الضيافة عند العرب
اطَّلعنا في أحد أعداد من النشرة التونسية على خبر، رواه أحد وكلاء الدعاوي في تونس، أحببنا إثباته هنا؛ ليرى القراء أن ما نُقل عن جود أهل البادية وعن تفانيهم في إكرام الضيف وتأهيل الغريب في القرون الغابرة قد توارثه العرب المحدثون، كخلفة شريفة يبذلون دونها نفسهم ونفيسهم، ويتفاخرون بها مرددين قول الشاعر:
فلما صرنا على مسافة بعض أميال من «قربة» اكفهرَّ الجو، وومض البرق الخاطف للأبصار، وعصفت الريح، فثار من الأرض عجاج كحل العيون بذراته، ولم يلبث قصيف الرعد أن دوى، ومزق أديم الزرقاء، وأجرى الأمطار كالسيل المدرار، فصارت ثيابي بعد قليل كعصير الماء إلا أن رفيقي صاح بي قائلًا: «بارك الله فيك يا سيدي، فإن سفرك لميمون، دونك المطر غسال البيدر، ولكن لا سبيل إلى مواصلة السير، فهيا بنا نحل في هذا الدوار على شمالنا في جانب الطريق.»
فأذعنتُ لقول دليلي، وركضتُ جوادي إلى حيث أشار، فلما اقتربنا من المكان هرَّت في وجهنا الكلاب، وكادت تهجم علينا، وإذا برجل من أهل الدوار خرج فتقدم إلينا، فابتدره رفيقي بالسلام وقال: بشراك يا شيخ أحمد، هو ذا السيد ب. وعبدك أتيناك طالبَين ضيافتك، فنسكن عندك ريثما يأذن الله في رُكود الريح وهدوِّ العاصفة.
– بارك الله فيك وفي السيد القادم.
مرت علينا ساعة، وإذا بصاحب الدار عاد وبين يديه جَفنَةٌ من الكُسْكس، وفي أثره غلمان يحملون القصاع، فيها إدام من المرق الأحمر والبندورة والفلفل واللحم غير النضيج، وكان ينبعث من الأطعمة رائحة كريهة من الزيت القنِم والسمِن السنِخ، غثت منهما نفسي، وجشأت، فما استطعتُ أن أذوق منها لماظًا.
فشق على ضيفي امتناعي عن الأكل، وكان عد ذلك إهانة لولا اعتذاري بأني لم أعتد هذه المآكل، فقام على الأثر، وأتاني بعد برهة من الزمان بعدد من البيض النمبرشت.
فبعد البسملة باشرتُ بنقف بيضة لأتحساها، ثم فكرت في الملح، فطلبت منهُ قبضةً، وأنا لا أدري ما تكمنه لي الأقدار، فخرج الشيخ أحمد إلى مضارب الدُّوَّار فلم يجد ملحًا عند أهله، فعرفت فضولي وتندمت على طلبي، ثم طيبت قلب الشيخ قائلًا: إنني عنه لفي غنًى. لكنه لم يُصغ إلى كلامي، بل أومأ بيده إلى غلام هناك، فاقترب منه شابٌّ في مقتبل العمر، رشيق القد، جميل الهيئة، حسن البزة، وهو مشتمل بإحرام، فنظر إليه الشيخ نظرة مفتخر وقال لنا: «هذا علي ابني.» ثم التفت إلى الفتى قائلًا: «أبني علي، كأني بالعاصفة قد سكنت ثائرتها، فاركب مسرعًا مهرنا الخضراء، واذهب إلى أقرب دوار منا، وائتنا بملح.»
فتصدَّيتُ للشيخ ما أمكنني، وحلفتُ بأيمان محرجة أني لا أذوق البيض إذا خطا علي ابنه خطوةً خارج الدوار، لكن الشيخ أحمد لم يكترث لقولي، فسار الغلام، وبقيتُ في الدار وحدي مع الدليل وضيفي.
فمضى علينا نصف ساعة ثم ساعة ثم ساعتان قبل أن نستبشر بعودة الغلام، فانفرط بيننا سمط الكلام، ثم ساد سكوت أشبه بسكوت القبور، وبدت على ملامح الشيخ أحمد أمارات الجزع والاضطراب، وكان الليل في أثناء ذلك ضرب على الأرض أطنابه، وهدأت كل الحركات، فلم نكد نسمع ركزًا، اللهم إلا صوت قطرات من المطر كانت تكف فوق الحصى.
