أقاصيص قبائل الطاط
الحكاية الأولى
كان بهلول رجلًا حكيمًا يقصده العلماء لحكمته وعلمه، وكان يسكن في بيت شاهق ذي أربع طبقات، فكان لا يصعد إلى سطحه الأعلى إلا بعد شق النفس، فيومًا ما نزل المطر وتوكَّف السطح فعلاه بهلول؛ ليصلحه بالمُحالة — المحدلة — وإذا بفقير في أسفل الدار يصرخ إلى بهلول: هلمَّ انزل فإن لي إليك كلامًا. فظن بهلول أن لمستدعيه سرًّا يطلعه عليه، فنزل كاسف البال، وتقدم إلى الفقير، فلما رآه هذا قال: أرجوك حبًّا بالله أن تكرم علي بدانق لأبتاع لي خبزًا؛ فإني جائع، وليس في يدي ما أسد به رمقي هذه الليلة. فسكت بهلول ثم كر راجعًا على عقبه، وصعد إلى السطح فلما بلغه أدخل يده في جيبه كأنه يطلب ما يتصدق به على الفقير، ثم دعاه قائلًا: هلم ارْتَقِ إلى السطح. فصعد الفقير متثاقلًا، حتى إذا قرب من بهلول قال له: ما الأمر؟ فأجاب بهلول: لا شيء معي، فالله يعطيك. فلما سمع الفقير هذا القول غضب، ثم التفت إلى بهلول قائلًا: ويلك! أما كان يمكنك أن تقول لي من السطح «الله يعطيك» ولا تحوجني إلى هذه الطلعة المتعبة؟ أجاب بهلول: وأنت، أما كنت تستطيع أن تطلب حاجتك من أسفل الدار دون أن تضطرني إلى النزول؟ فاذكر المثل «ما يزرعه المرء يحصده». فخجل الفقير، وذهب إلى سبيله.
بهلول ويحيى البرمكي
خرج الوزير يحيى البرمكي يومًا إلى أرباض البلد لترويح البال، فسار حتى بلغ مكانًا قفرًا فرأى وإذا بهلول جالس وحده على الرمل وأمامه ثلاث جُثًى من التراب، فسأله يحيى: ما هذا؟ وما معنى هذه الأكوام؟ قال بهلول: هذه كُوَم من الرمل عبأتها.
– ولأي سبب؟
– لي فيها حاجة.
– وما حاجتك؟
– هذا سر لا أقوله.
– ناشدتك الله إلا قلته.
– كل كومة حكمة لا أبوح بها إلا بمائة دينار، فإن شئت أدِّنِي حقها.
وكان الوزير يحيى يعلم بأن حِكم بهلول نافعة، قد اختبر مفعولها غير مرة، فقال له: دونك مائة دينار واذكر الحكمة الأولى. فخرب بهلول إحدى الكوم وقال: لا تكشفن سرك إلى امرأة. ثم دفع له الوزير مائة دينار أخرى وقال له: خذ هذه أيضًا وأفدني الحكمة الثانية. فأخذ بهلول الدراهم وقال: لا تثق بمالك البتة. ثم أعطاه الوزير ثالثةً مائة دينار وطلب الحكمة الثالثة، فقال بهلول: إياك إياك أن تركن إلى خدمة الملوك. قال هذا ثم أخذ الدراهم وألقاها في الماء. أما الوزير فإنه عاد إلى بيته، وبقي مدة، حتى إذا كان أحد الأيام وهو في حديقة الملك رأى بين ماشيته تيسًا كبيرًا، فأخذه وأتى به بيته وأخبر امرأته بما فعل، ثم ذهب سرًّا وابتاع له جديًا، ولم يخبر امرأته به، فبعد أيام عمد الوزير إلى الجدي فذبحه وألقى برأسه وأطرافه في النهر، وأتى بلحمه إلى البيت، وأوهم امرأته أنه التيس، فطلب منها أن تصلحه وتشويه؛ لأنه قرم إلى لحم التيس، ففعلت المرأة، وأكلا اللحم وشبعا، وفي أثر ذلك بأيام حصل بين الوزير وامرأته نفور فتخاصما، فصرخت المرأة: بئس الرجل أنت، وقد سرقت تيس الملك. فسمع الجيران كلامها، وأخبروا الشرط الذين كان الملك أمرهم بطلب تيسه، وأعلم الشرط