نخبة من روايات كتاب الفرج بعد الشدة
الناجي من الجب والأفعى ( ٢ : ٨٣–٨٥)
حدثني عبيد الله بن محمد بن الصروي (؟) قال: كنت أتصرف مع المختار بن الغيث بن حمران أحد قواد بني عقيل، فسار وأنا في جملته مع دُكَيْن الشيرازي لمَّا تغلب على الموضع يطلب ناصر الدولة، وصار العسكر منتشرًا سائرًا بعجلة، وكان تحتي حجرة، فصرت في أخريات الناس، ثم انقطعت عن العسكر حتى صرت وحدي، ثم وردت الدابة ماءً كان في الطريق وحَمِرَ ولم يمكنه أن يسير خطوةً واحدة؛ فخفتُ أن يدركني من يأسرني، فنزلت عنها أمشي وفي عنقي سيف بحمائل والمقرعة في يدي، فسرت فراسخ حتى صعدت جبل سنجار، وكنت أحتاج أن أمشي فيه نحو الفرسخ، ثم أنزل إلى سنجار. فاحتبسني الليل، واستنفد المشي جلدي، فخفتُ الوحوش في الجبل، فطلبت موضعًا أسكن فيه ليلتي فلم أجد، ورأيت جبابًا منقورة في الجبل فطلبت أقربها قعرًا ورميت فيه بحجر، فظننت أن قعره قامة أو نحوها، فرميت بنفسي فيه، وكان البرد شديدًا، فنمت ليلتي لا أعقل من التعب والجوع.
فلما كان من الغد انتبهت وعندي أن الجب محفور كالآبار، وأني أضع رجليَّ في جوانبه فأتسلق وأطلع، فتأملت، فإذا هو محفور كالتنور رأسه ضيق وأسفله شديد السعة وجوانبه منقوشة، فقمت في وسط الجب، فإذا هو أعلى من قامتي، فتحيرت في أمري، ولم أَدْرِ كيف السبيل إلى الصعود، وطلعت الشمس وأضاء الجب، وإذا فيه أفعى مدوَّر كالطبق بين حجرين، وقد سدر من شدة البرد فليس ينتشر، ولم يتحرك من مكانه. وهممت أن أجرد السيف وأقطعه به، ثم قلت: أتعجَّل شرًّا لا أدري عاقبته ولا منفعة لي في قتله؛ لأني سأتلف في هذه البئر، وهي قبري، فما معنى قتل الأفعى؟ أدعه فلعله أن يبتدئ بالنهش فأتعجل التلف، ولا أرى نفسي تخرج بالجوع والعطش، فأقمت يومي كله على ذلك، والأفعى لم تتحرك، وأنا أبكي وأنوح على نفسي، وقد يئست من الحياة. فلما كان من الغد أصبحت وقد ضعفت، فحملني حب الحياة على الفكر في الخلاص، فقمت وجمعت من الحجارة الرقيقة شيئًا كثيرًا، ووضعتها في وسط الجب وعلوتها؛ لتنال يدي طرف البئر، فأحمل نفسي إلى رأسها، فحين وضعت رجلي على الحجارة انهالت لرقتها وملاستها، فلم أعد عملها، وأمضيت يومي كله وأنا مشتغل البال، وجاء الليل، فلم يمكني أن أقوم من الجوع والضعف، ثم غلبني النوم.
فلمَّا كان من الغد فكرت في حيلة أخرى، ووقع لي أن شددتُ المقرعة التي معي بعلاقتها في حمائل السيف، ودليت المقرعة إلى داخل البئر، وقد أمسكت بإحدى يدي فحصل جفن السيف فوق الجب معترضًا لرأسه وهي مدلَّاة إليَّ، ثم سللت السيف. ولم أزل أقلع من أرض البئر ما يمكن نحته وقلعه من تراب قليل، ثم غيبت ذلك الرضراض، وتعلقت على السيف المعترض، وظفرت وصار السيف معترضًا في جفنه تحت صدري، وظهرت يداي فوق البئر فحصل جوانبها تحت إبطي، واستللت نفسي، فإذا أنا قد خرجت منها، بعد أن اعوج السيف وكاد يندق ويدخل في بطني لثقلي عليه، فوقعت خارج البئر مغشيًّا عليَّ من هول ما نالني، ووجدت أسناني قد اصطكَّت، وقوَّتي قد بطلت عن المشي، فما زلت أحبو، وأطلب المحجة، حتى وقفت عليها، ورآني قوم مجتازون فأخذوا بيدي وقوي قلبي، فمشيت حتى دخلت سنجار آخر النهار وقد بلغت روحي إلى حد التلف، فدخلت مسجدًا فطرحت نفسي فيه وأنا لا أشك في الموت. وحضرت صلاة المغرب، واجتمع أهل المسجد فيه، وسألوني عن خبري، فلم يكن فيَّ مقدرة على الكلام، فحملوني إلى بيت أحدهم، ولم يزالوا يصبون على حلقي الماء ثم المرق والثريد إلى أن فتحت عيني بعد العتمة، فتكلمت وبتُّ ليلتي بحال عظيم من الألم.
فلما كان من الغد، دخلت الحمام، وأقمت عندهم أيامًا حتى برئت، وأخرجت نفقةً كانت في وسطي، فاستأجرت منها مركوبًا، ولحقت بأصحابي. وسلَّم الله — عز وجل.
