مأثرة برمكية
يا أمير المؤمنين، كان ولائي ليحيى وانقطاعي للفضل ابنه، فقال لي الفضل يومًا بحضرة أبيه وأخيه: يا محمد، أحب أن تدعوني دعوةً كما يدعو الصديق صديقه. فقلت له: حالي تصغر عن ذلك وتضيق به، ومالي يعجز عنه، وهيأتي لا تقوم به. فقال لي: دع عنك فلا بد منه. فأعدتُ عليه الاستقالة والاستعفاء، فرأيته مصمِّمًا، فأقبلت على أبيه لائذًا ومستعينًا به، واستعنت بأخيه جعفر، فأقبلا عليه وسألاه ذلك، وأعلماه بقصور يدي عن بلوغ ما يحبه ويشتهيه، فقال لهما: لستُ بقانع منه دون أن يدعوني وإياكما لا رابع معنا. (قال): فأقبلا عليَّ، وقالا: هذا قد أبى أن يعفيك، وإن لم يكن الأمر إلا لنا فلا حشمة بيننا، أقعدنا على أثاث بيتك فأطعمنا من طعام أهلك، فنحن بذلك قانعون. فقلت للفضل: إن كنت قد عزمت على ذلك وأبيت إلا فضيحتي فلا بد من أن تؤجلني أجلًا أتأهب فيه لكم. فقال: استأجل لنفسك ما تريد. فقلتُ: أجلني سنة. فقال: ويحك! أومعنا أمان من الموت لسنة! فقال يحيى: ويحك! قد أفرطتَ في الأجل، ولكني أحكم عليكما بما أرجو أن لا يرده أبو العباس، فاقبله أنت أيضًا. فقلت: احكم، جعلني الله فداك، ووفقك للصواب، وتفضل علي بالفسحة في المدة. فقال: قد حكمت بشهرين. فخرجت من وقتي، وبدأت برمِّ منزلي، وإصلاح آلتي، وشراء ما أتجمل به من فرش وأثاث وغير ذلك، وهو مع ذلك لا يزال يذكرني، حتى إذا كانت الجمعة الذي نجز فيها الوعد قال لي: يا محمد، قد قرب الوعد، ولا أحسب قد بقي إلا عمل الطعام. فقلتُ: نعم، جعلني الله فداك. وأمرت بالطعام فأُصلح بغاية ما تناله يدي ومقدرتي، وجاءني رسوله عشية اليوم الذي صبيحته الوعد فقال: هل تأذن في البكور؟ فقلت: نعم، جعلني الله فداك.
فبكَّر إليَّ هو وجعفر ويحيى وسائر أولادهم وفتيانهم، فلما دخلوا أقبل علي الفضل فقال: يا محمد، أول شيء أبدأ به أن أنظر إلى نعمتك صغيرها وكبيرها، فقُم بنا حتى أدور عليها، فأحتاطَ بها علمًا. فقمتُ وقام وهما معه حتى طاف المجلس، ثم خرج إلى الخزائن ثم إلى بيت الشراب، وخرج منه إلى الإصطبل، ونظر إلى كبير نعمتي وصغيرها، ثم عدل إلى المطبخ؛ فأمر بكشف القدور وعَرْضِ كل ما أصنع من الطعام قِدرًا قدرًا، ثم أقبل على أبيه وقال: هذا اللون الذي يعجبك، ولستَ ببارحٍ دون أن تأكل منه. ودعا برغيف فغمسه في القدر وناوله أباه، ثم فعل بأخيه كذلك، ثم أمر غلمانه برفع القدور وأكل ما فيها.
