أسطورتان عن الحاكم والأعوان١
ثمت أساطير ذاعت بين الناس، تعكس قدرًا كبيرًا من قصور الوعي السياسي، وتكشف بوضوح عن نسيان الإنسان العادي لأبسط مبادئ الديمقراطية، من هذه الأساطير اثنتان، هما:
(١) أسطورة الحاكم الذي لا يَعْرِف
في مشهد من فيلم «نيكولاس وألكسندرا» يتوجه العمال التعساء إلى مقر قيصر روسيا، في مسيرة سلمية أقنعهم بها قسيس يكره العنف، وهم يحملون عريضة يشكون بها إلى الحاكم سوء أحوالهم، ويسير الموكب في هدوء، وعلى رأسه القس الذي يصيح طوال الوقت: «إنَّا أتيناكم مسالمين.» وفي الطرف الآخر يقف الجنود ببنادقهم، وعند نقطة معينة يطلقون النار فجأة على المسيرة السلمية، وبذلك وقعت «مذبحة قصر الشتاء» الشهيرة في عام ١٩٠٤م.
وفي نهاية المشهد وقف القس المشدوه يرقب القتلى والدماء الغزيرة ويصيح: «نيكولاس، أيها السفاح الشرير!» وننتقل بعد ذلك مباشرة إلى مشهد آخر في القصر، حيث تجد القيصر واقفًا يسأل رئيس وزرائه بكل غضب: «لماذا لم تقولوا لي؟ من الذي أمر بإطلاق النار؟ لماذا قتلتم الناس؟ من المسئول عن هذه المذبحة؟» فيُجيب رئيس الوزراء بحكمة: «هل كنت ستستجيب لمطالب هؤلاء الناس لو وصلوا إليك؟» وعندما يأتيه الرد — كما هو متوقع — بالنفي، يقول: «وبعد ذلك تسأل من المسئول؟»
في هذه اللقطات تُعرَض علينا مشكلة أساسيَّة في الحكم الفردي الدكتاتوري من زواياها الثلاث: (١) الشعب ينظر إلى الحاكم على أنه طاغية، (٢) أمَّا الحاكم فيرى نفسه بريئًا؛ لأنه لم يكن يعرف، ويلقي اللوم على المحيطين به، (٣) وأخيرًا فإن صوت الحكمة يقول إن الحاكم — بمبادئه وأساليبه في الحكم — هو المسئول الحقيقي، بغض النظر عن التفاصيل، وعمَّن يكون المذنب عند ارتكاب هذا الخطأ الجزئي أو ذاك.
في بلاد العالم الثالث، حيث الحكم الفردي هو القاعدة العامة التي لا توجد لها إلا استثناءات قليلة، تنتشر أسطورة «الحاكم الذي لا يعرف»، وفي أغلب الأحيان يروجها النظام نفسه، أو المتعاطفون معه، كما أن الحاكم عينه قد يلجأ إليها في نهاية المطاف، حين لا يعود في الإمكان كتمان فضائح مالية، أو جرائم لا إنسانية، أو تصرفات قمعية إرهابية، عندئذٍ تعلو الأصوات قائلة: إن الحاكم نفسه رجل رحيم، تجيش نفسه بالإنسانية والوطنية وحب العدل، ولا يفكر إلا في مصلحة شعبه، ولكن العيب كله في المحيطين به، وعادة يُصَوَّر هؤلاء المحيطون بأنهم — في غالبيتهم — مجموعة من الأشرار الذين لا يكتفون بارتكاب جرائمهم، بل يخفونها عن الحاكم، ويصوِّرون له الأحوال دائمًا بصورة وردية، وما داموا هم وحدهم الذين يستطيعون الوصول إلى الحاكم، فإن هذا الأخير يظل على غير علم بممارستهم التي تشوه صورته أمام الناس دون قصد منه، وهكذا يُساء إلى الحاكم الإنسان نتيجة لشرور الأعوان.
