هل يشبهك ابنك؟١
لماذا تختلف عن إخوتك وأخواتك في السمات والشبه؟ وما هو السر في أن يولد أحد الإخوة أسود العينين، والآخر أزرقهما؟ ولمَ تولد إحدى البنات شقراء الشعر، على حين تولد أختها فاحمته؟
كيف ينشأ أحدنا نحيف القوام بطبعه، على حين نرى الآخر بدين الجسم قويَّه؟ ولمَ يولد أحدنا طويلًا والآخر قصيرًا؟ ولمَ يكون أحدنا عرضة لأمراض بعينها، وتكون في الآخر مناعة طبيعية تحميه منها دون أخيه؟ لمَ يولد هذا فنيًّا ذا مواهب وكفايات في الفنون، ويولد ذلك مفطورًا على حب الهندسة أو الميكانيكا، أو ينشأ ميالًا إلى الرياضة مثلًا؟
وكيف يسهل على أحد الأولاد جمع الثروة، ويكون النجاح دائمًا حليفه، حينما يخفق إخوته في ذلك إخفاقًا تامًّا؟ لمَ هذا كله؟ وكيف يتأتَّى ظهور كثير من العباقرة والنوابغ في بيئات حقيرة خاملة؟ وجماع القول، كيف يختلف كل حي في هذا الوجود عن كل حي آخر؟
•••
هذه أسئلة عويصة، قد بدأ يجيب عليها علماء البيولوجيا والطبيعة — في هذا العصر — وقد وفِّقوا إلى حلِّها في السنين الأخيرة، بعد أن نقضوا الفكرة القائلة بأن الناس يولودون جميعًا سواسية في المواهب والكفايات، فقد اهتدى العلماء إلى كثير من الحقائق الطريفة في توريث المواهب العقلية والمزايا الجثمانية، وطريقة انتقالها من الأعقاب إلى الذراري، وعلاقة ذلك بمستقبل الناس وحظوظهم، وبعد أن طبَّقوا قوانين الوراثة الحديثة، ووفِّقوا إلى حصرها وضبطها، وأصبحوا قادرين على توليد وتنشئة كثير من ضروب النباتات وأنواع الحيوان بأحسن مما كانت، وأكسبوها مزايا لم تكن في سابقتها، وهم يأملون الآن أن يفلحوا في تطبيق هذه القوانين، لتنشئة مواليد وأطفال خيرًا من أسلافهم وآبائهم.
•••
منذ بداية القرن الحالي بدأت هذا الاكتشاف الجديدة — التي وصل إليها الباحثون في قوانين الوراثة وأساليب انتقالها — تغير من طرق البحث وتكشف للناس حقائق عظيمة الخطر.
ومن غرائب الأمور أن أول اكتشافها لم يكن في معامل التجاريب والمباحث الكيميائية — كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة — بل كان ذلك في حديقة دير!
•••
عد بخيالك أيها القارئ نيفًا وستين عامًا، وتمثَّل دير «كونجن كلوستر» القديم في مدينة «برون» من أعمال النمسا، ثم أطلق العنان لخيالك متمثلًا صلوات الصبح تتلى في ذلك الدير، فيسرع راهب فاضل — كرَّس حياته للعلم، ووهب نفسه للبحث والتمحيص — إلى التعمُّق في الدرس والإكباب على الفحص، وقد انبعث من عينيه النفَّاذتين بريق أخَّاذ، ثم تمثَّله في حديقة ذلك الدير التي غرس فيها شتى صنوف النبات ومختلف أنواعه وفصائله، فإذا جلس خلالها لم يند عنه نبات واحد منها، ولم يفته معرفة أي نوع مما غرس فيها، وأصله وتاريخه، وهو يمر فيها — المرة بعد الأخرى — فلا يغفل في كل مرة عن التحديق في هذه النباتات وإدمان النظر إليها، إدمان فاحص مدقق ينعم بصره في أوراقها وجذوعها وزهراتها، ويتملَّى بها كما يتملَّى الإنسان بأصدقائه وأحبابه، مستعيدًا — لدى رؤيتها — ذكرياته وملاحظاته عليها.
