لعبة السنة الكبيسة!١
في كل سنة «كبيسة» — والسنة الكبيسة كما يعلمها القارئ لا تقع إلا كل أربعة أعوام، وفي العام الذي يقبل القسمة على أربعة — تتكرر لعبة الانتخابات الرئاسية في أمريكا، ويحبس العالم أنفاسه — أول الأمر — في انتظار نتيجة الترشيح لكل من الحزبَيْن الديمقراطي والجمهوري، وتمتلئ شوارع الولايات المتحدة وجدرانها بصور «الحمار» و«الفيل»، وهما شعارا الحزبين العتيدين.
وحين يستقر الحزبان على مرشحَيْن، بعد معارك حامية ومساومات مضنية، تبدأ المعركة الحقيقية، والتصفية النهائية التي سيفوز الرابح فيها بالغنيمة الكبرى، ويصبح عن جدارة «أقوى رجل في العالم»، وخلال هذه المعركة يبدو العالم كله كما لو كان مُعلَّقًا أو مرتكزًا على رجل واحدة، ويتعطل كل شيء في انتظار «النتيجة»، وعندما تظهر تلك «النتيجة» تتغير أشياء لا حصر لها في العالم، خاصة إذا كان الفائز رئيسًا جديدًا، فالرئيس الجديد يحتاج إلى بداية جديدة، ومجموعة جديدة من المساعدين بعقليات مختلفة وأساليب مغايرة.
وهو حين يبدأ فترة جديدة يظل مُقيَّدًا طوال سنواته الأربع: فهو في السنة الأولى يدرس ويتعلم ويكتسب الخبرة، وفي السنة الثَّانية تجري الانتخابات النصفية للكونجرس، وعليه أن يعمل حسابًا لها في سياسته حتى يضمن انتخاب أعضاء جدد لا يعرفون سياسته، وفي السنة الثالثة تكون قد اقتربت فترة الترشيح الحزبي والاستعداد لمعركة السنة القادمة، وفي الفترة الثَّانية وحدها — لو أُعيد انتخابه — تبدأ شخصية الرئيس الحقيقية في الظهور، ويتخذ القرارات التي يودُّ أن يذكرها له التاريخ، وكل ذلك في حدود معينة بطبيعة الحال؛ لأنه يعلم أن هذه هي فرصته الأخيرة في ممارسة الحكم.
هذه اللعبة التي تجري كل سنة كبيسة، تُقدَّم إلينا كما لو كانت أروع نماذج الديمقراطية، ألا تتم الانتخابات دائمًا في موعدها المحدد، وتجري وفقًا لضوابط دستورية دقيقة؟ ألا تُتاح لكل مرشح فرصة كاملة لكي يعرض برنامجه على الناخبين، دون أي تمييز بين رئيس يمسك بزمام السُّلطة ومنافس يريد أن ينتزعها منه؟ أليس الناخب نفسه حُرًّا في الاختيار، بلا ضغط أو إرهاب أو تزييف في عملية الانتخاب أو في نتائجها؟ هل سمع أحد أن رئيسًا أمريكيًّا قد اقترب من نسبة (الخمس تسعات) التي هي نعمة ينفرد بها حكام العالم الثالث؟
هل شكا أحد من أن صندوقًا وُضع محل صندوق؟ أو أن عدد الموافقين أكبر من عدد الناخبين؟ أو أن ناخبين من الأموات قد قالوا «نعم»؟
ومع ذلك فإني أرى في الانتخابات الأمريكية مظهرًا لأزمة خطيرة في الديمقراطية، وأخطر ما في هذه الأزمة هو أن الأمور كلها تسير كما لو كان كل شيء على ما يُرام، والشكل الخارجي للعملية الانتخابية يوحي بأن كل شروط الحرية والاختيار السليم وتكافؤ الفرص قد استكملت، ومع ذلك فمن وراء هذا الشكل الخارجي السليم يكمن خلل أساسي، ويستطيع أي شخص يتعمق في تحليل الأحداث أن يلمح ممارسات لا صلة لها على الإطلاق بجوهر الديمقراطية كما ينبغي أن يكون.
(١) الدلالة السلبية أقوى
وحتى لا يكون حكمنا السابق حكمًا مجرَّدًا لا يقوم على دليل ملموس، لنبدأ بتحليل ما حدث في الانتخابات الأخيرة على الأخص، وهي ما زالت قريبة العهد، لكي ننتقل منها بعد ذلك إلى طبيعة العملية الانتخابية الأمريكية بوجه عام، وننتهي في صدى هذا كله على بلادنا، وما الذي ينبغي أن يكون عليه موقفنا من «هزة السنوات الأربع» التي تزلزل العالم في كل سنة تقبل القسمة على أربعة.
