الطيرة والتشاؤم بين المعري وابن الرومي١
أبو العلاء متشائم شديد التشاؤم، بل هو من أشد من عرفناهم تشاؤمًا، ولكنه — مع تشاؤمه الذي لا يقف عند حد — ليس من جماعة المتطيرين، بل هو أبعد من عرفناهم عن التطير.
وإنما الطيرة مذهب أساسه ربط الحوادث بغير أسبابها الحقيقية، وتعليل النفس بما لا يفيد، وترقب المناسبات والمصادفات لاستنتاج شيء وهمي لا أساس له من الصحة ولا قيمة له — عند العقلاء — وإنما يدعو إليها — في نظرنا — خفة العقل وعدم اطمئنان القلب. ولعل الإنسان لو رجع إلى نفسه يسائلها في أي ساعِها تميل إلى التعلل بأشباه هذه الخرافات؟ لرأى أن ذلك كثيرًا ما يحدث في أوقات الهلع والذعر من جراء مصاب فادح مذهل تملَّك على الإنسان قلبه وأطار لبه وحرمه طمأنينته؛ فجعله كالغريق يتلمس أتفه الأسباب وأقلها غناء لينقذ نفسه من الهلاك. فأما في ساعات اطمئنانه فقلما يأبه لذلك، اللهم إلا إن كان من ذلك النوع الذي أصبح له التطير ديدنًا وطبعًا، وهذا غير السخط الذي أساسه سوء الظن، وشدة الحذر، والنقمة على الحياة، والنظر إليها من جانبها الأسود!
انظر إلى تطيُّر الأمين — مثلًا — حين حاصره «طاهر» ولم نكن سمعنا بتطيره من قبل: قال «إبراهيم بن المهدي» وكان حينئذ مع الأمين: «خرج الأمين — ذات ليلة — يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر له بناحية «الخلد»، ثم أرسل إليَّ فحضرت عنده، فقال: «ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر في السماء وضوءه في الماء على شاطئ دجلة! فهل لك في الشرب؟» فقلت: «شأنك.» فشرب رطلًا وسقاني آخر، ثم غنيته ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: «ما تقول فيمن يضرب عليك؟» فقلت: «ما أحوجني إليه.» فدعا بجارية متقدمة عنده — اسمها «ضعف» — فتطيَّرتُ من اسمها ونحن في تلك الحال، فقال لها: غنِّي بشعر الجعدي:
فاشتد ذلك عليه وتطير منه، وقال: «غنِّي غير ذلك!» فغنَّت:
فقال لها: «لعنك الله! أما تعرفين من الغناء غير هذا؟»
فقالت: «ما تغنَّيت إلا ما ظننت أنك تحبه!» ثم غنَّت آخر:
فقال لها: «قومي غضب الله عليك ولعنك!»
وكان له قدح من بلورٍ حسن الصنعة، وكان موضوعًا بين يديه؛ فعثرت الجارية به فكسرته، فقال: «ويحك يا إبراهيم! أما ترى ما جاءت هذه الجارية، ثم ما كان من كسر القدح؟ والله ما أظن أمري إلا قد قرب!»
فقلت: «يديم الله ملكك ويعز سلطانك ويكبت عدوك.»
فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتًا: «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان.»
فقال: «يا إبراهيم، أما سمعت ما سمعت؟» قلت «ما سمعت شيئًا!» — وكنت قد سمعت — قال: «تسمع حسًّا!» فدنوت من الشط فلم أرَ شيئًا — ثم عاودنا الحديث فعاد الصوت بمثله، فقام من مجلسه مغتمًّا إلى مجلسه بالمدينة.
