بعد الحياة.
فهل طبيعة كالطبيعة النواسية تنبني على ذلك المعدن الصلد الجسور، وهل عنده من الشكوك ما يتغلب في أعماق طبعه على تعلات الأمل والرجاء؟
لو اجتمع شهود العالم ومعهم الأطباء النفسيون على زعم كذلك الزعم لما أقنعوا أحدًا بزعمهم، الذي تنقضه كل لحمة وسداة في نسيج هذه النفس الرخية المهلهلة، ولكن الأطباء النفسيين على الأقل لا يزعمون له تلك القوة الصماء؛ لأن طبيعته والقوة بأشكالها وأنواعها لا تتفقان.
وأقرب من ذلك إلى المألوف أننا أمام نفس ضعفت عن غواية الظهور وغواية الفجور، ولم تخل قط من شاغل بالدين تتمسح به أو تتحرش به كما تقدم في صدر هذا المقال، وأعيتها عقيدة العزم والمناعة، فاحتالت حيلتها كي تظفر بعقيدة تركن إليها، فوجدتها في نحلةٍ من نحل عصرها، نخالها هي النحلة الوحيدة التي تكلف النواسي الاطلاع على مراجعها، أو على ما يلائمه من تلك المراجع فطابت له، وتقبلتها سريرته على الكره منها؛ لأنها لا تستطيع الخلو من عقيدة، ولا تستطيع عقيدة العزم والمناعة.
تلك هي نحلة «المرجئة» كما توسع فيها طلاب الرخصة من قبيل أبي نواس، وقد وسعوها بأهوائهم فوسعت لهم كل ما اشتهوه.
نحلة المرجئة
نشأت فرقة المرجئة على اعتدال وحكمة في أيام الخلفاء الراشدين، واعتصم بها الذين كرهوا الخوض في الخلاف بين أجلاء الصحابة بعد مقتل عثمان بن عفان — رضي الله عنه — فتركوا الأمر لله يحكم فيه يوم الدين، وسُمُّوا بالمرجئة لأنهم لم يتعجلوا الحكم على فريق من الفريقين، وجماع هذا الرأي في الشعر قول ثابت بن كعب الملقب بقطنة:
وكان ثابت بن كعب صاحب هذه القصيدة — وهو شاعر مجاهد — يعتدل على الجادة المثلى بين الطرفين: الخوارج الذين يتهجمون على التكفير جزافًا وطرف الطوائف المتنازعة، التي كانت تخبط في التهم ذات اليمين وذات الشمال، فلا تكفير لأحد آمن بالوحدانية والوحي المنزل، ولا جدوى من الخبط بالتهم بين عثمان وعلي أو بين فرقة وفرقة من الصحابة، وأمرهم جميعهم موكول إلى حساب الله.
أما عصر أبي نواس فقد تباعدت فيه الفجوة بين الطرفين إلى أقصى مداها، فجزم الخوارج بتكفير كل من عداهم، وحملوا السلاح لقتاله، واعتبروا كل من خالف الدين في معصية ارتكبها كافرًا مخلدًا في العذاب، وتعددت فرق المرجئة فنجم منهم من كاد يسقط الأوامر والنواهي، ويقول: إن الإيمان عقيدة في القلب لا شأن لها بأعمال الجوارح، فكل من اعتقد الوحدانية والوحي المنزل، فله جزاء المؤمنين يوم الحساب.
غلاة المرجئة طائفتان: إحداهما الطائفة القائلة: بأن الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله — عز وجل — من أهل الجنة، وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه، وهو بخراسان وبيت المقدس، والثانية الطائفة القائلة: إن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله — عز وجل — وهذا قول أبي محرز جهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب كاتب الحارس بن سريج التميمي أيام قيامه على نصر بن سيار بخراسان، وقول أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي اليسر الأشعري البصري وأصحابهما. وقالت طائفة الكرامية: المنافقون مؤمنون مشركون من أهل النار، وقالت طائفة منهم أيضًا: من آمن بالله وكفر بالنبي ﷺ، فهو مؤمن كافر معًا، ليس مؤمنًا على الإطلاق ولا كافرًا على الإطلاق، وقال مقاتل بن سليمان — وكان من كبار المرجئة: لا يضر مع الإيمان سيئة جلَّت أو قلَّت أصلًا، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلًا.