وكانت أتعاب النهار مع قلة الأكل قد هدت قواي، فشعرتُ بالنعاس قد أثقل أجفاني، وكاد يخدر أعضائي، وكذلك رفيقي أوشك النوم يكتحل عيونه … ونحن كذلك إذ سمعنا من كثب صوتًا منكرًا، أطار النوم عن العيان واقشعرت له الأبدان، وكان الصوت صراخًا فاجعًا مستطيلًا، طرحته امرأة في بطن الليل الداجي، ثم أردفت الكلاب من بعده فصخبت صخبًا شديدًا، وملأت الحي نبحًا.
فوثبنا ثلاثتنا إلى الجربة؛ لنرى ما الخبر، وإذا بأصوات البكاء والعويل تتوالى، فتقربُ إلينا وفي جملتها ولولة النساء لا تخمد من حين إلى آخر، حتى يُسمع هتاف أفظع من الصراخ الأول، كاد يجمد له الدم في العروق.
وكنا نحن على باب الجربة، ينظر بعضنا إلى البعض نظر المتحير الدهش، لا ندري ما الداعي لهذه أصوات الويل والثبور، إذ تراءى لنا نور مشعل ضئيل، فميزنا في ضوئه جنازةً يحملها نفر، وكان على الجنازة جثة هامدة، ولم نلبث أن عرفناها، وإذا هي جثة عليٍّ، ذاك الشاب ذي البهاء والجمال الذي راقنا منظره في أصيل النهار.
وكانت علة موته أنه لما عاد من الدُّوَّار حيث أرسله أبوه لطلب الملح؛ عثرت رجل فرسه في دجى الليل، فوقع الراكب من ظهرها، وصُدم رأسه بصخرة في الطريق فمات موتًا وحيًّا، فلما استطال أهله عودته أرسلوا قومًا يستطلعون أخباره، فوجدوه صريعًا بين الصخور.
وبينما كان حملة النعش يحطون بجسم الميت، كان الشيخ أحمد ينظر إلى ابنه نظرة أبٍ فُجِع بفلذة أكباده ومظنة آماله، وأنا سبب موت الغلام على غير اختياري، بل رغمًا مني، كنت بقربه واقفًا واجمًا، لا أبدي حراكًا، كأن صاعقةً انقضت علي ففلجت جسمي، أما الدليل رفيقي فكان يسرح بصره بين الوالد المسكين وبيني، لا يدري ما يقول أو يفعل.
فمُدَّ الميت في زاوية من الجربة، وكان فوهُ منفتحًا، كأنه يريد التكلم، فأشار الشيخ إلى النسوة أن اكففن عن العويل. فسكتن للحال، وخرجن مطرقات صامتات.
عندئذ دعانا ضيفُنا ودعا معنا كل الحضور؛ لندخل المنزل، فجلسنا حوله لا ننبس بكلمة، وكان كلٌّ منا يجيل في فكره حوادث ذاك النهار المشئوم، وكانت كل أصوات الخارج قد هدأت ثانيةً إلا قطرات ماء المطر، كانت تُسمع بقبقتها عند سقوطها في أجران الماء، تحسب صوتها في هدوِّ الليل الدامس كصوت الموت.
وبقينا كذلك مدةً غائصين في بحر الغم، إذ لمحنا الشيخ أحمد، فرأيناه مسح وجهه ولحيته بيديه قائلًا: «الله أكبر، إنه وحده أزلي لا يموت.» ثم التفت إلى أحد الحضور فسأله: وهل أتى بالملح؟ فقام رهط من الجلوس ودسوا جثة الميت، فوجدوا لفافة فيها الملح، فوجه الشيخ الكلام نحوي قائلًا: «سيدي، إن ولدي أتاك بالملح، فقم بلا تكلف وشرفني بأكل طعامي.» ثم أراد أن ينشطنا على الأكل، فأخذ دُبلة من الكسكس وأدخلها فاه، وقال للجلوس: «هيا، باسم الله، يا أسيادي كلوا.»
فلما رأيت هذا الجلَد، وسمعت هذا الكلام عمل فيَّ منظر الشيخ عملًا لا يوصف، فاندفعت أبكي وعلا صوت نحيبي، ثم خرجت من الدوار وحدي، رغمًا عن العاصفة وأهوال الليل وقفر المكان لا أعي، فقام الشيخ مع الحضور ليوقفوني ويردوني إلى المنزل، إلا أني لم أعرهم سمعي، ولم أنكص على الأعقاب لتوسلاتهم وإلحاحهم، بل سرتُ هائمًا في وجهي إلى ما شاء الله.