الملك بسارق التيس، فاستدعى الملك وزيره وبكَّتهُ على فعله، وأمر الجلاد بقطع رأسه، فجعل يحيى يبكي، ويستغفر الملك إلى أن قال له: أبقني أبقاك الله، وها إني أترك لك كل مالي وثروتي بدلًا من التيس. لكن الملك لم يرضَ بذلك، وصمم نيته بقتله إن لم يرجع ما سرقه. فقال الوزير: أيها الملك، إن كان قلبك تغير علي فاطردني من خدمتك، ولكن لا تقتلني في حق تيس واحد. فقال الملك: كلا، إما التيس وإما رأسك، لا مناصَ من أحد الأمرين. فقام الوزير حينئذ وقال: أبقى الله رأس الملك، إن التيس لا يزال حيًّا فأرسلْ من يأخذه، وأنا أشكر الله الذي أثبت لي صحة ما قاله لي بهلول الحكيم: إياك أن تسلِّم بسرك إلى امرأة، ولا تثقن بمال، ولا تركن إلى خدمة الملك.
بهلول والتاجران
قدم يومًا أحد التجار على بهلول فقال له: أيها الحكيم، هبني مشورةً صالحة أنتفع بها. فقال له بهلول: اذهب وابتع لك ملحًا تنل به ربحًا. فجرى التاجر على مشورته وما لبث ثمن الملح أن تصاعد حتى إن التاجر باع ملحه بأربعة أضعاف ثمنه واغتنى به، فعرف بالأمر تاجر آخر، فجاء إلى بهلول — وهو يعدُّه كمجنون — فقال له: يا بهلول الأحمق، أعطني أنا أيضًا مشورةً صالحة تجديني نفعًا. فأجابه بهلول: اذهب وابتع لك بصلًا، واحفظه إلى الربيع فتبيعه. ففعل الرجل وأودع البصل في دهليز وأقفل بابه إلى أن جاء الربيع، فنزل الدهليز، وإذا ببصله قد أنبت ولم يعد يصلح لشيء، فذهب من ساعته إلى بهلول وشكا إليه حاله قائلًا: ما لك أشرت على رفيقي بمشورة صالحة نال منها ربحًا طائلًا، وأنا بئس النصيحة أعطيتنيها خسرتُ بسببها مالي؟ فقال له: استجهلتني وعيرتني حمقي فوزنت لك بوزنك، اعلم بذلك أن المرء بالكيل الذي يكيل لغيره يُكال له.
بهلول والسارق
تعدى يومًا أحد الأشقياء على بهلول، فأخذ منه قبعته، وهرب منحدرًا إلى جهة النهر، فسكت بهلول، وسار في وجهه إلى أعلى التل حيث كانت المقبرة فجلس على بابها. وفيما هو هناك رآه قوم فقالوا له: ويحك! إن الذي سلب قبعتك هرب إلى أقصى البلد منحدرًا، وأنت صعدتَ إلى هنا! فاذهب في أثره واسترد مالك. فقال بهلول: كلا، بل أنتظره في باب المقبرة؛ إذ لا بد له عاجلًا أو آجلًا يُنقل إليها، فأسترجع منه مالي.
لص الليل
جاء لصٌّ إلى بيت بهلول ليلًا، وكان بيته خاويًا خاليًا لا شيء فيه، فلما دخل البيت وهو يؤمل غنيمةً واسعة، مد بساطًا كان معه؛ ليضم فيه ما ينهبه، فسمعه بهلول وهو راقد على الحضيض فتناوم، ثم اندس رويدًا رويدًا إلى البساط فاتخذه له فراشًا، أما اللص فكان يفتش في البيت عما يسرقه، ولم يجد شيئًا حتى أسرج سراجًا، فرأى أن البيت أنقى من راحة، وأجرد من صخرة، ونظر إلى البساط وإذا صاحب البيت نائم عليه، فخاف أن يوقظه فيعلم الناس بأمره، وهمَّ أن يخرج فالتفت إليه بهلول قائلًا: ما لك لا تحمل حملك؟ قال اللص: ويلك! ما أصنع بك وأنت أفقر من العريان! قال بهلول: أرجوك إذن إن أتيت بيتي مرةً أخرى أن تكرم علي بغطاء كما وهبتني هذه المرة بساطًا، فيكمل بذلك معروفك.