ذلك هو العلامة القس «مندل» — رجل الدين والعلم معًا — وهذه الحديقة هي معمله ومكان تجاريبه العلمية، وقد دأب فيها — يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عامٍ — فاحصًا مدققًا البحث منعمًا النظر في نتاج الحبة من الحبة، وأثر تزاوج الأنواع بعضها ببعض، وما يكسبه ذلك من مميزات الوراثة وخصائصها، وما يكسبه كل محصول جديد من قوى جديدة بفضل هذا الازدواج، وكلما أخرج نباتًا حديثًا أكبَّ على دراسته وتفهَّم ميزته بأناة وصبر عجيبين لا يعتورهما ملل، ولا يخامرهما فتور حتى وصل إلى قوانين ثابتة معززة بالعلم، مؤيدة بالعمل، وظفر بنظام جوهري ثابت تخضع له الوراثة ويسير عليه قانونها.
•••
وفي عام «١٨٦٥م» وقف الأستاذ «جريجور مندل» في جمعية «التاريخ الطبيعي» بمدينة «برون»، وأعلن للمرة الأولى نتائج اكتشافه الجديد؛ ولكن هذه الآراء الثائرة لم تقابل بما كانت جديرة به من الاهتمام، وسرعان ما انسدل عليها ستار الخمول والنسيان؛ فلم يفتَّ ذلك في عضد هذا العالِم، بل تلقى الصدمة بثبات الفيلسوف، وقال لأحد أصحابه مبتسمًا: «لم يحن زمني بعد!»
•••
ولئن مات هذا النابغة — ولم يمتد به زمنه لرؤية اسمه ذائعًا ومبادئه منتشرة — فقد تحققت نبوءته، وكتب لاسمه الخلود بعد موته!
ولقد مضى على دفنه خمسة وثلاثون عامًا، كان يغمره الخمول والنسيان في أثنائها، حتى إذا بدأ فجر هذا الجيل انبعثت آراؤه من مرقدها، وذاعت حتى أصبحت اليوم من الآراء العلمية المقررة، وقد عززتها تجاريب العلماء واختبارات الباحثين، فلم تزدد — على التمحيص — إلا قوة، وكان لها أكبر الفضل في إنتاج أنواع جديدة صالحة من البذور والخضراوات والأزهار، كان لها أعظم الأثر في تحسين أنواع الماشية وكرائم الجياد.
(١) نشأة مندل
إن نشأة مندل وحياته الحافلة ليستا إلا مثالًا صالحًا لبيان ظاهرة من ظواهر الطبيعة العجيبة، التي تخرج العبقريات الفذة والعقول الجبارة من البيئات المنحطة والأوساط الفقيرة، فقد ولد «مندل» فقيرًا؛ فحال ذلك بينه وبين التعلم، ووقف فقر ذلك الفلاح النمسوي عقبة كأداء في طريقه، لكن أخته ضحَّت في سبيل تعليمه بمهر زواجها الضئيل؛ فبعثت به إلى المدرسة، ولما بلغت سنه الحادية والعشرين دخل الدير، حيث بدأ يدرس طبائع النبات — إرضاءً لغريزته وهواه في بادئ الأمر — ثم عيِّن مدرسًا للتاريخ الطبيعي في مدرسة «برون» الصناعية؛ فنجح في مهمته نجاحًا لفت إليه أنظار رؤسائه؛ فأعانوه وشجعوه على مواصلة دراساته وبحوثه في جامعة «فينا»، ولم يمر عامان حتى أتمَّ دروسه بها، وعاد إلى الدير حيث أجرى في حديقته تجاريبه التي تعد — بحق — غزوًا جديدًا في عالم العلم.
وكان قد ذاع اسم العلامة «داروين» وعرف خطره، وأهمية مباحثه العلمية التي أدهشت رجال العلم واللاهوت في كتابه «أصل الأنواع»، وهو الذي وضع فيه أساس نظرية «النشوء». ولئن اعتمد داروين في استنباط نظريته على ما شاهده من التخالف والتباين بين الكائنات الحية، من نبات وحيوان، إلا أنه اعترف بعجزه — اعترافًا صريحًا — عن توضيح أسباب هذه الاختلافات وتبيان الأسباب التي تجعل الفرع يغاير أصله؛ ولعل هذا وحده كان السبب الأول الذي دفع عالمنا «مندل» إلى البحث عن هذا السر، وتوجيه جهوده إلى حله وفك معمياته!
ومهما يكن من أمر، فقد انقطع «مندل» لدراسة مسائل الوراثة، وتفهُّم الأسباب والعلل التي نشأ منها تخالف الأفراد وتغايرهم! ولكن وميضًا من الوحي، أو قبسًا من الإلهام؛ أنار له الطريق التي يسلكها للوصول إلى ذلك التباين العظيم في توريث أخلاق الناس وصفاتهم ومواهبهم.
