كيف نُفكِّر في أزمة الثَّقافة؟١
في وطننا الْعَربي إحساس حاد بأنَّ الثَّقافة في أزمةٍ، ومع ذلك فإنَّ كثيرًا من المتحاورين في هذا الموضوع لا يتفاهمون، ولا يصلون إلى تحديد واضح لطبيعة الأزمة ومظاهرها ووسائل حلها، لأسباب من أهمها أنَّهم لم يتفقوا على معانٍ محددة للكلمات التي يستخدمونها في بحث هذا الموضوع الحيوي، وأنا لا أزعم أنَّ الاتفاق على هذه المعاني سيحل المشكلة؛ لأنَّ لأزمة الثَّقافة أبعادًا أساسيَّة متعلقة بطرق تفكيرنا التَّقليديَّة، ووضع المثقف في المجتمع، ومدى احترام العقل والخيال الحر في أنظمة يفضل معظمها أن يتحكم مباشرةً في اتجاهات تفكير الناس، ولكني أعتقد، مع ذلك، أنَّ إلقاء الضَّوء على بعض الألفاظ الأساسيَّة التي نستخدمها في مناقشاتنا حول الثَّقافة، يمكن أن يكون تمهيدًا مفيدًا لإرساء هذه المناقشات على أسس أوضح، ولإيجاد أرض مشتركة بين المتحاورين حول هذه المشكلة التي هي — بلا جدال — أكبر هموم العقل العربي في وقتنا الحاضر.
(١) ما هي الثَّقافة؟
- (١)
الثَّقافة كما يستخدمها علماء الاجتماع، ويمكن تعريفها بأنها: «ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة، والاعتقاد، والفن، والقانون، والأخلاق، والعرف، وأية قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان بوصفه فردًا في المجتمع.» ويقترب من ذلك التعريف الوارد في قاموس أكسفورد من أنها «الاتجاهات والقيم السائدة في مجتمع معين، كما تعبر عنها الرموز اللغوية والأساطير والطقوس وأساليب الحياة ومؤسسات المجتمع التعليمية والدينية والسياسية.»
- (٢) الثَّقافة بالمعنى الإنساني الرفيع، ويمكن تعريفها بأنها: صقل الذهن والذوق والسلوك وتنميته وتهذيبه، أو بأنها ما ينتجه العقل أو الخيال البشري لتحقيق هذا الهدف، ويُلاحَظ أن هذا المعنى يرتبط بالأصل اللغوي لكلمة Culture في اللغات الأجنبيَّة، وهي كلمة تعني تعهد النبات وحرثه ورعايته حتى يثمر، (منها جاءت كلمة زراعة Agriculture)، بل إنَّه يرتبط بهذا المعنى نفسه في اللغة العربيَّة، لأنَّ الأصل «ثقف» يحمل معنى التَّهذيب والصقل والإعداد، وهنا تكون الثَّقافة عمليَّة رعاية وإعداد مستمر للعقل والروح البشرية، أمَّا معناها بوصفها منتجًا يُؤدِّي هذه الوظيفة، فلم تكتسبه إلا فيما بعد.
هل تختفي الثَّقافة؟
والمثل الأعلى للثقافة بهذا المعنى هو العلو إلى أقصى حد بالتكوين العقلي والروحي والأخلاقي للإنسان، وبطريقته في التفكير وتأمل العالم وتذوقه، أي أن تصبح الثَّقافة تكوينًا باطنًا، داخليًّا، تلقائيًّا في الإنسان، لا يعود معه محتاجًا إلى عون خارجي، وقد ذهب «هربرت ريد» إلى حد القول إنَّ المثل الأعلى للثَّقافة هو أن تختفي الثَّقافة، بمعنى أن تُصبح مُندمجة في شخصية الإنسان حتى دون أن تُعرَض على مسرح أو تُقدم في كتاب، ولا تعود الثَّقافة واعية، بل «صامتة» تكوِّن جزءًا من كيان الإنسان، ولكن هذا بطبيعة الحال شيء بعيد المنال، وقد عرضناه هنا لكي نوضح عن طريقه أكثر المعاني تطرُّفًا في فهم الثَّقافة، من حيث هي صقل وتهذيب للنفس البشرية.
وعلى أية حال، فلدينا الآن معنيان محدودان للثقافة، وعن طريق المقارنة بينهما يمكننا أن نُلقي مزيدًا من الضَّوء على كل منهما، وإدراك العلاقات وأوجه الاختلاف بينهما.
