وهم الأصالة والمعاصرة١
كان إشكال «الأصالة والمعاصرة» مطروحًا في حياتنا الثَّقافية، منذ أن أصابتنا تلك الصدمة الحضارية التي تولدت عن احتكاكنا المباشر بالغرب في أوائل القرن التاسع عشر. لقد كان العرب قبل ذلك مجموعة من المجتمعات شبه المغلقة، التي لم يكن الغرب يتصل بها إلا عن طريق أفراد مغامرين، يدفعهم حب الاستطلاع إلى المجازفة بدخول هذه الأرض المجهولة المشوقة المليئة بالغرائب، أرض السحر والحريم وألف ليلة وليلة، فيقيمون فيها فترة قد تطول أو تقصر، ثم يعودون إلى الدهشة، أو الاستعلاء، أو المبالغة، وتستهدف إبهار القارئ في بلادهم أكثر مما تستهدف الوصف الأمين لما هو موجود في بلادنا.
(١) مواجهة من نوع آخر
غير أن القرن التاسع عشر حمل معه مواجهة من نوع آخر، مواجهة حضارية شاملة، كان لا بُدَّ أن تحدث بعد أن جاءت أوروبا إلى بلادنا حاملة معها كل نواتج نهضتها الحديثة، من علم نظري وثقافة عقلانية وأسلحة متفوقة، ونهم شديد إلى التوسع والسيطرة على أسواق العالم، ومنذ ذلك الحين، أصبح الشغل الشاغل للعقل الْعَربي هو التساؤل عما ينبغي أن يكون عليه موقفه من هذه المواجهة، هل يحتمي بتاريخه وتراثه الماضي، ويتخذ منه درعًا أو شرنقةً تدفع عنه غوائل التيار الكاسح المتدفق من بلاد غربية متفوقة، أم يساير التيار الجديد آملًا في أن يكون له نصيب في ذلك التقدم المادي والمعنوي، الذي حقق للحضارة الأوروبية تفوقًا ساحقًا على سائر حضارات العالم القديم؟
كانت المشكلة إذن مطروحة في صورتها العامة، وفي الكثير من تفاصيلها منذ ما يقرب من قرنين، ولكن العبارات التي صُنعت بها كانت تتباين من مرحلة تاريخية إلى أخرى، غير أن المرء يكون واهمًا لو اعتقد أن نوع المفاهيم المستخدمة في طرح المشكلة لم يكن له تأثير على طريقة فهمنا للمشكلة نفسها، وأن المسألة كلها مجرد ألفاظ متباينة تعبر كلها عن جوهر واحد، فحقيقة الأمر هي أن الألفاظ التي نعبر بها عن المشكلة تؤثر إلى حد كبير في بلورة تفكيرنا إزاءها، وتحديد موقفنا منها.
وفي ضوء هذه الحقيقة ينبغي علينا أن نحلل آخر الصيغ التي تُطرَح من خلالها هذه الإشكالية، وهي صيغة «الأصالة والمعاصرة»، وتلك الصيغة التي لا يزيد عمرها فيما أعتقد عن ثلاثين عامًا؛ فقد ألقت هذه الصيغة بظلالها دون شك على العقل العربي، وعلى طريقة مناقشته للمشكلة بأسرها، إذ كانت طريقة طرح الموضوع تتخذ عادةً شكل الاختيار بين ثلاثة بدائل؛ أعني اختيار الأصالة، أو المعاصرة، أو محاولة التوفيق بينهما.
وهدفي هو أن أعرض بعض الأفكار التي تثبت أن هذه الصيغة في طرح المشكلة مسئولة عن قدر كبير من التخبط الفكري الذي تتسم به معالجتنا لهذا الموضوع، بل إن هذه الصيغة لا بُدَّ أن تؤدي إلى استمرار المناقشات حول «الأصالة والمعاصرة» إلى ما لا نهاية، دون أن يتقدم تحليلنا للمشكلة لأبعادها خطوة واحدة إلى الأمام، وأخيرًا فسوف أقترح منهجًا بديلًا عن هذه الصيغة، أتصور أنه يتلافى معظم جوانب النقص فيها.
(٢) البدائل الثلاثة
إن طرح قضية الأصالة والمعاصرة على شكل بدائل ثلاثة هي: التمسك بالأصالة، أو السير في طريق المعاصرة، أو القيام بمحاولة توفيقية للجمع بين الاثنين، يُثير إشكالات تزيد من تعقيد القضية، وتجعل الوصول إلى رأي حاسم فيها أمرًا يكاد يكون مستحيلًا.
