ويسألونك عن الأفكار المستوردة١
منذ أن أصبحت الدعاية علمًا له أصول وقواعد مدروسة، أخذت فنون الإقناع الحديثة تتبع أساليب متشابهة، ترمي في نهاية الأمر إلى تشكيل العقول بطريقة تصبح فيها أكثر قابلية لتصديق ما يُلقى على مسامعها، وأقل قدرة على اختبار ما يُقال لها وإخضاعه لموازين النقد، ومن أشهر هذه الأساليب وأكثرها شيوعًا، تكرار التعبير الواحد عددًا هائلًا من المرات، مع ربطه بالشحنة الانفعالية المطلوبة، من استحسان أو استهجان، بحيث تقبله العقول آخر الأمر مقرونًا بالانفعال المطلوب، دون أي فحص أو اختبار منطقي.
ومن أشهر التعبيرات التي أصبحت في الآونة الأخيرة تُلقى على مسامعنا ليل نهار، تعبير «الأفكار المستوردة»، وقد أفلحت أساليب الدعاية المنظمة في ربط هذا التعبير بشحنة قوية من الاستهجان، ونجحت في أن تجعل الكثيرين يرددونه دون أن يفكروا في معناه، ويستخدمونه كما لو كان شيئًا منفرًا بطبيعته كالكوليرا، أو شيئًا يدعو بطبيعته إلى الاستنكار كالاحتلال الإسرائيلي.
على أني أدعو القارئ إلى أن يشارك معي في فهم وتحليل هادئ لهذا التعبير، آملًا أن ننتهي منه سويًا إلى أن الأفكار المستوردة ليست — على الأقل — في بشاعة الكوليرا أو فظاعة الاحتلال الإسرائيلي.
إن «المستورَد» في الأصل صفة تتعلق بميدان التجارة — والتجارة الخارجية على الأخص — تُقال عن السلع التي لا تُنتج في بلد معين فيجلبها من بلاد أخرى، فالمستورَد في حقيقته شيء مادي نستجلبه مقابل أموال أو سلع بديلة، والاستيراد يُمارَس يوميًّا في ميدان الاقتصاد، بحيث لا يمكن القول إن مجتمعًا من المجتمعات يستطيع الاستمرار بدونه، فليس هناك مجتمع مكتفٍ بنفسه كل الاكتفاء، وكل بلد في العالم يصدر إلى الآخرين ويستورد منهم، ويتمكن بذلك من أن يضمن لنفسه حياة معقولة، ففي عالم الاقتصاد إذن، أي في المجال الأصلي الذي تُستخدَم فيه الكلمة، لا يُعد المستورد شيئًا قبيحًا أو مرذولًا، بل هو ضرورة من ضرورات الحياة.
والنتيجة التي نخلص إليها من هذه المقدمة هي أن تعبير «الأفكار المستوردة» تعبير مجازي، ينقل إلى ميدان الفكر لفظًا ينتمي في الأصل إلى ميدان الاقتصاد والتبادل التجاري، وليس تعبيرًا أصيلًا يدل على صفة حقيقية في نفس الأفكار، ولو أمعنَّا النظر قليلًا لوجدنا أن هذا التعبير يجمع بين ميدانَيْن متباعدين، إذ يُطَبَّق على الأفكار، وهي بطبيعتها شيء معنوي وصفة تُقال في الأصل على أشياء مادية، وأمثال هذه المجازات التي تجمع بين أشياء تنتمي إلى ميادين متباعدة كثيرًا ما تكون مضللة، ومن الخطأ الكبير أن يتخذها المرء أساسًا لموقف فكري ثابت؛ لأن من أسهل الأمور أن يعترض المرء عليها ابتداءً بقوله: من أدرانا أن كلمة «الاستيراد» يمكن أن تُنقَل بطريقة مشروعة من ميدانها الأصلي إلى ميدان الأفكار؟
(١) الأشياء والأفكار
على أننا حين نمضي في التحليل خطوة أبعد، سنكتشف حقيقة أخرى بسيطة، ولكنها هامة، فقد ذكرنا من قبل أن «المستورَد» ليس شيئًا سيِّئًا في مجال الاقتصاد، وإنما هو ضرورة حيوية، على أن هناك مجتمعات تفتح أبواب الاستيراد في الميدان الاقتصادي على مصراعيها، فتستجلب الضروريات والكماليات، وأخرى تضع للاستيراد ضوابط دقيقة فلا تجلب إلا ما هو ضروري، وما يستحيل صناعة بديل له في الداخل، ومن المنطقي أن تكون الدول التي تتبع النظام الأوَّل أعني نظام «الأبواب المفتوحة» والاستيراد غير المقيد هي التي ترحب أيضًا باستيراد الأفكار، على حين أن الدول التي تفرض قيودًا على استيراد السلع هي أيضًا تلك التي تفرض قيودًا على استيراد الأفكار.
