الدين في إسبانيا
(١) الإسلام في الأندلس١
يحيى بن يحيى
ثم كفَّ الحكم عن اضطهاد رجال الدين الحانقين الذين شعروا بأنهم يستطيعون أن يصلوا منه باللين إلى ما أخفقوا في الحصول عليه بالقوة، وإذ كان أغلبهم من العرب أو البرابرة، فقد بثوا الدعوة الشديدة في الناس لاحترام الحكم، فأعاد إليهم قوتهم في الحال.
وفي زمن عبد الرحمن الثاني (٨٢٢–٨٥٢) أدار دفة السياسة الملية يحيى بن يحيى زعيم الثورة بنفسه، وتولى توزيع مناصب القضاء كما أراد.» ا.هـ
•••
هذا هو الجزء الذي تناول فيه الأستاذ نيكلسون الكلام عن الإسلام في إسبانيا، ولمَّا كنا لا نستطيع مناقشته في كل ما قاله، لكثرة الأغراض الأخرى التي نريد الكلام عنها، فإنا نكتفي بمناقشة أهم تلك النقط الآن، وحسبنا أن نلقي بنظرة سريعة على ما قاله:
- أولًا: قوة نفوذ الفقهاء وهيمنتهم التامة على عقول العامة.
- ثانيًا: رغبتهم الشديدة في الاستئثار بكل شيء، والتداخل في كل أمور المملكة تقريبًا.
- ثالثًا: شدة تشبع الناس بالعقيدة الدينية، وشدة انتصارهم لها، إلى حد أنهم كانوا يحاربون كل من يُغضب رجال الدين أو يعتدي عليهم.
- رابعًا: معرفة الفقهاء كيف يستثمرون ذلك النفوذ الديني العظيم، وكيف ينتهزون فرصة تشبع الجمهور بالعقيدة الدينية، وتفانيه في حمايتها، في إنقاذ ما تسوله لهم نفوسهم من الرغبات، وفي تحويله إلى حيث شاءت لهم أهواؤهم، وقد شاهدتم كيف أنهم استطاعوا أن يهددوا السلطان نفسه.
- خامسًا: أن مسألة الدين في الأندلس كانت غيرها في الشرق، بل إنهما كانتا على النقيض، فبينما كنت ترى المذاهب العديدة والنحل المختلفة سائدةً في المشرق، إذ تشاهد عكس ذلك تمامًا في الأندلس، فلم تكن لترى هنا إلا مذهبًا واحدًا قد هيمن على كل أهلها تقريبًا، ذلك هو المذهب السني الذي لم يشذ عنه إلا بعض أفراد غاية في الندرة، ممن مالوا إلى مذهبي المعتزلة والظاهرية.
- سادسًا: أن تعصب الناس لمذهب مالك ومغالاتهم في الانتصار له قد وصل إلى حد الجنون، فقد رأيتم أن افتتانهم بهذا المذهب وتهوُّسهم في الولوع بكتاب الموطأ، وصلا بهم — كما يقول ذلك العالم الذي استشهد به نيكلسون — إلى حد أنهم كانوا لا يعرفون إلا القرآن والموطأ، بل لقد بلغ جنونهم بالموطأ أكثر من ذلك، فقد حكى لنا بعض المؤرخين أن تعصبهم للموطأ أنساهم النظر في القرآن والأحاديث.