إبراهيم الخواص والفيل (٢ : ٧٣-٧٤)
عن إبراهيم الخواص، قال: ركبت البحر مع جماعة من الصوفية، فكُسر المركب بنا، فنجا منا قوم على خشب من خشب المركب، فوقعنا إلى مكان لا ندري أي مكان هو، فأقمنا فيه أيامًا لا نجد ما نقتاته، فأحسسنا بالموت، فقال بعضنا لبعض: تعالوا، حتى نجعل الله على أنفسنا أن ندع له شيئًا، فلعله يرحمنا فيخلصنا من هذه الشدة. فقال بعضنا: لا أفطر الدهر. وقال بعضنا: أصلي كل يوم كذا وكذا ركعةً. وقال بعضنا: أدع اللذات. إلى أن قال كل منا شيئًا، وأنا ساكت، فقالوا لي: قل شيئًا. فلم يجئ على لساني إلا أن قلت: لا آكل لحم فيل أبدًا. فقالوا: الهزل في مثل هذا الحال! فقلت: والله ما تعمدت الهزل، ولكني منذ بدأتم وأنا أعرض على نفسي شيئًا أدعه لله — عز وجل — فلا تطاوعني، ولا يخطر على قلبي غير الذي لفظت به، وما أُجري هذا على لساني ولا أُلْهِمَهُ قلبي إلا لأمر.
فلما كان بعد ساعة قال بعضنا: لِمَ لا نطوف في هذه الأرض متفرقين فنطلب قوتًا، فمن وجد شيئًا أنذر به الباقين، والموعد هذه الشجرة. قال: فتفرقنا في الطرق، فرجع أحدنا بولد فيل صغير، فلوَّح بعضنا لبعض فاجتمعنا، فأخذه أصحابنا واحتالوا فيه حتى شووه، وقعدوا يأكلون، وقالوا: تقدم. فقلت: أنت تعلمون أنني منذ ساعة تركته لله — عز وجل — وما كنت لأرجع في شيء تركته له؛ لعله جرى ذلك على لساني لأجل موتي من بينكم؛ لأني ما أكلت شيئًا منذ أيام، وما أطمع في شيء آخر، وما يراني الله أنقض عهده ولو مت، واعتزلتهم، وأكل أصحابي، وأقبل الليل، وتفرَّقنا إلى مواضعنا التي كنا فيها نبيت، وأويت إلى أصل شجرة كنت أبيت عندها، فلم يكن إلا لحظة، فإذا بفيل عظيم قد أقبل وهو ينعر، والصحراء تتدكدك بنعيره وشدة شغبه، وهو يطلبنا، فقال بعضهم: قد حضر الأجل فاستسلموا وتشهدوا. وأخذنا في الاستغفار والتسبيح، وطرح القوم نفوسهم على وجوههم، فجعل الفيل يقصد واحدًا واحدًا فيشمه من أول جسده إلى آخره، فإذا لم يَبْقَ فيه موضع إلا شمه شال إحدى قوائمه فوضعها عليه وفسخه، فإذا علم أنه قد أتلفه قصد آخر ففعل به مثل فعله في الأول، إلى أن لم يَبْقَ غيري، وأنا جالس منتصب أشاهد ما جرى، وأستغفر الله وأسبحه.
فقصدني الفيل، فحين قرب مني رميت نفسي على ظهري، ففعل بي من الشم كما فعل بأصحابي، ثم أعاد شمي مرتين أو ثلاثًا، ولم يكن فعل بأحد منهم ذلك، وروحي في خلال ذلك تكاد تخرج فزعًا، ثم لفَّ خرطومه علي فشالني في الهواء، فظننته يريد قتلي بقتلة أخرى، فجهرت بالاستغفار، فما نحَّى خرطومه حتى جعلني فوق ظهره، فانتصبت جالسًا واجتهدت في حفظ نفسي بموضعي. وانطلق الفيل يهرول تارة، ويسعى أخرى، وأنا تارة أحمد الله — عز وجل — على تأخير الفيل وأطمع في الحياة، وتارة أتوقع أن يثور بي فيقتلني فأعاود الاستغفار، وأنا أقاسي في ذلك وأتجرع من الألم الشديد لسرعة سير الفيل أمرًا عظيمًا، فلم أزل على ذلك إلى أن طلع الفجر واشتد ضوؤه، فإذا به قد لف خرطومه علي، فقلت: قد حضر الأجل. فاستكثرت من الاستغفار، فإذا به قد أنزلني من ظهره وتركني على الأرض، ورجع إلى الطريق التي جاء منها وأنا لا أصدق، فلما غاب عن عيني ولم أسمع له حسًّا خررت ساجدًا لله — سبحانه — فما رفعت رأسي حتى أحسست بالشمس، فإذا أنا على ظهر محجة عظيمة، فمشيت عليها نحوًا من فرسخين، فانتهيت إلى بلد كبير، فدخلته فعجب أهله مني وسألوني عن حالي، فأخبرتهم بالقصة، فزعموا أن الفيل سار في هذه الليلة مسيرة أيام واستظرفوا سلامتي، وأقمت عندهم حتى صلحت من تلك الشدائد التي قاسيتها، وتندَّى بَدَني، ثمَّ سرت مع التجار إلى بلد على شاطئ البحر، فركبته ورزقني الله السلامة إلى أن عدت إلى بلدي.