وتنتشر أسطورة «الحاكم الذي لا يعرف» عندما يضطر أنصار الحاكم الفرد إلى الاعتراف بوجود تناقض صارخ في تصرفاته، ويعجزون عن تفسير هذا التناقض، فهو من جهة يبدو حاكمًا وطنيًّا صامدًا في وجه أعداء الوطن، يتبع سياسة تستهدف مصالح «الشعب»، وخاصة فئاته الكادحة، ولكنه من جهة أخرى يسجن بلا حساب، ويعتقل بلا دليل، ويقمع كل معارض، ولا يسمح لصوت بأن يرتفع إلا صوته وصوت أذنابه، أي إنه — باختصار — يقضي على أي تأثير ممكن لإنجازاته الإيجابية عن طريق فرض هذه الإنجازات على الناس من أعلى، بدلًا من أن يدعها تنبثق من رأيهم الحر وتجد لنفسها الحماية والرعاية في ظل موافقتهم واقتناعهم.
فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ إن النصير المتحمس للحاكم الفرد لا يجد وسيلة للتفسير سوى أن يلجأ إلى «أسطورة الحاكم الذي لا يعرف»، فيؤكد أن الإيجابيات من صنعه هو، أمَّا السلبيات فمن صنع المحيطين به، وهو لا يعلم عنها شيئًا، ولو كان يعلم لما سمح بها، وعلى هذا النحو يظل النصير المتحمس محتفظًا بمثله الأعلى نقيًّا من كل شائبة، بينما يعزو إلى غيره كل الآثام والنقائض والانحرافات، وتظل صورة الحاكم الفرد — في نظر معبوده — أشبه بإله لا يصدر عنه إلا الخير بينما الشر كله من صنع «الشيطان».
وربما حُوِّرَت الأسطورة قليلًا، فلا يعود الحاكم هو الذي «لا يعرف»، بل يُصبح هو الذي «لا يقدر»، وفي هذه الصيغة المعدلة، تكون رغبة الحاكم أيضًا متجهة دائمًا إلى الخير، غير أن الذين يحيطون به يفرضون عليه إجراءات ظالمة لا يكون هو نفسه راضيًا عنها، ولكن لا مفر من ذلك من أجل مراعاة «توازن القوى» في الحكم، وضمان إرضاء كافة الأطراف ذات الوزن بين الفئة الحاكمة، حتى تسير الدفة بأكبر قدرٍ ممكن من الهدوء والانسياب، وهكذا يضطر الحاكم، برغم قوته وجبروته إلى توزيع بعض سلطاته على الأعوان الذين يملكون بدورهم قدرًا من القوة، ويترك لكلٍّ منهم الحرية في «قطاعه» الخاص، فإذا أساء أحدهم التصرف فإن الحاكم لا يمكن أن يكون مسئولًا عما فعل، بل هو مضطر إلى المُضي في «لعبة التوازن» بلا توقف؛ لأن سلامة الحكم وتماسكه تحتم ذلك.
(٢) أسطورة الحاكم الذي لا يتنازل
في مقابل هذه الأسطورة تظهر في بلاد العالم الثالث — وضمنها بلادنا العربيَّة بالطبع — أسطورة أخرى تسير في الاتجاه المضاد، ولكنها تنطوي في نهاية المطاف على نفس الآفات التي تكشف عنها الأسطورة السابقة، والهدف هذه المرة ليس الدفاع عن الحاكم المطلق عن طريقة نسبة كل أخطائه إلى الأعوان، وإنما هو الدفاع عن هؤلاء الأعوان عن طريق تأكيد أن الحاكم لم يترك لهم شيئًا يتنازل عنه، فالحاكم هنا هو الذي يمسك زمام كل شيء، والتابع — حتى لو كان الرجل الثَّاني — لا يملك إلا أن ينظر إلى ما يحدث في صمت؛ لأن رأيه غير مطلوب، وإذا طُلب فهو غير مسموع، فإذا سألت هذا التابع: ألا ترى كل هذه المظالم؟ ألست أنت أيضًا مسئولًا عنها؟ كان رده: إنني مغلوب على أمري، ﻓ «الرجل الكبير» هو الذي يفعل كل شيء، وما عليَّ إلا أن أرقب الأمور صامتًا.