ولكن المنطق شيء، والواقع في وطننا الْعَربي على الأخص شيء آخر؛ ذلك لأن أشد الناس هجومًا على ما يُسَمَّى ﺑ «الأفكار المستوردة» هم أنفسهم الذين يطالبون بأن نستورد من الخارج كل شيء، «من الإبرة إلى الصاروخ»، كما يقول التعبير الذي أصبح مشهورًا، وهنا أيضًا نجد أمامنا صورة متناقضة إلى حد بعيد؛ فلماذا يُسمح بالاستيراد في كل شيء حتى في العقول والخبرات ولا يُسمح به في مجال «الأفكار»؟ وإذا كان من الضروري أن نكتفي بما ينبع من أرضنا، فلماذا لا نفعل ذلك في جميع المجالات؟ ولماذا نفتح الأبواب على مصراعيها لسيل الكماليات التافهة التي تربي في النفوس أسوأ العادات الاستهلاكية، ونغلقها في وجه فكرةٍ ما أتت من عقل ينتمي إلى مجتمع آخر؟
(٢) خير أم شر؟
إنني حتى الآن لم أنفذ بعد إلى صميم الموضوع، وإنما حاولت أن أكشف التناقض الداخلي في الدعوة إلى محاربة «الأفكار المستوردة»، بحيث إن كل ما يمكننا استنتاجه، حتى الآن هو أنه ليس من حق أي مجتمع أن يحارب هذه الأفكار إذا كان يستورد كل شيء، حتى العقول، ولكن ربما كان من حقه اتخاذ هذا الموقف إذا كان متسقًا مع ذاته في جميع تصرفاته، أي إذا كان قد قرر أن يغلق أبوابه على نفسه ويعتمد على جهوده الخاصة، ماديًّا ومعنويًّا، في تسيير كل شئونه، أي إنني لم أصدر بعد حكمًا على الأفكار المستوردة نفسها، وهل هي خير أم شر، وإنما حاولت أن أكشف عن التناقض في أسلوب محاربة بعض الدعاة لها.
ولكن مهمتنا الأساسيَّة، في هذا المقال، هي أن نخوض في صميم المشكلة، وأن نواجه الموضوع مواجهة مباشرة فنتساءل: هل صحيح أن الأفكار المستوردة شيء ضار ينبغي تجنبه؟ وإذا كانت في بعض جوانبها تجلب الضرر، فما هي هذه الجوانب؟
إن الدعوة إلى محاربة الفكر المستورَد في وطننا الْعَربي تُبرَّر بالحرص على التراث الأصيل، ومنع الأفكار الآتية من الخارج؛ لأن فكرنا ينبغي أن ينبع من داخلنا، ومن تاريخنا، ومن ماضينا وتراثنا، ومثل هذا الحرص يمثل هدفًا نبيلًا لا يستطيع أي مفكر يعمل لصالح مجتمع إلا أن يحني رأسه إجلالًا له، ولكن السؤال الذي لا يكف عن الإلحاح علينا في هذا الصدد هو: هل صحيح أن تراثنا وتاريخنا وماضينا كان حصيلة تفاعل داخلي بحت، وأنه خلا خُلوًّا تامًّا من كل عنصر «مستورد»؟
إن الأمة العربيَّة على الأخص هي آخر أمة على سطح هذه الأرض تستطيع أن تجيب عن هذا السؤال بالإيجاب، صحيح أنها من أقدر أمم الدنيا على الاحتفاظ بأصالتها وتراثها، ولكن هذه الأصالة وهذا التراث قد بُنيا، إلى حد بعيد، على إدماج عناصر «مستوردة» في النواة الأصيلة للعروبة، وكان هذا عنوانًا لنضجها وثقتها في نفسها، فمنذ السنوات الأولى للحضارة