فأما عن النقط الأربعة الأولى فلا أدل عليها مما سرده نيكلسون عن «الحكم» هذا، وعن موقفه إزاء الفقهاء؛ فقد رأيتم من حكايته جرأة الفقهاء في استعمال نفوذهم على العامة بإغرائهم إياهم حتى على مهاجمة قصر الملك، ومحاولة قتله، وقد كادوا يفعلون لولا حسن حظه، ولولا أن أغاثه جنوده الذين داهموهم، وشتتوا شملهم. ولعل أول ما يسترعي النظر في هذه الحكاية — التي سردها عن الحكم — هو قوله عنه: «وقد أنجاه من مأزقه الحرج الذي كان فيه برودته وجيشه المدرب.» والحق أن الحكم قد بلغ من رزانته، وثبات جأشه في هذا المأزق، أن داعب خادمه بتلك الجملة التي سقناها لكم في محاضرتنا السابقة، فقد أمره أن يأتيه بزجاجة الغالية ليتطيب بها وقت أن كان الجمهور يحاصر قصره ويحاول اغتياله، فلما أبطأ الخادم أعاد عليه السؤال ثانية، فقال له خادمه: «يا سيدي أهذا وقت الغالية؟» فأجابه: «ويلك يا ابن الفاعلة! بِمَ يُعرف رأسي من رءوس العامة إذا قُطع، إن لم يكن مضمخًا بالغالية؟» ولقد سمعنا حكايات عديدة عن رزانة بعض الناس، وعن ثبات جأشهم وبرودتهم في ساعة الخطر المميت، فلم نرَ — فيما رأيناه — مداعبةً أغرب من هذه المداعبة، ولا رباطة جأش وصلت إلى أكثر من هذا الحد. شاهدتم شدة ازدياد نفوذ الفقهاء في ذلك العصر، ولكن لا يفوتنا أن نقول إن هذا النفوذ العظيم الذي شاهدتموه لم يكن ليقاس بما وصل إليه نفوذهم وسلطانهم في الأندلس — وقت انحطاط الدولة وتقهقرها — فلقد كان نفوذهم يتعاظم كلما ازدادت الدولة في الانحطاط، وقد كان ذلك أكبر مساعد على توالي انحطاط الدولة وتقهقرها. ولقد كانت وطأة التعصب للدين والانتصار للعقيدة تخف حين يقبض على ناصية الدولة ملك قوي؛ كالحكم الثاني مثلًا الذي استطاع حماية الفلاسفة ورجال العلم وأحرار المفكرين من عنت العامة والمتنطعين في الدين — كما سترون ذلك في حينه — فسترون أنه أطلق حرية التفكير للناس، وأن العلوم قد وصلت في عصره إلى أقصى مدى، وأن الآداب أزهرت، وأن حرية الفكر وصلت إلى حد عظيم جدًّا، وأنه أخذ يناصر المفكرين، وأن الحرية الدينية لم تصل في عصر ما إلى مثل ما وصلت إليه في زمنه، سترون كل ذلك في حينه، ولكنكم سترون أيضًا أن الحرية الدينية — رغم ما وصلت إليه في ذلك الزمن — لم تصل حتى في عهد هذا الملك العظيم إلى ما وصلت إليه في عهد المأمون الخليفة العباسي. بقي علينا أن نتكلم عن النقطتين الخامسة والسادسة فنقول: «إن وصول المذهب المالكي إلى حد أن أنساهم القرآن نفسه، وإلى حد أنهم كانوا لا يطيقون رؤية أي مذهب آخر، وإلى حد أنهم كانوا يطردون أي متمذهبٍ بسواه، وإلى حد أنهم أحرقوا كتب الغزالي حين وصلت الأندلس — كما سترون فيما بعد — وإلى حد أنهم كانوا لا يطيقون النظر في كتاب فلسفة!» نقول: «إن وصول المذهب المالكي إلى هذا الحد، كان بلا شك نذير سوء بما سنسمعه من المدهشات والغرائب التي حصلت وقت انحطاط الدولة، وسنورد أهمها في حينه.»
