الصراع لا ينتهي
كان مُؤشِّر الجهاز قد تحرَّك، وظهر خطٌّ رفيع في الجدار. ضغط «باسم» زرًّا آخر، ثم اقترب بالجهاز من الخط ومرَّ فوقه، فبدأ الجدار يتَّسع؛ لقد ظهر بابٌ سِرِّي.
في نفس الوقت سمِع «أحمد» كلمة: لا تستعملوها … تردَّدَت الكلمة في عقله؛ ما معنى هذه الكلمة؟
لكنَّه لم يتوقَّف طويلًا عندها؛ فقد كانت اللحظة لا تسمح بذلك؛ فهناك «أماندوليون» ولا بد من إنقاذه … هناك أيضًا «فهد» و«رشيد».
عندما انفتح الباب السِّري تمامًا كانت هناك مجموعة من الرِّجال تتقدَّم في سرعة. كان العدد كبيرًا حتى إنَّ «أحمد» همس ﻟ «باسم»: إنَّنا سوف نخسر المعركة، والمغامرة أيضًا.
إلا أنَّ «باسم» كان قد استعدَّ للموقف؛ ففي لَمْح البصر كان قد أخرج من جيبه قنابل الدُّخان الصغيرة؛ أمسك بها في يده لحظةً فتسرَّبت حرارة جسمه إليها وأصبحت جاهزة للعمل … في تلك الأثناء كان الرِّجال قد أصبحوا على مسافة عشرة أمتار فقط، عندئذٍ دحرج «باسم» قنابل الدُّخان في اتِّجاههم.
وفي لحظاتٍ كان الدُّخان ينتشر بسرعة حتى إن الرِّجال تردَّدوا في البداية؛ فقد تصوَّروا أنَّها مُفرقَعات … وعندما اتَّخذوا قرارًا بالتقدُّم كانت موجات الدُّخان قد انتشرت حتى غطَّت المكان.
أدرك «أحمد» بسرعةٍ أنَّ «أماندوليون» ليس معه واقٍ ضد هذه الغازات؛ ولذلك أسرع إليه وأعطاه كبسولةً صغيرة وهو يقول: ابلعها بسرعة؛ فهي ضد أي غازات.
نظر «أماندوليون» إليه لحظةً في تردُّد، ثم أطاع وبلع الكبسولة.
كان «باسم» قد تقدَّم من الرِّجال بسرعة؛ فقد كان الشياطين وحدهم الذين يستطيعون أن يمرُّوا وسط الغازات دون أن يتأثَّروا بها. في نفس الوقت كانوا يرَون كلَّ شيءٍ داخل الغلاف الدُّخاني الذي سبَّبَته القنابل الدُّخانيَّة.
كان أفراد العصابة يَسعُلون بشِدَّة، ولم يكُ أيٌّ منهم يستطيع المقاومة الآن.
ولذلك انفرد «باسم» بهم، وقبل أن يصل إليه «أحمد» و«أماندوليون» كان قد انتهى منهم جميعًا برغم كثرتهم.
وعندما تقدَّم الثلاثة كان «باسم» يحمل جهازه المِغناطيسي، وهو يُوجِّهه إلى كل الاتِّجاهات فتنتشر الموجات المِغناطيسيَّة في كل مكان فتُعطِّل أعمال الكاميرات السِّرية. في نفس الوقت كان «باسم» يُلقي بقنابل الدُّخان في طريق تقدُّمهم؛ حتى لا يستطيع أحدٌ أن يراهم أو يُسيطر عليهم.
كان على الشياطين الآن أن يتَّجهوا إلى «فهد» و«رشيد»، غير أن «باسم» قال: ينبغي أن تنجوَ أنت و«أماندوليون»، وسوف أتقدَّم إلى الزميلَين.
إلا أنَّ «أحمد» قال: سوف يكون الموقف صعبًا؛ فقد نقع في منطقة لا نعرف عنها شيئًا، ثم إنَّ «أماندوليون» لا يُمثِّل قوةً مُضافة إلينا؛ إنَّه يُمثِّل مسئوليَّةً فقط.