هنا تُنسَب السلبيات كلها إلى الحاكم الذي تكون له قدرة كاملة ومعرفة شاملة، أمَّا الأعوان فإنهم عاجزون كل العجز، وحتى لو كانوا من الفضلاء، فإن محاربة الفساد تفوق طاقتهم؛ لأن القرارات كلها تصدر عن سلطة واحدة لا تترك لغيرها شيئًا، وواضح أن هذه الأسطورة تقلب اتجاه الأسطورة السابقة، ففي الحالة الأولى كان الحاكم هو الطرف الصالح دائمًا، على حين أن الفساد كله يأتي من الأعوان، وكان الحاكم لا يعلم عن السلبيات شيئًا، بينما الأعوان يعرفون عنها كل شيء؛ لأنهم هم الذين يرتكبونها، وكأن الحاكم لا يهتم إلا بالعموميات والقرارات الحاسمة، ويترك التفاصيل للأعوان الذين يُسيئون استخدامها، أمَّا في الحالة الثَّانية فإن الحاكم وحده هو صاحب القرار وصاحب القدرة، وأقوى أعوانه لا يملك إلى جانبه شيئًا، ولا يستطيع أن يغير من الأمر كثيرًا أو قليلًا، حتى في التفاصيل والجزئيات.
ولكن الأمر الذي يدعو إلى الدهشة هو أن الأسطورتين، على الرغم من تناقضهما، كثيرًا ما تُطلقان على حاكم واحد، فأنصاره يروجون الأسطورة الأولى، وربما اعتنقوها عن إيمان، فيلتمسون له العذر عن أخطائه المنسوبة دائمًا إلى المحيطين به، وخصومه ينشرون الأسطورة الثَّانية، ويلتمسون العذر لأنفسهم؛ لأن الحاكم لم يكن يقبل «التنازل» عن شيء، فهل يُعقَل أن يكون الحاكم نفسه عارفًا بكل شيء، وغير عارف بالكثير؟ وهل يُعقَل أن يكون في آن واحد خيِّرًا وشريرًا، رحيمًا وطاغيًا، مشاركًا للغير ومستحوذًا على كل شيء؟
ولكن المشكلة الحقيقية في الأسطورتَين لا تكمن في تناقضهما فحسب، بل إنهما تمثلان وهمًا كبيرًا وقعت فيه شعوبنا وما زالت مُعرَّضة للوقوع فيه، والأدهى من ذلك أن الأسطورتين أصبحتا تُقدمان وكأنهما من طبائع الأشياء، ومن ضرورات السياسة، وتُرَدَّدان وكأنهما محاولة لتفسير ظواهر تبدو غير قابلة للتفسير على أيِّ نحو آخر، وأعني بها:
كيف يكون الحاكم وطنيًّا وطاغيةً في نفس الوقت؟ وكيف يكون التابع فاضلًا وشاهدًا على الظلم؟
ولكن، هل تستطيع الأسطورتان — حقًّا — تفسير أي شيء؟
(٣) تبديد الوهم
لقد أطلقنا اسم «الأسطورة» على هذه التفسيرات التي تشيع في نظم الحكم الفردي التسلطية؛ لأنها لا تعدو بالفعل أن تكون وهمًا كبيرًا تسلط على العقول وشوه نظرتها إلى عملية الحكم وعلاقة الحاكم بأعوانه وبالمجتمع الذي يحكمه، فنحن نخدع أنفسنا ونكشف عن قصور تفكيرنا في كل مرة نبرر فيها أخطاء الحاكم بأنها وقعت؛ لأنه لم يكن يعرف، ونحصر مسئولية الأخطاء في التابعين والمعاونين، أو نلتمس فيها العذر لتابع الحاكم على أساس أنه كان مغلول اليد، ونحصر مسئولية الأخطاء في الحاكم الفرد الذي لا يتنازل عن شيء.