الإسلامية، سنوات الفتح الذي أذهل العالم واكتسح إمبراطوريات قديمة عاتية، بنى العرب دولتهم الكبرى على أساس اقتباس ما يصلح لهم من أنظمة الدول التي خضعت للفتح العربي، وكان من الطبيعي أن يكون نطاق هذا الاقتباس واسعًا؛ لأن طبيعة الفاتحين العرب، وحياتهم البدوية البسيطة، لم تكن تسمح بتأسيس «دولة» بالمعنى الواسع المعقد لهذه الكلمة، وبعبارة أخرى فإن الدعائم الأولى للدولة الإسلامية المترامية الأطراف كانت — في قدر غير قليل من جوانبها — أفكارًا ونظمًا مستوردة، ولو كان العرب الأوائل قد أخذوا بمبدأ محاربة الأفكار المستوردة بنفس الضراوة التي يحاربها بعضهم بها الآن، لما استطاعوا أن ينتقلوا في عشرات قليلة من السنين، من حياة البداوة إلى حياة الحضارة، ولما تمكنوا من إعمال عقولهم في اختبار النظم الوافدة، واقتباس الصالح منها دون حساسية أو تعقيدات أو خوف على أصالتهم.
وحين توطدت دعائم هذه الدولة الإسلامية الكبرى، التي كانت تضم شعوبًا وأجناسًا متباينة انصهرت كلها في بوتقة واحدة، وأخذت تتطلع إلى ميادين العلم والثَّقافة، بعد أن أدَّت رسالتها في ميادين العقيدة والجهاد والسياسة.
(٣) حركة الترجمة الأولى
كانت أبرز السمات المميزة لها هي الشجاعة في تقبل «الأفكار المستوردة» دون خوف على أصالتها.
ولسنا نودُّ هنا أن نكرر حديثًا مُعادًا، يعرفه أغلب القراء، عن حركة الترجمة واسعة النطاق في ميادين العلوم والفلسفة، ولكن الذي نودُّ أن نُشيرَ إليه؛ لأن له دلالة خاصة في حديثنا الحالي، هو أن الدول التي ترجم عنها المسلمون كانت في معظم الأحيان دولًا راسخةَ الأقدام في ميادين الثَّقافة المختلفة؛ ومِنْ ثَمَّ فقد كان لدى هؤلاء المسلمين مبرر للخوف من طغيان ذلك الفكر المستورد الذي يقتحم أرضًا بِكرًا لم تمر بتجربة الفكر الفلسفي والعلمي إلا حديثًا، ومع ذلك فإن شيئًا من هذا لم يحدث، على الأقل في عصور المد الفكري والتوسع الثَّقافي، ولم يشعر العرب الأوائل بأية رهبة إزاء «الأفكار المستوردة»، بل ركزوا جهودهم على اختبارها واستخلاص ما يصلح منها للإدماج في تراثهم.
وبفضل هذه الشجاعة في قبول «الفكر المستورد» ظهرت في العالم الإسلامي مجموعة متألقة من الفلاسفة والعلماء والمؤرخين والمفكرين الاجتماعيين كانت منارة للعالم كله خلال العصور الوسطى المظلمة، وكانت هذه الأسماء اللامعة هي التي قدمت فيما بعد إشعاعها العلمي والفكري إلى أوروبا، وأسهمت بدور يتزايد الاعتراف به في إنهاض العلم والفكر الأوروبيَّيْن ونقلهما إلى عصر جديد، وهنا قام الفكر الإسلامي بدور عظيم بوصفه «فكرًا مصدرًا»، وكان استيراد أوروبا لهذا الفكر أهم عوامل نهضتها الحديثة.
