الفتية التوابون
فأول من ارتدع منهم ودعته نفسه إلى التوبة والإنابة إلى الله يحيى بن عمرو القرشي، فعزم على ذلك وجعل يُسرُّه في نفسه، ولا يذكر لإخوانه شيئًا مما عزم عليه، وهو مع ذلك يجالسهم ويحادثهم، فبينما هم ذات يوم في شرابهم ولهوهم، إذ أخذوا شيئًا من نشائد الأشعار التي قد أحدثوها بينهم، فجعل كل واحد منهم يقول شيئًا، ويحيى بن عمرو القرشي ساكت لا ينطق بشيء، حتى فرغوا من نشيدهم، فأحب أن يلقي إليهم شيئًا مما عزم عليه من أمر التوبة ونزوعه عما هو عليه، فأنشد يقول:
(قال): فلما سمع القوم من يحيى بن عمرو هذه الأبيات أنكروا ذلك منه إنكارًا شديدًا، ثم إنهم عذلوهُ، وأكثروا من عذله ولومه، ثم قالوا: يا هذا، لقد سمعنا منك شيئًا نخاف أن يكون فيه تفريق جماعتنا وتشتيت ألفتنا، وإنا نناشدك الله في ذلك. فتبسم يحيى بن عمرو وحرك رأسه، وقال هذه الأبيات:
(قال): فلما سمع القوم ذلك أقبل إليه أخوه سليمان بن عمرو، وقال له: والله يا أخي، ما عدا جميعُ ما تكلمتَ به سويداء قلبي، ولقد أخذ بمجامع عقلي ولبي، حتى لقد غلب على سمعي وبصري، وأحال بيني وبين لذاتي، ولقد علمت أن الأمر كما ذكرت، وأن الرغبة فيما رغبت. ثم أنشأ سليمان بن عمرو يقول هذه الأبيات:
(قال): فلما سمع القوم كلام سليمان بن عمرو ورأوا ميله إلى أخيه، جعل بعضهم يقول لبعض: هذا ما كنا نحذر منه: تفريق الألفة وتكدير صفو العيش، فعند الله نحتسب ما فُجِعنا به منكما.
(قال): ثم انصرف القوم عن مجلسهم ذلك، وهم مغمومون بأمر يحيى وأخيه سليمان، فلما كان في الليلة المقبلة اجتمعوا أيضًا وجلسوا، فلما اطمأن بهم المجلس أقبل عليهم يحيى بن عمرو فقال لهم: يا إخوتي، وأخلاني، ومن تقر عيني بصلاحهم، واجتماع كلمتهم، إنه قد ينبغي للراقد أن يستيقظ من رقدته، ويتخلى عن غشوته، ومهما شككتم في شيء فلا تشكوا في الموت أنه نازل بي وبكم، وأسأل الله العصمة والتوفيق والتسديد لي ولكم، ثم أنشأ يقول هذه الأبيات:
ثم أقبل عليهم سليمان بن عمرو، فقال: يا إخوتي، ومن قد عظمت حقوقهم عليَّ، وابيضَّت أيديهم عندي، إنكم قد علمتم ما افترقنا عليه ليلتنا الماضية، وما دعاكم إليه أخي يحيى الناصح لكم الشفيق عليكم، فإن تجيبوا إلى التوبة والنزوع عما أنتم فيه فحظَّكم أصبتم وللخير أجبتم، وإن تقيموا على ما أرى من لغطكم واتباعكم أهواءكم فإني أسأل الله لكم التوفيق والسلام. ثم أنشأ يقول:
(قال): فلمَّا سمع بشر بن مطر الأزدي مقالة يحيى وأخيه سليمان واستحكم قولهم في قلبه أعجبه ذلك، فقال:
(قال): فلما سمع القوم مقالة بشر غمَّهم ذلك غمًّا شديدًا، ثم أقبل هارون بن الحصين على أصحابه، وقال لهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أعظم الرزية بفرقتكم وأجلَّ المصيبة بتباعدكم، والله ما أظن هذا الأمر إلا مشتتًا جماعتنا مكدرًا علينا صفو عيشنا؛ لأن الذي دعوتمونا إليه مزايلة ما نحن فيه لَشديد، وهو أثبت وأرسخ من أن تزيله العظات. ثم افترقوا ليلتهم مغمومين.
