العقل البشري والعقل «الإلكتروني»١
كان خيال الأدباء والفنانين يسبق كشوف العلماء على مدى عصور التاريخ، وليس في هذا ما يدعو إلى العجب؛ إذ إنَّ الأديب أو الفنان لا يصور في عمله حلم يقظة فحسب، وإنما يعبر عن أمانٍ بشرية عزيزة، ويلخص ما يتوق الإنسان في قرارة نفسه إلى تحقيقه، وحين تحدثت الأساطير والأعمال الأدبية والفنية عن تلك الأجنحة التي يحلق بها الإنسان كالطيور، أو عن البساط السحري الذي يتنقل به عبر السماء من بلد إلى آخر، كانت في واقع الأمر تضع الهدف أمام علماء المستقبل، وترسم لهم الطريق الذي كان الإنسان يتوقع منهم أن يسلكوه.
لقد كان الإنسان منذ أقدم العصور يعلم بظهور آلات تعفيه من الجهد وتحل محله في المهام الشاقة، وحين كان يسرف في أحلامه، كان يتخيل نوعًا من الإنسان الصناعي لا مجرد آلة صماء، يكون له عبدًا مطيعًا.
وكان لهذا التصور مظاهر متعددة، فالقصة الشَّعبيَّة كانت تتحدث عن المارد أو العفريت الذي يظهر من القمقم، أو بعد لمس «خاتم سليمان»، أو «خاتم الملك»، ليحقق للإنسان أصعب أمانيه وأبعدها منالًا، وهذه القصص متفائلة، وتفاؤلها أمر طبيعي؛ لأنه خيال مبني على الاعتقاد بالسحر، وعالم السحر ليس فيه حقائق صلبة تقاوم الأماني والرغبات ولا يقف في وجهه شيء، ومن هنا كان كل شيء فيه ممكنًا.
أمَّا المظهر الآخر فهو أحدث عهدًا، وفيه يرتكز الخيال على أساس من العلم والواقع الاجتماعي؛ ولذا كان في معظم حالاته أميل إلى التشاؤم، فقد انبهر الإنسان بالآلة إلى حد أنه بدأ يتصور بخياله أنواعًا منها تنقلب على الإنسان وتتمرد عليه، حتى تسيطر في النهاية على العالم وتقضي على عصر الإنسان، وأخذ الأدباء وبعض المفكرين يبدون فزعًا حقيقيًّا من ذلك العصر المحتمل، الذي يسيطر فيه على العالم حديد جامد، وتختفي فيه سيطرة الإنسان عندما تقهره آلات ذات قوة جبارة، فتضيع القيم الإنسانية، ويختفي الحب والجمال، ويسود نظام رتيب صارم لا يعرف الرحمة ولا العطف.
ثم سار الخيال خطوة أخرى في هذا الاتجاه، فتصور هذه الآلة على هيئة إنسان يتدخل العلم في صنعه، ولكنه يُضفي عليه قوة تفوق قوة البشر بكثير، فيتمرد هذا الإنسان العلمي أو الآلي على صانعه، ويهدم كل شيء ببطشه وجبروته، وكانت قصة «فرانكشتين» التي أُخْرِجَتْ منها — منذ الثلاثينيات — أفلام سينمائية كثيرة، من أوضح أمثلة ذلك الفزع الذي يتملك البشر من تطور قدرات الإنسان وتقدمها إلى الحد الذي يجعلها تنافسه هو وتسحقه آخر الأمر.
