ابن الرومي١
ألف أبو الفرج كتابه الأغاني لغرض خاص هو إثبات المائة الصوت التي اختارها المُرشد، ثم جرَّه ذلك إلى الاستطراد، فذكر من الطُّرَفِ والبدائع شيئًا كثيرًا حتى أصبح كتابه كَنْزًا من كنوز الأدب العربي لا مثيل له.
فإذا أغفل أبو الفرج التنويه بشاعر فَحْلٍ كابن الرومي، فهل نجد من يَحْتَجُّ له بهذا العُذْر، وأية دهشة تتملكنا، بل أية حَيْرَة تملأ نفوسنا حين نُجِيلُ البصر في هذه المُجَلدات الضخمة التي تؤلف دائرة معارف أدبية نادرة، فنرى مؤلفها الذي أغفل ابن الرومي قد اسْتَطْرَدَ أكثر من ألف مرة إلى ذكر من يستحق الذكر ومن لا يستحقه والتنويه بشعراء — إن أَجْلَلْنَاهُم مرة — نَزَّهْنَا ابن الرومي عن أن يُوْضَع معهم في ميزان أو يُقاس إليهم بمقياس، ورأيناهم — إلى جانبه — أَقْزامًا أمام عملاق!
فإذا زعم زاعم أنَّ شعر ابن الرومي لم يُغْنَّ به، قلنا له: هذه «مسألة فيها نظر» وليس لدينا الآن ما نَدْحَضُ به زعمه، فإن أخبار ابن الرومي لم يصلنا منها شيء يُذكر، وقد أجمع المؤرخون — أو كادوا يُجمعون — على إغفال هذا الشاعر العظيم كما تعمد أبو الفرج أن يُغفل ذكره إغفالًا يكاد يكون تامًّا، في حين أنه ملأ الدنيا بأخبار البحتري الذي كان يُعاصر ابن الرومي، وأخبار أبي تمام أستاذ البحتري وكثير من معاصريهما، وغيرهم من المشهورين كأبي نواس ودعبل … إلخ، وقد عُنِيَ أبو الفرج — في غير كتابه الأغاني — بدواوين من يحبهم من الشعراء؛ فجمع ديواني أبي تمام والبحتري، ورتب ديوان كل منهما على الأنواع – لا على الحروف — كما عُنِيَ بجمع ديوان أبي نواس!
وَتَعَمُّد الإغفال ظاهر، فإن أبا الفرج لم يذكر ابن الرومي في كتابه (الأغاني) إلا مرتين، وكأنه لم يذكره إلا لِيُسِيء إليه بدلًا من أن يُشِيدَ بِذكره.
ففي الموقف الأول: يعرفنا به سارقًا مُنتحلًا بيتًا من الشعر.
وفي الموقف الثاني: يقدمه لنا هاجيًا في غير موقف هجاء؛ لِيُثبت أبو الفرج — في نفس الصفحة — رثاء البحتري لسليمان بن وهب الذي جَوَّدَ فيه — كما يقول أبو الفرج — ثم يُتْبِعُ ثَنَاءَهُ على البحتري بإطرائه إبراهيم بن العباس، والإشادة بذكره!
فإذا لم يكن ذلك إغفالًا فهو عندنا شر من الإغفال، وإذا لم يكن أبو الفرج الأَرِيبُ الفَطِن الراوية قد تعمد الإساءة إلى ابن الرومي فكيف يكون تعمُّد الإساءة بعد ذلك؟
•••
فإذا قال قائل: «ولماذا نَوَّهَ أبو الفرج بدعبل وذكر كثيرًا من أخباره وهو كابن الرومي في سلاطة اللسان والإقذاع في الهجاء؟»
قلنا: إن عصر دعبل قد تقدم عصر ابن الرومي بقليل وقد مات من أساء إليهم دعبل وقلَّ حقد الناس عليه، فلم يبقَ هناك بأس من الإشادة بذكره والتنويه بفضله.
أما ابن الرومي فقد أساء إلى أعيان الدولة، وكبار رجالها، كما أساء إلى شيوخ الأدب وزعماء الشعر، ولم تزل إساءته — إلى زمن أبي الفرج — عالقة بالأذهان. ولا زال بعض مَن أفحش ابن الرومي في هجائهم عائشًا في زمن أبي الفرج، وربما كان من بينهم أقاربه، وأصدقاؤه، ولقد كان أبو الفرج من المتشيِّعين، وكان ابن الرومي متهمًا بالتشيع، ولم تكن هذه الصلة شفيعًا له عنده ولا سببًا يدعوه إلى التنويه بذكره.
(١) هجاء البحتري والأخفش
ولقد هجا ابن الرومي البحتري الشاعر هجاء مقذعًا وأفرط في شتمه، وكان للبحتري مكانة بين أعيان الدولة، وكبار رجالها — حتى بعد موته — وقد رأيت أن أبا الفرج كان يحبه ويشيد بذكره ويُعنى بآثاره … ولا يتسع هذا المقام الضيق للإسهاب في ذلك وشرح الأسباب التي دعت إليه، فلنجتزئ بقوله في هجائه من قصيدة:
وفيها يقول:
ثم يقول:
وفي هذه القصيدة يقول:
ثم يقول:
إلى آخر هذه القصيدة الطويلة التي لا نسمح لأنفسنا بنقل ما ورد فيها من الهجاء المقذع، والفحش الشنيع في مثل هذا المقام، فليرجع إليها القارئ في ديوانه إذا شاء.
•••
ولا تنسَ هجاء ابن الرومي للأخفش — أستاذ أبي الفرج — فقد كاد ابن الرومي يقف حياته على هجاء الأخفش، وكاد الأخفش يقف حياته على التشنيع به والزراية عليه، فلا غرو أن يغرس الأستاذ في نفس تلميذه بذور الكراهية والبغض لابن الرومي — منذ الصغر — أو يغضب التلميذ لأستاذه فيتعمد إغفال من جعل همه الأول شتم أستاذه والتشهير به «وآفة الرأي الهوى!»
•••
وإلى القارئ شيئًا من هجاء ابن الرومي للأخفش ليتبين صحة ما ذهبنا إليه، قال من قصيدة طويلة رائعة:
إلى أن قال:
ثم قال بعد أبيات:
وفي هذه القصيدة أيضًا من هجر القول ما لا يسمح بذكره المقام.
وقال من قصيدة أخرى:
وفيها يقول:
إلى أن يقول:
فإذا ذكرنا — إلى ذلك الهجاء المقذع — أن في التنويه بابن الرومي إساءة إلى جمهرة من أعيان الدولة، وكبار رجالها الذين هجاهم ابن الرومي أو هجا آباءهم — كما أسلفنا القول — عرفنا السر في هذا الإغفال.