هذه حقائق معروفة، ولكن الذي ننساه أحيانًا هو أن الفخر الذي نحس به إزاء الدور الذي قمنا به في «تصدير» فكرنا وعلمنا إلى أوروبا، معناه أننا نعترف بأهمية استيراد الفكر؛ لأن التصدير والاستيراد عمليتان متلازمتان، بل هما وجهان لعملة واحدة، ومع ذلك فإنك تجد الكاتب الواحد يحارب «الأفكار المستوردة» بلا هوادة، ويشيد في نفس الوقت بدور العرب العظيم في تنوير الأوروبيين، ويعطي أوروبا — في نهاية العصر الوسيط — كل الحق في أن تستورد من العرب ما شاءت من الأفكار، ولا يكف عن التباهي بهذه الحقيقة، كل ذلك دون أن يدرك فداحة التناقض الذي يقع فيه حين ينكر مبدأ استيراد الفكر من جانب، ويزهو به من جانب آخر.
وإذن، فمن أصعب الأمور أن يقوم المرء بعملية تنقية وتصفية للتراث كيما يستخرج منه بلورة الأصالة صافية غير مختلطة؛ لأن الاتصال والتبادل والأخذ والعطاء قديم قدم الحياة الإنسانية، وحين نقول إن الفكر المستورد يمكن أن يقضي على أصالتنا، فلا بُدَّ أن نعي جَيِّدًا أن قدرًا غير قليل من هذه «الأصالة» نفسها كان في الأصل فكرًا مستوردًا ثم أمكن استيعابه، والأمر هنا في حالة الأمم والحضارة لا يختلف كثيرًا عنه في حالة الأفراد، فهل يستطيع أحد أن يحدد — في أي عمل أدبي مشهور — نصيب العوامل الذاتية النابعة من عقل الكاتب وحده، ونصيب الثَّقافة التي تلقاها من المصادر الخارجية؟ وحتى لو شهد الكاتب عينه بأن عقله الخاص كان منبعه الرئيسي، أليس من المرجَّح أن يكون هذا العقل نفسه حصيلة تفاعلات لا أول لها ولا آخر مع مصادر تأثر بها هذا الكاتب في مختلف مراحل حياته، وأن هذا المنبع لا يبدو له — ولنا — أصيلًا إلا لأن الكاتب عرف كيف يهضم هذه المؤثرات الخارجية ويحولها إلى عناصر أصيلة فيه؟ إن مسألة وضع الحد الفاصل بين الأصيل والمستورد مسألة معقدة غاية التعقيد، ومِنْ ثَمَّ فإن الوقوف في وجه التفاعل الثَّقافي بحجة الحرص على أصالتنا هو موقف ينطوي على إغفال للعناصر العديدة والمكونات شديدة التباين، التي أسهمت كلها في تكوين ما نطلق عليه نحن اسم «الأصالة».
(٤) محاذير وأخطار
ولكن، هل يعني هذا النقد الذي نوجهه إلى الحملة الضارية التي تُشن في هذه الأيام في الوطن العرب على الأخص على ما يُسَمَّى ﺑ «الفكر المستورد» أن كل فكر يأتي من الخارج يستحق أن نرحب به ونفتح له أبوابنا على مصراعيها؟
الواقع أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، فهناك بالفعل أنواع من «الفكر المستورد» ينبغي أن نقف منها موقف الحذر الشديد، هي تلك التي تتسرب إلى العقول خلسة، بطرق ملتوية غير مباشرة، وتؤدي في نهاية الأمر إلى تكوين اتجاهات ضارة لدى من يتلقاها، وبخاصة إذا كان حدثًا ذا خبرة محدودة، ويتمثل هذا الخطر بوجه خاص في ما تنقله الوسائط الإعلاميَّة الشَّعبيَّة من أعمال يُفترَض أنها فنية، ولكنها مليئة بالأفكار والاتجاهات الضارة، التي يُراد منها تحقيق أغراض مرسومة مقدَّمًا.
وقد تنبهت كثير من الدول المتقدمة، بل الهيئات الدولية، إلى أخطار وسائل الإعلام الجماهيرية التي تنقل أعمالًا فنيةً جذَّابة مشوقة، كالأفلام والمسلسلات التلفازية، ولكن حصيلتها النهائية هي تكوين اتجاهات تميل إلى العنف الدموي، أو فقدان الإحساس بالتعاطف الإنساني، أو الإعجاب بأنواع زائفة من البطولات، أو التفنن في أساليب ارتكاب الجرائم، أو الميل المفرط إلى الاستهلاك المقصود لذاته والذي لا يخدم أي هدف معقول.
