الحرب النووية وصراع «الأيديولوجيات»١
لو قامت الحرب النووية، فماذا سيحدث بعدها لعقول الناس، وكيف ستكون اتجاهاتهم السياسية، واختياراتهم الأيديولوجية؟
لقد أثار دهشتي أنني لم أجد إجابة عن هذه الأسئلة فيما قرأت عن الآثار المحتملة للحرب النووية، إذ امتلأت رفوف المكتبات بدراسات تتحدث عن الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي ستلحق بالعالم، إذا ما نشبت مثل هذه الحرب، وقدم بعضها تفاصيل دقيقة عن أعداد من سيموتون من جراء الضربة الأولى، وأعدادهم بعد الضربة الثَّانية، وازدادت التفاصيل دقة، فتحدثت بعض الكتابات عن الفارق بين خسائر المهاجم والمدافع، وحددت مقدار الدمار الذي سيلحق بمركز سقوط قنبلة ذات قوة تدميرية معينة، والتخريب الذي سيحدث في المناطق المحيطة بهذا المركز، حسب درجة ابتعادها عنه، وتناولت دراسات لا حصر لها أخطار الإشعاع في المدى المباشر والقريب والبعيد، وكان آخر الاجتهادات في هذا الصدد نظرية «الشتاء النووي» التي عرض صاحبها — وهو العالم الفيزيائي والفلكي المشهور كارل ساجان — صورة مخيفة لعالم ما بعد الحرب النووية، الذي تخيم عليه سحب كثيفة تخفض درجة حرارة الأرض إلى حدود لا يتحملها الإنسان، وتقضي على معظم أشكال الحياة على سطح هذه الأرض، وتتلف التربة الزراعية، وتجعل ظهور أي محصول نباتي أمرًا مستحيلًا.
(١) منتصر ومهزوم
ولكن الأمر اللافت للنظر حقًّا هو ندرة، أو انعدام الكتابات التي تتحدث عن التغيرات التي يمكن أن تطرأ على عقل الإنسان، وعلى نظرته إلى العالم وعلاقاته مع البشر، نتيجة نشوب مثل هذه الحرب، وليس من الصعب أن نستنتج سبب هذا الإغفال؛ ذلك لأن التركيز إنما ينصب على تأكيد الدمار الشامل الذي ستحدثه الحرب النووية، والتحذير من أن الحياة ستصبح بعدها مستحيلة، فإذا كانت تلك الحرب مؤدية إلى فناء البشرية، فلن يعود هناك معنى للحديث عن التغيرات التي تترتب عليها في عقول البشر، ومن جهة أخرى فإن الخوض في موضوع التحولات السياسية أو «الأيديولوجية» التي ستنبثق عن هذه الحرب، قد يترتب عليه التهوين من شأنها؛ لأن معناه أن نسبة معينة من البشر ستظل على قيد الحياة بعد نشوب حرب كهذه، وستعيد بناء حياتها وتراجع مواقفها الاجتماعيَّة والسياسية والاقتصاديَّة من جديد، وهو أمر قد يحمل ضمنًا معنى التشجيع على شن هذه الحرب.
ولكن الغريب في الأمر بحق أن هذا هو بعينه الأساس الذي تُبنى عليه وجهة النظر المعلنة للقيادات السياسية والعسكرية المسئولة في البلد الذي أدخل العالم في عصر الحروب الذرية والنووية، أعني الولايات المتحدة الأمريكية، فالتقارير المطولة التي يعدها أساطين الإستراتيجية الأمريكيون، تقوم بحسابات معقدة لخسائر الضربة الأولى والضربة الانتقامية والإشعاع والتلوث … إلخ، لتنتهي من هذا كله إلى أن الطرف الذي يتفوق على الآخر في ابتكار وسائل لتدمير قوة الخصم المهاجمة، ولضمان وصول أكبر قدر من صواريخه النووية إلى أهدافها في أراضي العدو، هو الذي سيُكتب له البقاء، وبعبارة أخرى فإن هذه التقارير المعقدة لا تُبنى على أساس أن الحرب النووية معناها هلاك الجميع، بل على أساس أنه سيكون «هناك منتصر ومهزوم»، وأن المنتصر يمكن أن يعيش ويجني ثمار انتصاره، بينما يزول المهزوم نهائيًّا من الوجود.