لم يُعلِّق «باسم» وظلَّ في طريقه إلى نقطة اللقاء، لكنْ فجأةً حدث ما لم يكُن يَخطُر لأحد منهم على بال؛ لقد وجدوا أنفُسهم في غُرفةٍ صغيرة، ثم أُغلقت الأبواب حولهم. وقف الثلاثة يَنظُرون في دهشة.
إنَّ هذه الغُرفة لم تكُن موجودة، وكأنَّها قفصٌ هبط فجأةً من السماء أو أُخرِج من الأرض. قال «أحمد» بسرعة: إنَّنا في مكانٍ غريب، تحدُث فيه أشياء أكثر غرابةً …
كان «أماندوليون» قد بدأ الإعياء يظهر عليه، وارتفع صوت تنفُّسه. نظر له «أحمد» لحظةً فقال الرَّجل: إنَّني مُتعَب تمامًا؛ فأنا لا أحتمل كلَّ هذا الذي يَحدُث …
أخرج «باسم» مجموعةً من الكبسولات الطِّبية من جَيبه، ثم قدَّمها إلى «أماندوليون» وهو يقول: إنَّ هذه الكبسولات سوف تُعطيك قوةً مُضاعَفة، وسوف تجعلك نشيطًا تمامًا.
ابتسم «أماندوليون» وهو يقول: إنَّني لا أفهم ماذا تفعلان.
ابتسم «أحمد» قائلًا: لا بأس الآن، وسوف تعرف فيما بعد.
قال «أماندوليون»: لماذا تفعلان هذا كلَّه؟
ابتسم «أحمد» قائلًا: من أجل محطَّة الفضاء العربيَّة.
لمعت عينا «أماندوليون» وكأنَّ قوةً خُرافية قد نفذت إلى جسمه، فتنفَّس في عمق وهو يقول: ما نوع هذه الكبسولات التي ابتلعتُها؟
لكنَّ أحدًا لم يردَّ؛ فقد ظهرت أحداثٌ جديدة … كانت المياه تُغطِّي أرض الغُرفة التي يقفون فيها. نظروا إلى الماء ثم إلى بعضهم.
وقال «أماندوليون» في دهشة: ما هذا؟ … أين نحن؟ وماذا يَحدُث؟
هزَّ «أحمد» رأسه وهو يقول: إنَّهم يستخدمون معنا وسائل بدائية، لكنَّها جيِّدة.
أخذ الماء يرتفع حتى غطَّى أحذيتهم. ظهر الخوف على وجه «أماندوليون» وسأل: ما هذا؟! إنَّني سوف أغرق إذا استمرَّ الماء في الارتفاع هكذا.
ابتسم «باسم» وهو يقول: دعهم يفعلون؛ إنَّنا نستطيع أن نُغرِقهم، وأظنُّ أنَّ هذه المغامرة سوف تنتهي نهايةً غريبة.
كان الماء مُستمرًّا في الارتفاع بينما «أماندوليون» ثائر الأعصاب، غير أنَّ «أحمد» ابتسم له قائلًا: سيِّدي، لا بد أن تكون أكثر هدوءًا، لأنَّنا سوف نتغلَّب على كل شيء، إنَّ إنقاذك هو مهمَّتنا الأساسيَّة.
هزَّ «أماندوليون» رأسه ولم يرد. أخذ «باسم» يُؤدِّي عمله في هدوء؛ أخرج جهاز الأشعَّة، ثم ضغط زرًّا فيه وسلَّطه على جانب من الجدار فأحدث فيه ثَقبًا مُتوسِّطًا، انتقل إلى مكانٍ آخر ثم أحدث ثَقبًا آخر، وهكذا. أخذ الماء يتناقص أمام عينَي «أماندوليون» التي كانت تمتلآن دهشةً، بينما كان «أحمد» يبتسم.
سأل الرجل: أراكما تتصرَّفان بهدوءٍ شدید.
قال «أحمد»: نعم يا سیِّدي؛ لأنَّنا نعرف ماذا نُريد، ونعرف متى يتوقَّف كل شيء.
غير أنَّه في نفس اللحظة كان هواءٌ بارد قد بدأ يتسرَّب إلى داخل الغرفة، حتى إنَّ «أماندوليون» قد أخذ يرتجف. ابتسم «أحمد» وقال: لا بأس، إنَّهم يُجرِّبون معنا وسائل أخرى، سوف نَصِل إلى درجة الصِّفر ثم إلى درجة الغليان …
انقلبت الدهشة على وجه «أماندوليون» إلى خوف، وقال وهو يرتجف: إنَّنا سوف ننتهي هنا.