قلنسوة نصر الدين
تقلنس نصر الدين بقلنسوة جديدة ابتاعها بثلاثين درهمًا، وخرج إلى شغله، فرآه رجل واستظرف قلنسوته وقال: بالله عليك يا مولاي، كم اشتريت هذه القلنسوة؟ فأجابه على سؤاله، ثم سار بضع خطوات، وإذا بثانٍ ثم ثالث ثم رابع، وكلٌّ يسأله عن ثمن القلنسوة، فاستثقل الأمر وأخذ قلنسوته بيده، ثم سار إلى السوق وجعل يصرخ بأعلى صوته: يا قوم، هلموا إلى ساحة المدينة، فإن لنائب الملك كلامًا يريد تبليغه إلى مسامعكم. فتقاطر الناس وتزاحموا في الساحة، فجاء نصر الدين وصعد على صقالة، ثم كشف قلنسوته عن رأسه وقال: يا ناس، اعلموا وتحققوا أن القلنسوة التي ترونها في يدي يساوي ثمنها ثلاثين درهمًا. فاستغرق السامعون من الضحك وعادوا إلى شغلهم، وتخلص نصر الدين من لجاج السائلين.
نصر الدين والقِدْر الميِّتة
دخل نصر الدين على أحد جيرانه، فاستقرض منه قدرًا يطبخ فيها طعامه، فأعطاه الجار بعد العنت قدرًا وسطًا، فلما انتهى نصر الدين من عمله أخذ قدرًا صغيرة وجعلها في بطن القدر المستعارة فأعادها إلى صاحبها، فقال هذا: ويلك! أقرضتك قدرًا واحدة فما هذه القدر الصغرى؟ قال نصر الدين: اعلم يا صاح أن قدرك قد خلَّفت فأتيتك بها وبصغيرها. ففرح الرجل وأخذ القدرين، وبعدها بأيام جاء نصر الدين إلى جاره وطلب منه قدرًا كبيرة، فأسرع إلى قضاء حاجته بكل فرح، وهو يؤمل أن يكون مولودها أكبر، ثم بقي ينتظر يومًا ويومين، فلم يَعُدْ نصر الدين، فذهب إلى بيته يطلب قدره فقال نصر الدين: وا أسفاه على قدرك، فإنها ماتت. قال الرجل: ويلك! أتموت القدر؟! قال نصر الدين: وما لها لا تموت؟ ألم تصدق بولادتها لمَّا خلفت، فكيف لا تصدق بموتها؟
حمق الذئب
أصاب الجوع ذئبًا فسار في غابة يطلب قوته، وإذا هناك حمار يرعى، فقال له الذئب: أبشر أيها الحمار، فإني إلى لحمك قرم. قال الحمار: نعمًّا، ولكن كيف تجهل أن لحم الحمار يضر آكله إلا إذا أُكل عند الصباح بعد النوم والحِمْيَة؛ فهذا قول الأطباء قد أيده الاختبار مرارًا. قال الذئب: صدقتَ، واذهب وائتني بفراش حتى أنام إلى الصباح ثم آكلك فيهنأ لي طعامي. قال الحمار: لبيك سيدي. ثم فرَّ من بين يديه شاكرًا ربه على خلاصه من ذلك الوحش الضاري. أما الذئب فانتظر ساعات عود الحمار إلى أن تحقق بأنه خدعه وأفلت من يده، فامتعض من صنعه، وسار في طريقه يطلب رزقه من وجه آخر، وكاد الجوع يقتله، فرأى في طريقه جديًا، فصرخ به عن بُعد: هلم أيها الجدي، فإني في حاجة إلى لحمك.
