رسالة الغفران
(١) لماذا كتبها أبو العلاء
وقد ملأ ابن القارح رسالته بشكوى الناس والطعن على الزنادقة والملحدين، وجرَّه ذلك إلى الاستطراد إلى مناسبات شتى، فلما قرأ «أبو العلاء» رسالة ابن القارح، بعث إليه برسالة الغفران ردًّا على رسالته. وقد سلك فيها منهجًا عجيبًا لم يسلكه — فيما نعلم — كاتب قبله؛ فبدأها بالثناء على ابن القارح، والإعجاب بغيرته الدينية، ثم قال:
وهذه الكلمة الطيبة كأنها المعنية بقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.
وبعد أن أبدع «المعري» في وصف الفردوس ما شاء أن يبدع، وافتن في وصفها ووصف من فيه من السعداء تمثَّل صديقه «ابن القارح» — وقد اصطفى له ندامى من أدباء الفردوس، ثم يخطر له أن يتنزه، ولا يكاد يفعل حتى يقابله الأعشى، ثم يقابله غيره من الشعراء، وبذلك يخلق أبا العلاء جوًّا صالحًا لتلك الكوميديا الرائعة — رسالة الغفران — ويجعل مسرح هذه الكوميديا الجنة والنار، فإذا انتهى من هذه الكوميديا؛ عاد إلى الرد على رسالة ابن القارح.
(٢) لماذا أطلق عليها اسم الغفران؟١٤
وإنما أطلق عليها اسم «الغفران» لأن الفكرة الرئيسية التي دفعته إلى إنشائها — وقت إجابته على رسالة ابن القارح — هي مناقشة من فازوا بالمغفرة ومن حرموها في الدار الآخرة، ومما يسترعي انتباهك فيها سؤاله — وكثيرًا ما كان يوجهه إلى الفريق الناجي: «بِمَ غفر لك؟» فيجيبه كل واحد منهم بما نجَّاه من العذاب، ويشرح له السبب في دخوله الفردوس، ويصف له كيف يتمتع به، وكيف ينعم ببدائعه.
وسؤاله الذي كان يوجهه إلى الفريق الثاني — وهو مَن حقَّت عليه اللعنة وكُتب عليه الشقاء: «لِمَ لم يغفر لك قولك كذا؟» فيجيبه أكثرهم عن السبب، ويشرحون له ما يقاسون من ألم وعذاب، ويصمت بعضهم لاشتغاله بما هو فيه من نكالٍ وغصص.
وهكذا ألمَّ بطائفة من الحوادث والأسباب، ومزج الرواية بالدعابة، والجد بالفكاهة والأدب، والفلسفة بالنقد الصائب، والسخرية الدقيقة.
•••
وليس هذا الخيال، أو تلك الفكرة الفنية التي انتظمت الكتاب فأفردته من بين الآثار الأدبية التي كتب لها الخلود، مما يستغرب من مثل أبي العلاء ذي العقل الراجح، والبصيرة النفاذة، والخيال الواسع.
نعم وليس تمثُّل البعث والنشور، ونعيم الفردوس، وتعذيب الأشقياء في الجحيم، من الأفكار الطارئة التي سببتها رسالة ابن القارح أو نبهتها فيه، ولكنها فكرة متأصلة في قرارة نفسه، نبتت ونمت وتوشجت أصولها ونضجت ثمارها في قلبه — نحو نصف قرن — فاختلطت بلحمه، وسيطت بدمه، وهيمنت على مشاعره منذ حداثة نشأته — حتى أصبحت — من أهم مصادر الفلسفة العلائية.
ولعل أول محاولة رأيناها له — في اكتناه البعث والتردد في قبول الروايات والأخبار المتناقلة — قوله في مستهل حياته الأدبية — وهو في الرابعة عشرة من عمره في نونيته التي رثى بها أباه — إذ يقول فيها:
وإنك لتلمح الشك يساور نفسه التي تتطلع إلى اليقين؛ فلا تظفر به وتتلمَّس الحقيقة فلا تصل إليها، فترجع يائسة حائرة بعد أن وجدت كل معينٍ ناضبًا، وكل ماء سرابًا، وإنك لتجد حيرة من قتل الفكرة بحثًا، وقلبها على كل وجه من وجوهها وناحية من نواحيها فلم يظفر بطائل، وزاد تفاقم الشك في نفسه الفتية، فأصبح يتلمس ما يسد به ذلك الفراغ — الذي كان يملؤه اليقين — فلا يجده. كل ذلك تتمثله واضحًا في قوله من تلك القصيدة:
وقال:
وقال:
وقال:
إلى آخر تلك الأبيات التي لا حاجة بنا إلى استقصائها.