هذه الأعمال الإعلاميَّة ذات القشرة الفنيَّة الهشة — التي تتغلغل في كل بيت وتثبت قيمًا غريبة غير مقبولة حتى بالنسبة إلى كثير من المجتمعات الصِّناعيَّة المتقدمة، والتي يُحَذِّر من أخطارها المفكرون حتى في بلادها المنتجة نفسها — هي التي تشكل بالفعل فكرًا مستوردًا ينبغي أن نقف منه موقف الحذر الشديد، ومع ذلك فإن من عجائب المفارقات في بلادنا العربيَّة أنَّ الدول التي تحارب الفكر المستورد بضراوة، هي عينها التي تفتح أبوابها على مصراعيها لهذا النَّوع من الإعلام المغرض، ولا تبذل أي جهد لحماية مجتمعها من التأثير الهدام لهذه الأعمال الفنية ذات الجاذبية السطحية الرخيصة، وهكذا ففي كثير من المجتمعات التي كانت تقوم على التكافل والتساند، بدأت تظهر قيم الأنانية والتزاحم وحب الظهور والرغبة في التسلق على أكتاف الآخرين، وأخذت الأجيال القديمة في هذه المجتمعات تتساءل يوميًّا عما حدث لتراثها المعنوي الذي يزداد اختفاءً يومًا بعد يوم، وتترحم على أخلاق الأجداد وقيمهم الإنسانية دون أن تبذل أي جهد في محاربة هذا النوع بالغ الضرر من الفكر المستورد.
وهكذا تنقلب الآية بصورة تدعو إلى السُّخرية والرثاء في آنٍ واحد، فالدُّول الصِّناعيَّة المتقدمة التي هي صاحبة المصلحة الحقيقية في محاربة كثير من أنواع الفكر الذي نصفه نحن بأنه مستورد، تقف إزاء هذا الفكر — مهما تطرف — موقفًا ينطوي على قدر كبير من التسامح واتساع الأفق والتعامل معه بمقارعته بالمنطق والحجة، ولو ظهرت دعوة إلى محاربة هذا الفكر في مجلة إنجليزية أو كتاب فرنسي أو صحيفة أمريكية، لكانت تلك الدعوة أضحوكة الموسم.
ومن جهة أخرى فإنَّ التيارات الضَّارة التي تأتي بها أجهزة الإعلام الجماهيرية تجد من يتصدى لها بقوة وحسم في نفس البلاد التي أنتجتها، على حين أننا نتلقاها بالأحضان ونفتح لها بيوتنا لكي تعيش مع عائلاتنا وتمارس تأثيرها الفتاك في عقول أبنائنا، وكأن هذه التيارات ليست من الفكر المستورد في شيء.
(٥) معارك مفتعلة
وبعد، فلست أودُّ — أيها القارئ — أن أختم مقالي هذا دون أن أبوح لك بشعور كان يعتمل في نفسي طوال كتابتي هذا المقال، فمن الجائز أنك قد اقتنعت بالحجج التي أتيت بها في مقالي، وأدركت بعد قراءته أن كثيرًا من التعبيرات التي أصبحت وسائل الإعلام تصبها على رءوسنا ليل نهار — وعلى رأسها تعبير الأفكار المستوردة التي يُطلب إلينا أن نرفضها حتى قبل أن نعرف ما هي — لا ينبغي أن تُقْبَل على علاتها.
أجل، سوف أتفاءل وأتصور أنك قد اقتنعت بهذا كله أيها القارئ العزيز، وربما اعتقدت أن كاتب المقال قد أحرز انتصارًا حاسمًا على أولئك الذين يعتمدون على أساليب دعائية لا ترتكز على عقل ولا منطق.
ومع ذلك، فلتكن واثقًا أن النصر، مع هذا كله، معقود لأعداء الفكر المستورد، وأن هؤلاء هم الرابحون، حتى لو كانت كل كلمة في هذا المقال معولًا يهدم الأرض التي يرتكزون عليها.