فالبديل الأوَّل، أعني التمسك بالأصالة، يفترض أن من الممكن أن نعيش في ظل أصالتنا، وحدها، ما دام أصحاب هذا الرأي ليسوا ممن يسعون إلى التوفيق بين «الأصالة والمعاصرة»، ومعنى الأصالة في نظر هؤلاء هو «العودة إلى الأصل»، أي إن المطلوب من المجتمع في ظل هذا البديل، هو أن يعيش في ماضيه دون حاضره، وأن يستلهم التاريخ ويبني حياته على أساسه، فهل هذا بديل معقول من الناحية النَّظريَّة، أو ممكن من الناحية العملية؟ هل يستطيع أي مجتمع أن يجمد التاريخ ويتشبث بفترة واحدة منه، ويتجاهل كل ما قبلها وما بعدها، ويجعل من هذا الماضي حاضرًا أبديًّا لا يسري عليه التغير، ولا يخضع لتقلبات الزمن؟ وهل يمكن أن يعيش أي مجتمع بأمجاد ماضيه وحدها، وينسى أن ما كان «مجدًا» في عصر معين قد يصبح «تخلُّفًا» إذا ما نُقل بحذافيره إلى عصر آخر؟ إن إشكال البديل الأوَّل هو في كلمة واحدة، أنه يلغي التاريخ، على حين أن التاريخ ليس مما يمكن إلغاؤه.
فلنتأمل إذن البديل الثَّاني، الذي يتساءل أصحابه: هل أساس التقدم هو أن نكون معاصرين، أي أن نساير العصر؟ هذا التساؤل يفترض أن العكس ممكن، ولو نظريًّا، فهو يفترض أن من الممكن ألا يكون المجتمع «معاصرًا»، أي لا يعيش عصره، فهل يستطيع أحد أن يتصور مجتمعًا معاصرًا يختار بمحض إرادته أن يكون «غير معاصر»؟ هل من الممكن أصلًا أن يكون المجتمع في العصر ولا يكون فيه، أي أن ينعزل عنه طوعًا؟ سيجيب بعضهم بأن هذا ما يحدث مثلًا في المجتمعات البدائية التي يعيش بعضها في أواخر القرن العشرين، وفقًا لأوضاع ظلت على ما هي عليه منذ عشرات القرون، ولكن البدائي لا يفعل ذلك «إلا مرغمًا»، فهو لا يعرف القرن العشرين؛ لأنه لم يتعرض لمؤثراته ولم يتصل بها، أمَّا الحالة التي نحن بصددها فهي حالة مجتمع يعرف العصر ويتصل به، ولكنه ينفصل عنه عامدًا، ويختار أن يعيش في عصر غيره.
إنك حين تضع المعاصرة كأنها بديل ضمن بديلين آخرين، فأنت تضع معايشتك للعصر الذي تعيش فيه، كأنها اختيار وكأنها شيء، يمكن أن يحدث أو لا يحدث، وحقيقة الأمر أن المعاصرة ليست اختيارًا، وليست بديلًا من البدائل، فعصرك جزء منك وأنت جزء منه، ولا أحد يملك أن يكون «معاصرًا» أو لا يكون.
من الواضح إذن، أن هذين البديلين يكشفان عن إشكالات أساسيَّة في علاقتنا بالزمن، فالطريقة التي يُصاغ بها البديلان توحي بأن في استطاعة مجتمع ما أن يختار ألا يعيش عصره، بل يستمد مقومات حياته كلها، أو أهمها، من عصر ماضٍ، ولما كانت المشكلة كلها، كما بَيَّنَّا، ليست مشكلة «اختيار»؛ لأن عصرك مفروض عليك شئت أم أبيت، فإن من حقنا أن نتساءل: ألا يجوز أن صيغة الاختيار بين الأصالة والمعاصرة تعبر عن خلل أساسي في علاقتنا بالزمن، وبالتاريخ؟ إذا صحَّ ذلك فهل كانت هذه الكتابات، وكل هذه المؤتمرات والندوات، التي دارت حول هذا الموضوع طوال ربع القرن الأخير على الأقل، مجرد تعبير عن هذا الاختلال؟ وهل كان مفكرونا وكتابنا طوال هذا الوقت واقعين تحت تأثير وهم كبير لم يتنبهوا إليه، حين طرحوا أمامنا إشكالية الأصالة والمعاصرة كما لو كانت اختيارًا بين بديلين، أو محاولة للتوفيق بينهما من الخارج؟
(٣) الأصيل والأصل!