إن أبسط تفكير يقنعنا بأن الحاكم الإنسان الوطني الرحيم الذي تحيط به مجموعة من الأشرار، إنما هو خرافة لا مكان لها إلا في عقول السذج، فالحاكم الذي يكون في هذا النمط من الحكم فرديًّا متسلِّطًا هو الذي يختار معاونيه، وهو الذي يملك قدرة تغييرهم، ولولا أنه يرتاح لعملهم ولأسلوبهم في التعاون معه لما بقوا في مناصبهم لحظة واحدة، ومعاونوه هؤلاء إمَّا أن يكونوا على شاكلته، وإمَّا أن يكونوا مكملين له في عملية توزيع للأدوار يعهد فيها إليهم بالأعمال التي لا تتناسب مع مكانته أو مشاغله، وبالصورة التي يتخيلها بعضهم، في أنظمة الحكم التسلطية، عن حاكم خير يحيط به معاونون أشرار هي — ببساطة — صورة تتنافر أجزاؤها ويستحيل أن تتجمع عناصرها، إذ إن السُّلطة المطلقة للحاكم تحتم عليه ألا يعمل إلا من خلال أشباهه أو المتكاملين معه، ولو جاز للمرء أن يحور كلمات حكمة شائعة، لهتف في هذا الصدد: «قل لي من يعاونوك، أقل لك من أنت!»
والنظرة الواقعية إلى الأمور تثبت أن الحاكم المتسلط كثيرًا «ما يعرف» كل شيء عن معاونيه المحيطين به، وعن جرائمهم التي تُسَمَّى في لغتنا التي أعادت التهذيب المنافق «انحرافات» أو حتى «تجاوزات»، ولكنه يغض الطرف عنهم ما داموا يسايرونه ويخدمون أهدافه، أمَّا إذا خالفوا أوامره، فإن الملفات المحفوظة تخرج من الأدراج، وتبدأ الفضائح، وهكذا فإن الحاكم هنا «يعرف»، ولكنه لا يستخدم معرفته لمنع الضرر عن الشعب، بل يوظفها من أجل تحقيق مصالحه الخاصة في نهاية الأمر.
ولكن لنفرض جدلًا أنه لم يكن يعرف، فهل يعفيه هذا من المسئولية؟ هذا هو السؤال الأكبر الذي يُجيب عنه التفكير السياسي الساذج بالإيجاب، ولكن حقيقة الأمر هي أن الحاكم مسئول عن عدم معرفته؛ ومِنْ ثَمَّ فهو مسئول عن كل ما يترتب على ذلك من أضرار.