(١) الحلم والحقيقة
ومنذ فترة ما بعد الحرب العالميَّة الثَّانية أصبح هذا الحلم حقيقة واقعة، وإن كان الواقع — كما يحدث دائمًا — قد اختلف عن الخيال الممهد له اختلافًا غير قليل، وكان رائد هذا التطور الحاسم عالمًا نمساويًّا كبيرًا، هو «نوربرت فينر» الذي وضع أسس علم جديد هو «السيبرنطيقا»، وكانت الفكرة الأساسيَّة في هذا العلم هي دراسة الوظائف التي يقوم بها الجهاز العصبي للإنسان، مما يتيح للإنسان أن يعدل أفعاله ويعيد توجيهها وفقًا للمواقف المختلفة، ويكون جهازًا متكاملًا يقوم بإصدار الأوامر لنفسه وتنفيذ هذه الأوامر واختبار نتائجها في نفس الوقت، وعلى أساس هذه الدراسات يمكن تطبيق المبادئ المستخلصة منها على الآلات، فتكون نتيجة ذلك ظهور نوع جديد كل الجدة من الآلات.
ذلك لأن الآلات التي كانت تُستخدم حتى ذلك الحين كانت في حاجة دائمة إلى إشراف الإنسان وتوجيهه، فهي قد ظلت طوال هذا الوقت تمثل طرفًا واحدًا في علاقة ثنائية لا يمكن أن تُفصم، هي «الآلة-الإنسان»، أمَّا الكشف الجديد فقد أنتج نوعًا جديدًا من الآلات، هي تلك التي تصحح مسارها بنفسها، وتعطي لنفسها ما يلزم من التعليمات والتوجيهات، وتتبادل مع نفسها الأوامر والتنفيذ، كما يحدث للإنسان حين يشعر بالعطش مثلًا، فيأمر العقلُ العضلات بالتحرك نحو الماء، ويصحح مساره إذا لم يجد الماء في وضعه، ويعطي لنفسه الأمر بالاكتفاء إذا أحس بأنه قد ارتوى.
هذا النوع الجديد من الآلات الذي يتميز عن كل الأنواع السابقة بأنه تخلص من ثنائية «الآلة-الإنسان»، وجعل الآلة مكتفية بنفسها اكتفاءً شبه تام في أداء عملها، مما أتاح — لأول مرة في تاريخ البشرية — استخدام الآلات استخدامًا ذهنيًّا أو عقليًّا، بعد أن كانت تقتصر على توفير الجهد البدني والعضلي للإنسان، فأصبحت تقوم بدلًا منه بكثير من العمليات التي لم يكن أحد يتصور أن من الممكن أداءها إلا بواسطة العقل البشري وحده، وهكذا ظهرت العقول الإلكترونية، التي تُعد انقلابًا حاسمًا في تاريخ العلم والتقنية.
وتؤدي العقول الإلكترونية وظيفتين متميزتين، وإن كانتا مترابطتين فيما بينهما:
فهي من جهة تغني العقل الإنساني عن القيام بعمليات كثيرة مجهدة أو طويلة، فإذا لم يكن الإنسان قادرًا على أن يحسب بالسرعة والدقة الواجبة، وإذا لم يكن وقته وجهده يسمحان له بأن يتابع المعلومات المتوافرة بالفعل، فإن باستطاعة العقل «الإلكتروني» أن يساعده مساعدة هائلة في هذا الصدد، وهنا تكون مهمة ذلك العقل هي أن يكمل قدرات موجودة بالفعل، ولكن على نطاق أضيق في العقل البشري، ولكن باستطاعة العقل «الإلكتروني» القيام بعمليات يعجز العقل البشري عن أدائها بقواه الخاصة، كإصدار أحكام في مواقف شديدة التعقيد، أو القيام بحسابات فيها متغيرات كثيرة تفوق طاقة أي ذهن بشري، كما هي الحال في الحسابات المتعلقة بتوجيه سفينة فضائية إلى المريخ، حيث المسافات هائلة، وحيث ينبغي عمل حساب حركة الأرض بنوعيها، وحركة المريخ والكواكب الواقعة بينهما وجاذبية كل منها، وغير ذلك من العوامل المعقدة.