قلنا إن العقيدة الدينية تمكنت من نفوس المسلمين في إسبانيا، وإن الفقهاء تعهدوا غراسها وإنمائها وفق ما يشتهون، وإنهم أولوا النصوص الدينية والآي القرآنية على حسب رغباتهم، فماذا نشأ عن ذلك؟ نشأ عن ذلك أن الجمهور — فيما بعد — وقف عقبة كأداء في سبيل كل من حاول البحث بحرية فكر، فكان لا يتردد في رجم كل من سمع عنه الاشتغال بعلوم الفلسفة متى رأى ما ينكره عليه، بل لقد وصل نفوذ الفقهاء وسيطرة العامة إلى حد أن كان الملك إذا حاول استرضاء الرعية تقدم إلى واحد من مشهوري الفقهاء وفوض إليه الأمر في حرق كل ما يراه في مكتبته منها، يفعل ذلك بعد أن يكون قد احتاط ووضع أهمها في مكان لا يهتدي إليه الفقيه، وكان الجمهور يحارب الآراء الحرة من غير أن يفهم شيئًا عن حقيقتها، وآية ذلك أنه كان يخلط الفلسفة بالتنجيم، فكان يطلق على كل من حاول البحث بحرية فكر، اسم المشتغل بالفلسفة والتنجيم، وكان الفقهاء يحاربون الآراء الحرة والمذاهب الفلسفية لأسباب عديدة، قد يكون أهمها أن أغلبهم كان يخشى على نفوذه إذا انطلقت الأفكار من عقالها وتحررت العقول من ربقة التقليد، وإذ كانوا قد استمدوا ذلك النفوذ العظيم من سيطرتهم الدينية؛ فقد أيقنوا أن سلطانهم الديني باقٍ على الجمهور ما دام جاهلًا، وعرفوا أنه إذا استنار أدرك ما في أقوالهم من التناقض والإغراق، وفي ذلك القضاء على نفوذهم، وكأنهم كانوا يرون رأي أبي العلاء في قوله:
•••
نكتفي الآن بسرد تلك القطعة في هذه الإلمامة الموجزة، من غير أن نعلق عليها بشيء من عندنا، ففيها وحدها تتبينون صورة واضحة للحال الدينية في عصر من عصور الدولة.
شيء من الآثار الفعلية للعقيدة الدينية
ولا يفوتنا بعد كل ما ذكرناه أن نبين لحضراتكم أثرًا فعليًّا واضحًا من آثار تمكن العقيدة في نفوس أصحابها، متى وجدت محركًا قادرًا على تصريفها، واستفزاز العاطفة الدينية فيها، فإن إلقاء نظرة سريعة على قصيدة أبي إسحق الفقيه، ورؤية أثرها العظيم الذي أحدثته في نفوس الجمهور، ليكفي وحده في إثبات ذلك، وأنكم لترون فيها مبلغ التحمس الديني العظيم، وكيف أنها كانت السبب في القضاء على ما يربو على أربعة آلاف يهودي، ونهب أموالهم، وتدمير منازلهم، وكانت السبب في حدوث تلك المذبحة الهائلة في القرن الخامس الهجري سنة ٤٥٩م.
وبهذا استطاع أن يوهم سامعيها أن قتل أولئك اليهود — خصومه — فرض لا مناص من أدائه، وواجب حتم لا يصح السكوت عنه، وأنهم، إن كانوا غفلوا عن القيام به فيما مضى، فهم خليقون أن يتداركوه في الحال؛ حتى لا تصب عليهم لعنة الله، أو يحيق بهم غضبه فيخسف بهم الأرض، أو ينزل عليهم السماء، وكذلك لم يترك ناظمها وسيلة من الوسائل التي تستفز أخفى العواطف الدينية الكامنة إلا استخدمها، ولا نغمة من نغمات التعصب للعقيدة الدينية إلا ضرب على وتيرتها. كل ذلك بأسلوب سهل رشيق كاد يصل — لسهولته — إلى حد الركاكة في بعض الأبيات، مع أنه من أجمل الشعر وأبدعه، وإن شئت فقل وأروعه، وإليكم هذه القصيدة الفريدة في بابها:
ومنها:
ومنها يخاطب السلطان:
ومنها:
ومنها:
ومنها:
(٢) المسيحية في الأندلس١١
لقد كانت إسبانيا تحت سلطان المسيحيين، فكانت حصونها وقراها مكتظة بالكنائس، وبذلك كان الدين المسيحي سائدًا في كل مكان، ولكن أسلافنا تتابعت خطاياهم، وخرجوا على وصايا الإله، فلأجل أن يعاقبهم — على ما قدمت أيديهم — ويرجعهم إلى الصراط السوي رماهم بهذا الشعب البربري.