الأصمعي وتقربه من الخلفاء (٢ : ١٩-٢٠)
وجدتُ في بعض الكتب عن الأصمعي قال: كنتُ بالبصرة أطلب العلم وأنا مُقِل، وكان على بابنا بقَّال إذا خرجت بكرةً يقول لي: إلى أين؟ فأقول: إلى فلان المحدِّث. وإذا عدت المساء يقول لي: من أين؟ فأقول: من عند فلان الإخباري واللغوي. فيقول: «يا هذا، اقبل وصيتي؛ أنت شاب، فلا تُضَيِّعْ نفسك، واطلب معاشًا يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب واطرحها في هذا الدن، وأصب عليها من الماء للعشرة أربعة وانبذه وانظر ما يكون منه، والله لو طلبت مني بجميع ما لديك من الكتب جوزةً ما أعطيتك.» فيضيق صدري بمداومة الكلام، حتى كنت أخرج من بيتي ليلًا وأدخله ليلًا، وحالي في خلال ذلك يزداد ضيقًا حتى أفضيت إلى بيع آجر أساسات داري، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يوم، وطال شعري وأخلق ثوبي واتسخ بدني، وأنا كذلك متحير في أمري، إذ جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان، قال: أجب الأمير. فقلت: ما يصنع الأمير برجل قد بلغ الفقر إلى ما ترى؟!
فلما رأى سوء حالي وقبيح منظري رجع فأخبر الأمير بخبري، وعاد إلي ومعه تخوت ثياب ودَرْج فيه بخور وكيس فيه دنانير، وقال: قد أمرني الأمير أن أدخلك الحمام، وألبسك من هذه الثياب، وأدع باقيها عليك، وأطعمك من هذا الطعام، (وإذا بخوان كبير فيه صنوف الأطعمة)، وأبخرك؛ لترجع إليك روحك ثم أطلعك عليه، فسُررت بذلك سرورًا شديدًا، ودعوت له، فقمت وعملت ما قال. ومضيت معه حتى دخلت على محمد بن سليمان، فسلمت عليه، فقربني ورفعني، ثم قال: يا عبد الملك، قد اخترتك لتأديب ولدي أمير المؤمنين، فاعمل على الخروج إلى بابه، وانظر كيف يكون، فشكرته ودعوت له، وقلت: سمعًا وطاعة، سأُخرج شيئًا من كتبي وأتوجه. فقال: ودِّعني وكن على الطريق. فقبَّلت يده، وأخذت جميع ما احتجت إليه من كتبي، وجعلت باقيها في بيت، وسددت بابه، وأقعدت على الدار عجوزًا من أهلنا تحفظها، وباكرني رسول محمد بن سليمان، وأخذني إلى زلال (؟) قد اتُّخِذَ لي، وفيه ما أحتاج إليه، وجلس معي ينفق علي حتى وصلت إلى بغداد، ودخلت على أمير المؤمنين فسلمت عليه فردَّ عليَّ السلام، وقال: أنت عبد الملك بن قريب الأصمعي؟ قلت: نعم، أنا عبد أمير المؤمنين ابن قريب الأصمعي. قال: اعلم أن ولد الرجل مهجة قلبه وثمرة فؤاده، وهو ذا أسلم إليك ابني محمدًا بأمانة الله، فلا تعلمه ما يُفسد عليه دينه؛ فلعل أن يكون للمسلمين إمامًا. قلت: السمع والطاعة.
وأخرجه إلي، وتحولت معه إلى دار قد أُخْلِيَتْ لنا لتأديبه فيها، وبها من أصناف الخدم والفرش ما يسر، وأجرى عليَّ في كل شهر عشرة آلاف درهم، وأمر بأن يُخرج إلي في كل يوم مائدة، فلزمته وكنت مع ذلك أقضي حوائج الناس، وآخذ عليها الرغائب، وأنفذ جميع ما يجتمع أولًا فأولًا إلى البصرة، فأبني داري وأشتري ضياعًا وعقارًا، فأقمت معه حتى قرأ القرآن، وتفقه في الدين، وروى الشعر واللغة، وروى أيام الناس وأخبارهم، واستعرضه الرشيد فأُعْجِبَ به، وقال: يا عبد الملك، أريد أن يصلي بالناس إمامًا في يوم جمعة، فَاخْتَرْ له خطبة وحفظه إياها. فحفظته عشرًا، فخرج وصلى بالناس وأنا معه، فَأُعْجِبَ الرشيد به، وأخذه نثار الدراهم والدنانير من الخاصة والعامة، وأُسْنِيَتْ الجوائز والصلات علي من كل ناحية، فجمعت مالًا عظيمًا، ثم استدعاني الرشيد فقال: يا عبد الملك، قد أحسنت الخدمة فتمن. فقلت: ما عسيت أن أتمنى وقد حزت آمالي! فأمر لي بمال عظيم وكسوة كثيرة، وطيب فاخر وعبيد وإماء، وظهر وفرش وآلة. فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي بالإلمام (؟) إلى البصرة، والكتابة إلى عامله بها أن يخاطب الناس الخاصة والعامة بالسلام عليَّ ثلاثة أيام وإكرامي بعد ذلك، فكتب لي عنه بما أردت.
وانحدرت إلى البصرة وداري قد عُمِّرَت، وضِيَعي قد كَثُرت، ونعمتي قد فشت، فما تأخر عني أحد، فلما كان في اليوم الثالث تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقال وعليه عمامة وسخة ورداء نظيف وجبة قصيرة وقميص طويل في رجله جرموقان، وهو بلا سراويل، فقال لي: كيف أنت يا عبد الملك؟ فاستضحكت من حماقته وخطابه لي بما كان يخاطبني الرشيد، فقلت: «بخير، وقد قبلت وصيتك، وجمعت ما عندي من كتب العلم وطرحتها في الدنِّ كما أمرت، وصبيت عليه من الماء للعشرة أربعة، فخرج ما ترى.» ثم أحسنت إليه بعد ذلك، وجعلته وكيلي.
