محاولة لفهم العقل العربي١
أسوأ أنواع الذم ذلك الذي يتظاهر بالمدح، وأشد ضروب الكراهية هو ذلك الذي يتخفى وراء قناع من الحب؛ ذلك لأنَّ من يذمك أو يكرهك بصورة صريحة مباشرة، يُثير فيك ردود أفعال محددة تتيح لك أن تتعامل معه كما ينبغي أن يكون التعامل، أمَّا ذلك الذي يدَّعي أنه يمدحك أو يحبك، ويكون هدفه المتواري وراء هذا القناع عكس ما يدَّعي، فإنه يتركك حائرًا، لا تعرف كيف تتعامل معه، حتى لتتصور أنك ربما كنت تتصف بالفعل بتلك الصفات المذمومة أو المكروهة، ما دام ذلك الذي ينبهك إليها شخص يحبك ويتعاطف معك.
أمامي كتاب عن العرب ألَّفه كاتب إنجليزي اسمه «جون لافين»، وجعل عنوانه الرئيسي «العقل الْعَربي تحت الفحص»، أمَّا عنوانه الفرعي الذي ينبغي أن نتنبه إليه جَيِّدًا فهو «الحاجة إلى الفهم»، هذا العنوان الفرعي يعني أنَّ الكتاب موجه أساسًا لقراء من غير العرب، ويهدف إلى مساعدة هؤلاء القراء على فهم العقل الْعَربي على نحو أفضل، وسوف يتبين لنا أن المؤلف كان يرسم خطة متعمدة لها هدف عكسي تمامًا، وأنه لم يترك فرصة للتشويه والتَّضليل إلا واستغلها إلى أقصى حد.
والمشكلة التي تدعو القارئ إلى التفكير فيها، من وراء هذا كله، هي: إلى أي حد يستطيع هؤلاء الناس أن يخرجوا من قوقعة عقليتهم ومصالحهم الخاصة لكي يفهمونا؟ وهل يمكنهم أن يخططوا سياستهم تجاهنا في المجالات المختلفة تخطيطًا سليمًا إذا كانوا يسيئون فهمنا إلى هذا الحد؟
في أول الأمر يبدو كل شيء طبيعيًّا، فالمؤلف الذي يدعو إلى فهم صحيح للعرب ويتخذ في أول فصول كتابه موقف التعاطف الواضح معهم، ومظهر هذا التعاطف هو رأيه القائل إن التاريخ قد «انقلب» على العرب، أي إن التاريخ بعد أن كان يسير لصالحهم تحول إلى اتجاه معاكس منذ قرون عدة، فبعد حضارة مجيدة في العصور الوسطى أصبح حاضرهم مظلمًا، وهكذا يعترف المؤلف بعظمة الحضارة العربيَّة في أول عهود الإسلام، ويصف بإسهاب تسامح الحكم الْعَربي في إسبانيا، الذي أدى إلى دخول الإسبان في الإسلام بأعداد كبيرة، كما يتحدث عن الأثر الثَّقافي والاجتماعي والاقتصادي الهائل الذي تركه العرب في أوروبا من خلال اتصالات حدثت في جهات متعددة، أهمها شبه الجزيرة الإيبيرية، ويشير إلى ذلك الإنجاز الهائل الذي حققه العرب لأول مرة في التاريخ، وهو توحيد أقاليم تمتد من حدود الصين شرقًا حتى فرنسا غربًا، وتكوين مجتمع واحد من ثقافات كانت من قبل متصارعة، هي ثقافات البحر المتوسط والشرقَيْن الأدنى والأوسط.
فقد وصل الإسلام إلى الصين في أقصى الشرق، كما امتدت العلاقات التجارية العربيَّة حتى وصلت إلى السويد ودول البلطيق شمالًا وغربًا، وكانت الثَّقافة العربيَّة في إسبانيا منبعًا هائلًا ظلت أوروبا الغربية كلها تنهل منه زمنًا طويلًا، وهكذا فإن العرب كانوا «شعبًا فخورًا نبيلًا … كان في عصره أرفع ثقافة من شعوب أوروبا الغربية، وكانت لديه قدرات الإغريق والرومان.»