والحق أن العقيدة العسكرية السائدة في أمريكا ترتكز بالفعل على اعتقاد بأن التفوق التقني يمكن أن يصل إلى نقطة تمثل فيها الحرب النووية الشاملة خسارة نسبية للطرف المتفوق، وفناءً حاسمًا للطرف الخاسر، وبذلك يضمن الغالب بقاء جزء معين من سكانه، ومِنْ ثَمَّ بقاء نظامه الاجتماعي وسيادته على العالم بلا منافس، وتلك هي الفلسفة الكامنة من وراء فكرة «حرب الكواكب» التي تدافع عنها حكومة ريجان في وجه مقاومة حادة من بقية شعوب العالم على اختلاف أنظمتها، فالفكرة هي إقامة شبكة دفاعية متطورة إلى حد مذهل، تضمن اصطياد صواريخ العدو — أو معظمها على وجه أدق — وهي لا تزال في الجو، وتدميرها قبل أن تصل إلى أهدافها، في الوقت الذي تكون فيه الصواريخ الأمريكية قد ألحقت بالخصم فناءً شاملًا، وبالطبع فإن صفة «الدفاعية» في هذا النظام صفة خداعة، فهي دفاعية في الظاهر ولكنها في حقيقتها أكبر عامل مشجع على الهجوم، ما دامت ستضمن عدم وقوع ضربة مضادة بعد هذا الهجوم، تُلحق بالمهاجم الأصلي خسارة مدمرة.
(٢) استئصال الأفكار المضادة!
وعلى هذا النحو تكون حرب الكواكب، في نظر أنصارها، هي الحل الجذري للصراع «الأيديولوجي» بين معسكر رأسمالي ومعسكر اشتراكي مثير للمتاعب، فبدلًا من استمرار هذا الصراع بما فيه من مد وجزر وانتصارات وهزائم، يأتي هذا الحل «المثالي» لكي يمحو العدو من الوجود، ومعه «أيديولوجيته» المشاغبة، لكي يستقر الأمر في نهاية المطاف للمعسكر الذي تحقق له «أيديولوجيته» الرأسمالية تفوقًا تقنيًّا كاسحًا، ويبدأ البشر الذين كُتبت لهم الحياة بعد المحرقة الكبرى (والمفروض أن معظمهم سيكونون من البلاد الرأسمالية ومن أمريكا على وجه التحديد) مرحلة جديدة من التاريخ، يتم فيها استئصال أية «أيديولوجية» مضادة أو منافسة.
ولكن هذا «السيناريو» الذي يدور في أذهان المخططين الإستراتيجيين لحكومة ريجان على الأخص، والذي تُعد على أساسه ميزانيات الدفاع خلال العقد القادم على الأقل، في أقوى وأغنى دولة في العالم، وتُكرَّس الموارد البشرية والمادية بغية تحقيق التفوق المطلق في أية حرب نووية مقبلة، ينقصه عنصر يبدو في ظاهره بسيطًا، وإن كانت له في حقيقة الأمر أهمية حاسمة، هو ذلك الذي بدأنا به هذا المقال، وأعني به نوع التغييرات الذهنية والأيديولوجية التي يمكن أن تؤدي إليها حرب نووية شاملة، ومع ذلك فإن هذا العنصر يظل مفتقدًا في كافة الخطط التفصيلية الدقيقة التي يرسمها مُروجُّو «حرب الكواكب»، بالرغم من أنه هو المبرر الرئيسي لتلك الجهود الشاقة، والأموال الطائلة التي تُبذل في سبيل تنفيذ هذا البرنامج.