الهميان الضائع (٢ : ١١–١٣)
حدثني عبد الله بن محمد بن عبد الله العبقسي، قال: حدثني بعض تجار أهل الكرخ ببغداد، عن صديق له قال: كنتُ أعامل رجلًا من الخراسانية أبيع له في كل سنة متاعًا يقدم به، فأنتفع من سمسرته بألوف كثيرة، فلما كان سنة من السنين تأخر عن الحج، فأثر ذلك في حالي، ثم توالت عليَّ محنٌ، فأغلقت دكاني، وجلست في بيتي مستترًا من دين ركبني ثلاثًا أو أربع سنين، فلما كان في وقت ورود الحجاج، تَتَبَّعَتْ نفسي لأعرف خبر الخراساني طمعًا لإصلاح حالي بوروده، فمضيت إلى سوق يحيى فلم أُعطَ له خبرًا. ورجعت فنزلت إلى الجزيرة وأنا تعب مغموم، وكان يومًا حارًّا، ونزلت إلى دجلة فسبحت وصعدت وأنا رطب فابتل موضع قدمي، وخطوت فعلقت برجلي قطعة رمل، فانكشف سَيْر، فلبست ثيابي، وغسلت رجلي وجلست مفكرًا، أولع بالسَّير فانجر، فلم أَزَلْ أجره حتى بان لي هِمْيان من جلد فأخرجته، فإذا هو مملوء، فأخفيته تحت ثيابي، وجئت إلى منزلي ففتحته فإذا فيه ألف دينار عينًا، فقويت نفسي به قوةً شديدة، وقلت: اللهم لك عليَّ أني متى صلحت حالي بهذه الدنانير وعادت أن أتحرى خبر هذا الهميان، فمن علمت أنه له رددته عليه بقيمة ما فيه من الدنانير، واحتفظت بالهميان، وأصلحت أمري مع غرمائي، وفتحت دكاني وعدت إلى رسمي في التجارة والسمسرة، فما مضت عليَّ إلا ثلاث سنين حتى صار في ملكي عين وورق بألوف دنانير، وجاء الحجاج فتبعتهم لأعرف خبر الهميان، فلم يُعْطِنِي أحد خبره.
فصرت إلى دكاني، فأنا جالس وإذا برجل قائم حيال دكاني أشعث أغبر، وافي السِّبَال في خلقة سؤَّال الخراسانية وزيهم، فظننته سائلًا فأومأت إلى دريهمات لأعطيه فأسرع الانصراف، فارتبت به وقمت فلحقته فتأملته، فإذا هو صاحبي الذي كنت أنتفع من سمسرته في كل سنة، فقلت له: ما الذي أصابك؟ وبكيت رحمة له فبكى، وقال: حديثي طويل. فقلت: البيتَ البيتَ. فحملته فأدخلته الحمام، وألبسته ثيابًا نظافًا، وأطعمته ثم سألته عن خبره، فقال: أنت تعرف حالي ونعمتي، وإني أردت الخروج إلى الحج بعد آخر سنة جئت إلى بغداد، فقال لي أمير بلدي: عندي قطعة ياقوت أحمر كالكف لا قيمة لها عظمًا وجلالةً ولا تصلح إلا للخليفة، فخذها معك وبعها لي ببغداد، واشترِ لي بها متاعًا طلبه من عطر وظرف بكذا وكذا، واحمل الباقي مالًا. فأخذت القطعة وهي كما قال، فجعلتها في هميان من صفته كيت وكيت (قال: ووصف الهميان الذي عندي)، وجعلتُ في الهميان ألف دينار عينًا من مالي، وجعلته على وسطي، فلما جئت إلى بغداد نزلت أسبح في الجزيرة بسوق يحيى، وتركت الهميان وثيابي بحيث ألاحظهما، فلما صعدت من دجلة لبست ثيابي وقد غربت الشمس وأُنْسِيتُ الهميان فلم أذكره إلا من غد، فغدوت لطلبه وكأن الأرض قد ابتلعته، فهوَّنْتُ على نفسي المصيبة، وقلت: لعل قيمة الحجر خمسة آلاف دينار أغرمها. فخرجت إلى الحج، وقضيت حجي، ورجعت إلى بلدي فأنفذت إلى الأمير ما جمَّلته به، وأخبرته بخبري، وقلت له: خذ مني تمام الخمسة آلاف دينار. فطمع وقال: قيمة الحجر خمسون ألف دينار. وقبض على جميع ما أملكه من مال ومتاع، وأنزل صنوف المكاره بي، وحبسني سبع سنين كنت أتردد فيها في العذاب، فلما كان في هذه السنة، سأله الناس في أمري فأطلقني، فلم يمكنني المقام في بلدي وتحمُّل شماتة الأعداء، فخرجت على وجهي أعالج الفقر بحيث لا أُعرف، وجئت مع الخراسانية أمشي أكثر الطريق، ولا أدري ما أعمل؛ فجئت لأشاورك في معاش أتعلق به.