على أن هذه البداية التي تبدو متعاطفة، سرعان ما تنقلب إلى أحكام متسرعة شديدة القسوة على العقل الْعَربي والثَّقافة العربيَّة وكل ما ينتمي إلى حاضر العرب بأية صلة، وأغلب الظن أن هذا التعاطف الأوَّل كان يهدف إلى تغطية الحملة الشعواء التي أعقبته، بحيث يكتسب الكتاب في نظر القارئ الذي يفتقر إلى الوعي الكافي مظهر الموضوعية، وتصبح الأحكام القاسية التي ستظهر فيما بعد أكثر قابلية للتصديق، أي إن المدح هاهنا يهدف في النهاية إلى زيادة فعالية الذم، وعلى أية حال، فلا ضير على الإطلاق، بالنسبة إلى كاتب متحامل على العرب، من أن يمتدح ماضيهم، ما دام هذا يساعده على تحقيق هدفه الحقيقي، وهو الحط من شأنهم في حاضرهم.
(١) هذه مصادره
لكن ما مدى معرفة هذا السيد الإنجليزي بالعرب، وما المصادر التي اعتمد عليها لكي يؤلف عنهم كتابًا، بل أكثر من كتاب؟ إن مصادره حسب أقواله هي زيارات لمعظم البلاد العربيَّة على مَدًى يزيد على العشرين عامًا، وصداقات مع عدد كبير من العرب، وهي صداقات نستطيع أن نعرف مدى «إخلاصها» من عبارات أوردها في كتابه، مثل: «شاركت في مآدب سخية مع البدو، ولم أخبرهم أبدًا بعجزي عن هضم طعامهم، ودخلت في مناقشات لا حد لها، وسمعت أبشع الأكاذيب؛ لأن لدى الْعَربي أنواعًا متعددة من الحقيقة …» ومن مصادره الهامة مقابلات أجراها مع كثير من العرب، كان أشهرهم الرئيس جمال عبد الناصر، «وكان ألعنهم (على حد تعبيره) قتلة شبان عرب في معسكر تدريب إرهابي في المنطقة التي تسيطر عليها منظمة فتح بلبنان.» وقد اعتمد كثيرًا على كتابات الباحثين العرب المهاجرين إلى أمريكا، وكان يختار منهم في بعض الأحيان أسوأهم، لكنه يرى على أية حال أن أحسن من يعرف العرب، وأفضل من يعتمد عليهم في ميدان المصادر الأكاديمية، هم العلماء الإسرائيليون المتخصصون في الشئون العربيَّة في جامعات القدس وحيفا وتل أبيب.
من هذه المصادر استمد المؤلف معرفته عن العرب، وبفضلها وصفه ناشرو الكتاب بأنه «اكتسب شهرة كلا الجانبين (الْعَربي والإسرائيلي)، بأنه كاتب موضوعي»، وقال هو عن نفسه: «أقسم بشرفي الإنجليزي أنني قلت الحقيقة عن مجتمعهم (مجتمع العرب).»
فلنتأمل إذن نماذج لهذه «الموضوعية» التي يُقال: إنَّ (جون لافين) اشتهر بها عند الطرفين، ولنعرض بعض عناصر تلك «الحقيقة» التي قاده إليها «شرفه الإنجليزي».
(٢) العنف عند العرب
وهكذا يتحدث المؤلف عن العنف كما لو كان صلاة أو عبادة عند العرب، ويقدم أوصافًا مسهبةً لما يسميه بالفظائع التي ارتكبها العرب مع الجنود الفرنسيين الذين وقعوا أسرى في أيديهم في شمال أفريقيا كما يصف بأسلوب التشنيع ما يسميه ﺑ «التعذيب» الذي تعرض له الأسرى الإسرائيليون على أيدي المصريين في حرب أكتوبر ١٩٧٣م، ويعتمد في وصفه لهذه الوقائع الأخيرة على مصدر يكاد يكون واحدًا، هو رواية طبيب كندي يعمل في مستشفى تل أبيب!