إلى آخر هذه الأضاليل التي لا طائل تحتها، فلا جرم يتلقف أبو نواس رأيًا كهذا ويتهافت عليه؛ ليجمع بين لهوه واعتقاده الإيمان، وطفق ينادي بإنكار الشرك ولا يبالي ما عداه فقط:
وقال:
ثم تشبث بأن الكبائر لا تسلك صاحبها مع الكفار، ولا تحرمه الرجاء في عفو الله، فكان من أقواله الكثيرة في ذلك:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
ويبدو أن أقوال المرجئة هي أكثر المراجع التي تتبعها من أولها، فإن المرجئة في زمانه لم يصطنعوا الصمت والعزلة في معترك الفتن، وإنما كان هذا ديدن الصالحين من الصحابة أيام الشقاق بعد عهد عثمان بن عفان — رضي الله عنهم — وأكثرهم في ذلك الوقت أخذوا بالحديث الذي رواه أبو بكر عن النبي — عليه السلام — وفيه أنه: «ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه. فقال رجل: يا رسول الله! من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة».
فإلى هذا المسلك من مسالك المرجئة الأولين ثاب أبو نواس في أخريات أيامه حين اضطرمت نيران الفتن بين طلاب الخلافة، فقال:
وليس من المستبعد أن كلامه الذي حمل على الإنكار إنما كان شططًا في الدعوة إلى الإرجاء، كقوله في الخلاف بين القدرية والجبرية:
أو كقوله:
إلى آخر الأبيات، إذ كيفما كان قوله فالمرجع في «الاستعداد» للعقيدة إلى معدنه، وطبيعته، وليس من معدن هذه الطبيعة أن تقدم على ظلام المجهول منكرة ثابتة الجأش على الإنكار، وليس من معدنها كذلك أن تغلب الغواية بمناعة العزم، والتوبة بين وهن الطبيعة وقوة الإغراء، وما كان من دأبه أن يخفي هذه النقيصة فيه؛ لأن إخفاءها يسومه الكبت وهو لا يقوى عليه، وقد صدق وصف نفسه إذ قال:
أو كما قال بعناد كعناد الأطفال:
ومن قبيله قوله:
وهو يردد هذا الاعتراف على طريقته المطردة في جميع أحواله، وهي «اتخاذ الفضيلة من الضرورة» كما يقول الغربيون في أمثالهم، فإذا اعترف بنقيصة لاح من اعترافه كأنها مفخرة يباهي بها المحرومين منها، وتلك خديعة الطبع الضعيف.
أشعاره في النسك والتوبة
أما أشعاره في النسك والتوبة، فلم يكن جادًّا فيها طول حياته إلى ما قبل وفاته، فمنها ما كان يصطنعه خوفًا من الأمين حين يصرح قائلًا:
أو قائلًا:
أو قائلًا:
وقد يغلو متهكمًا في وصف تقواه كما قال يخاطب الفضل بن الربيع:
على أنه كان يعلم أنه «نهي سياسي» لجأ إليه الخليفة دفعًا لسوء السمعة، التي لصقت به من مصاحبته، وقد يجهر بذلك فيصيح كالنافر المغضب:
هذا أو يكون النظم في النسك بابًا من أبواب «العرض» وصدق التمثيل، ليقال: إنه قال في النسك وهو ماجن ما لم يحذقه النساك، وروى محمد بن صالح بن بيهس الكلابي أن أديبًا من بغداد أسمعه على سبيل التنويه بشاعرية أبي نواس أبياتًا في الزهد و«ليس هو من طريقته»، وهذه هي الأبيات:
وكان أبو العتاهية يقول: سبقني أبو نواس إلا ثلاثة أبيات، ووددت لو أني سبقته إليها بكل ما نظمته، فإنه أشعر الناس فيها، منها قوله:
وقوله:
وقوله:
قال: وقد نظمت في الزهد ستة عشر ألف بيت، ووددت لو أن أبا نواس له ثلثهما بهذه الأبيات، والبيت الأخير من قصيدة أولها:
وحدث من شاهد أبا نواس لما حج مع جنان، وقد أحرم أنه لما جنه الليل جعل يلبي بشعره، ويحدو بطرب في صوته حتى اجتمع به كل من سمعه، وجعل يقول:
إلى آخر هذه التلبية، وقد أفسدها بما رواه عن نفسه في نظمه إذ يقول:
ونكاد نجزم بأنه كذب على نفسه؛ ليستخرج من هذا الموقف ملحةً نتخيلها ولا نراها تحدث في مزدحم الطواف، وشبيه بذلك ما تحاكى به من شربه في ليلة العيد، كأنما خاف على ما كان يسميه «جاهه» عند المجان ولا جاه له يخاف عليه بين أهل الصلاح.
