في بلاد العمالقة١
(١) قصر العملاق
ولاح لنا قصر كبير — على مسافة بعيدة من الجزيرة — فقصدنا إليه حتى بلغناه، فوجدناه قلعة شاهقة محكمة البناء، فتعاونَّا جميعًا على فتح بابه الكبير، ثم دخلنا فناءه فوجدنا فيه كومة من العظام البشرية؛ فهالنا ذلك المنظر، وامتلأت قلوبنا منه رعبًا، ولم ينطق أحد منا بكلمة واحدة؛ لشدة ما لحقنا من الذعر، وبقينا خائفين طول النهار، حتى — إذا غربت الشمس — سمعنا صرير الباب الخارجي وهو يقفل، ورأينا عملاقًا هائلًا يدخل علينا وهو — في مثل طول النخلة — أسود الوجه، له عين واحدة يكاد يتطاير منها الشرر، وأنياب طويلة حادة مروعة!
في حضرة العملاق
ولم نكد نراه حتى تملَّكنا الرعب واستولى علينا الهلع والفزع، وصرنا كالموتى وهو ينظر إلينا نظرات مخيفة، ثم اقترب مني وأمسك بي — وأنا كالعصفور في يده — فرآني نحيلًا هزيل الجسم، فتركني وأخذ غيري فرآه نحيفًا فلم يعجبه أيضًا.
(٢) كيف شوى الربان
ونظر إلى الربان فرآه سمينًا فأعجبه، فأمسك به ولوى رقبته بيده، ثم جاء بسفُّود طويل فأنفذه فيه، وأوقد نارًا حامية وضعه عليها، وما زال يقلبه حتى شواه فأكل لحمه ورمى عظامه على الأرض، ثم نام فسمعنا له شخيرًا عاليًا.
ولما أصبح الصباح خرج العملاق من القصر وتركنا، فخرجنا إلى الجزيرة يائسين، وتمنينا لو كنا غرقنا في البحر، ولم نقع في قبضة هذا الغول المخيف؛ حتى لا يكون نصيبنا هذه الميتة الشنعاء التي لم تكن لتخطر لنا على بال.
وبحثنا طول النهار عن مكان نختبئ فيه فلم نظفر بطائل؛ فعدنا إلى القصر خائفين، وجاء العملاق — بعد قليل — فشوى أحدنا كما شوى بالأمس ربان السفينة وأكله، ونام إلى الصباح، ثم خرج إلى حيث لا ندري، وخرجنا هائمين في الجزيرة، وقد أشار علينا بعض رفاقنا أن نلقي بأنفسنا في البحر؛ حتى ننجو من هذه الميتة المروعة، وأشار آخرون أن نحتال لقتله.
(٣) فُلك النجاة
فأشرت عليهم أن يهيئوا فُلكًا من خشب الأشجار؛ فإذا لم ننجح في قتل العملاق هربنا من الجزيرة في تلك الفلك؛ ففرحوا جميعًا بهذا الرأي، وشرعنا في العمل بجد ونشاط حتى إذا تمت الفلك وضعنا فيها ما نحتاجه من الزاد وربطناها إلى شاطئ البحر.
تنفيذ المؤامرة
وعدنا إلى القصر، فجاء العملاق ففعل بثالث منا ما فعله بسابقيه ثم نام — كعادته — وعلا شخيره، فوضعنا سفُّودين في النار حتى احمرا، ثم أدخلناهما — معًا — بقوة في عينه وهو نائم؛ فصرخ صرخة هائلة — من شدة الألم — وقام هائجًا يبحث عنا — بعد أن عميت عينه — فلم يهتدِ إلى أحد، فسار إلى الباب ففتحه، وخرج كالمجنون، ففرحنا بذلك وحسبنا أننا أصبحنا بمأمن من شره!
انتقام العمالقة
ولكن فرحنا لم يطل؛ فقد جاء إلينا — بعد قليل — جماعة من العمالقة يغايرونه في الشكل ولا يقلُّون عنه وحشية وفظاظة، فهربنا منهم مسرعين إلى الفلك التي صنعناها.