فقلت: يا هذا، قد رد الله — عز وجل — عليك ضالتك، هذا الهميان الذي وصفته عندي، وقد كان فيه ألف دينار أخذتها، وعاهدت الله — عزَّ ذكره — أني ضامنها لمن يعطيني صفة الهميان، وقد أعطيتني صفته، وعلمت أنه لك. وقمت فجئت بكيس فيه ألف دينار. فقلت: خذها وتعيَّش بها ببغداد، فإنك لا تعدم خيرًا إن شاء الله — تعالى. فقال لي: يا سيدي، الهميان بعينه عندك لم يخرج عن يدك؟ قلت: نعم. فشهق شهقةً، ظننت أنه قد تلف منها، وخرَّ ساجدًا فما أفاق إلا بعد ساعة، ثم قال: ائتني بالهميان. فجئته به، فقال: سكين. فأعطيته، فخرق أسفله واستخرج منه حجر ياقوت أحمر كالكف، فأشرق البيت منه، وكاد أن يأخذ بصري شعاعه، وأقبل يشكرني ويدعو لي، فقلت: خذ دنانيرك. فحلف بكل يمين أنه لا يأخذ منها شيئًا إلا ثمن ناقة ومحمل ونفقة تبلغه خراسان، فاجتهدت به، فبعد جهد أخذ ثلاثمائة دينار، وأحلني من الباقي.
فلما كان في العام الماضي جاءني بقريب مما كان يجيئني به سالفًا، فقلت: خبرك؟ فقال: مضيت، وشرحت لأهل البلد خبري، وأريتهم الحجر، فجاء معي وجوههم إلى الأمير، وأعلموه القصة وخاطبوه في إنصافي، فأخذ الحجر ورد عليَّ جميع ما كان أخذه مني من مال وعقار وضياع وغير ذلك، ووهب لي مالًا من عنده وقال: اجعلني في حل مما عذبتك به. فأحللته، وعادت نعمتي على ما كانت عليه، وعدت إلى تجارتي ومعاشي، وكل هذا بفضل الله — عز وجل — وبركتك، فعل الله بك وصنع. (قال): وكان يجيئني في كل سنة إلى أن مات.
الدراهم المنتثرة (١ : ٦٠-٦١)
لما خرج طاهر بن الحسين إلى محاربة علي بن موسى بن ماهان جعل ذات يوم في كمه دراهم يفرقها على الفقراء، ثم أسبل كمه ناسيًا، فانتفضت الدراهم فتطير من ذلك واغتم، فانتصب له شاعر فقال:
فسلا همه وما به، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
راكب الأسد (٢ : ٧٥–٨٨)
حدثني أبو جعفر أصبع بن أحمد بن شبح، وكان يحجب أبا محمد المهلبي — رحمة الله عليه — قبل وزارته، فلما ولي الوزارة كان يصرفه في الاستحثاث على العمال وفي الأعمال التي يتصرف فيها العمال الصغار، (قال): كنتُ بشيراز مع أبي الحسن علي بن خلف بن طبات (؟) وهو يتولى عمالتها يومئذ، فجاء مستحثًا من الوزير يطالبه بحمل الأموال، وكان أحد الغلمان الأكابر قد كُوتِبَ بإكرامه، فأحضره أول يوم طعامه وشرابه فامتنع من مؤاكلته، وذكر أن له عذرًا. فقال: لا بد أن تأكل. فأكل بأطراف أصابعة، ولم يخرج يده من كمه، وكاد كمه يدخل في الغضائر، ويناله الغُمر.
فلما كان من غد، قال علي بن خلف: لِيَدْعُهُ كل يوم واحد منكم. فكانوا يدعونه ويدعون بعضهم بعضًا، فتكون صورته في الأكل واحدة، فنقول: لعل به برصًا أو جذامًا. إلى أن بلغت النوبة إليَّ، فدعوته ودعوت الحاشية، وجلسنا نأكل وهو يأكل معنا على هذه الصورة، فسألته إخراج يده والانبساط في الأكل، فامتنع من إخراج يده، فقلت له: يلحقك تنغيص بالأكل هكذا، فأخرجها على أي شيء كان بها، فإنا نرضى به. (قال): فإذا فيها وفي ذراعه ضربات بعضها فيه بقيه أدوية يابسة، وهي على أقبح ما يكون من المنظر، فأكل معنا غير محتشم، وقُدِّم الشراب فشربنا، فلما أخذ منا الشراب سألته عن سبب تلك الضربات، فقال: هو أمر ظريف أخاف أن لا أُصدَّق فيه، ولا يجمل بي الحديث به. فقلت: لا بد أن تتفضل.
قال: كنتُ عام أول بقريب من هذا الوقت قائمًا بحضرة الوزير، فسلم إليَّ كتابًا إلى عامل دمشق ومنشورًا، وأمرني بالتوجه إليه وإزهاقه بالمطالبة بحمل المال، ورسم أن أخرج على طريق السماوة لأتعجل، وكتب إلى عامل هيت بإنفاذي مع خفارة، فلما حصلتُ هيت استدعى العامل جماعةً من أحياء العرب، وضمني إليهم، وأعطاهم مالًا على ذلك، وأشهد عليهم بتسلمي، واحتاط في أمري. وكانت هناك قافلة تريد الخروج منذ مدة وتتوقى البرية، فأنِسوا بي، وسألوني أن آخذ لنفسي مالًا وللأعراب مالًا وأوصلهم في الخفارة ويسيرون معي، ففعلت ذلك، فصرنا قافلةً عظيمة، وكان معي من غلماني من يحمل السلاح، وهم يقربون من العشرين غلامًا، وفي حمَّالي القافلة والتجار جماعة يحملون السلاح أيضًا، فرحلنا عن هيت، ودخلنا في البرية ثلاثة أيام بلياليها.