ردَّ «باسم» بسرعة: يا سيِّدي، سوف ينتهي هذا حالًا.
قدَّم ﻟ «أماندوليون» كبسولةً مختلفة عن الكبسولات السابقة، وقال: هذه سوف تقضي على البرد تمامًا.
أخذها العالِم وابتلعها بسرعةٍ، ولم تمضِ دقيقة حتى كان يبتسم وهو يقول: هذا شيءٌ غريب حقًّا؛ إنَّني أشعر بالدفء. كيف حصلتَ على هذه الأشياء المُدهِشة؟
لم يردَّ «باسم»؛ فقد قال «أحمد»: ينبغي أن ينتهيَ هذا الموقف حالًا.
ما إن انتهى من كلامه حتى كانت رسالةٌ قد وصلت إليه، كانت رسالةً شفريَّةً تقول إنَّ «فهد» و«رشيد» قد استطاعا الخروج من سجنهما، وإنَّهما يُواجِهان الآن معركة، وإنَّ النقطة «ع» هي نقطة الصِّدام.
نقل «أحمد» الرسالة إلى «باسم» الذي قال: إذَن فهُما يقِفان فوق مكاننا تمامًا؛ هذا شيءٌ رائع؛ فقد اختصَرا المسافة.
في لَمْح البصر كان يخطو داخل الغُرفة عدَّة خطوات، ثم أشار إلى السقف وهو يقول: إنَّهما في هذه المنطقة تمامًا.
أخرج جهاز الأشعَّة ووجَّهه إلى السقف، ثمَّ دار به دورةً كاملة، فرسم دائرةً تكفي لمرور رجل. ضغط على الدائرة، فانفصلت عن السقف وظهرت الغُرفة العُليا. في قفزةٍ رشيقةٍ كان يمرُّ من الدائرة.
وقف «أحمد» يَنظُر إلى «أماندوليون» مُفكِّرًا، بينما كان الرجل يقِف في حالة ذهول؛ فقد كانت تَحدُث أمامه أشياء خارجةٌ عن المألوف. في نفس الوقت كانت أُذناه تلتقطان حركة الصِّراع في الغُرفة العُليا. كان يقِف حائرًا تمامًا؛ فبَينما يشتبك الشياطين في معركةٍ يقِف هو لا يستطيع الحركة، لكنَّ أفكاره التي ازدحمت في رأسه طارت فجأةً؛ فقد شاهَد بعض الرِّجال مُقبِلين في اتِّجاهه.
قال في نفسه: إنَّها خُطَّة ذكيَّة منهم؛ فبينما تدور معركةٌ مع أربعة من الشياطين ينفردون به ومعه «أماندوليون»، وهو يُمثِّل العمليَّة الكبرى من المغامرة كلِّها.
كان الرِّجال يقتربون، وقد وضح أمام «أحمد» أنَّهم يضربون ضربتهم الأخيرة. أطلق صَفَّارةً مُتقطِّعةً يفهمها الشياطين، وكان الرِّجال قد اقتربوا تمامًا؛ كانوا يتقدَّمون في شِبه نِصف دائرة، وهذا يعني أنَّ بعضهم سوف يشتبك معه … أمَّا البعض الآخر فسوف تكون مهمَّته «أماندوليون» نفسه.
فكَّر أنَّه يجب أن يُفاجئهم؛ حتى لا يُعطيَهم فرصةً للتفكير المُنظَّم.
ولذلك عندما اقتربوا كان يطير في الهواء فجأةً وهو يضرب أربعةً منهم دفعةً واحدة. كانت قفزةً مُفاجئة لهم؛ فهم لم يكونوا يتوقَّعون ذلك وهم بهذه الكثرة، وكانت المفاجأة كفيلةً بأن تشلَّ تفكيرهم تمامًا.
وعندما سقط الأربعة كانوا قد اصطدموا بالآخرين، لكنَّ جزءًا منهم لا يزال يقف على قدمَيه. وقد اشتبك بسرعة مع «أحمد» الذي استطاع أن يضرب أقربهم إليه ضربةً خُطَّافيةً جعلته يطير في الهواء.