ولما كانت الأقاصيص الشفوية قد لحقها كثير من التحريف في زمن سبستيان، ولم يكن قد اغترف إلا من ذلك المعين؛ فقد وجب أن تقابل كل معلوماته بالحذر المشروع.» ا.هـ
هوامش
ومن الراحلين من الأندلس الفقيه المحدث، يحيى بن يحيى الليثي راوي الموطأ عن مالك رضي الله عنه، ويقال إن أصله من برابرة مصمودة، وحكي أنه لما ارتحل إلى مالك ولازمه، فبينما هو عنده في مجلسه مع جماعة من أصحابه، إذ قال قائل: «حضر الفيل!» فخرج أصحاب مالك كلهم ولم يخرج يحيى، فقال مالك: «ما لكَ لم تخرج وليس الفيل في بلادك؟» فقال: «إنما جئت من الأندلس لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أكن لأنظر إلى الفيل!» فأعجب به مالك وقال: «هذا عاقل الأندلس!» ولذلك قيل: «إن يحيى هذا عاقل الأندلس، وعيسى بن دينار فقيهها، وعبد الملك بن حبيب عالمها، ويقال: روايها ومحدِّثها.» وتوفي يحيى بن يحيى سنة ٢٣٤هـ في رجب، وقبره يُستسقى به بقرطبة.»
وكان مع أمانته ودينه معظمًا عند الأمراء، يكنى عندهم عفيفًا عن الولايات منزهًا جلت رتبته عن القضاء، وكان أعلى من القضاة قدرًا عند ولاة الأمر بالأندلس؛ لزهده في القضاء وامتناعه، قال الحافظ بن حزم: «مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنفية؛ فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى عمل أفريقيا، فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه. ومذهب مالك عندنا بالأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكينًا عند السلطان، مقبول القول في القضاء، وكان لا يولَّى قاضٍ في أقطار الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به. على أن يحيى لم يلِ قضاءً قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدًا فى جلالته عندهم، وداعيًا إلى قبول رأيه لديهم. ا.هـ
وأما قواعد أهل الأندلس في دياناتهم فإنها تختلف بحسب الأوقات، والنظر إلى السلاطين، ولكن الأغلب عندهم إقامة الحدود، وإنكار التهاون بتعطيلها، وقيام العامة في ذلك، وإنكاره إن تهاون فيه أصحاب السلطان، وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره، فيدخلون عليه قصره المشيد، ولا يعبئون بخيله ورجله حتى يخرجوه من بلدهم، وهذا كثير في أخبارهم، وأما الرجم بالحجارة للقضاة والولاة للأعمال — إذا لم يعدلوا — فكل يوم.» إلى أن قال: «وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم؛ فإن لها حظًّا عظيمًا عند خواصهم، ولا يتظاهرون بها خوف العامة، فإنه كلما قيل: «فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم!» أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيد عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة، أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقربًا لقلوب العامة، وكثيرًا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن — إذا وجدت — وبذلك تقرَّب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان غير خالٍ من الاشتغال بذلك في الباطن.
وقراءة القرآن بالسبع ورواية الحديث لها عندهم منزلة رفيعة، وللفقه رونق ووجاهة، ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك، وخواصهم يحفظون من سائر المباحث ما يباحثون به بمحاضر ملوكهم ذوي الهمم في العلوم.
«وهي قصيدة طويلة، فثارت صنهاجة على اليهود وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وفيهم الوزير المذكور، فأراح الله البلاد والعباد ببركة هذا الشيخ، الذي نور الحق على كلامه بادٍ.»
ومن هذا الفصل يتبين القارئ حال المسيحيين في إسبانيا — بعد الفتح الإسلامي — وكيف تسرَّب الإيمان إلى الكثيرين، ومنهم الذين أسماهم نيكلسون بالصابئة أو المولدين، وكان لهم أكبر أثر في الدين الإسلامي، وعاشوا كموالٍ في كنف أشراف العرب، ووصل تمسكهم بالإسلام إلى حد عظيم جدًّا، ولقد يضطرنا إلى الاكتفاء بهذه الكلمة دون تعليق بعض ما جاء فيها من النقط الهامة رغبتنا في الإيجاز الشديد.
وكان في أكثر زمانه لا يخلُ بأن يغزو غزوتين في السنة. ا.هـ ملخصًا عن كتاب المعجب.