وفي وسعنا أن نشبه هذا التطور الذي طرأ على تقنية العقول «الإلكترونية» بالتطور الذي طرأ على الآلات المادية العادية، فهذه الآلات كانت في البداية تستهدف توفير طاقة الإنسان الجسمية، والإقلال من مجهوده، وزيادة سرعة الأفعال التي يقوم بها عادة ببطء، أي إنها كانت تكمل قدرات موجودة بالفعل، ولكن على نطاق ضيق لدى الإنسان، وفي مرحلة تالية أصبحت تتولى عن الإنسان أعمالًا يستحيل عليه القيام بها، فتمكنه مثلًا من التخلص من الجاذبية الأرضية، وهي عملية تستحيل أصلًا على الجسم البشري.
(٢) ذاكرة صناعية
لكن هل اخترع الإنسان العقل «الإلكتروني» ليكون نسخة مطابقة لعقله، مع مزيد من القدرة والفعالية؟ إن الكثيرين، وبخاصة من ذوي النزعات الأدبية، يتصورون هذا، ومن هنا كان خوفهم وتشاؤمهم، فما دامت العقول الإلكترونية مشابهة للعقول البشرية، ولكنها أقوى منها بمراحل، فسوف يأتي الوقت الذي ينسحق فيه الإنسان تحت أقدام الآلات الجبارة، ولقد لاحظ بعض العلماء أن فئة من العقول «الإلكترونية» المتقدمة تُبدي في سلوكها نوعًا من «التلقائية»، ولا تتصرف وفقًا للبرنامج الموضوع لها بالضبط، ووجدوا في ذلك بادرة لتمرد هذه العقول على صانعيها، وأُثير في هذا الصدد سؤال هام هو: إذا كان المبدأ الذي قامت على أساسه هذه العقول هو دراسة الجهاز العصبي للإنسان (وضمنه المخ) ومعرفة الطريقة التي تحدث بها الأفعال وردود الأفعال داخل هذا الجهاز المعقد، وإذا كانت أشباه الموصلات (الترانزستورات) التي تُصنَع منها هذه العقول تزداد صغرًا ودقةً يومًا بعد يوم، وتؤدي في نفس الوقت أضعاف العمليات التي كانت تقوم بها نظائرها الأكبر حجمًا فيما مضى، أليس لنا أن نتوقع مجيء يوم تُصنَع فيه عقول «إلكترونية» فيها أشباه موصلات أقرب، في حجمها ونوع العمليات التي تقوم بها، إلى خلايا المخ البشري؟
وعندئذٍ ألن تقوم هذه العقول بتصرفات تلقائية مشابهة لتلك التي يقوم بها الإنسان؟
على أن هذا التساؤل يفترض مقدَّمًا أن الإنسان يريد أن يصنع عقولًا «إلكترونية» محاكية له، وهذا افتراض غير صحيح، ومن المشكوك فيه جِدًّا أن ينفق الإنسان جده وماله في سبيل غاية كهذه، فكل ما يريده الإنسان من العقول «الإلكترونية» هو أن تساعده في القيام بالأعمال المعقدة، وأن تقدم إليه خدمات فعالة، في الميدان الذهني، لا يستطيع ذهنه القيام بها، أو تستغرق منه وقتًا وطاقةً لا حدودَ لهما إذا أراد أن يتولاها بنفسه.
وعلى سبيل المثال فإن ذاكرة الإنسان — مهما كانت قوتها — محدودة النطاق، وقدرتها على الاستيعاب والاختزان تقف عند حدود لا تتعداها، ومن هنا فإن العقول «الإلكترونية» تُسدي إلى العلم خدمة كبيرة، إذ تقدم إلى الإنسان «ذاكرة صناعية»، تستوعب من المعلومات ما لا تستوعبه ألوف العقول البشرية مجتمعة، وتقدمها إلى الباحث كلما احتاج إليها في ثوانٍ معدودات، مع ترتيبها وتصنيفها بحيث لا تُقدم منها إلا ما يتعلق بالموضوع الذي يريد بحثه.