الواقع أنَّ هذا الاتهام هو — في جانب منه على الأقل — اتهام ظالم، ذلك أن للمشكلة وجهًا آخر هو الذي جعل مفكرينا يأخذون بديلي الأصالة والمعاصرة بكل هذه الجدية، ويرون فيهما اختيارًا حقيقيًّا وممكنًا، فهناك بُعد آخر لإشكالية الأصالة والمعاصرة، إلى جانب البُعد الذي كان حديثنا يدور حوله حتى الآن، هو البعد «التقويمي»، فأنت حين تتحدث عن أصالة مجتمع ما لا تعني الرجوع إلى «أصل» هذا المجتمع فحسب، بل تعني أيضًا العودة إلى ما هو «أصيل» في تاريخه وفي أعماق شخصيته المعنوية، وبهذا المعنى نتحدث عن الأصالة في بحث أو كتاب، وتعني بذلك أنه لم يعتمد على غيره أو يعكس آراء الآخرين، وإنما كان له موقفه الخاص المستقل النابع من ذاته، وهكذا فإن الأصالة يمكن أن تُشير إلى معنًى زمني هو الرجوع إلى «الأصالة»، ويمكن أيضًا أن تُشير إلى معنى تقويمي هو البحث عما هو «أصيل»، ويمكن بالطبع أن تجمع بين المعنيين على أساس أن الأصيل حقًّا هو ما ينتمي إلى «الأصل».
وتنطبق هذه الازدواجية نفسها على معنى «المعاصرة»، فحين نتحدث عن المعاصرة بوصفها ضرورة للنهوض، وسبيلًا إلى القضاء على التخلف، لا نقصد بذلك الدعوة إلى أن نعيش في الفترة الزمنيَّة الحاضرة فحسب، بل تعني أيضًا متابعة «أفضل» ما في هذه الفترة الحاضرة وأكثره «تقدُّمًا»، والدليل على ذلك هو أن النماذج التي تختارها للمعاصرة تكون عادةً في الصف الأوَّل من مجتمعات العصر الحاضر، مثل أوروبا الغربية أو أمريكا أو اليابان أو البلاد المتقدمة في العالم الاشتراكي، تبعًا لوجهة نظر المرء.
هناك إذن تداخل أساسي بين البعدين — الزمني والتقويمي — في استخدامنا لكلمتي الأصالة والمعاصرة، وهذا التداخل هو الذي يُثير الإشكالات التي أشرنا إليها في مستهل بحثنا هذا؛ لأن الدعوة إلى الأصالة إذا فُهمت بمعنى الرجوع إلى الأصل وإيقاف ميسرة التَّاريخ، تُصبح الدعوة مستحيلة فضلًا عن كونها متخلفة، أمَّا إذا فُهمت بمعنى البحث عما هو أصيل وغير مسبوق، فإنها تُصبح تعبيرًا عن هدف جدير حقًّا بأن نسعى إليه، وبالمثل فإن الدعوة إلى المعاصرة، إذا فُهمت بمعنى الحياة في الفترة الزمنية الحاضرة، تُصبح تحصيلًا حاصلًا، ما دام هذا أمرًا مفروضًا علينا، وما دام العصر فينا ونحن فيه، بحكم وضعنا الإنساني نفسه، أمَّا إذا فُهمت بمعنى البحث عن الأفضل والأكثر تقدُّمًا في هذا العصر، فإنها تُصبح عندئذٍ غاية تستحق أن نسعى إلى تحقيقها.
(٤) الاتِّباع أم الإبداع؟
لا بُدَّ إذن من صيغة أخرى تقضي على هذا التداخل، وتتجنب هذه الصعوبات، والصيغة التي أعتقد أنها تخلصنا من كل هذه الالتباسات، وتضع أمامنا بدائل تمثل التحدي الحقيقي الذي يواجه مجتمعنا، شأنه شأن سائر مجتمعات العالم الثالث، هي صيغة «الاتِّباع أو الإبداع»، أعني أن الإشكال الحضاري الذي نواجهه هو: هل نظل إلى الأبد مقلدين محاكين، نساير الآخرين ونمسك بذيل تطور لم نصنعه، أم نصبح مبدعين، نبتكر حلولنا الخاصة ونقف نِدًّا للآخرين بأفكارنا الخلاقة؟
هذا التقابل بين الاتِّباع والإبداع، الذي أقترحه بديلًا للتقابل المضلل بين الأصالة والمعاصرة، يمتاز على هذا الأخير بمزايا واضحة، فهو يتخلص من كل مظاهر الخلط بين المعنى الزمني والمعنى التقويمي؛ لأنه يستبعد الإشارة إلى الزمن، أو على الأصح يتخطى حدودها.