فلم يسمع أحد عن بحث حاول أن يقدم إجابة تفصيلية، وعلمية بقدر الإمكان، عن السؤال الحاسم التالي: إذا افترضنا أن التفوق التقني الأمريكي قد ضمن بقاء نسبة معينة من سكان العالم، ومن سكان أمريكا على الأخص، بعد الحرب النووية الشاملة، فهل سيظل هؤلاء الباقون الأحياء وسط مظاهر الفناء والخراب في العالم المحيط بهم، رأسماليين أو مؤمنين بالرأسمالية؟ وهل سيكون الانتصار العسكري في مثل هذه الحرب انتصارًا ﻟ «الأيديولوجيا» السائدة حاليًّا في المعسكر الذي يعتقد أنه سيحرز هذا النصر، أم أن هذه الحرب نفسها لا بُدَّ أن تؤدي إلى تغييرات جذرية في نظرة الإنسان الذي يعيش بعدها إلى العالم، وإلى علاقاته الاجتماعيَّة والسياسية والاقتصاديَّة ببقية البشر؟
(٣) افتراضات وأسئلة
سنفترض أن المجزرة الكبرى قد اندلعت في العالم، وأن الأسلحة النووية القادرة على قتل سكان العالم كله عشرات المرات قد استُخدمت، وسنفترض أن التدابير الوقائية التي تتيحها «مبادرة الدفاع الإستراتيجي» قد نجحت في نشر مظلة من أشعة الليزر أدت إلى تدمير نسبة كبيرة من صواريخ الخصوم، سواء تلك التي أُطلقت من البر أم من البحر أم من الجو، سواء كان إطلاقها من مواقع ثابتة أو متحركة، تختفي صوامع تحت الأرض أو في غواصات تجوب أعماق المحيطات، وسنفترض أن هذا النظام الدفاعي المحكم قد أدى إلى بقاء نسبة معينة من الشعب الأمريكي على قيد الحياة؛ (ذلك لأن أشد أنصار برنامج «حرب الكواكب» تفاؤلًا لا يزعمون أنه سيكون نظامًا دفاعيًّا مانعًا لكل صواريخ العدو، بل يعترفون بأن نسبة من هذه الصواريخ ستفلت منه وتصيب أهدافها، وبأن القوة التدميرية للصاروخ الواحد الذي يحمل رءوسًا نووية متعددة، قادرة على سحق مدن عديدة بكلِّ ما فيها من البشر.) فكيف سينظر هؤلاء الناجون من المحرقة إلى العالم، وإلى أنفسهم، وإلى مجتمعهم؟
إن هؤلاء البشر الذين ينتفضون رعبًا، والذين خرجوا من مخابئهم المحصَّنة بعد شهور طويلة من العزلة عن العالم الخارجي، وعانوا خلال ذلك أهوالًا لا تُوصف، ليس أقلها تلك الحرارة الشديدة المتولدة عن وجودهم في أماكن مغلقة فترات غير عادية، فضلًا عن الصدمات النفسية التي تُثيرها أهوال الحرب والتوقعات المخيفة في كل لحظة، هؤلاء البشر يستحيل أن يعودوا إلى أسلوب الحياة والتفكير الذي كانوا يتبعونه من قبل، فأهل الكهف العصريون هؤلاء سيتعرض الكثيرون منهم للموت بالإشعاع بعد خروجهم، ولن يجدوا حولهم إلا الدمار المرعب، وسيبحثون عن الغذاء وعن الكهرباء والماء غير الملوث، فلا يجدون منها شيئًا، فهل يمكن أن يظل هؤلاء رأسماليين، حتى لو كانت البلاد الاشتراكية قد سُويَّت بالأرض، وحتى لو كان كل من ينتمي إلى «أيديولوجية» مخالفة قد أصبح رمادًا؟
هل ستصفق لهذا الانتصار الشركات الرأسمالية العالميَّة العملاقة العابرة للقارات؟ وهل سيكون هناك مجال لاجتماع مجالس إدارات تلك الشركات العملاقة، المتعددة الجنسية ذات القدرات الجهنمية والشبكات الأخطبوطية، ليشرب مدخنو السيجار من أعضائها نخب الانتصار الذي استأصل العدو من جذوره، وترك العالم كله خاليًا لهم، يصولون ويجولون فيه كما يشاءون؟
إن هذه الشركات لن تجد عندئذٍ عُمَّالًا قادرين على الإنتاج، ولا مواد خام قابلة للتصنيع، ولا أسواق مشترية للمنتجات، بل إنها لن تجد لنفسها وسط الدمار الشامل مقرًّا تُمارس فيه نشاطها، أو وسائل تتصل عن طريقها بالعالم، ولن تستطيع إعادة بناء هذا كله طوال أجيال كاملة.
ولكن الأهم من ذلك هو التغيير العقلي الهائل الذي لا بُدَّ أن يطرأ على تلك الفئة القليلة التي خرجت من مخابئها حية (إذا افترضنا أن هذا قد أمكن حدوثه)، فهل يُعقَل أن هذه الفئة التي عانت أقسى تجربة مرَّ بها البشر طوال تاريخهم، سوف تتطلع وسط مشاهد الموت والدمار إلى الكسب والتوسع وغزو الأسواق؟ هل سيكون للطموح الرأسمالي إلى الربح والمبادرة الفردية مكان في ذهن إنسان يحيط به الخراب والألم طوال حياته وحياة أبنائه وأحفاده، ويرى الناس يتساقطون من حوله كالذباب في كل يوم من أيام عمره؟ هل سيكون للمال، وللأسهم والسندات وللبنوك والبورصة معنى في هذا الجحيم المقيم؟
في اعتقادي أن بشاعة التَّجربة ستنتج إنسانًا مختلفًا كل الاختلاف عن ذلك الذي عاش من قبلها، وأن الصراع الحالي بين الرأسمالية والاشتراكية أو الشيوعية لا يكتسب معناه إلا في إطار الظروف الموضوعية للعالم «الحالي»، أمَّا في ظل الأوضاع التي تولدها حرب نووية شاملة، فإن ظروفًا جديدة كل الجدة ستطرأ على حياة البشر، يفقد فيها هذا الصراع كل معنى له، ولا بُدَّ أن تسفر، من الوجهة «الأيديولوجية»، عن شيء مختلف كل الاختلاف، قد يكون من الصعب الآن تحديد معالمه، ولكنه سيكون بالقطع بعيدًا كل البعد عن الرأسمالية كما نعرفها الآن.