إن المعنى الأوَّل اجتماعي أو جمعي بطبيعته؛ لأن الثَّقافة هنا تُوصَف بأنها سمة للمجتمع نفسه «أو صفة لا يكتسبها الفرد إلا بحكم انتمائه لمجتمع معين»، ويكاد علماء الاجتماع يقولون إن الثَّقافة هي ما يميز الجماعة البشرية عن أي تجمع حيواني؛ لأن الإنسان وحده هو الذي يضع رموزًا وأنظمةً تنعكس عليها قيمه واتجاهاته، أمَّا المعنى الثَّاني فهو فردي بطبيعته؛ لأن عملية الصقل والتهذيب تتعلق بفرد معين، أو بمجموعة من الأفراد يتسم كل منهم بشخصية مستقلة، كما أن الناتج الثَّقافي، في معناه الرفيع، مرتبط ارتباطًا عُضويًّا بالفرد الذي أبدعه، على عكس الناتج العلمي الذي يفقد ارتباطه بشخصية مكتشفه بمجرد أن يشيع ويُعترَف به على نطاق واسع.
ومن ناحية أخرى، فإن الثَّقافة بالمعنى الذي يستخدمه الاجتماعيون تمثل الحد الذي يكتسبه الفرد بحكم انتمائه إلى المجتمع، فهي تمثل نقطة البداية في حياة الإنسان الواعية؛ لأن كل فرد يبدأ بقبول ثقافة مجتمعه، أي بقبول القيم والاتجاهات التي تسود في ذلك المجتمع عن طريق التنشئة الاجتماعيَّة، أمَّا الثَّقافة بالمعنى الثَّاني فتمثل الحد الأقصى الذي لا يصل إليه إلا القليلون، ومن هنا كانت نقطة نهاية، أو هدفًا يسعى الفرد طوال حياته إلى تحقيقه.
ومن ناحية ثالثة، فإن الثَّقافة بالمعنى الأوَّل بطيئة الحركة، تعتمد على التوارث الآلي، بل إنها تكاد تكون ساكنة راكدة، وبخاصة في المجتمعات التَّقليديَّة، أمَّا الثَّقافة الرفيعة، أو النواتج العليا للثقافة، فهي سريعة الحركة؛ لأنَّ قوامها هو صقل الذات وسعيها الدائم إلى التنقل إلى مستويات أعلى.
ويترتب على هذا كله فارق أخير هام، هو أنَّ الثَّقافة بالمعنى الأوَّل شاملة، تُوجد حيثما يوجد أي مجتمع إنساني، أي إنَّ أشدَّ المجتمعات بدائية له «ثقافة» بهذا المعنى، أمَّا في معناها الثَّاني فهي محدودة النطاق، انتقائية، لا يتسنى بلوغها إلَّا لنخبة مختارة.
هل هناك معنى ثالث؟
يمكن القول: إنَّ المعنيَيْن السابقَيْن هما اللذان يُستخدمان على أوسع نطاق، وتكشف المقارنة بينهما عن التباين الأساسي بين مفهومَيْن مختلفَيْن للثقافة، ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نتصور معنًى ثالثًا وسطًا بينهما، يمكننا أن نُطلق عليه اسم «الثَّقافة الشَّعبيَّة»، ففي بلد مثل مصر، على سبيل المثال، يمكننا أن نقول بثقافة شعبيَّة منتشرة على نطاق واسع، هي تلك التي يُعجَب فيها الإنسان المصري العادي مثل مسرحيات عادل إمام، وينصت لها بخشوع مثل أحاديث الشيخ شعراوي أو خُطَب الجُمَع للشيخ كشك، أو يتابعها مثل كتابات مصطفى محمود، أو يستمتع بها مثل غناء أحمد عدوية ورقص سهير زكي، وهذه الثَّقافة الشَّعبيَّة لها معنى مختلف عن الثَّقافة بالمعنى الاجتماعي؛ لأنَّها تتعلق بنواتج وأعمال ثقافية يقوم بها متخصصون، مهما كان مستواهم، وليست مقتصرة على القيم والعادات وأساليب التفكير التي يتلقاها المرء تلقائيًّا من المجتمع، ولكنها أيضًا مختلفة — كما يدل اسمها نفسه — عن الثَّقافة الرفيعة؛ لأنها تُرضي ذوقًا شعبيًّا واسع النطاق، وتتعلق بنواتج ثقافية تحتاج في إبداعها وتذوقها إلى جهد يقل كثيرًا عن الذي تحتاج إليه الثَّقافة الرفيعة.
