ثقافة بلا أمن!١
وقع المحظور، وأصبح تعبير «الأمن الثَّقافي» مُتداولًا على الألسن، وغدا التَّعبير شائعًا بين المعنيين بالسِّياسة الثَّقافية في بلادنا، واكتمل إحساسي بالاستياء، وبأنَّني أُحارب معركة خاسرة، عندما وجدت تعبير «الأمن الثَّقافي»، الذي لا أتوانى عن محاربته كلما واتتني الفرصة، يصبح هو نفسه ولا شيء غيره، عنوانًا لمؤتمر سيعقده وزراء الثَّقافة العرب في إطار المنظمة للثقافة العربيَّة والتربية والعلوم، وكانت المفارقة الساخرة هي أن المشرفين على تنظيم المؤتمر قد كلفوني أنا دون غيري بكتابة بحث عن «مفهوم الأمن الثَّقافي»، وها أنذا أستجيب لدعوتهم الكريمة، ولكن على طريقتي الخاصة.
لقد كانت الظُّروف التي نشأ فيها هذا التَّعبير ظروفًا مريبةً، واذكر أنَّ أوَّل مرة صادفتُه فيها، كانت في مقال صحفي ظهر منذ عدة سنوات لكاتب لم يُصبح له اسم إلا حين حُوربت الثَّقافة الشريفة في مصر وبنى سمعته على أساس تملق مبتذل لمن كانت بيده عندئذٍ مقاليد الأمور، وكان واضحًا في ذلك الحين أن تعبير الأمن الثَّقافي لم يظهر إلا تمشيًّا مع اتجاه كان سائدًا عندئذٍ لإقحام «الأمن» في كل شيء، وتصورت أن استخدام التعبير ما هو إلا موجة وقتية سُرعان ما تنحسر، غير أن الأحداث التالية أثبتت أنني كنت في هذا التفاؤل على خطأ.
(١) في البدء كانت الشرطة
ليس أمامنا إذن إلا أن نُحلل معنى لفظ «الأمن» لنرى إذا كان من الممكن على أيِّ نحوٍ الجمع بينه وبين «الثَّقافة»، أم أنَّ الاثنين مفهومان متنافران بحيث يكون من يجمع بينهما أشبه بمن يتحدث عن «الرذيلة الملائكية» أو عن «الطين الشفاف»!
لقد عرف الناس مفهوم الأمن أوَّلًا في مجال عمل الشرطة، فالشرطة توفر للمواطنين الأمن إذ تصد عنهم عدوان المنحرفين، ولكن سرعان ما اكتسب هذا اللفظ نفسه مفهومًا مشوبًا بالرعب بعد أن أصبحت قوات الأمن مثلًا مرادفة لتلك الصفوف المتراصة من الجند الذين يفضون الظاهرات السلمية بقوة وقسوة، وأصبحت «أجهزة الأمن» مرادفة للتجسس على المواطنين وقمع حريتهم، وهلم جرًّا … في هذا الميدان إذن فقد لفظ «الأمن» براءته ووداعته الأصلية، وتحول في أحيان كثيرة إلى نقيضه.
وعرف النَّاس مفهوم «الأمن» في الدبلوماسيَّة الدوليَّة حين نتحدث عن «مجلس الأمن»، وهو المجلس المكلف بمنع المنازعات بين الدول، ولكن سرعان ما كشفت الممارسات الفعلية عن وجه آخر لهذا «الأمن» الذي يتولاه المجلس، فإذا به خدمة مصالح الدول الكبرى، والتغاضي عن كثير من الحروب والصراعات ما دامت تخدم أغراض تلك الدول.
وعرف النَّاس معنًى عسكريًّا للأمن، حيث تتحدث الولايات المتحدة عن ضرورة تدخلها إذا هُدِّد الأمن والسلام في منطقة الخليج، وهو معنًى سرعان ما تبين الناس أنه في حقيقته معنًى عدواني، وأن «الأمن» المزعوم لا يعدو أن يكون ضمان استغلال نفط هذه المنطقة والانتفاع بموقعها الإستراتيجي، ومثل هذا يُقال عن معاهدات «الأمن» التي تحمل جوانب عدوانية أكثر مما تحمل من معاني السَّلام والاطمئنان.