والأمر العجيب حقًّا هو أن يصل التحامل وانعدام الموضوعية بكاتب يقدم نفسه على أنه «خبير» في شئون الشرق الأوسط، إلى حد نسيان بديهيات أولية يعرفها رجل الشارع العادي، فالعالم كله يعرف أن الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا قد ارتكب، طوال أكثر من قرن وربع قرن، من الفظائع ما لا تُقاس إلى جانبه أية أعمال عنف يقوم بها المحاربون، بل يعرف أن ظاهرة الاستعمار نفسها هي عمل ينطوي على إهدار للآدمية أشد مما تنطوي عليه أية عملية تعذيب عسكرية، كما يعرف العالم كله أن فنون التعذيب قد وصلت على أيدي الطرف الفرنسي في حرب التحرير بشمال أفريقيا إلى مستوًى بلغت فظاعته حدًّا أدى إلى انقسام خطير في الرأي العام الفرنسي نفسه، وإلى ثورة قطاعات واسعة من الشعب الفرنسي على حكومته، ويعرف العالم أن عنف رجال الكومندوز الإسرائيليين في غاراتهم على مواقع مصرية مُختارة قبل عام ١٩٧٣م، كان من نوع نادر المثال، وأن التعذيب الإسرائيلي للمسجونين السياسيين (ولا أقول لأسرى الحرب) حقيقة واقعة شهدت بها أكثر من هيئة دولية، ولكن المثقف الغربي «الموضوعي» ينسى هذا كله، ويُلصق بالعرب وحدهم صفة العنف والقسوة، مؤكِّدًا أن هذه الصفات تضرب بجذورها في أعماق التاريخ الْعَربي على الأخص.
ولو كان لديه أدنى حس تاريخي وأقل قدر من النزاهة الفكرية لما أجهد نفسه في العودة إلى الوراء حتى عهد «الحشاشين»، إذ يكفيه أن يتذكر فظائع الإنسان الأبيض مع الزنوج في أمريكا وأفريقيا، أو مع الجنس الأصفر في فيتنام، أو حتى مع نظيره الأبيض في ألمانيا النازية.
على أن المؤلف لا ينجح على الإطلاق في إخفاء هدفه الحقيقي من إلصاق تهمة العنف بالعرب، بل إنه يصرح بهذا دون مواربة حين يعقد مقارنات مضللة بين العرب والإسرائيليين في هذا الميدان، فهو يخصص فصلًا كاملًا للحديث عن موقف العرب من إسرائيل، مؤكِّدًا أن الهدف الحقيقي للعرب هو «تصفية» إسرائيل وإبادتها.
ولكي يثبت ذلك يقتبس أقوالًا تنتمي كلها إلى الفترة السابقة لحرب أكتوبر، متجاهلًا التحول الجذري الذي حدث في موقف دول عربية كثيرة بعد هذه الحرب، ومن جهة أخرى فإن المؤلف هو نفسه الذي أشار في فصل سابق إلى ولع العرب بالبلاغة والألفاظ الرنانة والمبالغة الكلامية والكفاح بالخطب بدلًا من الجيوش، فعلى أي أساس إذن يأخذ المقتطفات التي أوردها من خطب بعض القادة العرب على أنها تعبير عن اتجاه ثابت لدى العرب نحو «إسرائيل»؟ ولماذا لم ينظر إليها — اتِّساقًا مع رأيه السابق — على أنها من قبيل المبالغة اللفظية، أو على أنها تصريحات ذات أهداف سياسية وقتية؟
إنَّ «أقوال» العرب التي تذهب إلى أن إبادة إسرائيل هي — على حد تعبيره — امتدت حتى حرب النبي ضد اليهود، وهي في رأيه الدليل القاطع على صدق أحكامه، أمَّا «أفعال» الإسرائيليين التي أدت إلى إبادة فعلية للعرب وتشريد فعلي لقطاع كبير منهم فلا تدل في نظره على شيء، وهو يصل إلى أقصى درجات المغالطة حين يقول: «إن يهود آسيا الصغرى، ومن بعدهم، لم يكونوا أبدًا ضد العرب، وعندما تحدثت إلى مئات من الجنود الإسرائيليين، لم أصادف إلا اثنين فقط — كانا من اليهود اليمنيين — هما اللذان يكرهان العرب.» وهكذا فإن الازدراء والتعالي الإسرائيلي تجاه العرب، الذي تجلى بوضوح حتى في تصريحات كبار الزعماء الإسرائيليين، يتحول على يديه إلى محبة وتسامح، أمَّا العرب فهم وحدهم الحاقدون!