إن العالم كله يتحدث عن مفاجأة التحول الكاسح إلى اليمين في الانتخابات الأخيرة، ويرى في شخصية المرشح الذي فاز وفي ماضيه الذي كان حافلًا — منذ أن كان ممثلًا سينمائيًّا من الدرجة الثَّانية — بمظاهر اليمينية، يرى في ذلك دليلًا على أن مزاج الناخبين الأمريكيين قد تحول بصورة مفاجئة وعنيفة من «ليبرالية» الديمقراطيين إلى الجناح المحافظ من الجمهوريين، ومع ذلك فإني لا أعتقد أن نتائج الانتخابات الأخيرة تحمل هذه الدلالة، ولا أظن أنها تكشف عن تحول في أي اتجاه بعينه؛ ذلك لأن الانتخابات الأمريكية تعبر في رأيي عما لا يريده الناخبون أكثر مما تعبر عما يريدونه، فدلالتها السلبية أقوى في تصوري من دلالتها الإيجابية بما لا يُقاس، وحين نحلل نتائج أية انتخابات كهذه سوف نجد في دراسة سياسة المرشح الذي سقط معلومات أعظم فائدة بكثير مما نجده عند دراسة مبادئ المرشح الذين نجح.
ذلك أوَّلًا لأن مبادئ المرشح الناجح هي قبل كل شيء دعاية انتخابية لم تُتح لها بعد فرصة التحقق الفعلي، على حين أن سياسة المرشح الفاشل الذي كان رئيسًا لمدة أربعة أعوام كانت شيئًا واقعيًّا حدث بالفعل ولمس الجميع نتائجه، ومن جهة أخرى فقد كان الناخبون يعبرون — كما جاء في إحصاءات كثيرة نشرتها الصحف الأمريكية بعد الانتخابات — عن استيائهم من ممارسات الرئيس القديم أكثر مما يعبرون عن إعجابهم بالمبادئ التي يبشرهم بها المرشح الجديد.
(٢) رؤساء فاشلون
لقد ارتكب الرئيس الذي أسقطته الانتخابات مجموعة من الأخطاء أدت إلى إذلال الشعب الأمريكي بحق، ففي عهده سقط شاه إيران، وقيل إن من أسباب سقوطه إحجام الحكومة الأمريكية عن مساعدته عمدًا، ولم يثبت العهد الجديد في إيران حتى اللحظة الأخيرة أي ميل نحو أمريكا، بل على العكس احتجز كل من كانوا في سفارتها، أي احتجز رمز أمريكا نفسها أكثر من عام، وتخبطت ردود الفعل الأمريكية ما بين السلبية العاجزة والإيجابية الخائبة (في مغامرة صحراء «طبس» الفاشلة)، ولم تكن بوادر التسوية التي ظهرت قبل يومين من إجراء الانتخابات سوى دليل آخر على عجز الإدارة الأمريكية القائمة وسلبيتها، وفي عهده مرت البلاد بأكثر من أزمة نفطية، ووُزِّع هذا الوقود الحيوي في أحيانٍ كثيرة بالبطاقات، أمَّا القرارات الخاصة بالسياسة الخارجية، التي كانت تَصدُر ثم تُسحَب، فكانت علامة ضعف وتردد لا يتوقعه أحد من رئيس أقوى دولة في العالم، وعلى أية حال فإن هذا الرئيس، الذي جاء لينتشل بلاده من الانهيار الأخلاقي والفوضى السياسية، قد ترك بلاده في وضع أسوأ بكثير من ذلك الذي تسلمها فيه.
على أن كارتر لم يكن في الواقع سوى حلقة واحدة في سلسلة طويلة من الرؤساء الفاشلين أو المخيبين للآمال، والحق أننا لو استعرضنا تاريخ الرئاسات الأمريكية منذ الستينيات الأولى، لما وجدنا رئيسًا واحدًا استطاع أن يكمل المدتين اللتين يسمح بهما الدستور، فجون كنيدي قد قُتل قبل عام من خوض انتخابات الإعادة التي كان فوزه فيها مؤكَّدًا، وبعده بقليل قُتل شقيقه روبرت كيندي الذي كان بدوره مرشحًا محتملًا مضمون الفوز، وعندما جاء جونسون لم يستطيع أن يرشح نفسه مدة ثانية بعد تورطه المشين في حرب فيتنام.