فبينما نحن نسير، إذ لاحت لنا خيل، فقلنا للأعراب: ما هذه الخيل؟ فتسرع منهم قوم ثم عادوا كالمنهزمين، وقالوا: قوم من بني فلان بيننا وبينهم دم، ونحن طلبتهم ولا ثبات لنا معهم، ولا يمكننا خفارتكم منهم. وركضوا متفرقين، وبقينا نحن متحيرين، ولم نشك أنهم كانوا بعض أهلهم، وأن ذلك فُعِلَ على مواطأة، فجمعتُ القافلة وطفتُ بها أنا وغلماني ومن كان منهم يحمل السلاح متساندين كالدائرة، وقلتُ لمن كان معي: لو كان هؤلاء يأخذون أموالنا ويدعون جمالنا لننجو عليها كان هذا أسهل، ولكن الجمال والدواب أول ما تُؤْخَذُ، ونتلف في البرية ضعفًا وعطشًا فاعملوا على أن نقاتل، فإن هزمناهم سلِمنا، وإن قُتلنا كان أسهل. فقالوا: نفعل. وقدم القوم، فقتلنا لهم عدة خيل، وجرحنا منهم غير جريح، وما ظفروا منا بعود، فباتوا قريبًا منا حنقين علينا، وتفرق الناس للأكل والصلاة، فاجتهدت بهم أن يجتمعوا ويبيتوا تحت السلاح، فخالفوني وكانوا قد أمنوا ونام بعضهم، فغشينا الخيل، فلم يكن عندنا ممانعة، فوضعوا فينا السيوف، وكنتُ أنا المطلوب خاصةً؛ لما شاهدوه من تدبير القوم برأيي، وعلموه من أني رئيس القافلة، فقطَّعوني بالسيوف ولحقتني هذه الجراحات، وفي بدني أضعاف أضعافها. (قال): وكشف لنا عن أكثر جسده فإذا به أمر عظيم لم يُرَ مثله في بشر قط. (قال): وكان في أجلي تأخير، فرميت نفسي بين القتلى لا أشك في تلفي.
قال: فلما كان بعد ساعة أفقتُ، فوجدت في نفسي قوة والعطش بي شديد، فلم أَزَلْ أتحايل حتى قمت أطلب من القافلة قدح ماء لأشرب منها، فلم أجد أحدًا، ورأيت من القتلى والمجروحين الذين هم في آخر رمق، وسمعت من أنينهم ما أضعف نفسي وأيقنت بالتلف، وقلت: غاية ما أعيش إلى أن تطلع الشمس. فملت أطلب شجرة أو محلًّا؛ لأجعله ظلًّا لي من الشمس إذا طلعت، فإذا بي قد عثرتُ بشيء عظيم لا أدري ما هو من الظلمة، وإذا أنا منبطح عليه بطولي وطوله، فثار من تحتي، فحسستُ عليه، وكنت قدرته رجلًا من الأعراب، فإذا هو أسد، فحين علمت ذلك طار عقلي، وقلت: إن استرخيت افترسني؛ فعانقت رقبته بيدي، ونمت على ظهره، وألقيتُ بطني بظهره، وجَعَلْتُ رِجْلَيَّ تحت بطنه، وكانت دمائي تجري. فحين دخلني ذلك الفزع الشديد رقأ دمي وعلق شعر الأسد بأفواه الجروحات، فصار سدادًا لها وعونًا على أن أمسك نفسي فوقه، وورد على الأسد مني أظرف مما ورد عليَّ منه؛ فأقبل يجري كما تجري الفرس على طريق واحد، وأنا أحس بروحي وأعضائي تتقصف من شدة جريه، فلم أشك في أنه يقصد أجمته فيلقيني إلى لبؤته فتفترسني، إلا أني ضبطت نفسي وأنا أؤمل الفرج وأدافع الموت، وكلما هم الأسد أن يربض ضربت بطنه برجلي فيطير، وأنا أعجب من نفسي ومطيتي وأدعو الله — عز وجل — وأرجوه.
وما زلت على ذلك إلى أن ضربني نسيم السحر فقويت نفسي، وأقبل الفجر يضيء، فتذكرت طلوع الشمس فجزعت، ودعوت الله — عز وجل — فما كان أسرع من أن سمعت صوتًا ضعيفًا لا أدري ما هو، ثم قوي فشبهته بناعورة. (قال): والأسد يجري، وقوي الصوت فلم أشك في أنه ناعورة، ثم صعد بي الأسد إلى تل، فرأيت منه بياض ماء الفرات وهو جار، وناعورة تدور، والأسد يمشي على شاطئ الفرات برفق إلى أن وجد شريعةً، فنزل منها إلى الماء وأقبل يسبح ليعبر، فقلت في نفسي: ما قعودي؟ لئن لم أتخلص هنا ما تخلصت أبدًا، فما زلت أرفق حتى خلصت شعره من أفواه جراحاتي، وسقطت وسبحت منحدرًا، وأقبل الأسد يشق الماء عرضًا.