وهكذا يتجاهل المؤلف حقائق لا تُنكَر، لكي يصور العرب وحدهم بأنهم ينزعون إلى العنف بطبيعتهم، ويحكم تراثهم وتاريخهم، ويقف ناشر الكتاب في صفة فيشير إلى هذه الظاهرة نفسها في غلاف الكتاب، قائلًا: «إن من أصعب جوانب الطبيعة العربيَّة فهمًا، ومن أهمها في نظر الغربيين، التجاء العرب الدائم إلى العنف.
فالغربي يقف مشدوهًا أمام العنف العربي، ولكن من الخطأ كما يؤكد المؤلف مرارًا في كتابه أن تُطبَّق القيم الحضارية الغربية على الوطن العربي.»
وبذلك تكتمل عملية تثبيت الزيف وتأكيده، فالقيم الحضارية الغربية قيم وداعة وسلام، أمَّا السلوك الْعَربي فهو عنيف إلى حد يستعصي معه على فهم الإنسان الغربي الوديع، ولا بُدَّ لهذا الإنسان الغربي من أن يتجرد من قيمه الرفيعة ويتركها جانبًا إذا أراد أن يفهم العنف العربي، الذي هو في حد ذاته ظاهرة متخلفة تستعصي على فهم والتبرير!
(٣) وكذابون أيضًا!
ويتصف العرب — في رأي جون لافين — بمجموعة من الصفات السلبية التي يقوم بعرضها دون أية محاولة لتقديم دليل حقيقي على وجودها، فالعرب كذابون بطبيعتهم، وهو في إثباته لهذه القضية العجيبة يلجأ إلى طريقة «شهد شاهد من أهله»، ولكن من هم «أهله» هؤلاء؟
في كثير المواضع يقتبس الكاتب أقوالًا لإنسانة من أصل عربي، لم أسمع عنها من قبل، اسمها: «سنية حمادي»، يُفهَم من كتابه أنَّها تعمل في التدريس وتعيش بالولايات المتحدة، ويبدو أنَّها متخصصة في إساءة فهم العرب أو في الحط من شأنهم، مع أنه يصفها بأنَّها: «واحدة من أعظم الثقات في السيكولوجية العربيَّة.» هذه الإنسانة تقول «عن قومها» على حد تعبيره: «لا بُدَّ للمرء لكي يعرف ما ينبغي توقعه من العرب وكيف يمكن التعامل معهم أن يفهم كسل العرب وافتقارهم إلى المثابرة والشعور بالمسئولية وإلى روح الفريق والتعاون والانضباط، وأن يعرف تسويفهم وكذبهم، فبالنسبة إلى الْعَربي يكون كل خطأ مباحًا، بشرط ألا يعرف عنه أحد، فالسِّرية تبيح كل أنواع السُّلوك، وتحرر المرء من أي تأنيب للضمير.» وهي في موضع آخر تزيد تأكيد مقصدها فتقول إن «الكذب عادة منتشرة بين العرب، الذين لا توجد لديهم إلا فكرة مشوهة عن الصدق»، وتصف ضميرهم بأنه يتسم «بمرونة ملحوظة».
ولكن المؤلف يحاول أن يأخذ مظهر المتفهم لتلك الصفة العربيَّة المرذولة، فيفسر كلامه قائلًا: «إن الْعَربي لا يعني ما يقول إلا في اللحظة التي يقول فيها، فهو ليس كذَّابًا بدافع الشر، وليس في العادة كذَّابًا متعمدًا، وإنما هو كذاب بطبعه»! وهو يفلسف فكرته فيقول: «بالنسبة إلى الْعَربي يمكن أن تكون هناك أكثر من حقيقة واحدة عن الشيء الواحد، تبعًا لنوع اللغة المستخدمة.»