فلما كان من الليلة الثالثة اجتمعوا، فلما اطمأن بهم المجلس أقبل عليهم محمد بن زرعة العبدي، فقال: يا إخوتاه، اسمعوا مني كلامًا، وتدبروه بقولكم، فقد أتيتكم بأعجوبة. فقالوا: هات ما بدا لك. قال: اعلموا أني لما فارقتكم الليلة الماضية وسرتُ إلى منزلي أرقت أرقًا شديدًا، حتى إذا كان قبل الصبح أغفيتُ، فإذا أنا بآتٍ قد أتى في منامي، وهو يقول:
(قال): فلما سمعتُ ذلك استيقظت فزعَا مرعوبًا، حتى كاد أن يُنْزَعَ قلبي. (قال): فأقبل عليه يعقوب بن عبد الكريم الطائي، فقال: كأني وإياك يا أخي والله على أمر واحد، غير أن الألفاظ مختلفة، وذلك لمَّا أني قمت من مجلسنا حين افترقنا بالأمس وبي من الفرقة والأسف لِتَشَتُّت الشمل ما لا أبلغ وصفه حزنًا على إخواني لما رأيت من مفارقتهم لنا ونقضهم علينا ما نحن فيه من الألفة والمودة؛ أتيت إلى منزلي وأقمت عامة ليلتي أدير عيني على الغمض، فلا أقدر على ذلك، فينما أنا كذلك بين النائم واليقظان، إذ أنا بهاتف يقول هذه الأبيات:
فلما سمعت ذلك استيقظت وما معي شيء من عقلي، فهذا والله يا إخوتي ما رأيت. فلما سمع القوم ذلك عجبوا، وجعل بعضهم يقول لبعض: كيف خُصَّ محمد بن زرعة ويعقوب بن عبد الكريم بهؤلاء الهواتف من بيننا؟! هذا سكونٌ لِنابنا.
(قال): ثم أقبل سعيد بن إسماعيل الأسدي على محمد بن زرعة وهو يقول هذه الأبيات:
(قال): ثم أنشأ هارون بن الحصين التميمي يقول هذه الأبيات:
(قال): وتفرق القوم ليلتهم تلك أيضًا، وقد وفق الله — تعالى — خمسة نفر للتوبة، وهم: يحيى، وسليمان، وبشر، ومحمد، ويعقوب، وبقي منهم خمسة: هارون، وعبد الله، وسعيد، والأحمدان.
قال: وجعل هؤلاء الخمسة الذين تابوا يدعون إلى الله ويتضرعون في أن يرد قلوب إخوانهم إلى ما هم عليه من التوبة ويدعوهم إليها، فلم يزالوا كذلك إلى أن استجاب الله منهم دعاءهم في إخوانهم، وأقبلوا بقلوبهم إلى الطاعة، فكتب كل واحد منهم بأبيات من الشعر، وأرسلوها إلى إخوانهم التوابين، فلما وصلت هذه الأبيات من هؤلاء الخمسة إلى إخوانهم فرح الذين سبقوهم إلى التوبة، واستبشروا واشتد سرورهم، ثم ابتهلوا إلى الله — عز وجل — في أن يقوي عزمهم فيما عزموا عليه من التوبة، فاستجاب الله لهم ذلك.
(قال): ثم إنهم تواعدوا أن يجتمعوا في مشربة لهم، فيكلم بعضهم بعضًا، فاجتمعوا في مشربتهم تلك، وهي مشربة معروفة بالمدينة، يقال لها اليوم مشربة التوبة، وكانت تُعرَف قبلًا بمشربة العطارين بالمدينة، فلما اجتمعوا هناك اعتنقوا، وبكى بعضهم على بعضٍ لطول الفرقة، وما كانوا عليه من التباعد، وحمدوا الله على ما هم عليه من التقوى، وسألوه التوفيق والعصمة والثبات.