فينما أنا أسبح نظرت جزيرة فقصدتها، وحصلت فيها، وقد بطلت قوتي، وذهب عقلي، وطرحت نفسي عليها كالتالف، فلم أحس إلا بحرارة الشمس قد نبهتني، فرجعت أطلب شجرةً رأيتها في الجزيرة؛ لأستظل بها، فرأيت السبع مُقعيًا على ذنبه بشاطئ الفرات، فقلَّ فزعي منه، وأقمت مستظلًّا بالشجرة أشرب من ذلك الماء إلى العصر، فإذا أنا بزورق منحدر، فصحت به، وحلفت لهم أن ما بالجزيرة أحد سواي، وأومأت لهم إلى الأسد، وقلت لهم: قصتي ظريفة طويلة وإن تجاوزتموني كنتم أنتم قد قتلتموني، فالله الله فيَّ. فرقوا لي، ودخلوا إلي يحملوني، فلما صرت في الزورق ذهب عقلي، فما أفقت إلا في اليوم الثاني فإذا علي ثياب نظاف، وقد غُسلت جراحاتي، وجُعل فيها الزيت والأدوية، وأنا بصورة الأحياء، فسألني أهل الزورق عن حالي فحدثتهم.
وبلغنا إلى هيت، فأنفذت إلى العامل من عرفه خبري، فبعث لي من يحملني إليه، فتوجع لي، وقال: ما أظن أنك أفلتَّ فالحمد لله. فحدَّثته كيف نُجِّيت، فعجب وقال: بين الموضع الذي حملك أهل الزورق منه مشاق أربعين فرسخًا على غير محجة. فأقمت عنده أيامًا، ثم أعطاني نفقةً وثيابًا وزورقًا، فجئت إلى بغداد، فكنت أتعالج عشرة أشهر، حتى صرت هكذا، ثم خرجت وقد افتقرت وأنفقت جميع ما كان في بيتي، فلما أقمت بين يدي الوزير رق لي، وأطلق لي مالًا، وأخرجني إليكم.
الطفل المقمط (٢ : ٨٥)
عن ديسم بن إبراهيم بن شاذلويه المتغلب، كان بأذربيجان لما ورد حضرة سيف الدولة يستنجده على المرزبان محمد بن مسافر السلار لما هربه عنها، قال: إن بناحية أذربيجان واديًا يقال له الرأس، شديد جرية الماء جدًّا، وفي أرضه حجارة كثيرة بعضها ظاهر من الماء، وبعضها مغطًّى بالماء، وليس للسفن فيه مسلك، وله أجراف هائلة، وبه قنطرة يجتاز عليها المارة، قال: كنت مجتازًا عليها في عسكري، فلما صرت في وسط القنطرة رأيت امرأة تمشي وتحمل ولدًا طفلًا في القماط، فزاحمها بغل محمل، فطرحت نفسها على القنطرة فزعًا، فسقط الطفل من يدها إلى النهر، فوصل إلى الماء بعد ساعة؛ لبُعد ما بين القنطرة وصفحة الماء، ثم غاص، وارتفعت الضجة في العسكر.
ثم رأينا الصبي قد طفا على وجه الماء، وقد سلم من تلك الحجارة، وكان الموضع كثير العقبان، ولها أوكار في أجراف ذلك النهر، ومنها يُصاد أفراخها، (قال): فحين ظهر الطفل في قماطه صادف ذلك عقابًا طائرًا، فرآه فظنه طعمةً، وانقض عليه وشبك مخالبه في القماط وطار به، وخرج إلى الصحراء، فطمعتُ في تخليص الطفل، فأمرت جماعةً أن يركضوا وراء العقاب ففعلوا، وتبعتهم بنفسي لمشاهدة الحال، فإذا العقاب قد نزل إلى الأرض، وابتدأ يمزق قماط الصبي ليفترسه، فحين رأوه صاحوا بأجمعهم، وقصدوه ومنعوه عن الصبي فطار، وتركه على الأرض، فلحقنا الصبي فإذا هو سالم ما وصل إليه جرح، وهو يبكي، فقيأناه حتى خرج الماء من جوفه، وحملناه سالمًا إلى أمه.
نجاة ابن أبي قبيصة من الأسر والقتل (١ : ١١١–١١٣)
حدثني جماعة من ثقات أهل الموصل أن فاطمة بنت أحمد بن علي الكردي زوجة ناصر الدولة أم أبي تغلب اتهمت عاملًا كان لها يُقال له ابن أبي قبيصة من أهل الموصل بخيانة في مالها، فقبضت عليه وحبسته في قلعتها، ثم رأت أن تقتله، فكتبت إلى المتوكل بالقلعة بقتله، فورد عليه الكتاب، وكان لا يُحسن أن يقرأ ولا يكتب، وليس عنده من يقرأ ويكتب إلا ابن أبي قبيصة، فدفع الموكل بالقلعة الكتاب إليه، وقال له: اقرأ. فلما رأى فيه الأمر بقتله قرأ الكتاب بأسره إلا حديث القتل، ورد الكتاب عليه. وقال ابن أبي قبيصة: ففكرتُ وقلت: أنا مقتول ولا آمن أن يرِدَ كتاب آخر في هذا المعنى، ويتفق حضور من يقرأه غيري فينفذ الأمر فيَّ، وسبيلي أن أحتال عليه بحيلة، فإن تمت سلمت، وإن لم تتم فليس يلحقني أكثر من القتل الذي أنا حاصل فيه.
