الشعراء المعاصرون: أبو شادي١
«وإن صديقي — إن رأى الحق شرعتي — فليس يحابيني، ولا ينثني عني»
لعل خير ما أفتتح به هذا الفصل هو قول صديقي الأستاذ الأديب الفنان سيد أفندي إبراهيم من مقال له:
وإذا كان للعدو أن يكتب عن عدوه وأن ينصفه — ما دام من طبعه الإنصاف — فلا ضير أن يكتب الصديق عن صديقه وأن ينصفه ما دام من طبعه الإنصاف.
هذه كلمة حق يجب أن أسجلها لصديقي سيد، وأن أستشهد بها حين أكتب عن صديقي أبي شادي، فسيقول بعض المتسكعين الفارغي القلب كعهدنا بهم: «صديق يقرظ صديقه ويجامله!»
ولا، وحرمة الحق والإنصاف، إن هو إلا صديق يسجل حسنات صديقه مغتبطًا بتسجيلها له، وما أدري أية غضاضة في ذلك؟!
وإذا كان الصديق لا ينصف صديقه — بعد أن رآه أهلًا للإنصاف — فمن ينصفه؟!
أينصفه عدوه الذي يرى كل حسنة من حسناته، ومفخرة من مفاخره سيئة يلومه عليها، وجريمة يندد بها؟! أينصفه حاسده وهو يرى في نجاحه أكبر نكبة تحيق به وتضيع آماله، ولا يرضى عنه إلا إذا تساوى معه في العجز والفشل؟!
إن العيب الذي يؤخذ على الصديق هو أن يغفل عن تنبيه صديقه إلى مواطن الضعف والزلل، وهو جدير — إذ يفعل ذلك — بأن يسجل له مغتبطًا المزايا الباهرة التي يراها فيه، وإنما يعاب على الصديق أن تغطي الصداقة على عيوب صديقه فلا يراها، وهو جدير أن يكون لصديقه مرآة صافية تريه محاسنه وعيوبه — على السواء — «فإن المرء لا يرى عيب نفسه» كما يقولون. بقيت ثمة ملاحظة لا أرى بدًّا من الإفضاء بها إلى القارئ؛ وهي أن الصداقة التي تجر إلى الإعجاب غير الإعجاب الذي يجر إلى الصداقة، وأنا ممن يعجبون بالرجل أولًا ثم يصاحبونه؛ فإعجابي بمزاياه الباهرة هو أساس صداقتي معه وليست صداقتي معه هي أساس إعجابي به، فإذا سجَّلت لصديقي شيئًا من ميزاته فإنما أسجل رأيي فيه الذي ارتأيته قبل أن أتخذه لي صديقًا وصاحبًا وأخًا، ثم لم أتحول عن هذا الرأي بعد مصاحبته. وهذه كلمة لا بد من الإفضاء بها إلى من يخلطون بين واجبات الصداقة وواجبات النقد الأدبي النزيه الذي يحترم الأصول الفنية.
وإنَّا لنسجل على أنفسنا التقصير والعقوق إذا لم نُشِد بعبقرية شاعر فذ وأديب متفنن ألمعي، لا لذنب إلا لأنه من معاصرينا، تاركين لأعقابنا الاعتراف له بحسناته في الوقت الذي لا ينفع أدبنا العصري هذا الاعتراف بعد أن عققنا أدبه وتغاضينا عن حسناته.
وإذا كان أدباؤنا الممتازون الذين حرموا نفوسهم كل لذات الحياة ومبهجاتها — في سبيل إنهاض الأدب، وخدمة اللغة والعلم والفن جميعًا — لا يجدون منا كلمة إنصاف، ولا يرون إلا جحودًا ونكرانًا للجميل، فما أجدرنا حينئذ بلقب غير هذا اللقب السامي — لقب الأديب — الذي يرى أول واجباته انتصار الأديب للأديب «وفرحة الأديب بالأديب!»، ويدين بقول أبي تمام:
وإني لأكون ساخرًا بنفسي وبالقراء معًا إذا حسبت أن إلمامةً موجزة كهذه تكفي لتحليل أبي شادي، والتنويه بفضله على العربية وعلى الأدب وعلى العلم وعلى الفن، وقد أبلى في كل هذه جميعًا بلاء حسنًا، وكان الرائد الجريء، وهذا ما يعترف له به النقاد قبل مريديه، وما ظنك برجل أيسر إنتاجه أكبر وأجدى مما أنتجه أي فرد من خصومه الزارين عليه المتظاهرين بتحقير جهده الفذ؟! ما بالك برجل يكون أيسر تآليفه عدة أوبرات يختط بها — في الشعر العربي — طريقًا واضحة ميسرة معبدة غير ملتوية ولا معوجة مما أكبره أعلام المستشرقين؟!
ولو استطاع أحد خصومه أن ينظم واحدة من هذه الأوبرات العديدة — «كإحسان» و«الآلهة» و«أردشير» و«الزباء» و«بنت الصحراء» و«إخناتون» — لكانت بيضة الديك، ولملأ الدنيا بها فخرًا ومباهاة!