والعامل الذي جعل من الضروري الاستعانة بمثل هذه «الذاكرة الصِّناعيَّة»، هو ذلك التضخم الهائل في كمية المعلومات التي أصبح من الضروري استيعابها في العصر الحاضر، فعصرنا هذا ليس فقط عصر «الانفجار السكاني»، بل هو أيضًا عصر «الانفجار المعرفي» أو «انفجار المعلومات» كما يسميه الكثيرون، وكمية المعلومات التي تتراكم تتزايد بمعدل تتضاعف سرعته على الدوام، وبدرجة يعجز عن استيعابها أي عقل بشري، حتى لو اقتصر على ميدان ضيق من ميادين التخصص، ويرى الباحثون أن كمية المعلومات المتوافرة تتضاعف في العصر الحاضر، في فترة تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة، وستظل هذه الفترة تتناقص بالتدريج كلما زاد التقدم العلمي، وقد أصبح عدد الكتب والمجلات العلمية التي يفترض في المتخصص أن يكون قد اطلع عليها من الضخامة بحيث يعترف الجميع بأن الوسائل التَّقليديَّة، كالقراءة الدائمة، لا تكفي إلا لاستيعاب قدر ضئيل جِدًّا منها فضلًا عن الصعوبات التي يواجهها الباحث في تحديد أماكن الأبحاث التي تهمه في ميدانه الخاص، كل هذه العمليات يؤديها بدلًا مِنَّا العقل «الإلكتروني»، ويقدم المعلومات المطلوبة دون غيرها بكفاءة ودقة بالغتين، فيعفي العالم من مواجهة تلك التلال الهائلة من الأبحاث التي كان يتعين عليه فيما مضى أن يبحث بينها عما يريد ويضمن له بذلك ألا يضيع وقته سُدًى، وألا يكرر بحثًا سبق أن قام به غيره في مكان ما.
إذن فالعقول «الإلكترونية» لا «تكرر» العمليات التي يقوم بها العقل البشري، بل «تكملها»، وذلك عن طريق توسيع نطاق القدرات الموجودة بالفعل في عقولنا، وعن طريق إعطاء هذه العقول قدرات جديدة، ومهما ارتقت هذه العقول الصِّناعيَّة، فستظل على الدوام أدوات يستخدمها الإنسان ولن تكون نسخة مكررة منه.
ومن جهة أخرى، فإن تلك العقول تشترك مع كل آلة يصنعها الإنسان في صفة أساسيَّة، هي أنها لا تؤدي عددًا كبيرًا من الوظائف التي تسير في شتى الاتجاهات، بل تؤدي عملية واحدة أو مجموعة مترابطة من العمليات، وإن كانت تؤديها على نحو يفوق أداء الإنسان لها إلى حد هائل.
ولو افترضنا وجود «آلة شاملة»، تقوم بكل شيء يستطيع الإنسان القيام به، لما استطاعت أن تتفوق على الإنسان نظرًا إلى تعدد اختصاصاتها وتعقد تكوينها، وأقصى ما يمكن القيام به هو أن تحاكي الإنسان محاكاة شوهاء، ولا شك أن لدينا من البشر أعدادًا كافية، بل أعداد فائضة تجعلنا في غير حاجة إلى صنع آلات تحاكيه! ولذلك فإن العقل «الإلكتروني» سيظل دائمًا مختلفًا عن العقل البشري في أنه يتخصص في عمليات معينة، يؤديها على نحو شديد الإتقان، فيوسع بذلك من نطاق قدرات الإنسان إلى أبعد حد.
وأخيرًا فمن الخطأ الاعتقاد بأن هذه العقول «الإلكترونية» — مهما تطورت — ستدخل في «حرب» ضد الإنسان، وتسعى إلى سحقه والسيطرة على العالم بدلًا منه؛ لأن هذه كلها عيوب بشرية ترجع إلى ظروف اجتماعية محددة، ومن الممكن التغلب عليها إذا تغيرت هذه الظروف، ولذلك فإنَّا لا نرى معنًى لقيام الإنسان بعملية «إسقاط» لشروره الحالية على الآلات التي يخترعها، سوى أن يكون هذا الإسقاط من عمل ضمير مثقل بالشعور بالذنب.