ثم بدأت الموجة تتسع في السنوات الأخيرة، فإذا بنا نسمع عن «الأمن الغذائي»، الذي يعني ضمان حد أدنى من القوت للناس، وعن «الأمن الكسائي» الذي يعني ستر أجسادهم بما هو ضروري من الملبس، و«الأمن الإعلامي» الذي يعني توفير حد أدنى من المعرفة الإعلاميَّة، وغير ذلك من أنواع «الأمن» التي يتبارى الكُتَّاب في صياغتها.
ولكن ما المعاني التي يستطيع المرء أن يستخلصها من وراء هذه الصِّياغات المتعددة التي يَرِد فيها لفظ «الأمن»؟
-
(١)
أوَّل هذه المعاني هو أنَّ الأمن بطبيعته سلبي، فتوفير الأمن على يد الشُّرطة هو تهيئة الظروف التي تتيح للناس أن يعيشوا مطمئنين عن طريق «منع» الجريمة والانحراف، وبعبارة أخرى فإن ما تفعله الشرطة لا يعدو أن يكون الحيلولة دون حدوث ما يعكر صفو حياة الناس، ولكنه لا يمكن أن يكون «ملء» هذه الحياة بمحتوًى إيجابي، وهذه حقيقة ينبغي أن نعيها جِدًّا؛ لأن من يوفرون لك الأمن لا يقدمون لك شيئًا، وإنما يصدُّون عنك خطرًا ويتركونك بعد ذلك لكي تسير في حياتك كما تشاء، وقُلْ مثل هذا عن كل ضروب «الأمن» الأخرى، فكلها سلبية المعنى، أمَّا المحتوى الإيجابي فيأتي من جهد الإنسان الذي يبذله بعد أن يكون قد توافر له «الأمن».
-
(٢)
أمَّا المعنى الآخر فهو معنى الوقوف عند «الحد الأدنى»، فسواء كان الأمن غذائيًّا أو كسائيًّا، فإنه يتوقف عند حدود أقل قدر لازم لاستمرار الحياة، ولا أظن أن تقديم وليمة شهية يدخل في باب «الأمن الغذائي»، أو أن ارتداء أحدث خطوط «الموضة» في الأزياء يندرج ضمن «الأمن الكسائي»، فالأمن هنا لا يعدو أن يكون توفير حد أدنى يضمن تهدئة مطالب الناس، ومن هنا كان الكثيرون ممن يتحدثون عن الأمن بمعناه الغذائي أو الكسائي، لا يقصدون أمن المواطن العادي في هذه الميادين فحسب، بل يقصدون أيضًا أمن نظام الحكم الذي ينتمي إليه هؤلاء المواطنون؛ لأن من مصلحة هذا النظام أن يضمن لشعبه حَدًّا أدنى من الغذاء يقيه الجوع، وحَدًّا أدنى من الكساء يقيه العري، حتى لا يثور عليه.
-
(٣)
وأخيرًا، فقد خرج اللفظ عن معانيه الأصلية، وأصبحت له في أحيانٍ كثيرة ارتباطات عدوانية، كالقمع والتجسس والحرب، وهي ارتباطات تبعد كل البعد عن الأمان بمعناه التقليدي، وعن كل ما له صلة بالفكر والثَّقافة وتهذيب الروح.
فأين الثَّقافة من هذا كله؟
(٢) عن الخاطر الداخلي والخارجي
إنَّ الثَّقافة بطبيعتها جهد إيجابي خلاق، لا يكتفي بتأمين الناس من شيء، أو إبعاد غائلة خطر عنهم، وإنما يقدم إليهم محتوًى متجددًا يثري حياتهم ويزيدها امتلاءً، ومن جهة أخرى فإن طريق الثَّقافة لا نهاية له، ولا معنى للحديث عن «حد أدنى» يتم توفيره للناس في حالة الثَّقافة، ذلك لأن من طبيعة الثَّقافة أن تفتح أبوابًا لا تنتهي، وكل من ذاق طعم الثَّقافة يعرف أن المثقف الحقيقي لا يعرف الشبع ولا يتوقف عند لحظة معينة لكي يقول: لقد أخذت كفايتي!