قال الجدي: إنك تشرفني بأكلك لي، ولكن تذكَّر أن لحم الجدي أطيب ما يكون أن يؤكل ببقول ومخللات، فدعني آتيك بشيء منها، فيصبح طعامك مريئًا.
قال الذئب: نعم هذا صحيح، وقد سمعت به غير مرة، فاذهب وائتني بشيء من الخضر فتكون كأُدم أئتدم به مع لحمك، ولكن إياك أن تتأخر عن المعاد، وإلَّا دعوتُ عليك كل دعوة سوء. قال الجدي: هيهات سيدي أن يطول انتظارك وأُفرغ صبرك. قال هذا ثم عاد مسرعًا إلى حظيرة الغنم تحت رعية الرعاة وفي حراسة الكلاب، فبقي الذئب ينتظر، وهو يبصر تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال حتى عيل صبره وعرف بخدعة الجدي، فقال في نفسه: ما أسوأ حظي، وها إني قد خُدعتُ مرتين؛ أفلت الحمار من يدي وها أنذا بالجدي قد ضحك مني ومكر بي، فماذا يقول عني رفقتي؟ والله لا أدع مرةً أخرى وحشًا يخاتلني ويغشني. ثم جرى في طريقة وهو ساغب غرثان يضمر السوء لمن يلقاه من إنس أو جان حتى وصل إلى شط البحر، وإذا هناك جاموس في مقصبة غائص في الحمأة، فصرخ الذئب صرخةً ارتعدت منها فرائص الجاموس، فعلم أنه ميت لا محاله إن لم يجد حيلةً للخلاص، فقال له الذئب: ائتني مسرعًا فآكلك، وإلا هجمت عليك فقطعتك شذر مذر. قال الجاموس: إن عبدك بين يديك، فها أنذا مطاوع لأمرك، ولكن تبصَّر سيدي بثوبي كيف هو متسخ بالحمأة والأقذار، أفتأكلني هكذا وتضر نفسك بوخامة المآكل؟ فإن كنت عاقلًا تركتني أدخل البحر فأغسل بدني، ثم أعود إليك نظيفًا، فتأكلني هنيئًا مريئًا.
– نعم الرأي رأيك، فاغتسل واخرج سريعًا. فطفر الجاموس في البحر، وجعل الذئب ينتظره، فبعد ساعة صرخ إليه: ويلك متى تنتهي من الاستحمام؟ قال الجاموس: إن اغتسالي طويل فتمهل. فبعد ساعة أخرى صاح وضج بالصياح، لكن الجاموس لم يُبْدِ حراكًا، فأراد الذئب أن ينزل إليه في الماء فقلبته موجة على وجهه فخاف من الغرق، ونكص على أعقابه، ولعن الجاموس، وارتحل متنمرًا من الغيظ متضورًا كاد الجوع يصرعه، فانتهى إلى مرج وانطرح عليه ليأخذ نصيبًا من الراحة، وإذا بفرس قدم إلى ذلك المكان، فاستبشر به الذئب وعده الطعام المُرْسَل له من الله لسد جوعه، فقال للفرس: وحق السماء لن تنجو من يدي. ثم همَّ بالوثوب على غنيمته، لكن الفرس سبقه وخر على قدميه قائلًا: أنا أطعمك، ولن أرضى بغير بطنك لي قبرًا، ولكن أرجوك قبل أن تتهنَّأ بأكلي أن تقرأ لي ما كتبه أبواي على حافري، فإنهما جعلا وصيتهما لي عليهما يوم وفاتهما، وأنت تعلم حرمة وصية الوالدين. قال الذئب: أما هذا فصواب، فأرني حافرك. فدار الذئب خلف الفرس؛ ليطَّلع على ما كُتِب تحت حافره، فرفع الفرس قائمتيه، وبكل قوته ضربهما في وجه الذئب، فسقط صريعًا ميتًا، وسار الفرس إلى صاحبه سالمًا.