ولو كان لي أن أجازف لقلت إن ما يمكن أن يسود، في ظل هذه الظروف الفريدة، هو شكل مُعَدَّل من أشكال الدعوة إلى الحفاظ على البيئة التي تتبناها الآن جماعات «السلام الأخضر» وغيرها، وذلك لسببٍ بسيط، هو أن مشكلة إيجاد بيئة تتيح استمرار الحياة البشرية ستظل — وقتًا طويلًا جِدًّا — هي المشكلة المسيطرة على عقول أولئك الذين ظلوا على قيد الحياة وسط أنقاض الحضارة البشرية.
وهنا يصبح في استطاعتنا أن نجيب على التساؤل المهم الذي طرحناه من قبل، ولم نجد له عندئذٍ إجابة شافية، وأعني به: لماذا لم تظهر دراسات دقيقة للنتائج «الأيديولوجية» المترتبة على الحرب النووية الشاملة؟ ذلك لأن دراسة هذا الموضوع من زاوية «الأيديولوجيا» ستكشف عن حقيقة أساسيَّة يحرص أساطين التسلح وأقطاب الحرب النووية على إخفائها، وهي أن النظام الذي تندلع هذه الحرب من أجل خدمة مصالحه لا بُدَّ أن يختفي في أعقابها، أيًّا كانت النتائج التي تُسفر عنها، وأن التقنية الرفيعة التي تبتكر أبشع أسلحة الدمار وأقوى وسائل الدفاع، إنما تهدم نفسها بنفسها لو حقَّقت الهدف الذي تعمل من أجله، وأن المنتصر الأكبر في الحرب القادمة لا بُدَّ أن يكون من الوجهة «الأيديولوجية» هو الخاسر الأكبر.
(٤) هي معركتنا أيضًا
ويظل بعد ذلك سؤال آخر محير: هل هم يجهلون هذا؟ أغلب الظن أنَّهم لا يجهلون، وأنَّهم على وعي بأنَّ الحرب التي يهيئون أنفسهم لها مستحيلة «عقليًّا»، ما دامت تؤدي إلى عكس المقصود منها، بل إنهم على وعي بالمأزق الفكري لعملية التسلح النووي في عالمنا المعاصر، ذلك المأزق الذي يتمثل في أن هذا التسلح إذا حقق أهدافه بنشوب حرب، فسوف تقضي هذه الحرب على النظام الذي هيأ لها الظروف الملائمة، أمَّا إذا لم يحقق أهدافه ولم تقم الحرب، فسيكون معنى ذلك أن صناع الأسلحة وتجارها قد أرغموا العالم كله على ارتكاب أكبر عمل جنوني في تاريخه، وهو أن يستنزف أثمن موارده البشرية والمادية في إنتاج «لعب» مميتة لن يستخدمها أحد.
وأغلب الظن أنَّ هذا بعينه هو المقصود، فأسلحة الدمار الشامل تُنْتَج من أجل الإنتاج لا من أجل الاستخدام؛ لأنَّ الإنتاج عملية مربحة إلى أقصى حد، أمَّا الاستخدام فسيكون الجميع منه خاسرين، ومن هنا كان من واجبنا — نحن شعوب العالم الثالث — أن نُحدد موقفنا من هذه المسألة بوضوح قاطع، ما دمنا نعيش في عالم ينفق على إنتاج تلك اللعب المميتة التي لن تُستخدَم أضعاف ما يكفي لحل جميع مشكلات التخلف والفقر والمرض والجهل في مجتمعنا، فمن واجبنا أن نكون على وعي بأن معركة الحد من التسلح هي معركتنا، قبل أن تكون معركة أمريكا والسوفييت أو حلف الأطلنطي وحلف وارسو؛ لأننا أكبر الخاسرين بسبب هذا الجنون اللامنطقي الذي يرغمنا صناع الأسلحة وتجارها على أن نقبله وكأنه حقيقة أساسيَّة من حقائق الكون.