والعرب حساسون إلى درجة الشعور بالإهانة حتى حين لا تكون مقصودة، «فإذا مددت يدك اليسرى نحو وجه شخص، وهو ما يمكن أن يفعله المرء بحركة غير مقصودة، فإن هذا يعني في نظر كثير من العرب أن عيونهم حسودة وأنك تستخدم يدك لكي تدفع أذاها.»
أمَّا نظرة العرب إلى النساء فيلخصها المؤلف بقوله: «إن الْعَربي خطر على النساء المنتميات إلى جنسيات أخرى، فكثير من الفتيات الغربيات اللاتي يعملن في شركات كبرى لها فروع في البلاد العربيَّة قد تعرضن لاعتداءات همجية واغتُصبن، ومن المستحيل على المرأة أن تسير ليلًا في طريق عام دون أن تتعرض لخطر داهم، بل إن قيادتها لسيارتها وحدها فيها صعوبة لا يُستهان بها …» والعرب يتَّسمون بإحساس كاذب بالوقار، يحول بينهم وبين الاستمتاع بالحياة: «إن الإحساس الحاد بالوقار يمنع معظم العرب من إظهار أي نوع من «الطيش»، ولذا فإن الضحك نادر، كما أن الْعَربي إنسان حزين.»
وآخر هذه النماذج التي اخترتها من أحكام هذا المؤلف على العرب تأكيده أن الْعَربي يفتقر إلى الشَّخصيَّة الفردية: «إذا كان هناك جانب واحد للشخصية العربيَّة يتفق عليه معظم الملاحظين، فهو أن الْعَربي ليس حتى الآن فردًا أو شخصًا بالمعنى الصحيح، فشخصيته قد انكمشت نتيجة لاعتماده على أسرته، ونظرًا إلى أنه لم يستقل عنها بعد، فإنه لا يعتمد على نفسه ولا يستطيع حل مشكلاته الخاصة، كما أنه لا يستطيع أن يفكر بنفسه أو يستخدم قدرته على التصرف المستقل، فاستقلال الذهن ليست له عنده قيمة خاصة.»
(٤) هذه الموضوعية المزعومة!
هذه الأحكام الاستفزازية التي لا شك في أنها أثارت غضب القارئ تعبر عن الروح العامة التي تسود الكتاب، وربما تساءل القارئ الغاضب، بعد هذا كله: ولماذا اخترت هذا الكتاب وفي هذا الوقت؟ ألا يكفي العرب ما هم فيه لكي تضيف إلى غضبهم غضبًا وإلى همهم همًّا؟
الحق أنني آثرت اختيار هذا الكتاب، لا للإثارة أو الاستفزاز، بل لأنه مثل صارخ نستطيع أن نستمد منه دروسًا بالغةَ القيمة في علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين.
أول هذه الدروس هو ضرورة مراجعة آرائنا عن الموضوعية المزعومة للكُتَّاب الغربيين، فنحن قد اعتدنا أن نحط من أنفسنا ونُعلي من قدر الباحثين الغربيين إلى حد تنزيههم عن الخطأ، ولكن حقيقة الأمر هي أن هؤلاء الباحثين يرتكبون — من آن لآخر — مغالطات متعمدة تنم عن افتقار شديد إلى الموضوعية، وتدعونا إلى مراجعة أنفسنا في تقديرنا الرفيع لهم، وليست مجموعة الأحكام التي عددتها عن هذا الكتاب إلا نموذجًا لنمط لا يمكن وصفه بأنه نادر بين هؤلاء الكُتَّاب.