ولكنه بعد أن سئم هذه التمنيات التي رددها كثيرًا — بلا طائل — لجأ إلى نوع آخر من الأماني المجدية — وهو الخيال — وما أوسع عالمه إذا ضاق بالإنسان عالم الحقائق!
- أولاهما: رسالة سائل — لم يحفظ لنا التاريخ اسمه — بعث بها إليه مستفسرًّا عن بعض المسائل الصرفية.
- وثانيتهما: رسالة علي بن منصور الملقب بدوخلة، والمشهور بابن القارح، فكان جوابه على الأولى رسالة الملائكة، وعلى الثانية رسالة الغفران. فأما رسالة الملائكة فقد انتهز فيها مناسبة كل لفظة سأله المستفهم عنها، للخروج منها إلى ما يناسبها من لقاء عزرائيل إلى محاسبة الملكين إلى نفخ الصور إلى دخول الجنة.
وأما رسالة الغفران فقد انتهز فرصة الثناء على رسالة ابن القارح وإطراء كلماتها — كما أسلفنا — لنتوصل إلى غايته التي رمى إليها، فتمثَّل الملائكة ترفع كلمها الطيب إلى السماء، وتخذ من قوله تعالى: «ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ، أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها» وسيلة إلى تمثُّل الأشجار قد غرست في الفردوس بعدد كلمات تلك الرسالة؛ لأنها جميعًا مما ينطبق عليه معنى الآية التي كأنما كانت تعنيها بهذا الوصف.
وساقه ذكر أشجار الجنة إلى ذكر أنهارها وما فيها من الخمر، ثم إلى تنزُّه ابن القارح فيها وتمتعه بنعيمها الخالد، وتعرُّفه بأهلها، ثم جرِّه ذلك إلى وصف دخوله ودخول غيره من المغفور لهم جنان الخلد، ثم جرِّه ذلك إلى زيارة أهل النار وسؤالهم عن السبب الذي جرَّهم إلى هذه العقبى السيئة، وهكذا إلى آخر أغراض الرسالة.
وبعد أن فرغ من ذلك القسم الممتع عاد إلى الرد على رسالة ابن القارح.
•••
أما رسالة الملائكة فقد يخيل إلينا أنها كتبت قبل رسالة الغفران؛ لأنها — على جمال أسلوبها وتفرد خيالها — مقتضبة إذا قسناها إلى رسالة الغفران، أو هي — إن شئت — إنما كانت تمهيدًا للفكرة الفنية التي قامت عليها القصة.
أما رسالة الغفران فهي — في اعتقادنا — أوضح وأدق وأبرع صورة شعرية قرأناها عن العالم الثاني، وأحوال الناس فيه، وهي كما قلنا من قبل: «فن من الأدب العالي، لا يقل عن أجلِّ أثر أخرجه أكبر رأس غربي مفكر …!»
هوامش
وانظر إليه كيف لائم بين هاتين الفكرتين المتنافرتين، وكيف جمع بين تمثيل الهول والرعب، وتمثيل الرزانة والتؤدة!
وأحب أن أنبه إلى وصف يوم الموقف في الفصل الثاني من رسالة الغفران، وكيف يتدافع الناس إلى ورود الحوض ليطفئوا غلة العطش الذي أهلكهم، وكيف يذودهم الواقفون على الحوض ليمنعوهم الوصول إليه!
نكتفي باختيار النبذة التالية من أشعاره الكثيرة التي تناول فيها هذه الفكرة، وهي — على ما في بعضها من تناقض ظاهري — لا تكاد تختلف في جوهرها، قال:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
فخلاصة رأي أبي العلاء التي تخرج بها — بعد قراءة أشعاره في البعث والنشور — هي أن الله أقدر كل شيء، وأن قدرته التي أنشأت الإنسان من العدم إنشاء غير عاجزة — بلا شك — عن إنشائه مرة ثانية وثالثة ورابعة — متى أرادت — ولكن القدرة شيء والإرادة شيء آخر! فقد تقدر على الشيء ولا تريده، أو تريده ولا تقدر عليه!