إن نظم الحكم التسلطية تضع أساليب لتوصيل المعلومات إلى الحاكم بأوضاع البلاد، لا تتم إلا من خلال تقارير المعاونين والمحيطين، والأجهزة السرية والأمنية، وهكذا يقضي النظام الفردي الدكتاتوري على الحاكم بأن يعيش حبيس جدران إرهابه، وهي جدران صمَّاء، نوافذها الوحيدة التي توصلها إلى العالم الرحب الفسيح هي التقارير السرية التي يضعها المعاونون، هذا هو النظام الذي وضعه هو وارتضاه، وارتاح إلى العمل به، ومِنْ ثَمَّ فهو مسئول عما يترتب عليه مسئولية كاملة، ولقد كان في وسعه — لو شاء — أن يفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها، عن طريق السماح بحرية الكلام والنقد والمعارضة، وعندئذٍ يستطيع أن «يعرف» كل ما يدور حوله بالطرقات والقنوات الطبيعية، من صحافة حرة واجتماعات حزبية ولقاءات، ولكنه اختار المعرفة الشوهاء بمحض إرادته، فكيف ندافع عنه بعد ذلك بحجة أنه لم يكن يعرف؟
هل سمعتم يومًا عن حاكم لدولة ديمقراطية اعتذر عن أخطاء حدثت في حكمه على أساس أنه لم يكن يعرف؟ وهل سمعتم عن شعب في دولة ديمقراطية اقتنع يومًا بمثل هذا العذر؟ إن النظام الديمقراطي يفترض في الحاكم أن يعرف، وأن يضع من ضمانات الحرية ومن نظم توصيل المعلومات ما يضمن له معرفة طبيعية منظمة بما يدور حوله من إيجابيات وسلبيات، فإذا تبين يومًا ما أن تقصيره في معرفة ما يحدث قد ترتبت عليه نتائج خطيرة، وجب عليه أن يتنحى على الفور ويترك الحكم لمن هو أقدر منه.
لقد قيل عن شاه إيران أنه لم يصدق ما كان يجري من مظاهرات عارمة في بلاده خلال الشهور الأخيرة من حكمه، وقيل إنه عندما سمع بوجود معارضة قوية أرسل خادمه العجوز ليستطلع ما يجري في الشوارع، بعد أن تزعزعت ثقته في التقارير التي كان يرفعها إليه «السافاك»، وحين قام بجولة بالطائرة الهليكوبتر ووجد في الشوارع مظاهرات عارمة، سأل طياره بدهشة: «هل هؤلاء الناس يتظاهرون ضدي؟» (انظر: محمد حسنين هيكل، «مدافع آيات الله»، المقال رقم ١١، جريدة الوطن الكويتية في ٢ / ١١ / ١٩٨١).
تأمل معي أيها القارئ، كم من الدلالات والعبر تُوجد في هذه السطور القليلة، قنوات التوصيل الطبيعية في نظر الحاكم الفرد هي تقارير أجهزة المخابرات (السافاك)، وإذا فقد الحاكم الثقة في هذه التقارير فإنه يرسل «خادمه العجوز» لكي يعرف من خلاله نبض الشارع، ومدى استياء الشعب، وإذا لم يفلح هذا ولا ذاك فإنه يطير بالهليكوبتر، رمز الاستعلاء، والنظر إلى الأرض التي يعيش عليها الناس نظرة فوقية مترفعة، تضمن عدم الاحتكاك بالجماهير أو الاقتراب من مشاعرهم اقترابًا مباشرًا، ومن سماء الهليكوبتر الأثيرية يحاول الحاكم الفرد أن يتأمل ما يحدث على الأرض، ولكنه يظل طوال الوقت «مُحلِّقًا»، تفصله عن أحاسيس الناس طبقات وطبقات.
وأخيرًا، وبعد سنوات طويلة من المعرفة المشوهة التي تأتي عن غير قنوات المعلومات الطبيعية، وبعد أن أفلت الزمام ووقع الحاكم الفرد في شراك أخطائه، يأتي السؤال المأساوي: «وهل كل هؤلاء يتظاهرون ضدي؟» إنه نفس سؤال القيصر «نيقولا» الذي بدأنا به هذا المقال: «لماذا لم تقولوا لي؟» وهو نفس سؤال كل حاكم متسلط يضع هو نفسه النظام الذي يحجب عنه معرفة الواقع ويمارس من خلاله كل ضروب القمع والإرهاب، وفي النهاية يتضح أنه كان يمارس طغيانه هذا على نفسه مثلما مارسه على الآخرين، وتنكشف الحقيقة بوضوح عندما يردد هو نفسه في النهاية — دائمًا في النهاية — أسطورة الحاكم الذي لا يعرف.