إن هؤلاء في نهاية الأمر هم المنتصرون لأنهم هم الذين يحددون ميدان المعركة، ويفرضون علينا أن نناضل في سبيل أهداف عفى عليها الزمان … فمهما كانت قيمة الكلام الذي قرأته في هذا المقال يا قارئي العزيز، فإنك ستبعد لو فكرت قليلًا أنه ليس إلا دفاعًا عن شيء ما كان ليحتاج في الظروف الطبيعية إلى جدل وإلى إضاعة وقت كاتب أو قارئ؛ ذلك لأن كل ما فعله كاتب هذه السطور هو أنه دافع عن بديهية بسيطة، هي أن التفاعل الثَّقافي ضروري، وأن التأثير المتبادل بين خبرات المجتمعات المختلفة أمر لا غناء عنه، هذا هو المستوى الذي يجد الكاتب نفسه مضطرًّا إلى الهبوط إليه عندما ينحدر مستوى الجدل الثَّقافي نفسه، وهذا المستوى الهابط هو في ذاته نجاح باهر لأولئك الذين يفرضون علينا معارك مفتعلة حول موضوعات لا معنى لها، كموضوع الفكر المستورد.
إن قدرًا كبيرًا من الطاقات الذهنية لمفكري الأمة العربيَّة الحريصين على مستقبلها يضيع هباءً في أمور كان ينبغي أن نكون قد تجاوزناها منذ أمد بعيد، فكم من كتابات جادة ملتزمة أصبحت تُخَصَّص اليوم لمجرد إثبات أن العقل ضروري للأمة العربيَّة وللرد مثلًا على أولئك الذين لا يكفُّون عن الحط من شأن العقل والتَّشكيك في قيمة العلم، وقد يظن القارئ أن أنصار العقل، الذين يملكون دائمًا حججًا أقوى، قد انتصروا، ولكن حقيقة الأمر هي أن خصومهم هم المنتصرون؛ لأنَّهم أفلحوا في الانحدار بالجدل الثَّقافي إلى مستوى مناقشة أسئلة أولية مثل: هل نستخدم العقل أو لا نستخدمه؟ وبدلًا من أن نتجادل حول أحدث النَّظريات التي يتوصل إليها هذا العقل، في بحثه للطبيعة والإنسان، ونُساير العصر في آخر تطوراته الفكرية، نجد أنفسنا مضطرِّين إلى بذل الجهد المُضني لإثبات المبدأ الأوَّل الذي كان مفروضًا أن نكون قد سلمنا به منذ أمد بعيد.
وبالمثل تُهْدَر طاقاتنا العقلية في إثبات أهمية الاتصال الفكري وتبادل الخبرات والتجارب بين الشعوب؛ لأن أعداء الفكر المستورد فرضوا علينا هذا الموضوع ميدانًا للمعركة، التي لا تشرف الخاسر ولا الرابح.
وهكذا فقد يبدو لأول وهلة أن المدافعين عن العقل، وعن الاتصال الفكري بين المجتمعات، هم الجديرون بتصفيق جماهير المثقفين، ولكن حقيقة الأمر أنهم مهزومون حتى لو انتصروا؛ لأن خصومهم نجحوا في إيقاف تيار التقدم، والرجوع بمستوى المناقشة إلى الوراء، واختاروا ميدانًا للمعركة تلك الأوليات والأساسيات التي كان ينبغي علينا تجاوزها منذ عهد بعيد.
وإنه لأمر يدعو إلى الأسى العميق أن يجد المثقف الْعَربي نفسه في أواخر القرن العشرين مُضطرًّا إلى أن يخوض معركة كاد المفكرون العرب في أواخر القرن التاسع عشر أن يحسموها نهائيًّا لصالح العقل والتقدم … فهل هناك دليل على انتصار خصوم العقل وأعداء التبادل الفكري الخصب أبلغ من نجاحهم في العودة بمستوى الجدل الثَّقافي قرنًا من الزمان بالنسبة إلى العرب أنفسهم، وخمسة قرون على الأقل بالنسبة إلى المجتمعات المتقدمة؟