تجربة ثقافيَّة فريدة في الكويت١
عرف العالم منذ بداية القرن العشرين نوعين متباينين من التَّجارب الثَّقافية، إذ تأخذ بعض البلاد بمبدأ تدخل الدولة في الثَّقافة، على حين تمسك بلاد أخرى بالمبدأ القائل أن الثَّقافة من الشئون الخاصة التي ينبغي أن تُترك للنشاط الفردي والخاص، ولا شأن للدولة بها على الإطلاق.
ترتكز كل تجربة من هاتين التجربتين على فلسفة خاصة، تعمل على تبريرها وإظهار المزايا التي تعود على الثَّقافة من تطبيقها، فأنصار تدخل الدولة في الثَّقافة ينطلقون من مقدمة أساسيَّة هي أن الثَّقافة ليست ترفًا، وإنما هي حق أساسي لفئات المجتمع كافة، وهم يؤكدون أن الدولة وحدها هي التي تستطيع توصيل الثَّقافة إلى الفئات الضعيفة في المجتمع، وإلى المناطق المنسية والنائية، وهي التي تستطيع أن ترعى أعمالًا جادةً لا تجلب ربحًا، لأن جمهورها بطبيعته قليل، وهي القادرة على تقديم النواتج الثَّقافية بأزهد الأسعار للجمهور العريض الذي تثقله أعباء الحياة اليومية وتكاليفها.
وفي مقابل ذلك تهاجم مجتمعات أخرى فكرة تدخل الدولة في شئون الثَّقافة، بحجة أن هذا التدخل سيؤدي حتمًا إلى فقدان صفة الحرية التي هي ألزم اللوازم للثقافة، ولا بُدَّ أن يترتب عليه فرض الاتجاهات التي تخدم مصالح الدولة أو النظام الحاكم، ومحاربة التجديد المبدع إذا كان يشكل خطورة على الأوضاع القائمة.
(١) خصوصية الثَّقافة
وربما بدا للوهلة الأولى أن هذا التقابل بين نظرتين إلى الثَّقافة يوازي التقابل بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي؛ لأن مبدأ تدخل الدولة هو جزء من الفلسفة العامة للنظم الاشتراكية التي تأخذ بمبدأ التخطيط الشامل في جميع المجالات، على حين أن التمسك بأن تكون الثَّقافة نشاطًا حُرًّا إنما هو مظهر لمبدأ عام يسود الأنظمة الرأسمالية، هو الإقلال من تدخل الدولة إلى الحد الأدنى، وترك أهم القطاعات للنشاط الخاص، ولكن المسألة في حقيقة الأمر ليست بهذه البساطة، وقد أثبتت التجارب أن قطاع الثَّقافة له خصوصيته التي تُضفي عليه استقلالًا نسبيًّا، بحيث لا يتعين أن يكون موقف المجتمع منه انعكاسًا مباشرًا لمواقفه في ميادين الاقتصاد والسياسة، أو تطبيقًا مباشرًا لنوع النظام الاجتماعي الذي يسود فيه.
ولعل الدليل الواضح على ذلك هو أن دول العالم الثالث تتجه بوجه عام إلى الأخذ بمبدأ تدخل الدولة في الثَّقافة، على الرغم من التباين الشديد بين أنظمتها الاجتماعيَّة، ويعبر هذا المؤلف عن وعي متزايد بأن الثَّقافة، ولا سيَّما لدى الشعوب التي تناضل من أجل التحرر والتنمية، أخطر من أن تُترك للأيدي التي تتحكم فيها من أجل تحقيق مزيد من الربح، ففي الكفاح من أجل التنمية تقوم الثَّقافة بدور أساسي في تشكيل عقل الإنسان، وهو دور لا يمكن أن يُترك للمصادفات أو للتلاعب في السوق، وإنما ينبغي أن تتدخل فيه الدولة بكل ثقلها، كيما تحمي العقول من المؤثرات السلبية التي تدغدغ أحط مشاعرها، وتستغل جوانب ضعفها، لتحقيق مآربها الخاصة.
(٢) سمات تجربة الكويت
وأستطيع أن أقول إنَّ التَّجربة التي خاضتها الكويت في ميدان الثَّقافة، تُعد تجربة ذات سمات فريدة، تثبت بوضوح قطع قدرة الثَّقافة على تجاوز الحواجز الأيديولوجية، والسير في طريقها المستقل، فالكويت بلد نفطي يتمتع مواطنوه بمستوى من أعلى مستويات المعيشة في العالم، والمتوقع نظريًّا في بلد كهذا أن يسود النشاط الحر، المستقل عن الدولة، في الميادين كافة، ولكن تجربة الكويت في ميدان الثَّقافة ارتكزت في واقع الأمر على التدخل النشط للدولة في هذا القطاع، وكانت ثمار هذا التدخل إيجابية إلى حد بعيد.