إذن فالثَّقافة بطبيعتها إيجابية، لا تصد عن العقول شيئًا أو تبعد خطرًا، كما أنها عملية مستمرة لا تتوقف عند حد أدنى تكتفي بتوفيره للناس، أي إنها بعيدة كل البعد عن تحقيق الشرطين الضروريين لمفهوم «الأمن» … فكيف إذن يستبيح بعضهم لأنفسهم الكلام عن «أمن ثقافي» في هذه الأيام؟
إنَّ الحجة التي يرتكز عليها هؤلاء هي أننا حين نُطالب بأمن ثقافي نقصد تأمين الثَّقافة من خطر داخلي وخطر خارجي.
أمَّا الخطر الداخلي فهو العدوان على حرية مبدع الثَّقافة وحرمانه من أبسط شروط الخلق والابتكار، وذلك من خلال الممارسات القمعيَّة التي تكبت الحريات، وتحول دون انطلاق المثقف في التعبير عن نفسه وعن مجتمعه، ولن ينكر أحد أنَّ إزالة القيود التي تقف في وجه المثقف هدف نبيل وشرط أساسي للإبداع الفني والفكري، ولكنَّ الكفاح في هذا الميدان لا يُشكِّل «ثقافة» بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، فالمطالبة بحرية المثقف هي في أساسها كفاح سياسي، وأساليب القمع التي تمارس ضد المثقف تنتمي إلى ميدان التشريعات والإجراءات الإدارية والقانونية، وهذه كلها أمور على أعظم جانب من الأهمية، ولكنَّها ليست «ثقافة»، وإنَّما الثَّقافة هي ما يأتي بعد ذلك، أي بعد تأمين المثقف من القمع والقهر، وهذا التأمين لا يتحقق إلا على مستوى الكفاح السياسي، ومن المحال أن يتحقق للثقافة «أمن» بهذا المعنى ما لم يتحقق مثله للصحافة ولوسائل الإعلام، وللأحزاب، وللنقابات … إلخ، وبعبارة أخرى فإن أي تجمع للمثقفين من حيث هم مثقفون لا يستطيع أن يفعل شيئًا لتحقيق مثل هذا «الأمن الثَّقافي»، وأقصى ما يمكن أن يفعله هو أن «يطالب» أو «يناشد» أو غير ذلك من التعبيرات التي لا تقدم ولا تؤخر، أمَّا السعي الحقيقي إلى تحقيق هذا النوع من «الأمن»، فلا يستطيع المثقف أن ينجز منه شيئًا إلا بقدر ما يكون ممارسًا للنشاط والكفاح السياسي في نفس الوقت، لا سيَّما إذا أدركنا أن هذا «الأمن» ليس على الأرجح، من النوع الذي «يُطْلَب»، بل من النوع الذي «يُنْتَزَع».
أمَّا الخطر الخارجي الذي يبرر المطالبة ﺑ «الأمن الثَّقافي»، فيُوصَف بأنه تلك المؤثرات الثَّقافية الدخيلة التي يمكن أن تهدد عقولنا وتشيع فيها الاغتراب والتبعية والمحاكاة الممسوخة لعادات غيرنا وأساليب تفكيرهم، وليس المقصود في هذه الحالة هو عناصر الثَّقافة العالميَّة الرفيعة، إذ لا يوجد أحد سوى المتعصبين ينظر إلى هذه الثَّقافة على أنها خطر تحتاج إلى «تأمين» ضده، وإنما المقصود هنا هو تلك الثَّقافة المشوهة اللاإنسانية، ثقافة الجريمة والجنس، أو ثقافة التسلط الاستعماري التي تحاول أن تغزونا بإمكانيات تقنية ضخمة لا قِبَل لنا بمواجهتها أو مقاومتها، من تلفاز وسينما ومؤسسات إعلام عالمية وأقمار صناعية … إلخ.