فانظر إلى هذه الحكاية المحزنة وتأمل قليلًا، ألست ترى أن ضعف نفسيهما وحده هو السبب الأكبر في كل هذه الاستنتاجات؟ وتمثل كل ما حدث في تلك الليلة المروعة قد حدث في ليلة أنس وطرب؛ بل في ليلة عادية — إن شئت — أكانا يهتمان به كل هذا الاهتمام؟
وهذا الروع الذي أحسَّه إبراهيم المهدي — حين سمع اسم الجارية «ضعف» — هل كان يحس مثله إذا تبدَّل الموقف وكان انتصارًا وفوزًا؟ أولم تكن الجارية متقدمة عند الأمين؟ فكيف لم يتطير باسمها من قبل هذه المرة؟ وهل تحسبها غنَّت إلا ما حسبت أن مولاها يحبه؟ وكم غنَّته — هي أو غيرها — مثل هذه الأبيات فطرب وانتشى؟ ومن يدري فربما كان الأمين يميل إلى هذا النوع من الشعر المشجي، وكان هذا الميل مغريًا الجارية على غناء تلك الأبيات؟ وتمثل الأمين عاقب مسيئًا بالقتل على جرم فرَّط منه فخامره شيء من الندم — وإنه لكذلك — إذ غنَّته هذه الجارية نفسها هذا البيت بعينه؟
ألم يكن فيه حينئذ راحة يثلج لها فؤداه؟
وتمثل الجارية تغنيه هذا البيت قبل أن يقتل ذلك المسيء وهو يفكر في ذلك، أكان يتطير منه إذ ذاك؟ وأي أثر يكون له في نفسه حينئذ من سماعه؟ ألا يكون فيه إغراء بقتل ذاك المسيء؟
وتمثل البيتين الآخرين قد غنتهما الجارية — في موقف غير هذا — في موقف غرام مثلًا، في ساعة يفكر فيها الأمين في معشوق له — مات ولم ينعم به طويلًا — فكيف يكون أثرها في نفسه؟ وكيف يتمثَّل قولها: «إن التفرق للأحباب بكاء»؟ ولكن تغيَّر الموقف فتغيَّر المعنى.
واعكس الآية؛ فتمثل الأمين — في مكان المأمون — وأنه قد أوشك أن ينتصر على أخيه، وأنه قد سمع الأبيات الأخيرة وهو يحاصر مدينته؟ فأي أثر يتركه في نفسه قولها:
وهكذا غيِّر الظروف، وتمثَّل آثار تلك الأبيات في نفسيهما؛ تجدها مختلفة يصل اختلافها إلى مسافة ما بين الضد والضد أحيانًا!
ثم ماذا في هذه الجملة التي غمَّت الأمين: «قضى الأمر الذي فيه تستفتيان»؟! ألم يكن فيها متأوَّلٌ حسن — لو شاء؟! ألم يسمعها عقب دعاء له بداوم ملكه، وإعزاز سلطانه، وكبت عدوه؟ فإذا قضى هذا الأمر فقد تم له ما أراد!
ولكن إخوان هذا الخليقة — كما يقول أبو العلاء — لا يحملون الأشياء الواردة على الحقيقة!
ومن أجمل ما رووه عن التطير والتفاؤل قول الرسول — عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا يسلم منهن أحد؛ الطيرة والظن والحسد.» قيل له: «فما المخرج منهن يا رسول الله؟» قال: «إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغِ.»
إذا أقررنا ذلك سهل علينا أن ندرك كيف كان أبو العلاء ساخطًا ولم يكن متطيرًا، أما «ابن الرومي» فربما لم يكن شديد السخط على الحياة، ولكنه كان على — الرغم من ذلك — إمامًا من أئمة المتطيرين، وفي رسالة الغفران ورسالة ابن القارح ما يزيدك اقتناعًا بطيرته، وحسبك أن تعلم أنه كان لا يلبس ثيابه إلا بعد أن يتعوَّذ، فإذا وصل إلى الباب نظر من خلال ثقب المفتاح، فإذا رأى ذلك الأحدب الذي تعوَّد مضايقته جالسًا، جبن فلم يخرج، وخلع ثيابه ثانية، وقد عرف «ابن الرومي» كيف ينتقم منه، ويثأر لنفسه منه، ببيتيه اللذين وسمه بهما آخر الأبد، وهما قوله:
ولابن الرومي — في تطيره — أخبار شتى، منها أن أبا الحسن الأخفش — غلام المبرد — كان كثيرًا ما يقرع بابه، فإذا رد عليه ابن الرومي مستفسرًا أجابه: «مرة بن حنظلة» فيتطير من ذلك ولا يجسر على الخروج بقية يومه، وقد هجاه في ديوانه مررًا هجاء مؤلمًا مقذعًا.
وانظر إلى سخريته الدقيقة في قوله:
وإلى القارئ نخبة مختارة من شعر ابن الرومي تبين منزعه واعتقاده في الطيرة والفأل:
•••
•••