وما لم يكن من شعر التوبة إطاعة لأمر أو إدلالًا بقدرة فنية، فعله خاطرة من خاطرات الندم تطيف بقلبه ساعة، ثم تمحوها داعية من دواعي اللهو فينساها.
ويسري هذا على شعره كله في التوبة والعظة ما خلا نتفًا يسيرة من نظمه في أخريات عمره، قد تستشف منها خاطرة الأسف الصادق والحزن الخاشع، ولم تأت هذه التوبة إلا بعد مطاولة ومراوغة يستبقي بهما بقية الشباب:
وبعد يأس ما قال معترفًا بتأخير التوبة بعد فوات حينها أو أحيانها:
ثم جعل يودع دنياه بأمثال هذين البيتين:
وأبلغ منها قوله:
توبة أبي نواس
فأدركه ولم يبلغ الخمسين:
ومن آثار هذا الطور الجنسي الأخير أزمات قاسية على الشيوخ، الذين لم يتأهبوا له بشاغل من شواغل الحنان، أو العمل النافع خاصًّا كان أو عامًّا، فيدفعهم إلى الصغائر ويبدي منهم للناس بدواتٍ يستغربونها منهم بعد ما ألفوه من رصانتهم واتزانهم، ويصاحب هذه الأزمات شيء من رد الفعل، وتغير المألوف، فيرعوي السادر في الغواية، ويسدر في الغواية من لم يكن من أهلها، وقد رأينا أثر هذه الأزمات في لوثة أبي العتاهية، وهوسه الذي أضحك منه صديقه مخارقًا فساءله بحق: مَنْ من النساك والصالحين صنع بنفسه مثل هذا الصنيع؟ فزميله النواسي قد أدركته هذه الأزمة، وجنحت به إلى ذلك الوجوم أو السهوم الذي ترجم عنه بتلك الأبيات، ولم تدركه قاسية عنيفة على مثال زميله؛ لأنه لم يستقبلها فجأة بالانتقال إلى النقيض فيما بين عشية وضحاها.
•••
وإن أبا نواس في استعداده للعقيدة الدينية لخليق أن يكون من نماذج طبيعته، كما كان نموذجًا لها في مياسم شتى، فتلك طبيعة لا تصمد للإنكار ولا تقدر على ضبط الهوى ولا تخلو من مساورة الهواجس التي تحوم بها حول الدين وتقارف بها حرماته، فإذا ترقبت التعلَّة من حولها فوجدتها بعد لهفة عليها كانت لها تلك التعلة كخشبة الغريق تتشبث بها إلى الرمق الأخير، ولا ترسلها من يديها.