هذا الخطر الخارجي يُعد إذن أحد المبررات الأساسيَّة التي تُساق للدعوة إلى تحقيق «الأمن الثَّقافي»، ولكن دعونا نتساءل: ما أفضل الوسائل لحماية أنفسنا من هذه الأخطار الثَّقافية الخارجية؟ هل يمكن الحل في البحث عن الأمن والأمان؟ وهل الغزو الفكري — إذا كان هذا تعبيرًا صحيحًا — معادلٌ للغزو العسكري؟ وهل نستطيع أن نحمي ثقافتها إذا جعلناها تقف في خط الدفاع الأخير ونكتفي بصد الهجمات أو حفر الخنادق والاختفاء داخلها؟
(٣) الثَّقافة معركة
لا بُدَّ لنا أن ندرك بوضوح أن الثَّقافة هي قبل كل شيء «معركة»، ومن المحال أن نُؤَمِّن أنفسنا ضد خطر ثقافي خارجي ما لم نقم نحن أنفسنا بهجومنا المضاد الذي نسعى فيه إلى التخلص من الثَّقافة الفاسدة أو المنحلة عن طريق إحلال ثقافة أخرى إيجابية وإنسانية محلها، فالصد والدفاع وحده قد يكون مجديًا في ساحة المعركة الحربية، ولكنه في ساحة المعركة الثَّقافية لا يفيد، وإنما هو أقصر الطرق إلى الهزيمة والتسليم، وبالفعل فإن المجتمعات التي تحاول صد الأخطار الثَّقافية الخارجية عن طريق سن تشريعات المنع والحظر والرقابة، هي أكثر المجتمعات تعرُّضًا لهذه الأخطار، أمَّا المجتمعات التي تصنع ثقافتها الخاصة المستنيرة المتفتحة، وتواجه بها تلك الثَّقافة الانحلالية، فهي وحدها التي تستطيع أن تصمد وتنتصر.
وهكذا فإنَّ «الأمن الثَّقافي»، أي بمعنى الاحتماء السلبي من الثَّقافة الأجنبيَّة، لن تكون له أدنى فاعلية، على حين أن الحوار والعراك والصراع بين وجهات النظر، ومقارعة الثَّقافة الدخيلة بثقافة أخرى، هو وحده الذي يقضي على أخطار هذه المؤثرات.
إذن سواء كان الأمر متعلِّقًا بحماية الثَّقافة من خطر داخلي أو من خطر خارجي، فإن مفهوم «الأمن» لا يصلح علاجًا للمشكلة، وهو مفهوم لا يؤدي إلا إلى موقف سلبي قد يصلح في أي ميدان عدا الثَّقافة.
وأخيرًا فإنَّ من حقنا أن نتساءل: على أي أساس يؤكد دعاة «الأمن الثَّقافي» أن الثَّقافة، أو المثقف في حاجة إلى الأمن أصلًا؟ صحيح أنَّ الأمان على العيش وعلى العمل وعلى المستقبل مطلب مرغوب فيه على جميع المستويات، ولكن الثَّقافة مثلما تزدهر في ظل الأمان تزدهر أيضًا في ظل انعدام الأمان، وكلنا قد سمعنا عن تلك الثَّقافة الرائعة التي تظهر «تحت الأرض» في أوقات القهر السياسي أو الاحتلال الأجنبي أو في ظل أنظمة الحكم الغاشمة، وكلنا استمتعنا بتلك القصائد والقصص والأوراق الباهتة التي كانت تحوي روائع منسوخة باليد أو مطبوعة ومتداولة سِرًّا، إنها ثقافة المقاومة أو الثَّقافة غير الرسمية التي ترعاها حكومة، والتي يبدعها أصحابها رغم أنف قوى «الأمن».
وأخيرًا، فلنذكر دائمًا أن الثَّقافة الحقيقية ليست أمانًا واطمئنانًا، وليست دعةً وهدوءًا، وإنما هي — كما أكد الكثيرون — العيش في خطر، وهي قلق وتوثب وترقب دائم. إن الكتاب العظيم والقصيدة العظيمة والفيلم العظيم يعكر صفو حياتك، ويقضي على استقرارك، ويجلب لك القلق والانشغال، ويثير فيك من الأفكار ما لم يخطر ببالك من قبل، إن العمل الثَّقافي العظيم ينقلك من حالة الرتابة والسكينة، ويبعث فيك قلقًا وتمرُّدًا، ويقلب مسار القيم التي اعتدت عليها وسكنت إلهيا ورتبت حياتك على أساسها.
إنَّ الثَّقافة الحقة في كلمة واحدة تقضي على كل ما كنت تحس به من «أمن»، ولو كان الأمر بيدي لحذفت من قاموسنا على نحو نهائي قاطع ذلك التعبير المستحدث المتسلل «الأمن الثَّقافي»، ولدعوت بدلًا منه إلى «القلق الثَّقافي» … فبهذا وحده يحقق ذلك الجهد العقلي والروحي الرائع، الذي هو أخص ما يميز الإنسان، رسالته ومعناه.