فقد استطاعت الكويت أن تستغل الثروة النفطية استغلالًا شديد الذكاء في ميدان الثَّقافة، واتبعت سياسة تؤدي في المدى الطويل إلى أن تصبح الكويت مركز إشعاع ثقافي يمتد في أرجاء الوطن الْعَربي كله، وهكذا عملت الدولة على رعاية مشروعات ثقافية ناضجة، أشرف عليها جهازان اكتسبا خبرة طويلة في الشئون الثَّقافية، هما وزارة الإعلام من جهة، والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب من جهة أخرى، وكانت السمة المميزة لهذه المشروعات هي أنها تخاطب، منذ بدايتها، المواطن المتطلع إلى المعرفة في أي قطر عربي، أي إنها حرصت منذ بدايتها على ألا تصطبغ تلك المشروعات بصبغة محلية ضيقة، أو تخاطب الإنسان في بلده الأم وحدها، وإنما قررت أن تخرج عن الإطار المحلي، وتوجه رسالتها إلى الإنسان الْعَربي أينما كان.
وهكذا ظهرت تلك المجموعة الرائدة من المطبوعات الثَّقافية، التي تصدر في هذا البلد الصغير ذي الطموحات الكبيرة، فمن وزارة الإعلام عرف الوطن الْعَربي كله منذ أكثر من ربع قرن، مجلة ثقافية ناضجة هي «العربي»، كما اعتاد أن يقرأ على مستوًى أشد تخصُّصًا، أبحاث مجلة «عالم الفكر»، وسلسلة «مسرحيات عالمية»، ومن المجلس الوطني للثقافة لا يكاد يوجد شاب مهتم بشئون الأدب والفكر، في أي بلد عربي، إلا ويتابع سلسلة كتب «عالم المعرفة»، ومجلة «الثَّقافة العالميَّة»، بينما يتابع المتخصصون سلسلة كتب التراث باهتمام بالغ.
والأمر الذي يلفت النظر حقًّا في هذه المجموعة الفريدة من المطبوعات، هو أنها قد استطاعت بسرعة غير عادية، أن تجتذب أعدادًا ضخمةً من الشَّباب المتطلع إلى المعرفة في أرجاء الوطن الْعَربي كافة، في الوقت الذي عجزت فيه مشروعات ثقافية أخرى، تنفق عليها دولها بسخاء، عن تجاوز النِّطاق المحلي إلا على نطاق ضيق، وبصعوبة بالغة، ذلك لأن القارئ الْعَربي قد وجد في هذه المطبوعات مادة منتقاة بعناية بالغة، رفيعة المستوى في الشَّكل والمضمون، تُقدم إليه بأسعار تكاد تكون رمزية، وكلما ازدادت ثقة القارئ الْعَربي بهذه المنشورات، واكتسبت سمعة أرفع، اتسع نطاق المثقفين المبدعين الذين يتعاونون معها، وتمكنت من استكتاب أفضل العناصر في وطننا العربي، ولا أكون مُغاليًا إذا قلت: إنَّ نسبة لا يُستهان بها من الزَّاد الثَّقافي للأجيال الجديدة في أجزاء كثيرة من الوطن العربي، أصبحت الآن مُستمدة من كتب ومجلات تصدر في الكويت، وأغلب الظَّن أنَّ هذه النسبة ستزداد ارتفاعًا على مر الأيام.
وعلى عكس ما يتوقع خصوم مبدأ تدخل الدولة في الثَّقافة، فإن الإنتاج الأدبي والفكري الذي تصدره وتموله الدولة في الكويت، لم يُستخدم على الإطلاق من أجل فرض وجهات نظر معينة، يتبناها نظام الحكم أو تخدم مصالحه؛ إذ تنعكس على هذا الإنتاج معظم ألوان الطيف الثَّقافي، من اليمين واليسار، ومن المحافظين إلى التقدميين، وإذا كانت هناك رقابة، فإنها تسري على تلك الأمور المحظورة في معظم المجتمعات العربيَّة، وتُطبق بصورة أكثر استنارة في معظم الأحيان (ومن هنا فإن تشديد الرقابة النسبي على الكتب المسموح بها في معرض الكتاب السنوي، في السنتين الأخيرتين، يشكل ظاهرة غير مألوفة، وغير متمشية مع التيار العام، وهي إحدى السلبيات التي آمل أن تتخلص منها الهيئات المسئولة عن الثَّقافة في الكويت في أقرب فرصة).