(٢) كيف استنبط مندل طريقته؟
أما الطريقة التي سلكها «مندل» في استنباط قانونه، فهي سهلة واضحة يسهل منها تفهُّم الوسائل التي قادته إلى تلك النتائج الباهرة، فقد اختار بعض نباتات «البسلة» — بادئ ذي بدء — ورأى أن بعض عيدانها طويل والآخر قصير، وأن لبعضها أوراقًا خشنة، على حين رأى أوراق البعض الآخر ناعمة، وشاهد أوراقًا صفراء وأخرى خضراء، ثم أكبَّ على درسها وفحصها إكبابًا.
وبدأ يغرس بذور بعض عيدانها الطويلة وعيدانها القصيرة، وكان يبلغ ارتفاع الأولى عدة أقدام، ولا يزيد ارتفاع الثانية عن بضع بوصات، فلما نمت تلك العيدان وتم نماؤها؛ لقَّح بذور الأولى ببذور الثانية، مزاوجًا بين كل بذرة من بذور العيدان الطويلة، وأخرى من بذور العيدان القصيرة، ثم أخذ تلك الحبوب الجديدة فبذرها في العام التالي، فكانت النتيجة على غير ما يتوقعها القارئ، ولم يخرج النبات مزيجًا من العيدان الطويلة والقصيرة، بل كانت سوقه كلها طويلة، فلما غرس حبوبها — بعد ذلك — غرسًا عاديًّا، وصل إلى نتيجة أخرى لا تقل غرابة عن سابقتها؛ فقد ظهر الغرس الجديد مزيجًا من العيدان الطويلة والقصيرة، ولكن بنسبة مطردةً؛ هي نسبة ثلاثة عيدان طويلة إلى واحد قصير.
(٣) نتيجة هذه التجاريب
ومن ذلك استخلص «مندل» أن خصائص القِصَر قد انعدمت بالازدواج في النتاج الأول، وأن الطول — لهذا السبب — يطغى على القِصَر، وأن للأول صفات مؤثرة، كما أن للثاني صفات متأثرة، فسمَّى الأولى صفات «قاهرة» والثانية صفات «مقهورة»، أو إن شئت فسمِّي أولاها «مخضعة» والثانية «خاضعة».
•••
بينما يبقى الاثنان الآخران محتفظين بالنسبة السابقة في الذريات المتعاقبة بنسبة ثلاثة عيدان طويلة إلى عود قصير.
فلما طبَّق هذا القانون على نباتات أخرى وجده صحيحًا، وظل يزيد في أشباه هذه التجاريب بطرق شتى، حتى توصَّل إلى نظريته في الوراثة.
(٤) أهمية قانون مندل
ولقانون «مندل» خطر عظيم؛ إذ هو أول من كشف للناس إمكان الانتفاع بميزات بعض الأنواع — من نبات وحيوان — ونقلها إلى غيرها، والتوصل بذلك إلى تحسين النوع، ولهذا خطره وأهميته الحيوية في تربية الماشية والجياد وغيرها، ومساعدة الفلاح على تحسين إنتاجه الزراعي أيضًا.
على أن نفعه لا يقف عند هذا الحد، بل يتعدَّاه إلى تمكين الناس من استيعاب طبيعة الأشياء بوضوح وجلاء، وتفهُّم دقائق هذه المادة الضئيلة، ونظم تركيبها وتأليفها، وسر مميزاتها، وطريقة توريثها وانتقالها إلى ذراريها.
•••
ولقد كان «مندل» متدينًا، قائمًا بواجبات دينه بغيرةٍ لا تقل عن غيرته العلمية التي دفعته إلى البحث، وقد رفعه رفقاؤه إلى رئاسة الدير؛ فأبلى بلاء الصابرين، ولم تفتر له عزيمة في مكافحة السلطات الحكومية ودفع ظلمها.
ولقد لقي في كل خطوة من خطواته مثبطات ومؤيسات؛ فما وهن عزمه ولا نكص أمامها، وغمره الخمول وجهل الناس به، فلم يتزعزع يقينه الثابت وإيمانه الراسخ؛ لا في علمه ولا في دينه.
والحق أن حياة هذا الرجل هي خير رد على أولئك القائلين إن العلم والدين لا يتفقان، فقد ظل — بملاحظته الدائبة، وبصره النافذ — يقرأ سفر الطبيعة الخالدة مستوحيًا منه قوانينها، وثم وجد ما يزيد إيمانه بخالق الكون ومبدعه!
ولقد قال: «إن زمني سيجيء بعد قليل.»
وقد جاء زمنه وصحَّت نبوءته!