إلا أنَّ واحدًا منهم كان قد استطاع أن يضرب «أحمد» يمينًا مُستقيمةً أطاحت ﺑ «أحمد» بعيدًا. في نفس الوقت كان اثنان قد هجما على «أماندوليون» الذي لم يفعل شيئًا.
ولكن قبل أن يتحرَّكا به كان بقيَّة الشياطين قد هبطوا من الغُرفة العُليا في حركةٍ مُتتالية، ولم يكُن هبوطهم على الأرض؛ فقد كانت فرصةً أن يستغلُّوا قفزاتهم في إصابة بعض أفراد العصابة، ثمَّ دارت المعركة.
هجم «رشيد» على أحدهم هجمةً عنيفةً جعلت الرجل يصرخ، ثم دفَعه فاصطدم بآخر، وسقط الاثنان على الأرض.
في نفس الوقت كان «فهد» قد قفز في الهواء، وضرب الاثنَين اللذين هاجَما «أماندوليون»، ثم اشتبك مع ثالث؛ أداره في اتِّجاهه ثم ضربه ضربةً جعلته يتراجع في اتِّجاه «باسم» الذي قد انتهى من واحد، فتلقَّاه بضربةٍ جعلته يندفع في اتِّجاه «أحمد» الذي كان مُشتبکًا بآخر.
وفي لمحةٍ كان «أحمد» يضربه ضربةً قويَّةً جعلته يسقط صارخًا من الألم. وبينما المعركة تدور ساخنةً كان «أماندوليون» يقِف في جانبٍ يَنظُر مشدوهًا لمجموعة الشياطين وهي تقفز وتضرب في براعة. لقد كان «أماندوليون» في حوالَي السِّتين من العمر ضئيلَ الحجم بما لا يُعطيه فرصةَ استخدام عضلاته …
مرَّت نصفُ ساعة كانت تُمثِّل معركةً مُثيرة، ومع نهايتها كان الشياطين قد حقَّقوا انتصارهم وفرغوا من المعركة، بينما كان ميدان المعركة مُزدحمًا بأفراد العصابة المطروحين على الأرض.
قال «أحمد»: ينبغي أن نتصرَّف بسرعة، وأن نجد طريقًا للخروج من هذا المكان الغريبٍ؛ فالمعركة قد تتكرَّر كثيرًا.
تقدَّم «أحمد» المجموعة … وانطلَقوا من خلال أحد الأبواب الذي يُؤدِّي إلى الطُّرقة الطويلة.
فجأةً توقَّف «أحمد» وقال: إنَّنا سوف نقع في مِصيَدةٍ أخرى عند نهايتها، يجب أن نُغيِّر طريقنا.
لكن لم يكُن يبدو أمامهم سوى الطُّرقة. أسرع «باسم» فأخرج جهاز الأشعَّة، ثم وجَّهه إلى الحائط، غير أنَّ شيئًا لم يظهر. قال: يبدو أنَّه لا يوجد سوى هذا الاتِّجاه.
ردَّ «أحمد»: من الضروري أن تكون هناك مَنافذ من هذه الطُّرقة؛ فليس من المعقول أن تكون هكذا.
قال «فهد»: إنَّني من رأي «باسم»، وأعتقد أنَّها مُصمَّمة بهذه الطريقة حتى لا تُعطيَ من بداخلها فرصة التصرُّف.
قال «رشيد»: أعتقد أنَّنا نستطيع أن نصعد إلى الطابَق العُلوي؛ فالمنافذ فيه كثيرة.
قال «أحمد»: إنَّنا بذلك نضع أنفُسنا أمام صراعٍ جديد.
نظر إلى «أماندوليون» وهو يُضيف: وأظنُّ أنَّ السيد «أماندوليون» لم يعُد في وُسعه أن يرى هذا الصِّراع أكثر من ذلك.
قال «أماندوليون» وكأنَّه غائبٌ عن الوجود: إنَّني فقط غیر مُصدِّق لما يَحدُث؛ فلماذا كلُّ هذا الصِّراع الغريب؟
لكن … يبدو أنَّ الصِّراع لم يكُن قد انتهى … ففجأةً بدأ صراعٌ آخر.