(٣) أعراض جانبية
وهنا يتعين علينا أن نجيب عن السؤال الحاسم الذي أثاره، لأول مرة في تاريخ البشرية، وجود نوع آخر من العقل، له قدرات تتجاوز قدراتنا، في نواحٍ معينة، إلى حد يفوق الوصف: فهل سيظل العقل «الإلكتروني» في المدى البعيد ينفع الإنسان، أم أنه سيلحق به أضرارًا ربما تكشف بعضها الآن، وربما لن تظهر على حقيقتها إلا في المستقبل؟
من المعروف أن نواتج العلم والتقنية التي بدت في أول أمرها عظيمة الفائدة، والتي أقبل عليها الإنسان تحدوه آمال عريضة في أن يسيطر بواسطتها على الطبيعة وعلى ظروف حياته بأفضل صورة ممكنة، قد انقلبت عليه فيما بعد، وظهرت لها — بعد طول استخدامها — أضرار لم تكن تخطر على بال، وحسبنا أن نشير بإيجاز شديد إلى مشكلات البيئة التي أصبحت تحتل مكان الصدارة في اهتمام كثير من الدول المتقدمة، فهذه المشكلات لم تتولد إلا نتيجة للتقدم الهائل في التقنية، وقد كانت في البداية بمثابة «الأعراض الجانبية» التي تنتاب المريض إذا تعاطى دواءً مُعيَّنًا، والتي لا يأبه لها المريض كثيرًا؛ لأن كل ما يحرص عليه هو الشفاء، ولأنه يعلم جَيِّدًا أن هذا الدواء الذي يتعاطاه فعال في هذه الناحية، ولكن قد يأتي وقت تستفحل فيه هذه الأعراض الجانبية، وتهدد بظهور أمراض أخرى قد تكون أخطر من المرض الأصلي، وهذا بالضبط ما حدث في مجال البيئة في العقدين الأخيرين؛ إذ إنَّ التقنية شديدة التقدم التي كفلت للإنسان في البلاد الصِّناعيَّة حياة استهلاكية مترفة، قد ظهرت لها «أعراض جانبية» بعضها شديد الفتك، كتلوث الغلاف الجوي والأنهار والمحيطات والمحاصيل الزراعية، وازدياد الضجيج والتوتر العصبي، وارتفاع نسبة الإشعاعات الضارة، وانعدام الجمال من البيئة، إلى آخر هذه الأعراض التي أخذ ضررها يستفحل حتى أصبح بعضهم يتمنى لو لم تكن التقنية قد تقدمت إلى الحد الذي يجلب كل هذه الأضرار.
ومثل هذا يمكن أن يُقال عن العقل «الإلكتروني»، فبعضهم يرى أن هذا العقل المساعد للإنسان يمكن أن يلحق بملكاتنا العقلية أضرارًا وخيمة، إذ يعودنا على التكاسل والاعتماد على «الآلة» في كثير من العمليات العقلية، ووجهة نظر هؤلاء المعترضين هي أن الباحث كان قبل عصر العقول «الإلكترونية» يعتمد على عقله في كل شيء، وكان يجري به كل ما يحتاج إليه من عمليات ذهنية، وإن هذا كان يستغرق منه وقتًا طويلًا، ولكنه كان تدريبًا مفيدًا للذهن وشحذًا لقواه وإرهافًا لذكائه، أمَّا حين تُترك هذه العمليات للعقل «الإلكتروني» فمن الممكن أن يعلو الصدأ عقولنا، أو على الأقل أن تعتاد «الترف» في العمليات العقلية، وتنسى تلك المشقة وذلك العناء الذي أنتج سلسلة طويلة من العباقرة، ابتداءً من نيوتن حتى أينشتين.