وبطبيعة الحال، فإنَّ المثل الأعلى للثقافة، في أي مجتمع، هو إزالة الحد الفاصل بين الثَّقافة الرفيعة والثَّقافة الشَّعبيَّة، أو تخفيفه، بمعنى أن تكون هناك ثقافة عالية تقدم — على أوسع نطاق ممكن — لجماهير قادرة على تذوقها، ولكن هذا يفترض مجتمعًا أُزيلت منه الفوارق تمامًا، أمَّا في ظل الظروف الراهنة، فلا مفر من استمرار هذه الازدواجية، بحيث تكون الثَّقافة الرفيعة مقتصرة على القلة، وتوجد إلى جانبها ثقافة شعبية أوسع منها نطاقًا كثيرًا.
المثقف في كل مجتمع
والمثقف يمكن أن يكون هو المبدع أو المبتكر، ويمكن أن يكون هو المتذوق المتلقي الواعي لذلك الإبداع، ويُفترَض في المثقف، إذا كان متلقيًّا، أن يكون قادرًا على التمييز بين الإنتاج الرفيع والإنتاج الهابط، ولا يكون مثقفًا بالمعنى الصحيح إلا إذا اقتصر في تذوقه واستمتاعه على النوع الأوَّل فحسب.
(٢) ما هي الأزمة؟
-
أوَّلًا: للأزمة معنًى واسع، وفي هذا المعنى يمكن القول إن كل عصر من عصور
التاريخ كانت له أزمته الثَّقافية الخاصة، فمفهوم الأزمة يبدو
ملازمًا لمفهوم الثَّقافة؛ لأن الوعي الذي يتميز به المثقف يجعل
تفكيره خارجًا عن إطار ما هو متحقق بالفعل، بل إن المثقف كان في
معظم العصور خارجًا عن إطار القيم الشائعة، تطلُّعًا منه إلى عالم
أفضل، ومن هنا كان يبشر دائمًا بوجود أزمة.
هذه الأزمة مزدوجة بطبيعتها، فهي من جهة تعبر عن عجز الواقع عن مواكبة الفكر، وذلك لأن الفكر بطبيعته أكثر مرونة على التحرك في اتجاه المستقبل وتخطي الموجود بالفعل، وهكذا رأينا المفكرين والفنانين والأدباء في عصر النهضة الأوروبية مثلًا يتطلعون بإنتاجهم الثَّقافي إلى عصر جديد لم يكتمل تحققه إلا بعد قرنين على الأقل، ورأينا أدباء عصر التنوير وفلاسفته يسبقون الثورة الفرنسية قبل قيامها بعشرات السنين، ويمهدون العقول لتغيير حاسم يتجاوز بكثير إطار الواقع الذي يعيشون فيه.
ولكن الأزمة يمكن أن تعبر أيضًا عن معنى مضاد للمعنى السابق؛ إذ إنَّ الواقع قد يكون هو الأسرع تطوُّرًا من الفكر، بحيث يعجز الفكر عن مواكبته، وتتمثل هذه السمة الأخيرة في العصر الحديث بوجه خاص، وفي المجتمعات السريعة في التطور، ففي هذه الحالة نجد التغيرات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتقنية التي تطرأ على الواقع أسرع من التَّغيرات التي تطرأ على الفكر، ويكون تغيير البنية الاجتماعيَّة أسرع وربما أسهل من تغيير عقول النَّاس وقيمهم وأساليب تفكيرهم وسلوكهم، ونتيجة لهذا التعارض تتلاحق الأزمان الثَّقافية، وتتخذ في كل جيل شكلًا جديدًا، أو تُطرح من خلال مفاهيم جديدة، ولكنها تظل معبرة عن عجز الفكر عن ملاحقة واقع التطور.
المهم في الأمر أن مفهوم الأزمة ينتج عن التصادم بين الفكر والواقع، ويبدو أنه مفهوم ملازم للتطور الحضاري للإنسان، بل ربما كان علامة صحية تدل على يقظة الوعي الإنساني ورهافة إحساسه بالظروف المحيطة به.
-
ثانيًا: ولكن للأزمة أيضًا معنًى أضيق، فإذا كانت الأزمة بالمعنى السابق
ملازمة لكل المجتمعات البشرية، ولكل مراحل التَّطور التي مر بها
العقل الإنساني، فإنَّ هناك مفهومًا آخر أضيق نطاقًا، تكون فيه
الأزمة تعبيرًا عن مرض أو اختلال.