فلما رأيت ذلك ضاقت علي الدنيا، وقلتُ: ما العمل، هذا شيء اجتهدت فيه، ولا يمكنني استئناف عمل طعام آخر؟ فقال لي الفضل: نحن نقنع منك بما في منزلك من طعام أهلك. ثم دعا بالخلال، وخرج إلى صحن الدار، فأدار بصره في جنباتها وسقوفها وأروقتها، ثم قال لي: يا محمد، مَن بجوارك؟ فقلت: جعلتُ فداك، فلان التاجر عن يميني، وفلان الكاتب عن شمالي، وخلف ظهري رجل قد ابتاع خربة، فهو في بنيانها لا يبرح. فقال لي: أفتعرفه؟ قلت: لا. قال: كان الأليق بمحلك منا أن لا يجترئ عليك رجل ويشتري بقربك شيئًا إلا بأمرك، ولا سيما إذا كان ملاصقًا لك. فقلت: ما منعني من ذلك إلا ما كنت فيه من الاشتغال بهذه الدعوة المباركة. قال: فأين الحائط الذي يتصل بدارك؟ فأومأت إلى موضع من الدار، فقال: علي بنجار. فأتى به فقال له: افتح هنا بابًا. فأقبل عليه أبوه وقال له: نشدتك الله يا بني، لا تهجم على قوم لم تعرفهم. وأقبل عليه أخوه بمثل ذلك، فأبى إلا فتح الباب، وخفتُ مغبة ذلك، ولم أجترِ على الكلام بعد أن رد أباه وأخاه. ففتح الباب في الحائط، ودخل منه، ثم بعث إلى أبيه وأخيه أن ادخلا، فدخلا، فإذا في وسط الدار فتًى جالس على سرير، وعلى رأسه عشرون غلامًا كأنهم الدنانير بالمناطق المثمنة، فقاموا بأجمعهم بين يديه فدخل الدار، وطاف في مجالسها وخزائنها، فوجدها مشحونةً بآلة الملوك من الفرش والأواني، فأقبل علي وقال: يا محمد، أيما أحسن هذه أم دارك؟ فقلت: أصلح الله الوزير، والله ما رأيت مثل هذه الدار، وإنها لا تليق إلا بك. فقال لي: أتحب أن تكون صاحب الدار، ويكون مالكها عبدًا لك؟ فقلت: جُعلت فداك، من أين لي ذلك؟ فقال: اعلم أنك لما نهضت من بين يدي ساعة سألتك دعوتي، أمرت غلامي بشراء هذه الخربة وبنائها واتخاذ كل ما ترى فيها، وقد وهبتُها لك بكل ما فيها، يا غلام، هاتِ ما عندك من الطعام، فأُتي بطعام ما رأيت مثله، فجعلوا يأكلون.
ثم نظرت إلى جعفر، فرأيت الكآبة بادية على وجهه، وقد التفت إلى أبيه وقال: يا أبت، أعزك الله، لا أزال أشكو أخي أبا العباس إليك ولا تنصفني منه، أفترضى له أن يختص بهذه المكرمة دوني، ويضن بمشاركتي إياه؟ فأقبل يحيى على ولده الفضل وقال: يا بني، لقد كنت أولى أن تشرك أخاك في هذه النفيسة. فقال له: جُعلت فداك، والله ما تفردتُ بها دونه، ولا استبديت بها دونه، ولقد تركتُ له صفوها. فقال: ما هو وقد قُضي الأمر؟! فقال الفضل: إن محمدًا هذا رجل قليل ذات اليد، لا مال له، ولا ضيعة عنده تقوم بهذه الدار، ومتى خُلِّي بينه وبين هذه الدار وهؤلاء الغلمان لم يقوَ على ذلك، وكان مضرًّا بحاله، وضيعتك الفلانية مشاكلة لهذه الدار، فأوهبها له؛ ليقوى بها على أمره. فقال له جعفر: صدقت، لقد فرجت عني، يا غلام، هاتِ كتاب الضيعة. فسلمه إلي، وقام يحيى، فضم ولديه إلى صدره وقبلهما، وقال: بأبي أنتما وبنفسي أقيكما، لا أخلاكما الله من مزيد بسطة ونعمة جليلة، ولا أخلاني فيكما من دوام العافية وطول العمر واجتماع الشمل.
(قال): فبكى المأمون عند استماعه ذلك، وقال: والله لقد برَّز القوم في فضلهم، وسبقوا بمجدهم، إنك لجدير يا محمد أن تطنب فيهم، وأمر برد نعمته عليه، وأمر له بألف دينار.