وحين بدأ نيكسون مدته الثَّانية وظن أنه سينفذ خططه السياسية آمنًا جاءت فضيحة ووترجيت فأقصته عن الحكم في منتصف الطريق، وعندما خلفه نائبه فورد ليكمل مدته، لم يستطع أن ينجح في أول انتخابات أُجريت بعد توليته، وعندما تعلقت الآمال بجيمي كارتر، ذلك المرشح المتدين الآتي من صميم الريف والذي يعظ الناس بضرورة العودة إلى القيم الأخلاقية الأصيلة والتحرر من الانحلال والتدهور المعنوي، لم يلبث أن انكشف ضعفه وعجزه أمام العالم، ووصل ببلاده إلى حالة من الإذلال لم يعتدها ذلك الشعب الذي بنى حياته منذ البداية على القوة، وما زال معظم أفراده يؤمنون بأن القدرة على استخدام العنف هي التي تعطي الإنسان الحق في الوجود.
(٣) أزمة النظام
إن التغير المستمر في الرئاسات الأمريكية يكشف عن نمط آخر، هو الانتقال من رئيس إلى نقيضه، فقد جاء كون كيندي بسياسة ليبرالية بعد سيطرة تحالف الصناعة والجيش في عهد أيزنهاور، وجاء جونسون ليعود بالبلاد إلى الطابع المحافظ المغامر بغير حساب لأية قوة أخرى ما عدا القوة الأمريكية، فأسقطته قوى صغرى ظهرت من قاع العالم الثالث هي فيتنام، وجاء نيكسون لتحل سياسة الصفقات والمساومات واسترداد الأرض المفقودة محل سياسة المغامرات الطائشة غير المحسوبة، وبعده جاء كارتر ممثلًا لرغبة عامرة في إحلال قدر من الأخلاقية والاستقامة في إدارة أثبتت فضيحة «ووترجيت» أنها لا تتورع عن الالتجاء إلى أخس الأساليب اللاأخلاقية في سبيل المحافظة على بقائها، وأخيرًا جاء ريجان معبِّرًا عن سأم الشعب الأمريكي من التردد وضعف العزيمة من الخارج، فضلًا عن البطالة والتضخم في الداخل، فاكتسح الانتخابات حين قدَّم إلى الناس صورة المرشح الحازم الذي لا يساوم على مصالح بلاده الحيوية ويلوِّح أمام خصومها بقبضة حديدية، ويؤمن بأن بلده هي أقوى بلاد العالم وينبغي أن تسلك في جميع تصرفاتها على هذا الأساس حتى لا يخدش كرامتها أحد.
قد يكون هذا تصويرًا مبسَّطًا لنمط التغيرات على الرئاسة الأمريكية في السنوات العشرين الأخيرة؛ إذ إنَّ صورة الرئيس أمام الشعب ليست هي كل شيء، ولا جدال في أن هناك قوى وطبقات متباينة تتناوب السيطرة في كل عهد من العهود، فتأتي برجالها إلى السُّلطة، ولكن يظل من الصحيح مع ذلك أن الممارسات الخاطئة تلعب دورًا كبيرًا في حشد القوى المضادة وإعطائها فرصة أكبر للانتصار في المرة القادمة.
فعلى أي شيء يدل هذا النمط المزدوج الذي ظلت الانتخابات الأمريكية تسير عليه قرابة ربع قرن؟ وما الذي نستنتجه من انتخابات تأتي في كل مرة برئيس يؤكد للناس في دعايته الانتخابية أنه سيسير في طريق مضاد لذلك الذي كان يسير فيه الرئيس السابق؟ في رأيي أن هذا النمط يدل على أزمة عميقة يعاني منها نظام الحكم الأمريكي، وعلى إحساس غامض غير متبلور لدى الجماهير بأن ثمة شيئًا مختلًّا في العملية الديمقراطية كلها.