(٤) الكسل العقلي
هذا الاعتراض مشابه للاعتراض المألوف على وسائل المواصلات الحديثة، فالسيارة الخاصة — مثلًا — قد عودت الإنسان الراحة، وأعفت الإنسان من الجهد الذي يبذله في قطع المسافات الطويلة، ولكن الفائدة الكبيرة التي جنيناها قد أدت في أحيانٍ غير قليلة إلى أضرار لا يُستهان بها، تتمثل في تلك المجموعة من الأمراض الناجمة عن عدم تدريب الجسم البشري بالاستعمال، وليس من المستغرب أن نجد الأطباء ينصحون كثيرًا من أصحاب السيارات الخاصة بالسير على أقدامهم مسافات طويلة، أي أن يتركوا التقنية الحديثة جانبًا — إلى حين — ويعودوا إلى عهد ما قبل التقنية، حتى يتجنبوا الأضرار الناجمة عن وسائل الراحة الحديثة، وبالمثل يعتقد بعضهم أن حلول التقنية محل الإنسان في الأمور الذهنية يُعَوِّد الإنسان الكسل العقلي، ويجعله عاجزًا عن القيام بكثير من العمليات التي كان أجداده يقومون بها في سهولة ويسر؛ لأن أذهانهم كانت في حالة تدريب مستمر.
ولو نظرنا إلى المسألة من وجهة نظر العالم لوجدنا أن هذا العالم يرحب كثيرًا بوجود جهاز يتولى عنه عمليات حفظ المعلومات وتبويبها واستعادتها بالطريقة المناسبة، وفي البلاد التي لا تستعين بالعقول «الإلكترونية» يضيع جزء كبير — وربما الجزء الأكبر — من وقت الباحث وجهده في مثل هذه العمليات الآلية، فهو يفتش عن المراجع ويقرؤها، ويلخصها، ويرتب ما استمده منها، ثم ينتقي فيما بعد ما يريد الاستعانة به منها، وفقًا لنوع البحث الذي يقوم به، ولقد كانت البلاد المتقدمة تتبع، قبل عصر العقول «الإلكترونية»، نظامًا وسطًا، إذ تكون للباحث أو الأستاذ الجامعي «سكرتيرة» متخصصة، يصل مجهودها إلى حد البحث في المراجع عن أي موضوع يطلبه منها الباحث، وتقديمه إليه جاهزًا، بحيث لا يكون أمام الباحث إلا القيام بعملية «التأليف» الإبداعي، كما عرف تاريخ الفن حالات مماثلة، كان فيها الفنان الكبير — منذ عصر النهضة الأوروبية — يستعين بعدد من التلاميذ في «ورشة» فنية، ويضع لهم التصميم الإبداعي العام، ويترك لهم ملء التفاصيل الصغيرة التي لا يصح أن يبدد طاقته فيها.
على أن العمليات الآلية تؤدى في الميدان العلمي بكفاءة تامة عن طريق العقل «الإلكتروني»، ولا شك أن العالِم المتخصص لو أُتيح له أن يوفر كل الوقت والطاقة اللذين كان يبذلهما في تلك العمليات، لأمكنه أن يتفرغ للتفكير الإبداعي إلى حد لم يكن متاحًا على الإطلاق للأجيال السابقة من العلماء، فالمبدأ المطبق هنا هو مبدأ حماية العقل البشري القادر على إنجازات ضخمة، من تبديد طاقته الخلَّاقة في أمور يمكن إنجازها عن طريق جهاز آلي.
ومن ناحية أخرى، فإن البحوث العلمية أصبحت في وقتنا الحالي تقتضي من الجهد الذهني، ومن تركيز الملكات العقلية، قدرًا يفوق بكثير ما كان يحتاج إليه العالِم في ما مضى، فالباحث يحتاج إلى استيعاب كمية ضخمة من المعلومات، ومتابعة مرهقة للأبحاث الأخرى التي يتزايد عددها يومًا بعد يوم، وقدرة على كشف المجالات الجديدة التي يمكن أن تكون ميدانًا لبحث لم يقم به أحد من قبل، وطريقة البحث نفسها تزداد تعقيدًا على الدوام؛ لأن العلم يتوغل إلى مستويات أعمق وأعقد كلما تقدم إلى الأمام، ومن هنا أصبح العقل البشري في حاجة إلى مزيد من المرونة، وإلى قدر متزايد من الطاقة، وفي مثل هذه الظروف تكون الاستعانة بالعقول «الإلكترونية» أمرًا لا مفرَّ منه لكي تُتاح لعقل العالِم القدرة على مواجهة ما يقوم به من تفكير مرهق، وما يتصدى له من ظواهر متزايدة التعقيد.