(٣) المواطن والوافد والحريَّة
ومن السمات البارزة في الحياة الثَّقافية الكويتية، إزالة الحد الفاصل بين المواطن والوافد، فقد كان من الطبيعي، في بلد كبير الإمكانيات واسع الطموحات، وفي نفس الوقت قليل السكان، أن تُفتح الأبواب للاستعانة بالوافدين في عدد كبير من المشروعات الثَّقافية، ومن الجوانب المضيئة في التَّجربة الثَّقافية الكويتية أن هؤلاء الوافدين قد وجدوا في هذا البلد جوًّا «ليبراليًّا» متسع الآفاق، يتيح لهم أن يعبروا عن أنفسهم بحرية، وأن يقدموا أفضل ما لديهم، فيضيفوا أبعادًا جديدة إلى هذه التَّجربة الثَّقافية الخصبة.
ويكاد معظم الوافدين يتفقون على أنهم يجدون في الكويت مجالًا للتعبير عن أفكارهم، حتى في المسائل الحرجة والشائكة، ربما لا يجدونه في بلدانهم الأصلية نفسها، ولو كان لي أن أتحدث في ضوء تجربتي الخاصة، لقلت إن إطار «الليبرالية» والتسامح والتعددية الفكرية في الكويت أوسع من معظم الأقطار العربيَّة الأخرى، صحيح أن هناك أقطارًا أخرى تستعين بخبرات كثير من الوافدين، ولكنها تفرض عليهم ألف قيد وقيد، وترسم لهم إطارًا حديديًّا يستحيل عليهم أن يتجاوزوه، أمَّا في الكويت فإن اتساع الأفق، والتعددية الفكرية، ورحابة الصدر، هي الطابع الغالب على التعامل الثَّقافي بين المجتمع وبين الوافدين أكثر بكثير من شتى الأقطار العربيَّة، وحصيلة هذه السياسة الذكية هي أن ينصهر الجميع في بوتقة واحدة، تعود ثمارها بالخير على الوطن الْعَربي بأسره.
ولعل القارئ قد لاحظ أنني قد اقتصرت في حديثي على ميدان واحد من ميدان الثَّقافة، هو ميدان المطبوعات، من كتب ومجلات، ولم أتطرق إلى أنواع أخرى هامة من النشاط الثَّقافي، كالمسرح، والفنون التشكيلية، والندوات، واللقاءات … والحق أنني إذا كنت قد ركزت اهتمامي على الميدان الأوَّل، فذلك لأنه هو الميدان الذي أتعامل معه تعاملًا مباشرًا، فضلًا عن أنه في اعتقادي هو الذي يدوم إشعاعه أمدًا أطول، ويمتد إلى مسافات أبعد، ومع ذلك فإن النمط العام الذي استخلصناه عند الحديث عن النشاط الثَّقافي في ميدان الكتابة والنشر، ينطبق بغير شك على الميادين الأخرى كافة.
(٤) الجمع الموفق
إن في الكويت إذن تجربة ثقافية جديرة بأن ينتبه إليها كل من يحرص على رعاية العقل الْعَربي وتنويره، ففي هذه التَّجربة أمكن الجمع، بطريقة موفقة، بين مبدأ تدخل الدولة، وبين ضمان قدر لا يُستهان به من الحرية للمبدع الثَّقافي (ربما كان أفضل قدر تسمح به الأوضاع الراهنة في الوطن العربي)، وفي هذه التَّجربة أمكن استغلال الثروة في نشر نتاجات ثقافية زهيدة التكاليف، تعم فائدتها على الأجيال المتطلعة إلى المعرفة في الأقطار العربيَّة كافة، إنه نوع من «التوزيع العادل للثروة الثَّقافية» يفيد منه الشاب الطموح، الذي يُعاني من قسوة الحياة وضآلة الدخل، في أي بلد عربي أقل ثراءً، وفي الوقت الذي تستهدف فيه هذه النتاجات الثَّقافية الانتشار الكمي على أوسع مدًى ممكن، فإنها لا تتجاهل الكيف أو المستوى الرفيع، فالثَّقافة التي تحقق مطالب الجماهير الواسعة، تسعى في نفس الوقت إلى إرضاء تطلعات النخبة المتميزة.
إن مجتمعات النفط، التي قفزت خلال حياة جيل واحد من صعوبة العيش إلى الثراء الهائل، لم يكن في وسعها أن تتجنب سيطرة القيم الاستهلاكية، والبحث الدائم عن المزيد من الترف، ولكن الإشعاع الثَّقافي الذي ينشره واحد من أصغر هذه المجتمعات النفطية، أعني الكويت، يمثل نقطة مضيئة، وعلامة هامة على طريق الإفادة من الثروة النفطية، في ما هو أبقى وأنفع من المتع الزائلة والملذات العابرة.