فهو مثلًا حين يصف الْعَربي بالكذب ينسى أن مجموعة أحاديث السياسيين في بلاده، ووعود المرشحين في انتخابات أعرق البلاد «الديمقراطية» تشكل نموذجًا للكذب يندر أن نجد له نظيرًا، وحين يتحدث عن خطورة الْعَربي على النساء الأجنبيات، يغفل الحقائق التي يعرفها الجميع عن المجتمعات الغربية، والأمريكية بوجه خاص، حيث تحولت البيوت في المدن الكبرى إلى قلاع محصنة، وحيث تحوم المخاطر الجسيمة حول كل من يجازف بالسير في الشوارع بعد الغروب، سواء كان رجلًا أم امرأة، وننسى أن الأجنبيات هن أول من يعترفن بأن الإحساس بالأمان يزيد في المجتمعات العربيَّة عنه في المجتمعات الأصلية بكثير، وحين يتحدث عن حزن الْعَربي وعن امتناعه عن الضحك بدافع «الوقار»، ينسى أن المرح الشرقي صفة مشهورة، وأن علو الصوت في الضحك الصادر عن القلب من الصفات التي تميز الإنسان الْعَربي بوضوح.
وأخيرًا، فهو حين يأبى على الْعَربي أن تكون له شخصية فردية ينسى أنه هو نفسه القائل في موضع قريب أن الْعَربي ينطوي على نفسه وأن مركز اهتمامه يكمن في داخله، وأنه إذا خُوطب لا يستمع جَيِّدًا؛ لأنه «أكثر انشغالًا بنفسه من أن يستمع إليك»، وحين يعلل ذلك بأن اندماجه في الأسرة يقضي على استقلاله ينسى أن الاستقلال المفرط والمبكر عن الأسرة قد خلق للإنسان الغربي مشكلات اجتماعية ونفسية هائلة يشكو منها كل باحث منصف في نفس هذه البلاد، وأن التماسبشعار رجعي متحجر هوك والتكافل العائلي في المجتمعات العربيَّة من أبرز السمات التي يتحسر عليها زوار هذه المجتمعات من الأجانب.
وربما كان الأهم من هذا كله هو أن موضوعية الباحثين الغربيين تصبح موضع شك كبير حين نجدهم يتحدثون، بطريقة تعميمية متسرعة، عن «العربي» بوجه عام، فمن هو هذا «العربي» الذي يتحدثون عنه؟ إن الوطن العربي، مع كل عوامل الوحدة في داخله، يضم مجتمعات شديدة الاتساع والتباين، ومن ناحية أخرى فإن هذا الوطن يمر في الوقت الراهن بتغيرات اجتماعية وحضارية حاسمة، ففي هذا المجتمع تجد نماذج للحياة الحضرية، والحياة الريفية، والحياة القبلية، فضلًا عن أن الحدود بين أنماط الحياة هذه، وفي داخل النمط الواحد عينه، تمر في عصرنا الراهن بعمليات تغير مستمر، فالعصر الحالي يمثل مرحلة تحول هائل في حياة العرب وأنماط معيشتهم وتفكيرهم، وحسبنا دليلًا على ذلك أن نتأمل الفارق بين جيل الشَّباب وجيل الكبار في الدول النفطية مثلًا، وهكذا فإن عملية توحيد العرب وتثبيتهم في نمط حضاري وفكري واجتماعي واحد هي عملية تنطوي أساسًا على تزييف صارخ، فما بالك إذا كان هذا النمط تقليديًّا قديمًا، أو إذا كان هو ما يتوصل إليه أحد الكُتَّاب بناءً على انطباعات سطحية سريعة؟
(٥) موقفان على خطأ
إنَّ من الباحثين العرب من يترددون ألف مرة قبل أن يتحدثوا عن «الشَّخصيَّة القوميَّة» لشعب ما، وفي مقابل ذلك فإن هذا الباحث الإنجليزي، الذي يصفونه بالموضوعية والتعمق، لا يتردد في إصدار تعميمات كاسحة مستمدة — على الأرجح — من ملاحظات عابرة لم يحسن فهمها، ولا يتردد في تثبيت شعب يمر بأكبر عملية تحول في تاريخه، كما لو كان شعبًا من «الحفريات» أو «حالة» أنثروبولوجية يدرسها العقل الغربي باستعلاء باذلًا جهده من أجل إبراز الفوارق الأساسيَّة بين سماتها وبين السمات الغربية «المتحضرة»، ومع أنني لا أودُّ أن أتهم بنفس الخطأ الذي أعيبه عليه؛ لأنني أدرك جَيِّدًا أن أمثال هذه الأخطاء المنهجية لا تسري على كل ما يكتبه الغربيون عن العرب، فإني أودُّ أن أنبه قرائي إلى أن التقدير الزائد للموضوعية والنزاهة التي يتسم بها البحث العلمي الغربي كثيرًا ما يصطدم — في ميدان الأبحاث الإنسانية بوجه خاص — بنماذج مخيبة للآمال.