(٥) نحن والتطور
بقي أمامنا قبل أن نختم هذا المقال سؤال أخير، له عندنا أهمية خاصة، فما الذي ينبغي أن يكون عليه موقفنا في الوطنِ العربيِّ من هذه القوة الجديدة التي اكتسبتها العقول البشرية في البلاد المتقدمة بفضل العقول «الإلكترونية»؟
لقد أصبح من المعايير التي يُقاس بها تقدم أي بلد في عالمنا المعاصر عدد العقول «الإلكترونية» التي يستخدمها، ونوعها، وليس هذا راجعًا إلى أن استخدام هذه العقول الجديدة دليل على «العصرية» فحسب، بل إن السبب الحقيقي هو أن التوسع في استخدامها يعني أن العقول البشرية في هذه البلاد تستثمر طاقاتها على أفضل وجه، وتنتج في مختلف الميادين إنتاجًا إبداعيًّا متفوقًا، أي إن هذا المعيار، وإن بدا في ظاهره متعلِّقًا ﺑ «عدد الآلات»، هو في حقيقته معيار إنساني؛ لأنه يستهدف في النهاية أن يعرف مدى استثمار بلد معين لإمكانات العقول البشرية فيه.
وحين نتوصل إلى استخدام العقول «الإلكترونية» على نطاق واسع، وهو أمر لا مفر من حدوثه عاجلًا أو آجلًا (وكلما عجلنا به كان ذلك أفضل)، حينئذٍ سيكون لزامًا علينا أن نهيئ عقول أجيالنا الجديدة لعصر العقل «الإلكتروني»، ونربي فيها الصفات اللازمة لمواجهة هذا العصر بنجاح، وهذا أمر لا يتحقق إلا بإعادة النظر في نظمنا التعليمية من أساسها؛ ذلك لأنَّ نظمنا الحالية لن تتلاءم مع هذا العصر، ولو بقينا متشبثين بها لما تمكنت العقول الصِّناعيَّة من أن تحدث في عقولنا الطبيعية أي تغيير، ولما أفدنا شيئًا من هذا التطور الرائع في قدرات الإنسان، فنظمنا التعليمية تقوم على تدريب ملكة واحدة للعقل البشري، هي ملكة الذاكرة، إذ إننا نطلب من التلاميذ أن «يحفظوا» المعلومات، ونختبر قدرتهم على الحفظ قبل أية قدرة أخرى، ومنذ أولى مراحل التعليم الابتدائي حتى آخر مراحل التعليم الجامعي، يرتكز النظام التعليمي بأكمله على قدرة الطالب على الاستيعاب، والمتفوقون في نظرنا هم أصحاب الذاكرة الأقوى، أو أصحاب القدرة على ملء ذاكرتهم بالمعلومات، واستعادة هذه المعلومات حرفيًّا كلما طُلب منهم ذلك، وهذه كلها معايير للتفوق ينبغي أن تختفي نهائيًّا في عصر العقل «الإلكتروني».