وحين أقول إن هذا الإحساس غامض وغير متبلور، فأنا لا أقصد من ذلك استخدام تعبيرات غيبية أو أسلوب غير عقلاني، بل إن ما أعنيه هو أن الشعب الأمريكي يحس في كل مرة بأنه خُدع، وخاب أمله في الرئيس المنتخب، ولكنه لا يدرك بالضبط أسباب الخداع والعوامل التي ساعدت عليه؛ لأن إدراك هذه الحقائق الأخيرة يقتضي نقدًا للجذور التي يقوم عليها النظام الديمقراطي الأمريكي بأسره، وهو أمر يحتاج إلى وعي لا يتوفر لدى الغالبية الساحقة من الناخبين الأمريكيين.
(٤) ماذا يفعل الأمريكي؟
إن المواطن الأمريكي العادي ضعيف الوعي من الناحية السياسية والاجتماعيَّة، وأستطيع أن أجزم بأن وعي الإنسان العادي بهذه المسائل في معظم بلاد العالم الثالث أنضج من وعي نظيره الأمريكي بكثير، وذلك على الأقل لأن الفقر الذي يعانيه إنسان العالم الثالث، وشعوره الحاد بمشكلات مجتمعه التي تحيط به منذ مولده حتى آخر لحظات حياته، يُعطيه إحساسًا واضحًا بالأخطاء التي ترتكبها أنظمة الحكم، ومثل هذا الإحساس لا يمكن أن يتوافر لدى إنسان يعيش في مجتمع يتسم عمومًا بالقوة، وتدور عجلة الإنتاج اليومي فيه بسرعة لا تمنح الإنسان مجرد فرصة للتفكير في المشكلات المحيطة به، ولذلك كان تفكير المواطن الأمريكي العادي منصبًّا في الأغلب على السطح الخارجي لمشكلات المجتمع لا على جذورها العميقة.
فماذا يفعل إنسان يشعر بأن هناك أخطاء أساسيَّة يرتكبها القائمون بالحكم، ويخيب أمله في وعودهم باستمرار، ولكنه لا يملك من الوعي ما يمكِّنه من أن يردَّ هذه الأخطاء إلى جذورها، ولا يتصل إدراكه إلى حد الاعتراض على «اللعبة» بأكملها، وإدراك ما تنطوي عليه من عناصر الخداع؟
إن كل ما يملكه مثل هذا الإنسان هو أن يغير الرؤساء في كل مرة، ويأتي في كل انتخابات برئيس يقدِّم وعودًا مضادة للسياسات التي كانت سائدة طوال السنوات الأربع السابقة، إنه لا يملك أن يعبر عن سخطه إزاء ما هو موجود إلا باختيار ما يعتقد أنه نقيضه، وسيظل يدور في هذه الحلقة بلا انقطاع، إلى أن يدرك يومًا ما — وما أظن أن هذا اليوم سيحل قريبًا — أن هناك شيئًا ما غير صحيح في العملية الانتخابية نفسها، وفي كل الأسس التي تقوم عليها.
(٥) أية ديمقراطية؟
أمَّا ما أقصده بقولي إن «اللعبة» بأكملها خادعة وتحتاج إلى تغيير جذري، فسأحاول أن أشرحه للقارئ في سطور قلائل، وإن كان الكلام عنه يحتاج إلى مجلدات كاملة؛ ذلك لأن المرء لا يملك إلا أن يعجب حين يرى أمة عظيمة كالأمة الأمريكية يصل بها العقم إلى حد أن تعجز عن تقديم أي مرشحين للرئاسة أفضل من كارتر وريجان، أو نيكسون وروكفلر، أو جونسون وجولد ووتر، أو غيرهم من الأزواج العجيبة من المرشحين الذين تعاقبوا على الانتخابات الأمريكية في ربع القرن الأخير، هل خلا هذا الشعب العظيم الذي غزا العالم بتنميته المتفوقة وترك طابعه على جميع معالم القرن العشرين، هل خلا من أي صاحب مبادئ صالحة للتطبيق عمليًّا، ومن أي سياسي مفكر قادر على إدخال بلاده في عصر جديد، واستغلال طاقات شعبها وأرضها الهائلة من أجل مجتمع أفضل في الداخل، وعالم أفضل من الخارج؟ هل هذه «العينات» هي وحدها التي تسفر عنها مسابقات التصفية المتتالية، التي يجريها النظام الديمقراطي على مستويات متعددة، حتى ينتهي آخر الأمر إلى اختيار «الأفضل»؟