ذلك لأنَّ اتِّباع نمط غريب أو تقليد حضارة متفوقة بغير تمييز أو إعمال للفكر، هو مظهر واضح من مظاهر التخلف، ولكن من الواجب أن ننتبه إلى أن هذا النوع من الاتِّباع يمكن أن ينطبق على مسايرة الماضي، مثلما ينطبق على محاكاة نماذج من الحاضر، ويؤدي في كلتا الحالتين إلى نتائج سلبية.
فالشاب الذي يحرص على متابعة أحدث الرقصات التي تظهر في الغرب وآخر صيحات الملابس فيه، مقلد لا يُرجى منه إبداع، ولكن الشاب الذي يرتدي ملابس أسلافه منذ قرون عديدة، ويفكر كما كانوا يفكرون، وينفصل عن عصره ليتوحد مع عصر قديم، هو أيضًا اتِّباعي لا أمل منه في إصلاح أو تقدم، وأخصائي التربية الْعَربي الذي ينقل اقتراحاته لإصلاح التعليم من كتب أو تقارير أمريكية، دون أن يعمل أي حساب لاختلاف البيئة والخلفية الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والأخلاقية والسياسية في كلا المجتمعين، هو بغير شك مقلد مفتقر إلى الإبداع، ولكن الباحث الإسلامي الذي لا يجد لمشاكلنا الحاضرة حلولًا إلا في كتب السلف الصالح، يسير بدوره على نهج الاتِّباع، ولا أمل منه في أي إبداع، وهكذا يمكن أن يكون هناك اتِّباع للأصالة (بمعنى الأصل الزمني) واتِّباع للمعاصرة (بمعنى الواقع الراهن أيًّا كانت قيمته)، أي إن فكرة الاتِّباع تتخطى النطاق الزمني ولا تتقيد به.
ومثل هذا يمكن أن يُقال عن فكرة الإبداع، فالإبداع قد يكون لابتكار جديد يتمشى مع أحدث ما توصل إليه العصر، وقد يكون لأساليب بسيطة عظيمة الفائدة لا علاقة لها بالمخترعات أو الكشوف العصرية، وإذا كان النوع الأوَّل — أعني الإبداع الذي يقف في الصف الأوَّل من الابتكارات العصرية — معروفًا للجميع، فإن النوع الثَّاني من الإبداع يحتاج إلى مزيد من الإيضاح.
(٥) التَّحدي الحقيقي
ففي الصِّين تم التوصل إلى حلول بسيطة شديدة الفعالية لمشكلة الذباب الذي ينقل أخطر الأمراض والأوبئة، ولمشكلة العصافير التي تلتهم مخزون الحبوب، بحيث أمكن استئصالها إلى غير رجعة.
وفي فيتنام استطاع المحاربون الوطنيون مواجهة الغارات الجوية الوحشية التي كانت تشنها عليهم طائرات أمريكية جبارة، بابتكار مخابئ من البوص، بسيطة وزهيدة التكاليف، ولكنها فعالة إلى أقصى حد، وفي حرب ١٩٧٣ استطاع مهندس مصري بارع أن يبتكر طريقة لهدم السد الترابي الذي أقامته إسرائيل، والذي كان أقوى العقبات في وجه عبور قناة السويس، مستخدمًا أبسط الوسائل وأكثر الأدوات تداوُلًا، وفي هذه الحالات كلها لم تستخدم تقنية معقدة أو مكلفة، ولم يظهر اختراع يعتمد على أحدث النظريات وأعقد المختبرات، وإنما ظهرت أفكار جديدة مبدعة بسيطة غاية البساطة، فعالة إلى أبعد الحدود.
خلاصة القول إذن: أنَّنا لو تأملنا وضعنا الحضاري الراهن على أنه سعي إلى حل إشكالية الاتِّباع أو الإبداع، لكان ذلك أجدى وأنفع وأدق بكثير من تأمل هذا الوضع في ضوء تلك الإشكالية العقيمة الغامضة، المليئة بالتناقضات، إشكالية الأصالة والمعاصرة، فالتحدي الحقيقي الذي نواجهه ليس اختيارًا بين الرجوع إلى الأصل أو مسايرة العصر، وإنما هو إثبات استقلالنا إزاء الآخرين، سواء كان هؤلاء الآخرون معاصرين أم قدماء، وابتداع حلول من صنعنا نحن، تعمل حسابًا لتاريخنا وواقعنا، وتكفل لنا مكانًا في عالم لا يعترف إلا بالمبدعين.