فلما رأونا في البحر أخذوا يرجموننا بحجارة كبيرة، فقتلوا رفاقي، ولم ينج معي منهم إلا اثنان.
(٤) الفرار من جزيرة العمالقة
وبعد أن نجونا من شر أولئك العمالقة أصبحنا تحت رحمة الأمواج الهائجة طول نهارنا وليلتنا، حتى إذا — أصبح الصباح — قذفتنا الأمواج إلى شاطئ جزيرة كبيرة؛ ففرحنا بذلك، وأكلنا من فاكهتها الطيبة، وشربنا من مائها العذب، ثم جلسنا على شاطئ البحر فرحين بالنجاة من أرض العمالقة.
في فم أفعى
ولما جاء الليل نمنا فوق شجرة عالية، واستيقظنا فزعين؛ فرأينا حية هائلة قد التقمت واحدًا من رفيقيَّ، فسمعنا عظامه تتكسر في جوفها وهي تبتلعه، فاشتد خوفنا وهالنا الأمر، وقلنا: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! كلما نجونا من مصيبة وقعنا فيما هو شر منها.»
ولما أصبح الصباح أكلنا وشربنا، حتى إذا جاء الليل صعدنا إلى شجرة أخرى فنمتُ بأعلاها، ونام رفيقيَّ قريبًا مني، وبعد قليل جاءت الحية فالتقمت رفيقي كما التقمت صاحبه بالأمس؟
كيف نجوتُ من الأفعى؟
فمكثت طول الليل خائفًا حتى إذا أصبح الصباح هممت أن ألقي بنفسي في البحر، فمنعني من ذلك حب الحياة فتجلَّدت، ولما اقترب الليل أحضرت ألواحًا من الخشب وشددت جسمي إليها شدًّا وثيقًا، وجاءت الحية كعادتها تحاول أن تبتلعني — كما ابتلعت رفيقيَّ — فحالت الألواح المشدودة حولي دون ذلك، وظلت طول الليل تحاول أن تجد منفذًا إليَّ — من خلال الألواح — دون أن تظفر بطائل، فلما بدا الصباح عادت من حيث أتت، فحللت رباطي وخرجت من بين الخشب وأنا أحمد الله على السلامة.
الأمل بعد اليأس
وجلست على شاطئ البحر يائسًا مهمومًا أفكر فيما حلَّ بي من المصائب، فلمحت مركبًا كبيرًا — على مسافة بعيدة — فلم أزل أصرخ وأصيح مشيرًا بيدي مرة، وملوِّحًا بعمامتي مرة أخرى، حتى فطن إليَّ بعض من بالمركب؛ فاقتربوا من الجزيرة ورسوا على شاطئها، فسلمت عليهم فردوا عليَّ السلام، وفرحت بلقائهم فرحًا عظيمًا، وحملوني معهم وسألوني عن أمري، فقصصت عليهم كل ما حدث لي، فعجبوا من ذلك أشد العجب، وأطعموني وسقوني وأكرموني أحسن إكرام.
ربان السفينة
ولم يزل المركب سائرًا بنا حتى بلغنا بلدًا كبيرًا، فقال لي الربان: «إن عندي بضاعة لرجل اسمه «السندباد البحري»، كان معنا ثم نسيناه في جزيرة مررنا بها.»
فتأملت الربان فعرفعته، وأخبرته أنني أنا «السندباد البحري» فلم يصدقني — أول الأمر — واجتمع التجار حولي، وكان من بينهم التاجر الذي تعلَّقت بذبيحته في رحلتي السابقة التي قصصتها عليكم، فلم يكد ينعم النظر فيَّ حتى عرفني، وقص عليهم ما حدث لي معه، فحدَّق الربان النظر في فعرفني وتحقق صدق قولي، فعانقني فرحًا مسرورًا.
في بغداد
وما زلنا ننتقل من بلد إلى بلد ومن جزيرة — وتجارتنا رابحة — حتى وصلنا إلى البصرة، ثم سافرت منها إلى بغداد ومعي أموال لا تحصى، وأقبل عليَّ أهلي وأصحابي يهنئونني برجوعي سالمًا وقد فرحوا بي فرحًا لا يوصف.