ذلك لأنَّ هناك حدًّا أدنى للشروط التي يمكن أن تزدهر فيها الثَّقافة، فإذا لم يتوافر هذا الحد الأدنى كانت هناك أزمة ثقافية من نوع غير صحي، ومثال ذلك أن تُفرض قيود شديدة على حرية التعبير بوجه عام، أو على حرية أصحاب اتجاهات فكرية معينة في التعبير عن أنفسهم، أو أن تُوكَّل أمور الثَّقافة إلى أشخاص جهلاء يتعمدون تخريبها أو نشر التفاهة أو إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، ومن الواضح أن جزءًا كبيرًا من أزمة الثَّقافة في وطننا الْعَربي وفي معظم بلاد العالم الثالث، ينتمي إلى النوع الأخير، ومن هنا كان هذا هو معنى «الأزمة» الذي نودُّ التركيز عليه.
محور القضية: الثَّقافة والسُّلطة
في ضوء هذه الفكرة — الأخيرة — يتبين لنا أن العلاقة بين الثَّقافة والسُّلطة هي التي تتحكم إلى حد بعيد في تحوير معالم الأزمة الثَّقافية في مناطق العالم التي ننتمي إليها؛ ذلك لأن السُّلطة هي المسئولة عن توفير أو تعكير الجو الذي تعيش فيه الثَّقافة، وعن تحقيق الشروط اللازمة لنموها أو وضع المعوقات في طريقها.
والواقع أن التأمل الدقيق في أزمة الثَّقافة في بلاد العالم الثالث، وأزمتها في البلاد المتقدمة صناعيًّا، يكشف عن اختلاف أساسي في طبيعة الأزمة في كلتا الحالتين.
أمَّا في العالم الثالث فإن المشكلة الحقيقية التي تواجهها الثَّقافة هي تحدي السُّلطة، لا تحدي العلم، وإن كان لا بُدَّ من الاعتراف بأن بعض المشكلات الفرعيَّة مترتبة على مواجهة الثَّقافة للعلم والتقنيَّة الحديثة، ولكي نفهم طبيعة المواجهة بين الثَّقافة والسُّلطة ينبغي علينا أن نحدد معاني «السُّلطة»؛ فالسُّلطة قد تكون سلطة العرف الشائع، أو سلطة الدين، أو سلطة الحكومة، وهذه الأنواع الثلاثة من السُّلطة تؤثر في الثَّقافة تأثيرًا سلبيًّا إذا استُخدمت بطريقة تعسفية غاشمة.
فسلطة العرف والتقاليد الشائعة يمكن أن تقمع الثَّقافة؛ لأن من طبيعة الإبداع الثَّقافي أن يكون في صراع مع القيم السائدة، لا عنادًا منه تجاهها أو مخالفةً متعمدةً لها، ولكن لأنه يتطلع إلى التغيير نحو الأفضل، بينما العرف يتسم بالثبات والمحافظة على الأوضاع الراهنة، بل والتعلق بالماضي ومحاولة تثبيته.
ولكن الصراع الأكبر للثقافة، في بلاد العالم الثالث، وفي الأقطار العربيَّة بصورة واضحة، هو صراعها مع السُّلطة الدينية وسلطة الحكومة.
أمَّا سلطة الحكومة فتظهر في بلاد العالم الثالث بوضوح؛ لأن معظم الأنظمة في هذه البلاد تسلطية تتدخل فيها الدولة لفرض رأيها على مختلف أشكال التعبير الثَّقافي، وتضع العراقيل أمام الأعمال الثَّقافية التي تتعارض مع اتجاهات الدولة، وفي الحالات التي تخضع فيها الثَّقافة لسلطة الحكومة مباشرة، عن طريق وجود مجالس أو هيئات مسيطرة عليها، أو تأميم مرافق إنتاج الثَّقافة ونشرها وأدائها، تُثار مشكلة الثَّقافة والسُّلطة بأكثر صورها حدة.
ويمكن القول إن مشكلة الثَّقافة والسُّلطة الدينية قد أُثيرت في الوطن الْعَربي منذ فجر النهضة الحديثة، أي منذ ظهور رواد الفكر الحديث وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم ومحمد عبده، ثم الجيل التالي الذي يمثله طه حسين وعلي عبد الرازق، وقد أثار هؤلاء جميعًا مشكلة التغيير الذي ينبغي أن يطرأ على فهمنا للدين من أجل مواجهة مطالب الحياة الحديثة، وتصدى لهم أنصار الاتجاهات التَّقليديَّة، ومنذ ذلك الحين استمرت المشكلة، متخذة في كل جيل أو في ظل كل نظام للحكم شكلًا مختلفًا، تبعًا لطبيعة الظروف السائدة، وما زالت المشكلة قائمة حتى اليوم، بل إنها اتخذت في السنوات الأخيرة شكلًا حادًّا، وأصبحت تمثل مظهرًا أساسيًّا من مظاهر الصراع الثَّقافي في بلادنا.