فتأملتُ القلعة فإذا فيها موضع يمكن أن أطرح نفسي منه إلى أسفل، إلا أن بينه وبين الأرض أكثر من ثلاثة آلاف ذراع، وفيه صخر لا يجوز أن يسلم معه من يقع عليه. (قال): فلم أجسر. ثم ولد لي الفكر أني تأملت الثلج قد سقط عدة ليال قطعًا فغطى تلك الصخور، فصار فوقها أمر عظيم يجوز إن سقطت عليه وفي أجلي تأخير أن ينكسر بعض بدني وأسلم. (قال): وكنت مقيدًا، فقمت لما نام الناس فطرحت نفسي من الموضع قائمًا على رجلي، فحينما حصلت في الهواء ندمت، وأقبلت أستغفر الله وأتشهد، وغمضت عيني حتى لا أرى كيف أموت، وجمعتُ رجلي بعض الجمع؛ لأني كنت سمعت قديمًا، أن من اتفق عليه أن يسقط قائمًا من مكان عالٍ إذا جمع رجليه ثم أرسلها إذا بقي بينه وبين الأرض قدر ذراع أو أكثر؛ أمكنه أن يسلم، وينكسر حد السقطة، ويصير كأنه بمنزلة من سقط من ذراعين، (قال): ففعلت ذلك.
فلما سقطتُ إلى الأرض ذهب عني أمري، وزال عقلي ثم آب إلي، فلم أجد ما كان ينبغي أن يلحقني من ألم السقوط من ذلك الموضع، فأقبلت أجس أعضائي شيئًا فشيئًا فأجدها سالمةً، وقمت وقعدت وحركت يدي ورجلي، فوجدت ذلك كله سالمًا، فحمدتُ الله — تعالى — على تلك الحال، وأخذت صخرة، وكان الحديد الذي قد صار في رجلي كالزجاج لشدة البرد. (قال): فضربته ضربًا شديدًا فانكسر، فطنَّ حتى ظننت أنه سيسمعه مَن في القلعة لعظمه فينتبهون إلي، فسلم الله — عز وجل — من هذا أيضًا، وقطعت تكتي، وشددت ببعضها القيد على ساقي، وقمت أمشي في الثلج، فمشيت طويلًا ثم خفتُ أن يروا آثاري من غد في الثلج على المحجة فيتبعوني فلا أفوتهم؛ فعدلت عن المحجة إلى نهر يُقال له الخابور، فلما وصلت إليه وصرت إلى شاطئه نزلت في الماء إلى ركبتي، وأقبلت أمشي كذلك فرسخًا حتى انقطع أثري، ثم خرجت لما كادت أطرافي تسقط من البرد فمضيت على شاطئه، ثم عدلت أمشي فيه وربما حصلت في موضع لا أقدر على المشي فيه؛ لأنه يكون جرفًا فأسبح، واستمريت على ذلك أربعة فراسخ حتى حصلت في خيم فيها أقوام، فأنكروني وهموا بي، فإذا هم أكراد، فقصصت عليهم قصتي، واستجرت بهم فرحموني، وأوقدوا بين يدي وأطعموني وستروني، وانتهى الطلب من غد إليهم، فما أعطوا خبري أحدًا. فلما انقطع الطلب سيَّروني حتى دخلت الموصل مستترًا، وكان ناصر الدولة ببغداد إذ ذاك، فانحدرت إليه، وأخبرته بخبري كله، فعصمني من زوجته، وأحسن إليَّ وصرفني.
ابن جصاص وأعدال الخيش (١ : ١١٣-١١٤)
حدثني أبو علي بن عبيد الله الحسين بن عبد الله الجصاص الجوهري قال: سمعت أبي يحدث قال: لما نكبني المقتدر، وأخذ مني تلك الأموال العظيمة، أصبحت آيسًا من الفرج، فجاءني خادم فقال: البشرى. فقلت: ما الخبر؟ قال: قم قد أُطلِقتَ، فقمت معه فاجتاز بي في بعض طرق دور الخليفة، يريد إخراجي إلى دار السيدة؛ لتكون هي التي تطلقني؛ لأنها هي التي شفعت فيَّ، فوقعت عيني في اجتيازي على أعدال خيش لي أعرفها كان مبلغها مائة عدل، فقلت للخادم: أليس هذا من الخيش الذي حُمل من داري؟ فقال: بلى. فتأملته فإذا هو بشده وعلاماته، وكانت هذه أعدالًا قد حُمِلَتْ إليَّ من مصر، كل عدل منها فيه ألف دينار من مال كان لي هناك، كتبت بحمله فخافوا عليه من الطريق، فجعلوه في أعدال الخيش؛ لأنها مما لا تكاد أن ينهبه اللصوص، وإن وقعوا به لا يفطنون لما فيه؛ فوصلت سالمةً، ولاستغنائي عنها وعن المال لم أخرجه من الأعدال، وتركته بحاله في بيت في داري، وأقفلت عليه، وتوخيت بذلك أيضًا سر حديثه فتركته شهورًا على حاله؛ لأنقله كما أريد في أي وقت أرى.
ولما حُبِسْتُ أُخذ الخيش في جملة ما أُخِذَ من داري، ولِخِسَّتِهِ عندهم تهاونوا به، ولم يعرف أحد ما فيه؛ فطُرِح في تلك الدار، فلما رأيته عندهم طمعت في خلاصه والحيلة في ارتجاعه فسكت، فلما كان بعد أيام من خروجي، راسلت السيدة وشكوت حالي إليها، وسألتها أن تدفع لي ذلك الخيش؛ لأنه لا قدر له عندهم وأنا أنتفع بثمنه. (قال): فاستحمقتني وقال: وأي قدر لهذا الخيش؟ ردوه عليه، فسُلِّم إلي بأسره. ففتحته وأخذت منه المائة ألف دينار ما ضاع منها دينار واحد، وأخذت من الخيش ما احتجت إليه، وبعت باقيه بجملة وافرة، وقلت في نفسي: إنه قد بقيت لي بقية إقبال جيدة.