مناظرة الكسائي وسيبويه١
•••
ولئن شكونا في المناظرة السابقة قلة المصادر التي نرجع إليها في تحقيقها، ولم نجد غير رواية «الهمذاني» نفسه — وهي رواية خصم عن خصمه — فإن ما نشكوه في هذه المناظرة هو تعدد المصادر وكثرتها، وتباين رواياتها، وأثر التعصب فيها وتعمد التشويه.
على أن هذه الروايات — رغم اضطراب بعضها واختلافه في التفاصيل — متفقة في الأساس والجوهر، فهي — من أية ناحية رأيت، وبأية رواية أخذت — تدل على أن سيبويه قد ظُلم، وأن الحق كان في جانبه.
فقد أجمع علماء النحو واللغة — في زمن سيبويه وبعد زمنه — على أن الصواب ما قال، وأن الكسائي كان في الجانب الخاطئ، ولم يشذَّ عن هذا الإجماع إلا شيعة الكسائي، والطامعون في ماله أو جاهه، والمحسوبون عليه وذوو الحاجات وطلاب المآرب الذاتية.
•••
وقال المازني: «من أراد أن يعمل كتابًا كبيرًا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحِ.»
•••
وقد كتب سيبويه هذا الكتاب الخالد في الوقت الذي كان فيه الكسائي منصرفًا إلى المناصب والاتصال بالخليفة، والدعاية لنفسه بأنه العالم الفذ الذي استنفذ خمس عشرة قنينة حبر في الكتابة عن العرب، وأن هذا زيادة على ما حفظه، إلى آخر هذه الدعاوى الفارغة التي لا يعنى بها المنصرفون إلى العلم حقًّا، والتي هي أشبه بالإعلانات التجارية، وهذا أسلوب فذ في الدعاية لجأ إليه الكسائي — في جملة ما لجأ — للوصول إلى الشهرة.
وإذا رأينا علماء اللغة وأئمة النحو يحترمون «سيبويه» ويقرون مذهبه، رأيناهم — على العكس من ذلك — ينفرون من مذهب الكسائي ويرون فيه إفسادًا للغة وإضاعة للنحو.
قال ابن درستويه: «كان الكسائي يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة، فيجعله أصلًا يقيس عليه حتى أفسد بذلك النحو.»
وقال الأصمعي: «أخذ الكسائي اللغة عن أعراب من الحطمة ينزلون بقُطربل، فلما ناظر سيبويه استشهد بلغتهم عليه.»
وقال محمد اليزيدي:
وقال الزجاج: «أي إنصاف في الرجوع إلى أعراب وفدوا لحاجتهم، وسيبويه رجل غريب وخصومه أهل البلد والدولة؟ وإنما الحكم العارف بالصحيح وغيره؛ وقد لا يعرف الأعرابي إلا لغته الشاذة.» إلى آخر هذه الآراء.
(١) كيف كانت المناظرة
لم يكد يرد سيبويه إلى العراق حتى شعر الكسائي أن مركزه العلمي في خطر، وأن منافسًا جديدًا يحاول أن يغتصب منه مقام الزعامة.
قالوا: «وشق أمره على الكسائي فأتى يحيى وجعفر بن برمك وقال: «أنا وليكما وصاحبكما، وهذا الرجل إنما قدم إلى العراق ليُذهب محلي.»
قالا: «فاحتَلْ لنفسك فإنا سنجمع بينكما.»
وهكذا دبرت المؤامرة في بيت البرامكة لهدم سيبويه، فلما حان الموعد حضر سيبويه وحده، وجاء الكسائي ومعه الفراء والأحمر وغيرهما من أصحابه، فسأله الفراء عن مسألة فلم يكد يجيبه عنها حتى قال له: «أخطأت.» وسأله عن ثانية فأجابه فقال له: «أخطأت.»
ثم سأله عن ثالثة وقال له: «أخطأت.»
فقال له سيبويه: «هذا سوء أدب منك!»
فقال الفراء لصاحبه: «يظهر أن في هذا الرجل عجلة وحِدَّة!»
وسأله الأحمر عن عدة مسائل فكان يخطِّئه في كل جواب يفوه به، قالوا: «فلم يرَ سيبويه إلا أن يكفَّ عن مناقشتهما.»
وهنا يقول له الكسائي — ولعلك تلمح في جملته معنى التحقير والاستصغار: «يا بصري، كيف تقول: كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟»
قال: «أقول فإذا هو هي.»
فأقبل عليه الجمع فقالوا: «أخطأت ولحنت.»
وفي هذا مثال من التهويش والتحامل على سيبويه.
وهنا يقول يحيى بن خالد بن برمك: «هذا موضع مشكل حتى يحكم بينكم!» فيقول الكسائي: «هؤلاء الأعراب على الباب.»
قالوا: «فأدخل ابو الجراح، ومن وجد معه ممن كان يأخذ منه.»
فقال لهم الكسائي: كيف تقولون: «قد كنت أحسب أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا الزنبور إياها بعينها.»
فقالت طائفة: «فإذا الزنبور هي.»
وقالت أخرى: «فإذا الزنبور إياها بعينها.»
فقال الكسائي: «هذا خلاف ما تقول يا بصري!»
•••
وهنا يقبل يحيى رب الدار على سيبويه — وهو الغريب المستوحش — فيقول له ما يشعره بأن صاحب الدار من رأي الكسائي وشيعته: «قد تسمع أيها الرجل!»
فلا يكاد يسمع سيبويه هذه الجملة حتى يستكين، ويسرع الكسائي إلى يحيى فيقول له حتى يطمئن على أن المناظرة قد انتهت، وأن الغلبة قد تمت له: «أصلح الله الوزير، لقد وفد عليك من بلده مؤملًا، فإن رأيت ألا ترده خائبًا؟»
فيأمر له يحيى بعشرة آلاف درهم.