الحق أنني لا أملك إلا الإعراب عن دهشتي العميقة حين أجد ريجان، الذي رأيته بنفسي يقدِّم برنامجًا أسبوعيًّا يشتمل كله على فقرات استعراضية وهزلية في التلفاز الأمريكي في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، يفوز بهذه الأغلبية الكاسحة، ولا مفرَّ للمرء إلا أن يتساءل: أية ديمقراطية هذه التي تسفر في النهاية عن اختيار شعب كبير ضخم الإنجازات لممثل من الدرجة الثَّانية لكي يتحكم في مصيره، وربما في مصير العالم بأسره أربع سنوات كاملة؟ وأية ديمقراطية هذه التي تستطيع أن تفرض أي شخص على الناس من خلال وسائل الإعلام ذات القدرات الهائلة، التي تجمل القبيح وتعمق السطحي، من خلال الأجهزة الحزبية التي تختار في النهاية أقدر الناس على تلبية المصالح الكبرى، لا مصالح الإنسان العادي أو العالم ككل؟
ألا يوجد خلل أساسي في تلك الديمقراطية التي توهم الناس، كل سنوات أربع، إنهم يمارسون حريتهم المطلقة في الاختيار، حيث لا يكون هناك في الواقع أي اختيار حقيقي، وحيث يتشابه المرشحان في كل شيء ما عدا بعض التفاصيل الفرعية؟ ألا يوجد عيب جذري في تلك الديمقراطية التي لا تعرض على الناس بدائل سياسية واجتماعية حقيقية، وتقيم مع ذلك «مهرجانًا» لا أول له ولا آخر، يوهم العالم بأجمعه بأن الحرية تعيش في لحظات الانتخابات هذه أعظم أيامها؟ ألا يحتاج هذا المجتمع العظيم إلى وعي جديد، يقنعه بأن «اللعبة» بأكملها لا تستحق أن تُؤخذ بكل هذه الجدية، وبأن قواعدها الأساسيَّة في حاجة إلى تغيير شامل؟
هذا على أية حال شأن المجتمع الأمريكي، وكل ما يعنينا هو أن ننتبه جَيِّدًا إلى إبعاد هذه اللعبة حتى لا ننجرف في تيارها، فمن العبث أن نقطع أنفاسنا ونقف على أطراف أصابعنا في كل سنة «كبيسة» انتظارًا لما تسفر عنه عملية الاقتراع في الرابع من نوفمبر، ومن العبث أن نتصور بأن «شخص» الرئيس الأمريكي يلعب أي دور أساسي في سياسة بلاده؛ إذ إنَّ «الشخص» هنا ليس إلا ناطقًا بلسان قوي ومصالح ضخمة هي التي «توسمت» فيه القدرة على أن يخدمها على أفضل وجه، وهذه القوى الكبرى لها سياسات وإستراتيجيات ثابتة، لا تغير منها في كل مرة سوى بعض «تكتيكاتها» التَّفصيليَّة.
إنَّ واجبنا في الوطن الْعَربي أن نحتفظ باستقلالنا إزاء ما يدور في هذه اللعبة؛ ذلك لأنَّنا لو ربطنا مصيرنا وقضايانا الحيوية بالتغييرات الموسمية التي تأتي بها هذه اللعبة، ولو أعطينا اللاعبين الرئيسيين المشتركين فيها دورًا أساسيًّا في مشكلاتنا المصيرية، لكان علينا أن ننتظر في العام الأوَّل من الرئاسة حتى يقوم الرئيس بالدراسة الكافية، وننتظر في العام الثَّاني حتى تمر انتخابات الكونجرس النصفية، ولا نتوقع منه في العالم الثالث والرابع أي تصرف جدي لأنَّه يضع عينيه على التَّجديد في الانتخابات القادمة، ونظل خلال ذلك نحلم بأن يتحرر من هذا كله، ويقوم بالعمل الذي تتمناه في الفترة الثَّانية من ولايته، ثم تجيء الانتخابات — كما حدث مرارًا في السنوات العشرين الأخيرة — برئيس جديد، وتخيب آمالنا وتوقعاتنا، ومع ذلك لا نتردد في أن ندور مع الدوامة من جديد.
أليس من واجبنا تجاه أنفسنا وتجاه شعوبنا أن نتعلم من درس فيتنام، وأن نمضي في طريقنا الخاص بغض النظر عن مهرجان الانتخابات الأمريكية، وعندئذٍ قد تكون النتيجة هي أن تخضع الانتخابات الأمريكية نفسها لإرادتنا بدلًا من أن تكون إرادتنا ألعوبة صغرى تدور في فلك اللعبة الكبرى، لعبة السنة الكبيسة؟