(١) شعره ورأيه في الشعر والشاعر
وهو، وإن لم يغمط الشاعر الذاتي البحت، ولا الشاعر الموضوعي الصرف حقه بالنسبة إلى مدى قوته في الشاعرية، إلا أنه ينظر إلى المثل الأعلى من الشعر نظر المؤمن إلى رسالة قدسية، فهو لا يعتبره شعورًا عميقًا، وخيالًا ساميًا، وعاطفة حارة، وتعبيرًا فنيًّا فقط، بل يراه — مع كل هذا — نشيدًا لوحي سماوي يصعد بالإنسانية من حضيض البهيمية ويبوِّئها مكانتها الروحية الجديرة بها.
فإذا شئت أن تعرف روح هذا الشاعر ولبَّه فحسبك عبرته «إخناتون» — وهو أول من ألَّف رواية عنه وحاول إنصافه في أدبنا العربي، وتابعه شوقي بك في محاولته إنصاف كليوباترة، وإن كان الفرق بين الشخصيتين شاسعًا.
•••
وأنت — إذ تقرأ شعره القومي السياسي — لا تقرأ شعرًا ديمقراطيًّا مثلما تقرأ شعرًا إنسانيًّا في روحه، ولا غرابة في ذلك ما دامت هذه هي النزعة الغالبة على الشاعر في جميع أدوار حياته وفي كل نواحي عيشته، مما يدل عليها تعلقه بمظاهر التعاون الأمي الفكري، واشتراكه فيما يستطيع الاشتراك فيه منها.
فأنت ترى — في هذه القصيدة — صورًا من العواطف الحارة الجامعة بين حب الوطن وحب الطبيعة والتفنن في وصفها — وقلما تجد له قصيدة وجدانية لا تجمع بين فنون شتى من الشعر تمتزج امتزاجًا بنفسه المستوعبة لشتى الأطياف والألوان والأنغام.
ولما كانت للشاعر جولات شتى في فنون الشعر المتعددة فإني أكتفي بالإشارة إلى أهمها، أو على الأصح إلى ما يحضرني منها؛ فهو قد أعاد لنا الروح الفلسفي في الشعر، وبرهن — أيما برهان — على أن الشعر العالي يعتز بذلك، وأن الفلسفة لا تضر الشعر بل تخدمه وتغذيه، وليس الذنب عائدًا إليها إذا أدخلها بعض الأغرار في الشعر فأفسده بها، فإنما الذنب ذنب من يتناولها بغير بصيرة، ومن يخرجها به تقليدًا، لا عن شعور وإيمان صادق، وقد رأينا أبا العلاء والمتنبي مثلًا يمزجان الشعر بالفلسفة؛ فيبلغان ذروة الإجادة، ويضيء شعرهما بأسمى معاني الفلسفة. وشواهد «أبي شادي» في هذا الباب تكاد لا تحصى، وهو يرى أن النظرة الشعرية تستطيع أن تستوعب الفلسفة والعلم، بل وجديرة بأن تستوعب كل شيء، والعبرة باندماج الشاعر في موضوعه بدل أن يكون صانعًا وصافًا غريبًا عنه، ولعل هذا هو السر في إكباب أبي شادي على عمله العلمي بشغف كأنما هو ينظم شعرًا جميلًا، وله في «المكرسكوب» — المجهر — قصيدة فلسفية وجدانية فريدة في بابها.
ولا عجب في ذلك حينما تدرك نزعة «الإيديالزم» المتسلطة عليه دائمًا، الموحية إليه بأن يقول:
وصفوة القول أنه ليس بالغنم القليل للأدب العصري أن يظهر فيه شاعر منجب خلاق يتدفق شاعرية ذو عقيدة قوية، وقد شمل شعره السخي المليء بأفانين الجمال وطُرف الأدب كل ما وقع تحت بصره، واهتزت له نفسه، وكل ما تاق له وجدانه وتخيلته روحه المتسامية؛ فتغنَّى بالطبيعة، والفضيلة، وبالخير، والإنسانية العالية كما تغنَّى بحب بلاده، وبزرعها، وضرعها، وبأزهارها، وشمسها ونيلها السعيد، كل ذلك في بيان عذب، وموسيقية ساحرة، وجدة رائعة لا أثر للتقليد فيها، مع غيرة صادقة على تراث أجداده، وفي مقدمته لغته العزيزة التي يرى في خدمتها المتواصلة وفي التقدم بها إكرامها، حينما يقنع الأدعياء الصاخبون بالوقوف بها، وباقتسام فضلات الموتى!!
فدراسة «أبي شادي» الشاعر تجمع في الواقع بين دراسة شاعرية قوية متأججة وشخصية إنسانية ممتازة، وكلتاهما ثائرة الطبع برغم تفاؤلها، واسعة الأفق، عالمية الروح، وإن انتسبت أصلًا إلى هذا الوطن وأخلصت له الحب.
(٢) الجمال الساحر١٤
هوامش
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
(الراقي: الساحر.)