•••
وكأنما أَلِفَ الكسائي أن يصطنع الناس بالمال ليضمن لنفسه إقرارهم بزعامته العلمية التي يسعى إلى الانفراد بها عند الخليفة، ولعله حسب أن هذه المنحة تنسي سيبويه تلك الصدمة العنيفة التي سبَّبها له.
على أن الكسائي طالما اشترى بالمال ألسنًا وذممًا!
ألا ترى إلى الأخفش يذهب إلى الكسائي غاضبًا — بعد أن أخبره سيبويه بما حدث له معه — فيسأل الكسائي وهو بين تلاميذه ويخطِّئه في كل جواب يقوله، فيهمُّ تلاميذ الكسائي بضربه فيمنعهم من ذلك — خوفًا من ذيوع أمره — ويُقبِل عليه فيعانقه متحببًا إليه، ويعهد إليه بتعليم أولاده، ويرشوه بالمال فينسيه بذلك ثأر صديقه سيبويه؟
ولقد كان من بين تلاميذ الكسائي من هو أعلم منه وأجدر بالزعامة — كالفراء مثلًا — وما كان مثل الفراء ليقبل أن يكون تلميذًا للكسائي لولا طمعه في جاهه وماله، وأمله في أن يتصل بالخليفة — بفضل صحبته له — وقد تم له ما أراد بعد ذلك.
•••
وربما استشهد لنا أحد الأدباء الناقدين بقول الفراء نفسه للتدليل على فضل الكسائي: قال لي رجل: «ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في النحو؟»
فأعجبتني نفسي، فأتيته فناظرته مناظرة الأكفاء، فكأنني كنت طائرًا يغرف بمنقاره من البحر.
فإن أمثال هذه المدائح يجب أن تفهم على وجهها الصحيح؛ فهي نوع من تملق ذوي النفوذ طمعًا في جاههم وتقربًا إليهم!
ألا ترى إلى ابن الرومي نفسه — وهو الشاعر الفحل — يلجئه العوز والفاقة ونكد الدنيا إلى امتداح بيت سخيف لابن المعتز، حين سألوه: «لِمَ لمْ تشبِّه مثل تشبيه ابن المعتز في قوله:
فتظاهر لهم بإكبار معنى هذا البيت التافه، وإعجابه بما فيه من تشبيه متكلف وعجزه عن محاكاته — تملقًا لقائله — لرفعته وسمو منزلته؟
ولا نظننا متحاملين على الكسائي حين نثبت هنا ما يرويه بعض المؤرخين عنه من أنه كان متهتِّكًا فاجرًا، ونحن نروي ذلك بشيء من التحفظ فلا نصححه ولا ننفيه، فلعله من دسائس البصريين، على أننا لا نستبعده، فليس اتصاله بالخليفة وتعهده أبنائه بالتربية مما يعصمه من اقتراف الدنايا والآثام ولو سرًّا.
(٢) رأي النحاة في هذه المسألة
قالوا: «وأما سؤال الكسائي فجوابه ما قال سيبويه، وهو «فإذا هو هي.» هذا هو وجه الكلام مثل: «فإذا هي بيضاء»، «فإذا هي حية». وأما «فإذا هو إياها» — إن ثبت — فخارج عن القياس واستعمال الفصحاء، ولا يعتد به، كالجزم بلن، والنصب بلم، والجر بلعل. وسيبويه وأصحابه لا يلتفتون لمثل ذلك، وإن تكلم به بعض العرب.»
•••
إلى أن يقول:
•••
وقد حدث لأبي عثمان المازني ما حدث لسيبويه، قال: «دخلت بغداد فأُلقيتْ عليَّ مسائل، فكنت أجيب فيها على مذهبي، ويخطِّئونني على مذاهبهم.»
قالوا: «وهكذا اتفق لسيبويه.»
وجماع القول أن سيبويه هُزِمَ رغم فضله وعلمه وكونه في جانب الحق، ولم يكن له بدٌّ من السكوت والرضى بالهزيمة في هذا المجلس الحاشد.
•••
ومثِّل لنفسك أيها القارئ مجلسًا حافلًا بأعيان الدولة، وقادة الرأي فيها، يُجمِع مثلًا على أن «لم» تنصب ولا تجزم، وأنت وحدك تقول «إنها تجزم ولا تنصب، وإن العرب لا تعرف غير ذلك.» وهم لا يسمعون لك قولًا، فأية حجة تستطيع أن تدلي بها في مثل هذا المجلس المتحامل الذي ينكر عليك ما لا سبيل إلى إنكاره؟
كذلك كان موقف سيبويه يقرر قاعدةً أجمع علماء النحو على أن خلافها شاذ لا يؤخذ به، فلا يُقبل منه قول.
وهكذا تمت الهزيمة، فذهب «سيبويه» إلى فارس، ولم تطل مدته بعد ذلك.
قالوا: ولما اعتلَّ سيبويه وضع رأسه في حجر أخيه، فبكى أخوه لمَّا رآه — لما به — فقطرت من دمعه قطرة على وجهه، فرفع سيبويه رأسه إليه فرآه يبكي فقال:
ولقد قضى سيبويه جلَّ حياته في الدرس على خير أساتيذ عصره لا سيما الخليل ويونس، ومات بعد أن ألَّف كتابه الخالد، وإن كان لم يُدرِّسه، وختمت حياة هذا العالم الجليل دون أن يجني ثمر جهاده، رحمة الله عليه وعلى شيخيه الجليلين الخليل ويونس.