لو شئنا الدقة لقلنا: إنَّنا لم نكن في حاجة إلى الانتظار حتى عصر العقول «الإلكترونية» من أجل تغيير هذه النظم، ففي اعتقادي أنه منذ وقت ظهور الطباعة — أعني منذ خمسة قرون — أصبح من المنطقي أن تتغير نظم التعليم على نحو يؤدي إلى الاستغناء عن إبداء كل هذا الاهتمام بالقدرة على حفظ المعلومات، فهذه القدرة كانت مطلوبة في عصر المخطوطات، أعني في العصر الذي لم يكن يوجد فيه من الكتاب الواحد سوى نسخة أو عدد قليل من النسخ المكتوبة باليد، والتي يصعب الوصول إليها، ومن هنا كان من الطبيعي أن يكون مقياس العلم هو قدرة الشخص على اختزان المعلومات في ذهنه، ولكن منذ اللحظة التي أصبح من الممكن فيها صنع عدد كبير من نسخ الكتاب الواحد، ونشرها على نطاق واسع، أخذت الذاكرة تُخلي مكانها لملكات أخرى؛ لأن الكتب — وما صحبها من مراجع وقواميس — هي ذاكرة البشر، وهي في متناول أيدينا كلما شئنا أن نكتسب علمًا.
ولكننا في الوطن الْعَربي لم ندرك دلالة هذا التحول الحاسم في طريقة نشر العلم، وظل المثل الأعلى للإنجاز التعليمي في نظرنا هو أن يكون عقل المتعلم مجموعة كتب متحركة، وضاعت خمسة قرون كان الوطن الْعَربي قبلها هو السبَّاق إلى المعرفة، وأصبح في نهايتها متخلِّفًا عن ركب التقدم؛ وذلك لأسباب من أهمها: أننا لم نعرف كيف نستثمر عقولنا البشرية على أفضل نحو، على أنه إذا كانت فرصة إصلاح نظمنا التعليمية قد ضاعت، منذ عهد بعيد، عند التحول من عصر الكلمة المحفوظة إلى عصر الكلمة المطبوعة، فإن ضياع هذه الفرصة مرة أخرى عند الانتقال إلى عصر العقول «الإلكترونية» سيكون كارثة بحق؛ ذلك لأن هذه العقول الآلية — كما قلنا من قبل — تقوم بعمل «ذاكرة صناعية» أكمل وأوسع نطاقًا إلى حد هائل من ذاكرة الإنسان، وهنا تصبح ملكة الذاكرة من أقل الملكات الذهنية أهمية، وفي مقابل ذلك، فإن ما قلناه من قبل عن توفير هذه العقول لطاقتنا الذهنية وإعفائها من العمليات الآلية لكي تتفرغ للأعمال الإبداعية، يوحي لنا بنوع الملكات التي لا بُدَّ أن تحتل مكان الصدارة في العصر «الإلكتروني»، فلكي يواجه أي مجتمع مشكلات هذا العصر بنجاح، يتعين عليه أن يربي في أجياله الجديدة ملكات الإبداع والابتكار، والقدرة على الجمع والتركيب والتأليف، وعلى مواجهة المواقف الجديدة والظروف غير المتوقعة، وهذا يحتاج إلى تغيير شامل في الفلسفة التي تُبنى عليها نظمنا التعليمية، بحيث تتخلى عن السعي إلى تنمية ملكة التذكر والحفظ، وتركز جهودها على رعاية القدرات الخلاقة في عقل الإنسان.
فهل فكرنا — نحن العرب — في هذا التغيير الحاسم الذي يحتمه عصر العقول «الإلكترونية» في طريقتنا في تربية الأجيال الجديدة بحيث تصبح قادرة على معايشة زمانها والوصول بأمتها إلى مستوى البلاد العصرية، أم أن هذه الفرصة ستضيع بدورها، وسنظل في عصر الصواريخ والعقول «الإلكترونية» نعلم أبناءنا كيف يكررون المعلومات حتى يحفظوها على ظهر قلب، ونختبرهم على طريقة «قل ما تعرفه عن …»؟ هل سنتعهد في عقول أبنائنا ملكات عقيمة كالتذكر والاستعادة، أم ملكات خلاقة كالذكاء وحسن التصرف؟
إن الإجابة عن هذا السؤال هي التي ستحدد جانبًا هامًّا من مصير أمتنا في القرن المقبل، وهي التي ستقرر إن كُنَّا سنعرف كيف نتخذ من العقل «الإلكتروني» أداة لخدمة العقل البشري وزيادة قدراته، أم أننا سنفقد القدرة على استخدام العقلَيْن معًا؟