والدرس الثَّاني الذي أودُّ أن أخرج به من تقديمي لهذا الكتاب هو أن مؤلفه يفخر بصداقاته الحميمة مع عرب كثيرين، وهي صداقات امتدت خمسة وعشرين عامًا، ولكنه كان طوال الوقت يحتقر في قرارة نفسه أولئك الذين فتحوا له بيوتهم وقلوبهم، ولو لم يكن يحتقرهم لما أصدر عنهم أحكامًا كتلك التي أوردناها، وأنا لست على الإطلاق من أنصار العزلة أو الخوف المفرط من مخالطة الأجانب، ولكني لا أملك إلا أن أشعر بالأسى حين أذكر أن كاتبًا له مثل هذه العقلية المتعصبة قد تمكن من مقابلة زعماء عرب مخلصين من ذوي النوايا الطيبة، في الوقت الذي كان يضمر لهم فيه أسوأ النوايا.
أمَّا الدرس الثالث فمن مواطنينا المغتربين، ذلك أننا في علاقتنا بهم، قد مررنا بمرحلتين متطرفتين: كانت الأولى منهما مرحلة ارتياب مفرط، وقطع متعمد لكل الجسور التي تربطنا بهم، بينما كانت الثَّانية — وهي التي نمر بها الآن — مرحلة ثقة زائدة وإيمان مطلق بإخلاصهم، بل إحساس بأنهم يملكون كثيرًا من وسائل حل مشكلاتنا العلمية والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وفي اعتقادي أن الموقفين معًا على خطأ، فقطع الجسور ليس من الحكمة في شيء، ولكن الإيمان المفرط بإخلاص المغتربين فولاؤهم لأوطانهم هو بدوره تطرف ينبغي الحذر منه، والمثل الذي يتضمنه هذا الكتاب، أعني المسماة «سنية حمادي»، والتي تتغنى في الحط من شأن بني قومها بعبارات تفتقر لا إلى الولاء فحسب بل وإلى الدقة العلمية والمنهجية أيضًا. هذا المثل ليس الوحيد من نوعه، ففي أحيان غير قليلة يقسو المغترب على بني قومه أكثر مما ينبغي لكي يثبت لأهل بيئته الجديدة ولاءه و«موضوعيته» وأهليته للعيش في المجتمع الجديد، ويسايرهم في نظرتهم الاستعلائية إلى الشعوب الأخرى، وهناك من الغربيين من يزدادون ترحيبًا بالمغتربين وكتاباتهم كلما تطرف هؤلاء في تصوير غرابة أوطانهم الأصلية وتخلفها، وتأكيد التضاد بينهم وبين مجتمعاتهم الجديدة.
ولكن الأخطر من هذا في تلك الحالات التي يقوم فيها المغترب بتمثيل دور الولاء لوطنه الأصلي بعد أن يكون البلد الجديد قد طلب منه تمثيل هذا الدور من أجل تحقيق مصالحه الخاصة، وربما رسم البلد الجديد خطة متعمدة، تعمل فيها أجهزة الإعلام على تضخيم دور هذا المغترب وتصويره بأنه عالم فذ من نوع نادر، ثم «تُعيد تصديره» إلى بلده الأصلي، أو توثق روابطه بها، حتى يكتسب ثقة مواطنيه المطلقة، على حين يكون هدفه الحقيقي هو خدمة مصالح مجتمعه الجديد.
هذه حالات لا أقول إنها عامة، ولكنها موجودة وهي تستدعي مِنَّا الحذر والحيطة، ولا أقول العودة إلى عهد الارتياب المطلق، وتقتضي مِنَّا أن نفكر مليًّا قبل أن ننظر آليًّا إلى كل مغترب على أنه رصيد دائم لوطنه الأصلي.