وليس حتمًا لزامًا أن تسترسل النفس المنحرفة أو الزائغة في أهوائها، فإن خصلة التسامي بالأهواء معهودة في النفوس المبتلاة بالنشوز، سواء كانت من ذوات القوة والبأس أو ذوات الوهن والهزال، ولا استثناء للمنحرفين من خصلة التسامي بالعيوب التي تنشأ في الطبع عيوبًا، فيجعلها التسامي نقيبة من أنبل النقائب وأشرفها، ويتيح بها للإنسان فرصة يعلو بها على نزواته وصغائره، وقد كان سقراط الحكيم مصابًا بهلواس السمع وسبات اليقظة، وكان يحب الفتى السبيادس حب الأستاذية المرشدة، ويحار السبيادس — لمجونه وخلاعته — في معاني هذا الحب، فيستدرج أستاذه ويعرض عليه نفسه، ويروي لنا أفلاطون في مائدته بلسان السبيادس أن هذا الفتى أولم لسقراط وليمة عامة، ثم اجتهد أن يبيت معه على انفراد، قال أفلاطون بلسانه: «فلما أطفئت الأنوار وذهب الخدم لم أرد أن أحوم مع سقراط حول الغرض، وعولت على الإفضاء إليه بما في نفسي، فناديته: سقراط! أنائم أنت؟ فأجابني: ما أبعدني عن النوم! قلت: أوتعلم بماذا أفكر الساعة؟! قال: لا، بماذا تفكر؟ قلت: إنني أشعر أنك الوحيد من عشاقي الجدير بي، ولكنك تخاف أن تفصح عما في قلبك، فاعلم إذن أنني لأرى من الحماقة ألا أستجيب لرغباتك، فأصغى إلي ثم أجابني جوابًا على نمطه وبسخريته المعهودة، فقال: إنك ولا ريب فتى لبق يا عزيزي السبيادس! ولا بد أنك ترى فيَّ جمالًا يفوق جمال جسدك وملامحك، فإن كنت ترى ذلك فإأنت تحاول الساعة أن تبادلني سلعة بسلعة أغلى منها كثيرًا، وتخرج رابحًا من الصفقة»، ومضى الفيلسوف يعلم الفتى ما لا يعلمه من هداية جمال النفوس حين تواجه جمال الأجسام.
وفي الأدب العربي أمثلة كثيرة لهذا الانحراف الذي اعتدل به التسامي غاية الاعتدال، فالشاعر تقي الدين السروجي قد كان ولا ريب على انحراف في التكوين، وقال الشهابي محمود: إنه كان مع دينه وورعه وزهده مغرمًا بالجمال، وكان يكره مكانًا فيه امرأة، ولما توفى حلف أبو محبوبه ألا يدفنه إلا في قبر ابنه، وقال: كان الشيخ يهواه بالحياة وما أفرق بينهما بالممات، وهذا لما كان يعلمه من دينه وعفته.
وكان الشيخ مدرك الشيباني صاحب «عمرو النصراني» على هذا الخلق، وهو صاحب القصيدة التي أولها:
•••
ومنها يستحلف بالمقدسات المسيحية:
•••
إلى آخر القصيدة التي كان أبناء جيله من المسلمين والمسيحيين يتناشدونها، ويتبركون بناظمها ولا تطوف بنفوسهم طائفة من الشك فيه وفي معشوقه.
•••
وقبل هؤلاء ذاع في البصرة هوى الشيخ محمد بن داود الظاهري لصاحبه محمد الصيدلاني، وكلاهما مثل في العفة والأدب، وكان ابن داود هذا يتحرج في الدين حتى يحرِّم القياس ولا يقبل غير النص، فلما نظم هذين البيتين في محبوبه:
قيل له: أنكرت القياس في الفقه وأثبته في الشعر، فقال: هي غلبة الحب!
•••
ومثل هذا التسامي يخلق من النقص فضلًا ومن الزيغ اعتدالًا، ويعلم النفوس من الرياضيات ما ينفعها في تصفية الأخلاق وتزكية الضمير، وليس أحد من ذوي العلل الكمينة أو العارضة بعاجز عنه إذا استجمع له نيته وعقد عليه عزيمته، ولكن هذه المحاولة أعجزت أبا نواس؛ لأنه وقع من مولده في بيئة تعالج التسامي على أسلوب آخر، وهو اتخاذ الفضيلة من الضرورة وطلب الوجاهة من وراء الشهرة المخالفة، أو تحدي الرياء بالاجتراء عليه، وهذا بديل من التسامي في الواقع يجنح إليه من طبع عليه، ولم تسعده البيئة بمن يروض طبعه على أسلوب سواه.