(٤) سلطة الفرد المطلقة
وعلى هذا النحو تنكشف طبيعة الصيغة الأخرى لهذه الأسطورة التي يكون فيها الحاكم عارفًا ولكنه «لا يقدر»؛ ذلك لأن الحاكم الفرد هو الذي ارتضى نظامًا من شأنه أن يكون الحكم صراعًا للقوي، يتحقق في نهايته توازن يفرض على الحاكم أن يُرْضِي هذه القوة بمركز للنفوذ، ويُسْكِت تلك القوة بالتغاضي عن جرائمها، ويُهَدِّئ قوة ثالثة بإعطائها حق التصرف في ميدانها بلا حساب. «النظام» الذي وضعه الحاكم هنا هو الذي جعل من الحكم غابة يتصارع فيها الوحوش، ولا يعيشون معًا في هدوء إلا لأن كُلًّا منهم قد أكل وشبع، فهل يحق لملك الوحوش في مثل هذه الحالة أن يعتذر أمام ضحايا الغابة بأنه كان يعرف وحشية النمور والفهود، ولكنه كان مضطرًّا إلى ترك الضحايا لها حتى تشبع وتهدأ وتدعه يحكم في سلام؟
أمَّا الأسطورة الأخرى، أسطورة التابع المغلوب على أمره، لأن الحاكم يمسك بيده زمام كل شيء ولا يريد أن يتنازل، فهي — بدورها — ظاهرة لا تقوم إلا في ظل نظام تسلطي يجعل من التابعين أذنابًا طائعين، أو شهودًا صامتين، وأبسط فهم لطبيعة المشاركة في عملية الحكم يقنعنا بأن التابع يظل مسئولًا، حتى لو كان يقف متفرجًا ولا يشارك في الجرائم أو الانحرافات، لمجرد أنه قبل البقاء في السُّلطة، ففي الأنظمة التي تعترف بسلطة الشعب، يتعين على المرءوس — وبخاصة إذا كان في موقع المسئولية — أن يتخلى عن مكانه فورًا إذا لم يقتنع بممارسات رئيسه.
لقد لجأ المحيطون بهتلر جميعًا — في محاكمات نورمبرج التي أُجريت بعد الحرب العالميَّة الثَّانية واندحار النازية — إلى أسطورة «الحاكم الذي لا يتنازل»، ودافعوا عن أنفسهم بأن هتلر كان يتخذ كافة القرارات، ولم يكن لهم سوى التنفيذ، ولكن المحكمة — وهي محكمة ضمير عالمية — أدانتهم، وقضت على رءوسهم بالإعدام؛ لأن مجرد قبول المشاركة في حكمٍ ما يعني الموافقة على جميع ممارساته.
إن الأسطورتين — برغم تناقضهما الظاهري — تفترضان أن الحاكم يمارس حكمه بسلطة فردية مطلقة، عن طريق اختياره للأعوان ولأساليب توصيل المعلومات في الحالة الأولى، وإمَّا عن طريق إمساك كل الخيوط في يديه مباشرةً في الحالة الثَّانية. وأقل وعي سياسي، وأبسط فهم لطبيعة المشاركة في الحكم، يحتم علينا أن نكف عن التماس العذر للحاكم الفرد بحجة أنه لم يكن يعرف الأخطاء، وأن المحيطين به هم الذين ارتكبوها، أو تبرير سلسلة التابع بحجة أن الحاكم كان يرفض أن يتنازل عن شيء.
إن ذيوع هذه الأساطير، بين جموع شعبية هائلة، إنما يعكس قصور الوعي السياسي الذي هو حصيلة عقود غير قليلة من الحكم الفردي التسلطي، وهو يكشف بوضوح عن نسيان الإنسان العادي، في أحيان كثيرة، لأبسط مبادئ الديمقراطية، ومعنى مسئولية الحكم، وهو نسيان لا يمكن أن يُعد هذا الإنسان نفسه مسئولًا عنه، وإنما هو نتيجة تربية سياسية تراكمت أخطاؤها على مدى عشرات السنين.