مشكلة النسبية في الحكم والتقييم
تؤدي بنا النقطة الأخيرة إلى إثارة مشكلة النسبية في الحكم والتقييم الثَّقافي؛ ذلك لأننا إذا كُنَّا قد تحدثنا عن أزمة المواجهة بين الثَّقافة والسُّلطة، وقلنا إن من أكبر مظاهر هذه الأزمة ترك مقاليد الثَّقافة لعقول متخلفة عاجزة تمامًا عن مخاطبة الأجيال الجديدة من الشَّباب المتطلع إلى التغيير والتقدم، فمن الممكن أن يُوجَّه إلينا اعتراض أساسي يقول: إن هذه أزمة من وجهة نظر نسبية فحسب؛ لأن أنصار هذه الاتجاهات المحافظة لا يعترفون بوجود أية أزمة، بل يرون أن العهد الذي يسيطرون فيه على الثَّقافة هو العهد الذي تزدهر فيه الثَّقافة بحق، وهكذا تُثار هنا مشكلة النسبية بحيث ينبغي علينا أن نتساءل: هل صحيح أن الثَّقافة تخضع لمعايير النسبية هذه، بحيث تكون الثَّقافة الواحدة مزدهرة في نظر بعضهم وهابطة في نظر آخرين، دون أن يكون لدينا وسيلة للمفاضلة بين الرأيَيْن، وبحيث تظل هذه مسألة «وجهة نظر» فحسب؟
- الأوَّل: هو أن القائلين بهذا النوع من النسبية الثَّقافية ينكرون وجود معايير موضوعية للمفاضلة بين الأعمال الثَّقافية، فهذا الرأي يؤدي إلى وضع روايات أجاثا كريستي على نفس مستوى دراما شيكسبير، وموسيقى «روك أندرول» على مستوى سيمفونيات بيتهوفن، على أساس أن الأولى تؤدي بالفعل إلى إمتاع أناس كثيرين يفضلونها على كل ما عداها، ولكن من الواضح أن هناك معايير موضوعية للمفاضلة بين الأعمال الثَّقافية التي قد تكون صعبة معقدة، لكنها موجودة، ولولاها لما جاز أن يُقال عن شيكسبير إنه كاتب أعظم من أجاثا كريستي، ولما استطاعت موسيقى بيتهوفن أن تخلد بينما تتبدل موسيقى الحانات سنة بعد أخرى.
- أمَّا الرد الثَّاني: فهو أن وجهة نظر القوى التي تسعى إلى تغيير المجتمع وتقدمه أقرب إلى التعبير عن حقيقة الثَّقافة من وجهة نظر القوى التي تدعو إلى تجميد عقله وفكره؛ لسبب بسيط هو أن من طبيعة المثقف — كما قلنا — أن يكون متطلعًا إلى الأمام، وأن يستخدم فكره وفنه في سبيل تحقيق صورة مستقبلية للمجتمع الإنساني، وقد أثبت تاريخ التطور الإنساني أن أعظم المثقفين على مرِّ العصور، كانوا هم الذين سبقوا أزمنتهم بإنتاجهم، ومهدوا الطريق لتطورات حاسمة في تاريخ البشرية.
وعلى أية حال، فإن الصراع بين الجانبين هو صراع حول نوع العقل المطلوب تكوينه، فأنصار الثَّقافة التَّقليديَّة يريدون عقلًا مطيعًا، خاضعًا، لا يتساءل ولا ينقد، ويخلط بين المشكلات الحقيقية والمشكلات الفرعية أو الشكلية لمجتمعه، بل إنهم يعطوننا أحيانًا انطباعًا مفاده أن العقل شيء غير مرغوب فيه، وليس مطلوبًا أصلًا، ومن هنا كان هناك أساس موضوعي للقول بأن الثَّقافة التي يدافعون عنها ثقافة هابطة ينبغي كشفها ووضعها في حجمها الحقيقي.
والخلاصة أنَّ البحث في أوضاع الثَّقافة العربيَّة يقتضي إبداء اهتمام كبير بنوع العقل الذي يُراد تكوينه للإنسان العربي، وهل هو عقل مشدود إلى الخلف، أو جامد في مكانه، أم عقل قادر على التطلع بأمل إلى مستقبل أفضل؟